رجعية الحداثة في الشعر العربي (أدونيس أنموذجاً ) /أحمد أنيس الحسون
هل نعيش في عمى نقدي يعيق عن كشف عيوب الخطاب؟
هل احتالت المؤسسة الثقافية بأنساقها (السلطة الثقافية) على الذاكرة الجمعية؟
هل سيطرت تلك الأنساق بوعي أو لا وعي على الذاكرة الإبداعية ؟
وبالتالي هل يمكن للنقد الثقافي أن يكون بديلاً عن النقد الأدبي ؟
وهل خُلقتْ – حقاً – حالة من التدجين والترويض الذوقي لدى مستهلكي الثقافة؟
ربما تنطوي هذه الأسئلة على أجوبتها من خلال مضمونها ، ذلك أنها جاءت على أعتاب النظرية التي تبحث عن التأصيل ، تلك التي يقدمها الناقد عبد الله الغذّامي عبر قراءة تأويلية للأنساق الثقافية العربية التي تسللت عبر تراكمات _ متوسلة بالجمالي والبلاغي _ إلى الخطاب . ينطوي المشروع على كشف تلك الأنساق المضمرة ، وتعرية هذه الخطابات النسقية المفروضة على الذائقة ( الرعيّة ).
يعدّ الخلل الثقافي إحدى دعائم أو بواعث النقد الثقافي الذي يطرحه الغذّامي، فيقول بموت النقد الأدبي الذي يُعتبر هنا أحد دعائم تسلل النسق الثقافي ضمن الخطاب، وذلك لغفلته عن كشف العيوب وانشغاله بجماليات الخطاب، وهذا المؤلف (النقد الأدبي) ساعد غفلةً على سهولة مرور النسق وتخفيّه في بنية الخطاب الفوق لغوي ، يقول: "هل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديموقراطي، وكانت فكرة (الفحل) وفكرة (النسق الشعري) وراء ترسيخها ومن ثم كانت الثقافة – بما أن أهم ما فيها الشعر – وراء شعرنة الذات وشعرنة القيم..؟!"(ص7). لقد احتلّ الشاعر الذاكرة العربية مؤصّلاً لسمات نسقية عملت على تعطيل الذوق الإنساني ، كالافتخار بالفحولة وغيرها، فأصبحت مثل هذه الأخيرة تعيد ذاتها بصيغ شعرية تستعيد معها النسق الأوّل ، فتحولت وظيفة الشاعر إلى وظيفة فردية قلبت سلّم القيم مما أدى إلى ما يسمى ( بالفحل ) الذي صار مع مرور الزمن مفهوماً ثقافياً اجتماعياً ، منذ عمرو بن كلثوم وصولاً لأدونيس ونزار قباني ، وبذلك فإن الذات العربية قد تشعرنت بعدما تشعرن الخطاب
تأتي الشخصية الشعرية كأحد الأنساق المنغرزة فينا، فيكتسب الخطاب حصانةً وقداسةً تجعل نقده من المحرمات،فصارت العلوم بالشعر علوماً منغلقة لأنها غدت بمثابة الخادم للشخصية الشاعر وللشعر، وهذه الهالة التقديسية للشخصية الشعرية – لأننا كائنات شعرية – تُعمينا عن النسق المخاتل ويهيمن النسق اللغوي على اللغة، ويتحرك النسق الناسخ عبر تتاليات ثقافية إلى ناسخ للأنساق التالية، وتبدأ عملية استنساخ بعد ارتحال النسق من الشعر إلى الخطابة ثم الكتابة مستقراً في القيم العربية، وذهنِ الأمة الثقافي الذي اخترع الفحل وصنع الطاغية المستبدّ، حتى غدت القيم عبارة عن أنساق متشعرنة، فيأتي اللاحق مُستنسخاً من السابق عبر رحلته النسقية منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث، ويأتي الشعر فيها كأهمّ مقومات الشخصية العربية باعتباره ديوان العرب. لقد تحولت الرسالة إلى الفرد الفحل الذي بدأ يعزّز قيم الفردية والأنانية، فنتج في ثقافتنا العربية (فحول الشعراء – أمراء الكلام – فحول الشعر....) تغلغلت في الذهن الثقافي الجماعي لاختراع – فيما بعد – الفحل الثقافي، والسياسي، والاجتماعي...،حيث تموضعت (الأنا)التي كانت مندمجة في (النحن) محل (النحن) التي صارت المندمجة في (الأنا) وصارت صوتاً من أصواتها وأحد مفردات لغتها. وفي تراثنا الشعري (النسقي) تبرز (الأنا) متضخمة في شعر المتنبي كأحد أهم خصائص شعره، فكرّست النسق الشرس المغلق والمكتمل والمُهمّش لغيره من الأنساق،ويتشكل هرم طبقي يأتي الفحل على رأسه، فيتعزز مفهوم التميّز ليكتسب الشاعر/ الفحل صفاته النسقية من احتكاره لنفسه حق وصف الذات. ويعتبرالمتنبي هو المترجم الأكبر للضمير النسقي (الأب النسقي) كقوله:
وإني لنجم تهتدي بي صحبتي إذا حال من دون النجوم سحاب
وهو وليدٌ – بذلك – لجّده الفرزدق القائل:
وإني أنا النجم الذي عذبت به قرى أمةٍ بادتْ وباد نخيلُها
لكن المتنبي – عبر رحلة النسق الفحولي – احتّّل الصدارة في الخطاب النسقي لأنه:
وإني من قوم كأنّ نفوسهم بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وهو الذي نظر الأعمى إلى أدبه – وهو حمّال ألوية وجرّار جيوش.....
ومن هنا أصبح التصرف بكل نسقية ضد أي رأي مخالف، فيأتي فيما بعد من يتخلّق بخلقه، وجاءت الجمل الثقافية متناسخة عبر قرون (أنا الذي – أنا الموت – أنا النجم – أنا... أنا..) جاءت لتكرّس إلغاء الآخر والتعالي عليه، فالسادة الشعراء يشعرون بما لا يشعر به غيرهم، ويحقُّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم/ فهم أمراء الكلام، يصوّرون الباطل في صورة الحق... تماماً كما أصبح الدهر من رواة قصائد المتنبي بعد ترسّخ العلوّ الذي منحته إياه الثقافة، بدءاً من البلاط الرسمي. فأتى الشعر – والمديح بخاصة – ليصنع الطاغية ، فالشعر صاغ عيوب الشخصية العربية بلاغياً وأدى إلى صناعة الطاغية،
وتأتي ذروة (الأنا) عند المتنبي في تحقير الخصم وتقزيمه كأن يصفه بالزعنفة، وهذا طردٌ خارج الثقافة العربية، وإذا كان هذا ما حدث مع شاعر كبير في تراثنا الشعري، فإن ذلك يبيّن لنا مدى تلبّس النسق لضميرنا الثقافي المتشعرن، وتأتي الجماليات كأدوات مخاتلة للمرور دون رقيب. وهذا ما يستدعي النقد الثقافي لكشف هذه العيوب النسقية، ففي حالة العمى الثقافي اختلطت الأحكام، وخاصة عند ممثلي التجديد، فأتت تطلعات التحديث مشوّهة لرضوخها تحت هيمنة النسق، وهذا ما وجده الغذّامي عند أبي تمام، الذي صار شعاراً للحداثة، واتخذه فيما بعد السياب وأدونيس، وشاع هذا الشعار كنموذج على يد النقّاد والمبدعين، فأبو تمام رجعياً كما أعلن (غربناوم) وتبعه الغذّامي في ذلك. فقد قاد حركة رجعية في الشعر العربي، حيث عارض المجدّدين الذين حاولوا تقريب اللغة إلى الواقع، فاعتُبر بذلك أكثر المحدثين اقتداءاً بالأوائل كما صرّح القاضي الجرجاني. هذا العَلمُ الذي على رأسه نار (أبي تمام) أصبح رمزاً للحداثة منذ الآمدي والصولي إلى عصرنا هذا، واعتباره حداثياً لهو دليل على تمكّن النسقية فينا وازدياد العمى عن كشف عيوبه، فصرنا نمثله (أبي تمام) دون وعي، وانخدعنا بالشكل الذي يضمر النسق القديم، وأصبحت مقولته: "لمَ لا تفهم ما يقال.." أصبحت قانون الحداثة، وهو بمقولته تلك لا يختلف عن المحافظين، حيث غرق بالنسقية المحركة لأطراف العلاقة – التي تجعل الذات أباً فحولياً يجب التسليم له، وتمّتْ عملية تبادل الأدوار من أبّ تقليدي إلى أبّ حداثي . لقد شرّح (فكّك) الغذّامي الأنساق العربية ليصل إلى نتيجة مفادها أن القيم قد زُيّفتْ، وفقدت صفتها الحقيقية، وصدقيتها، وذلك عبر المؤسسة التي تروّج لها. لقد استحوذت (الأنا) على (النحن) بأدوات لغوية ساحرة، تحت رعاية المؤسسة، حتى وجّهت كلّ التحولات لرعاية النموذج الأمثل، وعبر هذا التشرّب للأنساق الثقافية تعددت الفحول، "وعبر الاستفحال الذي يمثله نزار، والتفحيل الذي يمثله أدونيس ستجري إعادة النسق إلى نشاطه وفاعليته" (ص 246). فتغيّبت المضامين العقلية وخضعنا صاغرين إلى منظومات نسقية لا عقلانية، فحُكم على عقليتنا بالتحرك ضمن مضامين مختلفة تتسم بالعجز والاستسلام، لأن الثقافة الموروثة بدلالاتها ورموزها تعمل على تقنين العقل والتفكّر وأتت المراحل المتتالية لتعجز عن نزع هذه الدلالات من أدمغتنا، لأنها أصبحت ذات طابع قدسي غيّب الروح النقدية الموضوعية، فتعطل الذهن بفعل هذه الأنساق المتجذّرة، مما يحتاج إلى عقلية تخلخل بنية العقلية المعطّلة وتفكّك مقوماتها عبر النقد الثقافي.
. إن الموقف من الزمن له أهمية كبرى في تاريخ الحضارات و هذا الموقف يشكّل المعادلة الصعبة التي تواجه بعض الأمم في مسار تقدمها ، و يولّد اتجاهين: الأول يعظّم القديم، والثاني يندفع إلى المستقبل بلا حدود، ولا ندري فيما إذا كان هذا الأخير قد اندفع دون الوقوع تحت سلطة القديم، هذا الأخير الذي سيعيد ذاته النسقية ضمن الذاكرة الجمعية، كما سنبيّن لاحقاً. يقول يوسف الخال في سياق تساؤله عن كيفية إنشاء مجتمع حديث في عالم حديث "هذا التناقض بين كوننا شكلاً في العالم الحديث وكوننا جوهراً في خارجه يضطرنا إلى معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم".يقول إلياس خوري إن الحداثة قد جاءت "حداثة نهضوية... إنها إطار التكسّر الثقافي – الاجتماعي – السياسي، ومحاولة تجاوز هذا التكسر بالذهاب إلى الأمام.." (عالم المعرفة – العدد177) ويعقّب أنها بحث عن شرعية المستقبل بعد أن فقد الماضي شرعيته.والآراء كثيرة بخصوص الحداثة مما ليس نحن بصدده الآن ، لكننا من خلال تلك الإضاءة سنشهد تفكيك أدونيس بوصفه حداثياً رجعياً كما تدّعي هذه الدراسة، فظهر المشروع الأدونيسي تنظيراً وكتابةً يمسّ السطح اللغوي، فاحتل الذائقة النخبوية فكرياً وسياسياً، فأتى كأهم ممثلي الخطاب التفحيلي بكل سماته النسقية، كأبي تمام (حداثيُّ المظهر – رجعيُّ الحقيقة ، وقد أسس أدونيس خطاباً لا عقلانياً ويسميه الغذّامي (سحرانياً) وبالتالي ظلت حداثته تمس الشكل وظلّ الجوهر التفحيلي هو سيد الموقف بدلالاته النسقية. وأول تحول نسقي عند علي أحمد سعيد هو التحول الطقوسي الأسطوري (أدونيس)، هذا الاسم المفرد الذي يحمل في طياته مضاميناً وثنية متعالية وأسطورية، وعبر هذا التحول من الشعبي (علي أحمد سعيد) إلى الأسطوري المفرد (أدونيس) تأتي الخطابات مشبعة بالنسقية والفحولية. لقد أولى الغذّامي في دراسته لفحولة أدونيس ديوان (مفرد بصيغة الجمع)، وبذلك كان الغذّامي خبير انتقاء للنصوص التي تدعم مشروعه، فالفحل السلطوي هو الكلّ المندمجة في (الأنا)، إن ديوان أدونيس (مفرد بصيغة الجمع) هو ترديد نسقي لـ (النحن) الخادمة المطواعة لـ (الأنا)، بعدما رفض الاسم الذي منحه إيّاه أهله، لأنه "من شأن الفحل أن يكون أباً لذاته، كحال المتنبي الذي صار أباً لجدته" (ص 272).
إن قراءة أدونيس ستبين أنه (أنا العالم – أنا المعنى – أنا النور – أنا سماء – أنا الداعية.... ) فيضيق العالم أمام هذه الأنا التي تنادي:
اقتربي أيتها الريح..
اجتمعي إلي..
أخلق بك...
أخلق منك..
والغذّامي يرى أن هذه الجمل ليست مجازية، لأن أدونيس يكررها في خطابه التنظيري، وهنا يظهر الخلل الثقافي، في عدم التمييز بين المجازي وبين العلامات الثقافية النسقية، لأن تلك العلامات التي رددها أدونيس هي جمل مكرورة عن شعراء سبقوه، فجاء أدونيس واستعادها وتمثلها بذاته، وعن كتاب أدونيس (زمن الشعر) تظهر هذه النسقية، حيث وصف الزمن بهذه الصفة النسقية، فهو ليس زمن العقل ولا الفكر ولا زمن السياسة إنه زمن الشعر، ولا حداثة في العالم العربي إلاّ في الشعر كما صرّح أدونيس بذلك.
وهذا يمثل لعودة الفحل/ الشاعر/ أدونيس/ القصيدة/ السحر/، فجاءت عباراته في ذلك الكتاب عبارات نسقية فيقول: "الشاعر الجديد متميز عن الخلق وفي مجال انهماكاته الخاصة كشاعر. وشعره مركز استقطاب لمشكلات كيانية" (ص 275 – نقلاً عن أدونيس) فجاءت جمله في مطلع الكتاب كاستهلال فحولي لمشروع تفحيل الحداثة، وتدجين الاستقبال، إن هذا الجديد المزعوم "أفق: إنني أفق وقدري أن أشعر" هذا ما قاله أدونيس، حيث حوّّل العبارات – على مستوى التنظير والتفكير – إلى مقولات نسقية ذات بعد نظري وثقافي يؤمن بها الشاعر ويحدد مشروع الحداثة بسماتها.ويذكر الغذّامي أن اقتباساته التي أوردها كـ (شاعر الخطر والأسرار – حارس يقرأ نبض العالم – الساحق الغامر الخالق...) ليست معزولة، بل هي اللب العميق لخطابات أدونيس.
لقد أعاد صياغة النسق وأعطاه الدلالة المطلقة و أعلنها في ديوانه (مفرد بصيغة الجمع)، كما صرّح في كتابه (صدمة الحداثة) أن الأساس هو الشاعر لا الشعر فهذه (الأنا) قادرة على أن تغير (لغة الحضارة).إن هذا النسق الثوري الفردي قد ثوّر القيم من خلال البطل اللامنتمي ،الذي يرى أن الانتماء إلى الواقع هو خيانة للثورية، فهذه الجماهير جاهلة ولا بدّ من تكريس مفهوم النخبة المتعالية. لقد ورث أدونيس الطبقية الهرمية، فاتخذ لنفسه البعد الأسطوري (أدونيس) وصنّم ذاته على صورة (البعل) الأسطوري، لكن الثقافة القديمة عبّرت بالرسم، وأدونيس عبّر باللغة وفحّل ذاته:
مالك ملكه الأرض والسماء
شعره النبات
جسده الأقاليم
عروقه الأنهار
لقد حدّد سمات هذه الذات البعولية الحداثية، وتأتي قيمته – كما حدد هو، في تعاليه، فالجمهور العربي جاهل، وكل ثورة غير ثورته ليست بثورة، هذا التعالي هو نتيجة صنمية لبعولته فهو المالك والخالق، وانتهى نهاية تشبه صديقه نزار، فتزوج العالم، كما صرّح بكتابه (زمن الشعر). تلك جوانب ضئيلة من سيرة المنظر الحداثي الأكثر مقروئية بين النخبة الحداثية العربية، ويعقِّب الغذّامي: "أيّ حداثة هذه يا ترى؟"(ص280).
لقد سخر المجاز لخدمة تصوراته النسقية، وأبدى عداءاً لكل ما هو منطقي وعقلاني، لأن الحداثة كما يعتبرها لا منطقية ولا عقلانية، هو يصرّ على شكلية الحداثة واحتقار للمعنى، فهو حفيد سلالة الفحول الذين يولون اهتماماً للفظ/ الذكر، والنص الحداثي عبثي تتلاشى فيه الأدوات المعبرة، وهو انفعالي سديمي، وتلك وسائل قصد منها فرض شرطه من غير نقد عبر ترويض الذوق وإطعامه من نفس الطبخة النسقية، توسل أدونيس برموز – عبر خطابه السحراني – ليرسخ فحولته، مثل (الصقر) التي تعالج شخصية عبد الرحمن الداخل، حيث تجلت في القصيدة البطولة الفردية التي ستجعله يبني "أندلس الأعماق" فهو ينتقل من موت إلى آخر دون أن يسقط:
جسدي يتدحرج والموت حوذيّه والرياح
جثث تتدلى ومرثية.
لقد وصل الفحل إلى إنجاز حلمه الفردي :
الصقر في متاهه، في يأسه الخلاق
يبني على الذروة في نهاية الأعماق
أندلس الأعماق
أندلس الطالع من دمشق
يحمل للغرب حصاد الشرق.
وهو فينيق وتموز ومهيار الدمشقي،كلّ هذا يكرّس مفهوم البطولة الفردية، وهو (أورفيوس)الذي نزل إلى العالم السفلي وخرج منه حياً بوصفه بطلاً مغامراً يحمل النور ويضئ :
عاشق أتدحرج في عتمات الجحيم
حجراً،غير أني أضيء
كلماتي رياح تهزّ الحياة
وغنائي شرر
إنني لغة الإله يجيء
إنني ساحر الغبار.
ومن الرموز أيضاً نموذج القرمطي:
قال القرمطي
أنا النور لا شكل لي
لقد أخضع أدونيس الخطاب للبعد السحراني، فلا بد من الجهل لتكون المادة بكراً للشكل المُقترح:
تريد أن تعرف..؟
إذن، اجهل ما أنت
واجهل غيرك...
.............
منذ أسلمت نفسي لنفسي وساءلت:
ما الفرق بيني وبين الخراب؟
عشت أقصى وأجمل ما عاشه شاعر:
لا جواب...
لقد توسّل الأب الحداثي النسقي أدونيس برموز موائمة لمشروع الترميز النسقي فتمّ إخضاع الخطاب للبعد السحراني .هذه هي الحالة السحرانية التي يحقق بها ذاته المتفحّلة، وهي "ليست حالة وعي حداثي، مما يترجم المشروع الأدونيسي إلى مجرد تغيير شكلي ظاهري"(ص 286). بما أن الحداثة كما أشار أدونيس هي التغيير في الشكل وأن شكل القصيدة هو القصيدة، وبما أن لا حداثة بدون الشعر، فإن أدونيس قد لعب دوراً في استلهام النموذج الجاهلي، كالدور الذي لعبته الحقبة الأموية لاستعادة النموذج الجاهلي/ الأصل، وجاء أدونيس ليمثل هذا النموذج في كل سماته النسقية الفحولية. لقد ابتدأ أدونيس حياته نسقياً وظلّ يكرّر نسقيته طوال حياته إلى أن وصل إلى (مفرد بصيغة الجمع)، لقد بلغ إيمانه بالشعر قيمة مطلقة تغنى بها وتغنّى بذاته أيضاً، فاستلهم نماذج الفحولة وعبد ذاته كفحل حداثي حدّد مسارها تنظيراً وكتابةً.
حدّد الغذّامي السمات العامة للخطاب الأدونيسي كالتالي: (مضاد للمنطقي والعقلاني – مضاد للمعنى – نخبوي وغير شعبي – منفصل عن الواقع ومتعال عليه – لا تاريخي – فردي ومتعال، ومناوئ للآخر – هو خلاصة كونية متعالية وذاتية – يعتمد على إحلال فحل محل فحل، سلطة محل سلطة – سحري، والأنا فيه هي المركز) (ص 293 – 294).لقد صار النموذج الشعري هو المسلك والرؤية، بعدما تشعرنت الذات العربية، وجاءت محاولة أدونيس حول هذا النموذج وإعادة صياغته، فكان خطابه رجعياً – وإن بدا جميلاً خلاباً – إلاّ أنه لا يضيف شيئاً إلى جوهرية الثقافة العربية،لقد لاحظ أدونيس غياب الحداثة في البعد الاجتماعي والفكري، وهذه الملاحظة – كما يشير الغذامي – صحيحة بالضرورة، والسبب يكمن في نموذجه الذي هو نموذج مغرق في رجعيته، وإن بدا حداثياً، فلم يغيّر أدونيس في مشروعه إلاّ المجاز وظلت الحقيقة كما هي نسقية.
هذا هو أدونيس المشرّح ثقافياً كما أورده الغذّامي في مشروعه (النقد الثقافي) ويمكننا هنا أن نستعيد قوله عن أدونيس سابقاً في كتابه"تأنيث القصيدة والقارئ المختلف" : "إن أي قراءة لأدونيس سلبية كانت أم إيجابية لهي شيء ممكن من جهة، وقابل للنقض بقراءة أخرى معاكسة من جهة أخرى" .
لقد قدمت دراسة الغذّامي أهمية معرفية تشجع ناقديه على الانخراط في ممارسة النقد الثقافي بعيداً عن السجال ، لقد قدّم المسوغات لمشروعه ومنهجَه مستعيناً بقيم كانت السبب الرئيسي لاختراع (الفحل)، وربما نختلف معه كلّياً أو جزئياً، لكننا لسنا مع القائلين أن النقد الثقافي عبارة عن افتنان العرب بمنهج غربي لم يثبت فاعليته في الغرب الذي أفرزه، بل بعضهم يراه إحدى مظاهر العولمة، ثم ليس من الضرورة أن يفشل في الشرق العربي وإن ظهر فشله في الغرب، وإننا- كما نحسب - بحاجة للنقد الثقافي بعد استفحال القيم . لقد قُدّمت هذه الدراسة لتجاوز البلاغيات والجماليات إلى قراءة عبر نصوصية للكشف عن التحيزات المتوسلة بالبلاغي والجمالي ،وجاء المشروع ليخترق الصمت والانزواء والتعالي على الاجتماعي ، وهذا ما سيعيد للممارسة النقدية حيويتها وحضورها من خلال تلمّس العلاقة بين العالم والناقد والنص. ودفع العملية النقدية إلى إبداعات أكاديمية لمفهوم المنظومة والمصطلح، وسواء اعتبرنا أنفسنا نقّاد أدب أو ثقافةٍ، فإننا نحتاج لمثل تلك الخطوات الجريئة التي يتم معها دفع العملية الحوارية في جانبها الغني والمعرفي.لكن أي قارىء للتجربة الغذاميّة في النقد الثقافي سيتساءل السؤال التالي :
هل هذه الأنساق الثقافية من الجبروت والقوة في التغلغل الواعي واللا واعي ومن القدرة في التخفّي بحيث تجعل الناقد عبد الله الغذّامي – بوصفه أحد الكائنات الشعرية – يقع تحت تلك السطوة والتحايل والشراك الخفية بحيث لا يستطيع التحكم بوعيه كاملاً، وعدم الانفكاك منها مهما ادّعى ذلك؟؟؟
وحسبنا بذلك أننا قدّمنا فكرة المشروع الجرئ .
أحمد أنيس الحسون
المراجع المعتمدة في البحث
- أدونيس، الآثار الكاملة، م2 دار العودة – بيروت 1971
- تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، د. عبد الله الغذّامي – المركز الثقافي العربي – بيروت الطبعة الأولى 1999م.
- عالم المعرفة- العدد177 – 1993م .
- النقد الثقافي ، قراءة في الأنساق الثقافية العربي- د . عبد الله الغذّامي – المركزالثقافي العربي- بيروت – الطبعة الأولى 2000م