عرس الشام وأشباح سيناء لخالد البرادعي..
المسرح الشعري بين اللامبالاة والغيابخالد البرادعي أحد الكتاب في سورية الذين اهتموا بالمسرح الشعري اهتماماً جاداً وملحوظاً، منح المكتبة المسرحية العربية عدداً من المؤلفات المسرحية الشعرية منها: دُمَّرُ عاشقاً، السلام يحاصر قرطاجنة، جزيرة الطيور، أسفار سيف بن ذي يزن، ومسميات أخرى كثيرة من بينها هذا المؤلّف الذي بين أيدينا ويحمل مُسمَّى: عرس الشام، وأشباح سيناء.. إذاً، هو مجموعتان مسرحيتان شعريتان في إطار إصدارٍ واحدٍ مشترك.. مضمون المسرحية الشعرية الأولى «عرس الشام» يؤرخ لفترة هامة جداً في سورية وتدور أحداثها في العاصمة دمشق من عام 1914م ولغاية عام 1946م، هذه الفترة تُلقي الضوء على انحسار المد العثماني عن بلاد الشام، وسقوط امبراطوريته التي بسطت سلطانها على أنين التراب العربي الجريح.... قرون عديدة شهدت نوعاً من الجبروت والطغيان والتعسف ما لاتنساه ذاكرة التاريخً، ثم جاءت بعد ذلك الحرب العالمية الأولى والثانية لتقع المنطقة تحت عبء استعمار جديد غاشم تمثل في تمزيق الخريطة العربية تحت مظلة سايكس بيكو، ثم يبدأ عصر الجلاء والاستقلال اعتباراً من مطلع عام 1946م، حيث يرصد البرادعي تلك الفترة رصداً تاريخياً وتوثيقياً وشعرياً فتنكشف للقارىء أحداث فترة من أعقد وأهم فترات بدايات النضال العربي المعاصر، ويصور نشيد الجوقة في البدايات الحال التي آلت إليها أمور الأمة والوطن على أيدي السفاحين المتعاقبين على البلاد:
كيف يستيقظ الهوى
ومتى يهدلُ الحمامْ
في زمانٍ معطلٍ
طوَّق الصُّبح في الشآمْ!!؟
الشاعر البرادعي اختار جملاً شعرية بسيطة وعذبة النغمة، حتى يُتاح للفئات المسرحية كافة أن تقوم بالأداء المسرحي لها على أحسن وجه من فئات الطلائع وحتى تلك الشبكات المؤهلة للمسرح القومي العام.
هذا وقد نوه البرادعي ضمن ملاحظات المقدمة إلى:
إمكانية الاستعانة بالسلايدات لتكبيرها على الجدار الخلفي، ولا بد أن تكون وثائق عسكرية من الحروب.
حتى موضوع الملابس وضع البرادعي تصوره له بقوله: تكون الملابس متجانسة مع الفترات الزمنية التي تجري الأحداث خلالها بين الأعوام 1914م و1946م.
لابد من دراسة أبطال الثورة ليتسنى للإخراج إقناع المتلقي بحقيقتهم.. صالح العلي، إبراهيم هنانو، سلطان الأطرش، يوسف العظمة.
كما ينوه البرادعي بالاستعانة بمجموعة من أبناء وبنات الشهداء، كما هم الآن في مدارسهم بدمشق.. ونحن كمتطلعين لمثل هذا العمل الشعري الجاد تمنينا- وما نزال- أن نرى تلك الأعمال منتجة ومخرجة بإطارها المسرحي، وإطارها الفني المتنوع.
عرس الشام: سرد شعري تاريخي لحقبة عانتها سورية خلال تاريخ نضالها الدامي.. شعر يلقي الضوء على دراما دموية عاشتها أمتنا، وأحداث طاحنة تنتهي بالنصر والاستقلال، ثم يبزغ فجر المستقبل، فجر التفاؤل والأمل لتبدأ مرحلة جديدة من الحياة والحرية:
أيُّها الآتي ولا أعرفه
هل صحيحٌ.. أنتَ أَمْنٌ.. وضياء
تحمل الحُبَّ إليهم،
تحمل الحب َّ إليهم،
وتُساقيهم مزاج الكبرياء
أنت ياسيدتي ... غلقي الأبواب في وجه الليالي واصرخي :
ياليل ُ..أبناءُ الشهيدْ
وبناتُ الشهداء
أخذوا كُل مفاتيح الضياء
بعد ذلك تأتي المسرحية الشعرية الثانية: أشباح سيناء، زمانها يوم من صيف عام 1976، ومكانها واحة نخيل في صحراء سيناء...
والمسرحية ، كما يذكر المؤلف، كتبت في أعقاب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد... وأشباح سيناء أيضاً تعالج هَمّاً قومياً عاشته ضفة أخرى هناك رزحت تحت عِبء الطغاة والمارقين... ويبدو أن سيدة المسرحية، وهي الصوت المتكرر فيها، تفضح تلك النوعية المارقة التي جاءت لتعيث الفساد في البلاد والعباد، وهي تلهو بين الكاس والطاس لا همَّ لها إلا العبث والفجور في غياب الأخلاقيات والقيم:
اشرب الكأسين مولايَ، وعاقر خمرتينْ، وانسَ أعباء الرّعايا
وأنا أُنسيك لو ترضى حكايا الحكمِ والناسَ بما في جسدي
وشوشةً، أو شهوةً تحكي الحكايا ...
تَعَبُ الحكم ، وعِبْءُ العرش مغسولان إن ترغب
بماء الحُبّ فاغسل بالهوى تلك المرايا....
هذا ملخص لحالة الحاكم والمحكوم آنذاك ... عالم مدنس بالخطيئة والشهوات والرعاع الذين يديرون أمور البلاد والعباد بلا مسؤولية ولا أخلاقيات، وبعد الملابسات الكثيرة التي تطيح بشخصيات المسرحية يصبح صوت السيدة الشبح هو الصوت القويّ الذي يكشف خبايا وخفايا الذوات التي رسمت قدراً مزيفاً للأمة غير القدر الذي تبغيه وتسعى له....
غنائي يحمل طعم دمي، ورائحة الارض والدمع والذاكرة
وأنت تمر من العدوة الخاسره
إلى العُدوَةِ الخاسره
وأيُّ بقاءٍ لمن هادن القاتلينْ
وباع الشهادة والأرض والزارعينْ
وباع الشموع، وأوردة العاشقينْ
وخفر العذارى، وأطفاله القادمين.....
مسرح شعري يحثنا على فعل شيء ،وإخراج ركام الفكر إلى دائرة الضوء، لكي نعيد للمخزون الثقافي الراهن قيمته واعتباره وبعثه حياً فاعلاً من جديد، بعيداً عن الصمت والموت والغياب، في ظل الحضور البهيّ للأشياء الغائبة.

محمود حامد