منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 21 إلى 27 من 27
  1. #21
    (تابع / دراسة حسني سيد لبيب)
    ويهتدي الإنسان بهدى الإيمان الذي يقوده إلى بر الأمان، فتسمو الروح بقراءة القرآن، وتصفو النفس وتشف، ويتحلّى الإنسان بالشجاعة والجسارة، إلا انه ينهي القصيدة بتساؤل مرير:
    .. قدْ أَشرقتِ الشمسُ
    صباحاً
    منْ مكَّهْ
    فلماذا يرْحلُ هذا العُصفورُ
    إلى شُرفةَ قيْصَرْ
    ومنازلِ كسْرى
    يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
    في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
    ومن تتشبّع روحه بنور الإيمان، ومن تشرق شمس الحق من دياره، عار عليه أن يلجأ إلى ديار الغريب، ويقع في شبكة الصياد، والرمز قويُ الدلالة شديد الإبانة .. الرمز هنا عصفور يرتحل إلى شرفة قيصر ومنازل كسرى .. لاحظ رحلة العصفور إلى ديار قيصر وكسرى، والدلالة التاريخية لغربة "العصفور" والمغترب هنا، أو المعادل الموضوعي للعصفور / الرمز، هو الإنسان العربي الذي أشرقت الديانات من أرضه، فلماذا يغترب في أرض غير أرضه؟ والنتيجة المتوقّعة لهذا الاغتراب:
    يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
    في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
    .. وهي مأساة تجسّدت كابوساً جاثماص على الصدر، يدفع إلى التوتر والضيق وقد يؤدِّي إلى الانتحار!
    وفي قصيدة "الأضلاع الناقصة دائماً" محاورة قصيرة بين الشاعر وصاحبه ذي الجبهة (النورية) .. يقول عنه صاحبه إنه عاش كالأنبياء .. وإن أخلّ تكرار الوصف بالسياق .. كما انضغط الحوار فقصر قِصَراً أخلّ بالقصيدة. فهناك قصائد تتطلّب أقلّ عدد من الكلمات، وأخرى تتطلّب عكس ذلك.
    وفي قصيدة "أبي" يخوض تجربة موت أبيه، فيوجز التعبير إيجازاً شديداً، سائراً على نهج السياب(5) ومحمد أحمد العزب(6)، ولكن من غير أسباب أو إيغال في شعاب النفس:
    هُوَ الآنَ يطرُقُ باباُ من النَّقْعِ
    يصْرُخُ كيْفَ يشاءْ
    يصُفُّ الأرائكَ للرِّيحِ
    يُشعِلُ حجرتَهُ
    ويُحاوِرُ نجْمَ الدِّماءْ
    وفي الليْلِ يومضُ برْقٌ
    فيجفُلُ
    هلْ يُبصِرُ الآنَ وعْدَ السماءْ ؟
    وهلْ يسمعُ الشيخُ صوْتَ الرياحِ
    بوادي الفناءْ
    أيا فرسَ الموتِ ،
    أقبِلْ ، وطِرْ بي
    ودعْهُ هنا نائماً
    مُستريحاً
    وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ
    والملاحظ أن لهذه القصيدة صوتين: الأول للحدث والوصف لحالة الموت، مستغلا اللحظة الآنية. لاحظ قوله: هو الآن ..هل يُبصر الآن ..؟ أما الصوت الثاني: فيتمثل في كونه صدًى للصوت الأول، أو هو النتيجة وخلاصة التجربة، ونجد هنا تبدل صيغة الخطاب إلى نداء "فرس الموت":
    أيا فرسَ الموتِ ،
    أقبِلْ ، وطِرْ بي
    ودعْهُ هنا نائماً
    مُستريحاً
    وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ
    وللقصيدة صوتان آخران، او هما الصوت وصداه، يُعبِّر الصوت عن النزعة الإيمانية وروحانية الشرق، والصدى هو الأسلوب الاستفهامي عن رحيل عصفور الشرق إلى أرض غير أرضه، أي أن القصيدة مؤطّرة محدّدة المعالم قبل أن يكتب الشاعر حرفاً واحداً.
    وفي قصيدة "القيامة" يوجز رحلة الإنسان في سيره إلى أفقه المنشود، متجهاً إلى النهاية المحتومة "الموت"، مآل كل شيء حي، ويلجأ إلى تكرار بعض السطور لتأكيد المعنى، لكنه يفتقد هنا المغامرة الأسلوبية، ويعوزه عمق التجربة، أو قل حرارة التجربة التي تُعطي قوة الدلالة. لكن القصيدة في ضوء أي مقياس قد أدّت الغرض منها كفكرة حرص الشاعر على تضمينها من أول القصيدة إلى آخرها.
    ومما سبق يتضح أن مفردات اللغة الشعرية عند الدكتور حسين علي محمد مفردات يُغذِّيها الحلم، أو قل إن انطلاقته تبدأ من دائرة الحلم، وفي الحلم استرجاع للتاريخ الإسلامي وأمجاده بصياغة شعرية تبعد عن الشكل التقليدي في كتابة الشعر، مستعيناً بالتقطيع والتفعيل، والموتيفات الفنية للشعر الحديث، مسترجعاً أسماء شخصيات وأمكنة وأحداثاً تنسج في إطارها معالم التاريخ الإسلامي، وتشكل في حد ذاتها رموزاً ودلالات لهذا التاريخ العظيم.
    وصورة الحلم قد تتبعثر جزئياتها في واقع يتباعد كثيراً عن الصورة / الحلم التي تزدهي في مخيلة الشاعر، لكنه لا يحفل بجزئيات الواقع أو تفاصيله، ولا يستدني صورته. ونستشف في قصيده بما يشبه صرخة روح جريحة ذبيحة، وما إرهاصاته عن "زينب" المستوحاة من رواية الدكتور محمد حسين هيكل إلا تعبير عن انكسارات الروح، وهذه مواجيد المتنبي يُدبِّج منها قصيدةً أكثر وضوحاً وتأطيراً، إذ امتثل لنداء قوي يصخب في جنبات نفسه بأن الشعر ليس ارتزاقاً، وإنما هو رسالة سامية تُعلي من قيمة الإنسان.
    إلا أن مفردات الشاعر لا تنطلق في آفاقها الرحبة، وأشعر أن شيئاً ما يحدُّ من انطلاقها، أو أن الشاعر آثر إيجاز ما يريد أن يقول في أقل عدد من الكلمات بغية التركيز، وإن كان هذا المنحى يجني على التأثير في النفس. ولعله يستشعر ذلك بينه وبين نفسه، فيعبِّر عن ذاته المأزومة، ويتضرّر من "عدم البوح"!
    ولو فجّر الشاعر ينابيع إبداعه دون نظر أو التفات إلى محاذير، وأطلق عروس الشعر من عقالها، لكان أفضل. لكنها النفس المأزومة. وقد يكون تكرار الشكوى من عدم البوح وكتمان المشاعر بمثابة شهادة إدانة لعصر ولّى أوعصر نعيشه، أو إدانة لحياة في مكان كالصقيع لبعده عن الوطن، إلا أن الحنين إلى الوطن غير ظاهر فيما يقول، ولعلها موتيفة "عدم البوح" وسحرها في نفسه، فلا يبين شكايته ولا يبث مواجعه. وهو يؤكّد صوته وذاتيته في قوله: "أنا الذي سهرْتُ في حدائقِ الكلامْ". وعندما يجتذبه الصوت الناعم يكتفي بالقول:
    قلبي مأخوذٌ
    والصوتُ المحْتبسُ بحلقي جمْرٌ
    ويقول:
    أُكابِدُ حقلَ الشَّوْكِ
    وصدري مملوءٌ بالأسرارِ الحارقةِ
    أبوحُ ،
    وما بين الصوت المحتبس والبوح مسافة طويلة يقضيها صاحبنا في معاناة الكتمان، مسترسلاً في التعبير عن تجربته مع المرأة التي أخرجته من دائرة الصمت .. وعن الاخرين وردود أفعالهم:
    قالوا ـ في الليلِ الفائتِ ـ :
    جُنَّ ، فباحَ
    فمقتولٌ في الصبحِ الآتي
    بسكاكينِ النسوةِ ..
    أوْ يُلقى في الويْلْ !
    فهل البوح مرادف للجنون؟ ألهذا يؤثر الكتمان عن الإفاضة؟
    وأكتُمُ بيْنَ الحنايا
    .. تباريحَ قلبٍ
    تولَّهَ في حُبِّهِ .. كيفَ شاءْ !
    نحس في نبراته مرارة من مؤامرة الصمت ومن الجاحدين .. ويؤكد على مثالب الصمت، ويرى في البوح تعبيراً عن ذاتية الإنسان وأحاسيسه، وكلما واصلنا قراءة أشعاره انكشف لنا عُمقَ معاناته من الكتمان، وعجزه عن البوح!
    لكنه حين يُخاطب مكة يستمد بوحه وشجاعة القول من ذلك الصوت الآتي من رُباها وجبالها، فمكة هي كعبة الإيمان، حيث يرافقه صوت الرسول الكريم  ، حتى في البلاد القصية. لكننا نقف حيارى أمام قوله يُخاطب ليلاه: "وأرسم في البوْح نهرك"، فالبوح قاصر على رسم صورة الحبيبة في مُخيِّلته. فهذا الرسم هو منتهى الأرب وأبلغ من كل كلمات تُقال. ويُحاور نفسه واصفاً الصوت المشاكس الغارق في الجب: "النار في جبهتي تتصاعدُ / تقبرُ بوحَكَ"، والنار هنا سببها الخشية من سيوف الاستبداد في كل زمان ومكان، يُخاطب الصوت المشاكس في محاولة لتشخيص المأساة: "أجهدَكَ القولُ / والكرُّ والفعلُ / والقولُ" .. دالا على كثرة الكلام التي تُميتُ القلب، وفي ظل هذه المأساة:
    ضاعَ تحتَ الرّمادِ
    حنينُ الشراعِ
    وبوْحُ الغَرِدْ !
    وتأمل قوله: "تسكنُ الأصواتُ حنجرةَ الفراغِ" .. يعقبه قوله: "تخثَّرتْ لغةُ النشيجِ" ، .. إننا ننقِّب ونُفتِّش عن إشكالية البوح والكتمان، لأنها تشكِّل ظاهرة لافتة للنظر في أشعار حسين علي محمد، ونضع يدنا على شغله الشاغل وقضيته الأكثر إلحاجاً، فقد يكون الصمت أقوى دلالة وأبلغ من الكلام، وقد يكون القول لغواً وهراءً، والصمت حكمة وبلاغة. ورب صورة للحبيب ترسم وشماً في القلب. يقول الشاعر: "دنوْتُ .. فأوقفَني / وصمدْتُ .. فأنطَقَني" .. أليس من الأفضل أن يقول: "وصمتُّ فأنطقني" ولنتجاوز هذه لنواصل اقتفاء أثر إشكالية البوح والكتمان، ومازلنا نقف عند الكثير من الدلالات يضمنها بعض مقاطعه الشعرية، يقول في مقطع منها:
    كان العسكرُ يرتقبونَ الصَّيْحهْ
    لكنَّ جحيمَكَ لمْ تُخرجْهُ الشفتانْ
    امتدّتْ أسوارٌ منْ صخْرِ الأُلْفهْ
    والخوفِ من الإفصاحِ
    فجحيم المستبد يُفضي إلى الخوف من الإفصاح، بدلا من أن يُشعل ثورة، وهي مأساة يركّز عليها في قصائد كثيرة، وهي قضيته الملحة وشغله الشاغل، وهو القائل: "رجفة في اللقاءِ البعيدِ تُحاصرُ صوتَكَ" و"استضاءاتُ وجهِكَ في الماءِ / بوْحُ العصافيرِ" .. فالبوح لغة لكل معنى نبيل وشكل جميل، والقول لغة اللغو والثرثرة، وبين البوح والقول مسافة يفطن إليها الشاعر ويُجيد التعبير عنها، وهي من جماليات نصه الشعري، فالبوح مرادف لكل إحساس جميل ونبيل، والقول مرادف للسيطرة والهيمنة.
    يُخاطب يثرب فيقول: "نبضك في القلب يُشعلُ بوحَ القناديلِ" .. ويخاطب زينب في قصيدة "حدائق الصوت": "في صوتك أتنشقُ عطْرَ الفجرِ" .. ويقول: "إني لاأعرفُ أنغامَ الملقِ، وإني أركضُ في دربٍ يتمدّدُ في آخرهِ سيفُ الصَّمْت" .. وحين تموت زينب، يتساءل في حسرة وأمل ممض:
    “فكيفَ تجمَّدَ هذا المشهدُ في العيْنِ الفسفوريَّةِ
    كيفَ يجفُّ على الشفتيْنِ الحرْفْ ؟"
    .. ويخاطب الرسول الكريم  قائلاً:
    أتيْتَ إلى الأرضِ ..
    فانْتشتِ الأرضُ بالصادقينْ
    رأتْكَ تُفَجِّرُ بركانَ بوحِكْ
    وأنهارَ عِشْقِكْ
    فغنَّتْ بصوتِكْ
    معَ الثائرينْ !
    وإن كان تكرار كلمة (الأرض) مخلا، حيث لا يُضفي على الصورة البلاغية بُعداً جديداً. لنتجاوز هذه ، ونقرأ قوله:
    وفي عينكِ البوحُ
    في لفظكِ الجرحُ
    .. فالعين تبوح بسرها، بينما اللفظ / الكلمة ينطقها اللسانُ فتحدث جرحاً، أو قل إن اللسان قد يعجز عن ترجمة بوح العيون.
    نكتفي في هذا المقال بما عرضناه من مقومات ومفردات اللغة الشعرية، وبيان إشكالية البوح والكتمان عند حسين علي محمد، من خلال ديوانه "حدائق الصوت"، وقد وقفنا عند تأزم الذات مرهفة الحس، مشتعلة الوجدان أمام الكلام المبتذل وسيله الجارف، وأمام استهلاك مفردات اللغة في التزييف ورفع الشعارات الجوفاء … ويتحسس الشاعر طريقه إلى مكة ويثرب، يستضيء بنورهما، وإن كان الصوت مخنوق العبرات، فالذات المأزومة تجاهد كي تكون صوتاً يرسم دائرة الوجد في حدائق الصوت الغنّاء.
    فهل رسمنا مع الشاعر شيئاً، أم حاولنا أن نرسم؟
    حسني سيد لبيب
    .................................................. ..............
    (5) حسني سيد لبيب: مقال «أضواء على قصيدة "نداء الموت" لبدر شاكر السياب»، مجلة «الخفجي» السعودية، فبراير 1989م، ص32 ، 33.
    (6) حسني سيد لبيب: مقال «قراءة في أبجدية الموت»، مجلة «الفيصل» (السعودية)، أغسطس ـ سبتمبر 1996م، ص60،61.

  2. #22
    ( 17 ) وجوه الحرية الخضراء
    قراءة في ملحمة عنترة بن شداد المصري

    بقلم: د. إبراهيم بن محمد الشتوي
    ........................................

    (الحلم والأسوار) مجموعة شعرية للشاعر الدكتور حسين علي محمد، تأتي هذه المجموعة بعد عدد من المجموعات، وهو ما يعني أن الشاعر قد استفاد في هذه التجربة من تجارب سابقة، وأن آلامه، وآماله التي كانت توقد مرجل الشعر لديه بعيدة الغور في نفسه شديدة الأثر فيه، ومن هنا فالداء قد استحكم ولا أمل في الشفاء منه وإنما التوصيف والمداواة بالشعر، فهو له وجاء.
    استعار الشاعر عنوان المجموعة من قصيدة أخرى ليست موضوع القراءة، والشاعر حين انتخب هذا العنوان كان يدرك أنه يمثل نبضاً يشيع في أوردة المجموعة كلها، فيبعث الحياة في الجسد، ويحرك الدم في العروق، ولذا فهو يتصل بالقصيدة اتصالا كبيراً.
    القصيدة موضوع القراءة (تضاريس الفقد) وبالرغم من أن هذا العنوان دقيق ودال فإن الشاعر قد اتخذ عنواناً بديلا، أو مصاحباً (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة)، وهو هنا يحيل مباشرة إلى الملحمة المشهورة التي امتزج فيها الحب بالفروسية، مع السعي للحرية. إنها قضية واحدة متشابكة: الحب قرار، وإرادة واختيار ولا يكون إلا للحر، وهو أيضاً من صفات الفارس النبيل، ومن هنا فإن هذه القصيدة هي مقاطع من الملحمة التي تتشابك بها هذه المكونات الثلاثة، وتتداخل بشكل جدلي، لا ندري أين نقطة البداية فيها وأين النهاية، فهي تصلح لأن تكون البداية وتصلح أن تكون النهاية. وقد ظلت هذه الملحمة تشتمل على الألم اللانهائي المنبعث من السؤال المفتوح كجرح ينز بالصديد لا يكاد يندمل حتى يعي مرة أخرى: هل نال عنترة حريته وأدرك مراده، أم ظل الحلم يغيب كلما حاول أن يقترب منه، ويبتعد كلما أراد أن يدنو منه. المقولة: (كر يا عنتر وأنت حر) مشهورة، لكن المؤرخين لا يتفقون على مسألة زواج عنترة من حبيبته عبلة، وهو ما يعني في الوقت نفسه أن الحرية لم تنفعه، ولم تحقق ما كان يريدها من أجله (فهي حرية مع وقف التنفيذ)، ومن هنا فمأساة العبد لم تنته، والحرية لم تكتمل، فما هو إلا مدافع عن القبيلة، وحرماتها في وقت الشدة، وعبد يرعى البهم. هو في العبيد وعليه ما على الأحرار، وهنا ظلت صرخة عنترة تدوي في عقبه من الشعراء.
    في هذا النص لا تختلف القضية ولا المأساة عن تلك المأساة، ومن هنا جاء التخفي وراء دال له فضاءاته التي يحيل إليها، الأمر الذي يكشف مقدار الأسى والحزن الذي تحمله القصيدة، وتسعى للإفصاح عنه في مقاطعها الخمسة. هذه المقاطع تأخذ في ترتيبها نوعاً من الترتيب الزمني المماثل لعمر الإنسان: الطفولة، الشباب، الكهولة، مما ألقى بظلاله على المعاني المطروحة والمتناولة في القصيدة، وعلى موقف الشاعر / عنترة.
    هنا تواشج كبير بين مكونات النص، وثراء كبير فيما يريد أن يقوله، تواشج بين المقاطع بعضها ببعض، وتواشج بين هذه الملحمة، والملحمة الأصل، وتواشج بين اللغة الموظفة، والصور المستخدمة والهم الذي يطبخ في كبد الناص، وأخيراً تواشج بين القصيدة وما آلت إليه وعنوان المجموعة.
    المقطع الأول عنترة مع محبوبته / عبلة يشغلهم ما يشغل الأطفال: اللعب ليس غير، والمفردات التي تعبر في النص عن هذا اللعب لا تكشف أية نظرة حب أو إعجاب أو بدايتهما لدى عبلة تجاه هذا العبد الأفطس، وكل ما نجده قضاء وقت جميل في العبث، واكتشاف هذا المخلوق الغريب الذي يختلف عن شباب القبيلة (تحلم أن تغلبني...تقرص أطرافي) الذي لا يلبث أن ينتهي بانتهاء وقته، وهذا بخلاف ما يجده عنترة حيث يمتد هذا الوقت إلى ما بعد الفراق ليتحول أفكاراً تصيبه بالسهد تبعثها ذكريات أحاديثها الجميلة، وصورة أصابعها الرخصة التي لا تشبه أصابعه التي قرحها شد الحبل وجر الدلاء.
    يبدأ المقطع الثاني وقد استحكم الحب من قلب العبد الأفطس أو الذباب الأزرق كما سماه سيده، وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ الوطن / القبيلة والعلاقة بينهما، طبول الحرب تدق من حولهما، هي في نومتها الرعناء لا تبالي به، وهو يطارح السوداء ذات العينين الخضراوين الحب، السوداء هي المقدور عليها، وعينا حبيبته المشتهاة ويقتات الحلم بدحر العدو ونيل الجائزة الكبرى.
    أصبح العبد الأفطس فارس القبيلة في المقطع الثالث، دحر العدو، ونافح عن شرف القبيلة، وهللت أمه بابنها الفحل، وبدأت رحلة البحث عن المرأة التي تليق به، لم تصبح المحبوبة بعيدة المنال، لكن القضية لم تنته، فأمه تحول بينه وبين ما يشتهي، فهي لا تليق بالفارس، هي غانية تعبث..تبحث عن الشهرة، والمال، تريد أن تحصد كفاح الآخرين، لا تستحقه، ولا تستحق حبه، وكفاحه لتحقيق مراده ، فهي التي لم تأبه به زمن الطفولة، ولا زمن الحرب والطعان حين كانت في نومتها الرعناء تكشف عن ساقيها غير مبالية في أن يتعورها عبد الحلاب والصر.
    في المقطع الرابع يصبح العبد الأفطس حلم الفتيات، يطمحن في الاقتران به، وما كان يحلم به تحقق، ولن يعود ليراوده آناء الليل وأطراف النهار، فعبلة تتشبث بفارسها، تلح عليه للزواج بها، وتسوق الحجج، ولكنه لم يعد الحالم الأول، ولا الفقير الكسير الذي يحلم بمعاشرة بنات الأشراف الساكنات في العمق, أصبح عنترة الفوارس المنافح عن القبيلة. والعزة والكرامة هي قضيته، والوطن ليس وطن العسكر، فما عاد حلم الحرية يراوده لأجل أن يحصل على عبلة، أصبحت الحرية هدفا مستقلا، معنى قائما بذاته تبذل لأجلها الروح ويُهجَر الحبيب، فما بقي من الأول شيء كبير، ولا عادت عبلة تلهب أشواقه، ولا رماحها في صدره أشد من رماح الأعداء.
    لكنه برغم ذلك كله لم ينسها، وصورتها تراوده في المقطع الخامس قصيدة حب بيضاء، أو تفاحة تقطر عطراً، فرغم بعده، وصده لا يزال يتذكر صورتها الجميلة الأولى، يتذكر موقفها في زمن الذل، فلم تكن تسقيه الملح, أو تستأسد عليه، ولا يزال يحسها في الأشياء من حوله، يشعر بألمها ويأسى لها، ومن هنا فهو لم يتحرر منها، ومن الحلم بها، ما زال في أسرها، والمعاني التي انحفرت في داخله التي كانت تدل عليها فلم يقض عليها في داخله، ويتغلب عليها حتى ولو قتل الفرسان ومثل بالأجساد، فهو مقيد أسير فيها وفي المعاني التي تحيل إليها: السيادة، وزمن العبودية الأولى، فهاهو يقع في العبودية من جديد ومن هنا فحريته مؤجلة، وتحرره ناقص خديج.
    ومن هنا فإن الشاعر / العبد / عنترة يبحث عن طرق أخرى يحصل فيها على حريته، أو يتحرر عن طريقها، ويخلص من ألمه، وذلك أن يمارس الحرية، في حياته، وأن يرفع صوته بمأساته، ويعلنها أمام الناس، ويقدمها، ويعبر عنها كما يحس بها، وكما ينبغي أن يحس بها الآخرون، وهنا يكون خرج من ألمه، ومارس الحرية بفعله حين عبر عن رأيه بحرية وصدق.
    وهو ما حققه هذا النص حين حطم القيد / السور المحيط بالناص، وتجاوزه، ليبلغ الحلم، بالتعبير عنه، وفي التعبير عنه بحيوية كبيرة تحقيق له، لأن التعبير عن النفس والقضية وإيصالها للآخرين جزء من الحلم. وفي هذه النقطة بالذات تتم التشاكل بين عنترة العبسي، وعنترة المصري فكلاهما يشعران بالألم من قيد العبودية والتسلط، وهما معاً يحلمان بتحقيق حريتهما على أكثر من مستوى. هذه الحرية لا تتحقق إلا عن طريق الشعر / اللغة، حيث يتخذانها طريقاً للتعبير عن آرائهما وما يحسان به، ومن هنا فهما يمارسان حريتهما بالتعبير، وهنا ـ بالتحديد ـ يحسان بحريتهما المفقودة.

    الرياض 5/3/1426هـ.
    ...................................
    *الجزيرة الثقافية: ملحق «الجزيرة»، العدد (105)، غرة ربيع الآخر 1426هـ- 9 مايو 2005م.


    </i>

  3. #23
    ( 18 ) يقين الرؤية في «حدائق الصوت»
    للشاعر حسين علي محمد(1)

    بقلم: د. محمد زيدان
    ........................

    اليقين في أبسط صوره هو تجريد كلي للموقف، دون إيثار يحمل هذا الثبات الروحي النافذ إلى جدل الروح وصولاً إلى جدل اللغة ومراميها وتجلياتها، والموضوعية التي هي من أنسجة اليقين تعمل على سدّ الفراغ بينه وبين من ينتج من الانحياز من ترهل في الرؤية وخضوع موطوء لغياب الموقف. ولعل هذا اليقين ينفتح أمام الشاعر إذا كان لا يحس الرد الوثاب بين الكلمة كيقين والموقف كسلوك عملي يرتبط بعملية الإبداع وخصوصيتها ومجالاتها المتفردة.
    والشاعر حسين علي محمد أحد أقطاب اليقين الرؤيوي القائم على نزع الجدل وأنصاف الحلول للوصل إلى فضاء مُباغت من خلال القصيدة، وذلك ناتج عن وعيه بما يُكتب وما يكتُب، ولمن يكتب ـ هو ونفر قليل معه ـ.
    وديوان "حدائق الصوت" الصادر في الزقازيق ـ مصر 1993م هو جماع الموقف الشعري ليقين الشاعر، ومرحلة متوهجة لعطائه المستمر منذ عشرين عاماً، ولذلك فهو يُمسك جيداً بأطراف العملية الإبداعية القائمة على إيجاد اللغة الشعرية المنفلتة من إطار التقليدية التي تزهق روح القصيدة بالإضافة إلى تمل حقيقي لموقفه المتحدد برؤية كلية لقضايا الإنسان المعاصر، متحدة مع هذه الرؤية، ومنسجمة مع قضايا الذات الشاعرة وتجلياتها وأحلامها وتطلعاتها.
    ولتحديد هذه الافتراضات غير الجدلية نجد أنفسنا أمام إطارين هامين من الأطر الكثيرة التي يمكن أن نتناولها داخل المجموعة الشعرية.
    الإطار الأول هو إطار الموقف، وفيه قد مزج الشاعر بين المشهد الكلي لموقف الإنسان العربي المعاصر وتساؤلاته وبين المشهد الخاص القائم على تملي الذات من خلال حلم كبير تنصهر فيه الجلود والعظام، وتنبجس منه عين ماء، تتضافر فيها الأيدي، وتتوضأ منها القلوب والأرواح ..
    فلابد من طرح الفكر حتى يحس الشاعر بصوته وهو يقرع الآذان، في مواجهة الموقف المسيطر من الخارج، ودخولا في بوتقة الحلم .. ولعل تقسيمات الديوان الأربع تُجلي هذه النقطة .. وكيف مزج الشاعر إطار الموقف بالحلم بحيث لا نستطيع الفصل جيداً بين الذات والموضوع، فنجد "حدائق الصوت ـ زهور بلاستيكية ـ من دفتر العشق ـ تجليات الواقف في العراء"، وبها تتضح محددات المشهد الشعري عند حسين علي محمد، واستبصاره جيدا لموقف الانفلات من الذات المحطمة أحياناً لإمكانات الشاعر، إلى الدخول في الهم الجمعي الذي ظل يؤرق الشاعر كما يُحدثنا في قصيدة "ثرثرة في كراسة عنترة" من تقسيمه الثاني"زهور بلاستيكية".
    مايو يطوي صفحته السوداءَ ،
    يُحاولُ أنْ يقتلعَ جذورَ الحزنِ من القلبِ ،
    ويعشقُ "عنترةُ" الحرفَ
    جمالَ اللفتةِ ،
    صدقَ النبضةِ ،
    نزقَ الرغبةِ ،
    دفْءَ الصدرِ ،
    يُحاولُ أنْ يهرعَ للقرآنِ ،
    ويجري للطرقِ الوعرةِ ،
    تنطلقُ الشمسُ حصاناً يخترقُ جبالاً ومفاوزَ (2)
    فبمجرد استدعاء عنترة بدلالاته التراثية، ومخاوفه، وأحزانه، ومحاولته أن يهرع للقرآن، يُفجِّر القضية المحورية عند الشاعر ـ كما أن الإحساس بالهزيمة أو الانهزام الذي يرزح تحته معظم شعراء جيل حسين علي محمد والأجيال التالية ـ لم يعُد إحساساً هُلاميا ناتجاً عن تحولات في الذات .. أو لموقف صوفي متوغِّل في الانغلاق والغموض، ولكن الوطء الذي ترزح تحته الأرواح بين جدران الأرض / الوطن، أدخل الإحساس المُلازم لقضايا الإبداع وخاصة في مصر .. فهناك من الشعراء من يبوح بذلك في القصيدة بوحاً تاما، ويضمنها الموقف الشعري، ومن الشعراء من يلوذ بالصمت والانغلاق والتستر وراء الكلمات والتخوم والأطلال التي تعبث بظلال القصيدة، "لذلك تتبدّى كما لو أنها حركة اجتياح لما يظل محتمياً بالصمت لا يطاله الكلام العادي، أو حدث استدعاء للغياب الكامن في الحضور"(3)، وشاعرنا يبوح بذلك كما لو يبدو مؤمناً ـ وقد بدا ذلك فعلاً ـ بعدم الصمت والانغلاق والتستر وراء اللغة:
    أتسكّعُ تحتَ الجدرانِ وحيداً منهزما
    أمشي بينَ قوافلِ غزلاني
    أحرفِ شعري
    أقطرُ حزنا ودَما
    لي ولَعٌ بالأبيضِ إذْ يخترقُ الأسودَ
    كالنَّصْلِ
    ويمشي منتَشِياً مٌنهزِما !

    هذي سنةُ الحزنِ ،
    لماذا لا تُؤويني الكلماتُ بمحرابِ هواها
    جُرحاً ملتئما ؟(4)
    وهكذا ينفتح فضاء القصيدة لتبدو رؤية الشاعر واضحة جليلة، دون خوف أو مراوغة أو حجب، ولكنه فضاء يوحي بسطوة هذا اليقين الذي افترضناه في البداية.
    وإذا تحدث الشاعر عن "الجواد المكسور"، و"تجليات الواقف في العراء"، و"الطوفان .. ومدن الوهم"، و"أقوال غيلان" فإن موقفه يبدو ساطعاً في إطار همِّه الذاتي، أو تكون الذات هي المحور الذي تنطلق منه تجلياته نحو المستقبل والإنسان، ونحو اللفظة الشعرية ومكاشفة الواقع، ومزج الخيال بالحزن، والحزن بالرغبة المسيطرة في حلم نظيف.
    يبقى أن أقول في إطار موقف الشاعر الدكتور حسين علي محمد أن التصنيف الأدبي حيال نصوص شاعر مثله لم يعُد صحيحاً، لأنه يجمع في النص الواحد اشتعالاته المتطايرة، بمرايا الماء الراكد، وأنفاسه اللاهثة بلحظات النشوة، في صراع دائم مع الحزن والعبقرية والرحلة والتفوق، فلا مجال إذن للتصنيف. والتصنيف الذي أعني ليس التصنيف المذهبي "كحركة أدبية تقوم على وجود نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، والمجتمع المحيط"، كما يقول شكري عيّاد(5). ولكن تصنيف الشعراء بين الرومانسي والواقعي لم يعد هذا أوانه.
    أما الإطار الثاني وهو إطار اللغة فإن ديوان "حدائق الصوت" يعد الوحدة الحية التي جمعت بين صرامة طرح الفكر وروعة البناء الشعري، وفيه أيضاً تتحطّم أغلال الملل من الصور الكلاسيكية الميتة، وبُعداً عن رضوخ الشعراء للألفاظ المعجمية التي تحجب الرؤية.
    والصورة في الديوان تحمل من الدلالات النفسية الناتجة عن تجانس الصوتي مع الاختيار الأمثل لحركة "الفونيمات" و"المورفيمات" بين ثنايا النص، والوعي بحركات الإعراب والمد كما في "صرخة أولى":
    يُباغِتُني توهُّجُ لفظِها النشوانِ
    بينَ شقائقِ النُّعمانِ
    والريحانِ
    أُغنيةً .. مواويلا(6)
    فمن ناحية لا يخيب طموح القارئ في رصد حركة التوقع التي تأتي أحياناً من تراث القصيدة العمودية، فلا يحرم النص من إيصال التجانس اللفظي إلى مسامع قارئ ليس له شغل كبير بالشعر الحديث. إلى جانب تصفية الأسلوب ورغبة المباغتة من قوله "أُغنيةً .. مواويلا" بما يحمل المعنى من ترادف، ولكن مع وجود فاصل البياض الذي يعكس بدوره حركة النفس، وأيضا في قوله:
    وفيها العصْفُ
    فيها القصْفٌ
    وهكذا ينمو لدى الشاعر إحساس بتوهج المعنى من خلال تبادل المواقع بين الصوامت / المجهورة في اللغة العربية.
    أما الإضافات التي تحمل ظل الحداثة الشعرية في إطار اللغة أيضاً، وتجاور البعيد، وبعد الغريب، مع التجسيد والتشخيص، وتراسل الحواس، والدلالات المتناقضة في الصورة الشعرية القائمة على تملّي الواقع والحلم مُحاولة المزج بينهما، فهي كثيرة، مثل: فتحتُ السترةَ للريحِ وبُحت، رأيتُ القلب، أبصرتُ الماءَ يُحاورُ قيْظي، والحلم الأخضر يجتاح الجسد(7).
    وهكذا تحس ببدائية اللغة وبداوتها في آن واحد، وسيولتها وحركتها وعصريتها، بعيداً عن اقتناص الصور القديمة والسطو عليها، وبعيداً عن البهرجة اللفظية القائمة على الشكلانية الموغلة في الانغلاق بحيث يصبح النص مجرد لغة فقط.
    وبعد، فإن "حدائق الصوت" ديوان جدير بالدرس والقراءة لشاعر هام من شعراء السبعينيات في مصر.
    محمد زيدان
    ...................
    (1) نشر في «المسائية» (السعودية)، العدد (4301)، في 16/4/1996م، ص11، كما نُشر في العدد الخامس من مجلة «فاروس» (الإسكندرية)، يناير 2001م.
    (2) حسين علي محمد: حدائق الصوت، ط1، دار الأرقم، بمصر 1993م، ص128.
    (3) محمد لطفي اليوسفي: لحظة المكاشفة الشعرية، الدار التونسية للنشر، 1992م، ص23.
    (4) الديوان، ص151.
    (5) د. شكري محمد عياد: المذاهب الأدبية والنقدية، عالم المعرفة، سبتمبر 1993م، ص62.
    (6) الديوان، ص183.
    (7) الديوان، ص187.

    </i>

  4. #24
    (19) قراءة تحليلية في قصيدة «رحيل الظلال»

    للشاعر حسين علي محمد



    بقلم: سعيد عاشور

    ...............

    أ-النص:
    رحيل الظلال
    (قصيدة إلى مفتتح عام 2003م)
    شعر: د. حسين علي محمد

    الظلالُ التي أدمنتْ حبَّنا / هجرنا ..
    ـ هكذا قالت الريحُ في سِفرِها ـ
    تخدعُ الروحَ، توعدنا بالهلاكِ،
    فهل ترحلُ الآن ـ قبل رحيل الظلالِ ـ خُطى القافِلةْ؟
    قالتْ الآنَ هذي الظلالُ التعيسةُ:
    هذا أوانُ الرحيلِ،
    سأترك وقْعَ خطاك على الصَّخْرِ،
    كمْ قادني البوحُ نحو الفراغ الذي يجتليه الربيعُ ،
    العنادلُ في هدأةِ الوقت تحرسُ تلك الأغاني
    .. التي لم تمتْ في صقيع ِ المجرات، في الهدأةِ القاتِلةْ
    للحقيقةِ قال حداءُ القوافلِ فجراً،
    لتلك التلال الصديقة :
    أنتِ نصوصي التي فاوضتني الجبالُ على طهرها،
    أنتِ لنْ تسقطي تحت أرجلِ هذا الشتاءِ الكسولِ،
    تعاليْ ..
    لقد سرق اللصُّ ما وفرتهُ النمالُ،
    وذي جوقةٌ للِّصوص تُغنيكِ: هيا لنهربْ ..
    هيا لنأخذ كعكتنا في الشتاء المواتي و نهربُ ..
    ـ لن نركب الرحلة الآفلة
    سنبقى هنا، نتحاورُ،،،
    ويْ .. يا لتلكَ النسورِ المهيضةِ ..
    ....!!
    والأرضُ لن تترك الأُسْدَ تبكي
    بتلك الفؤوس التي تفتح الآن بطن السهول ليظهر هذا النخيلُ المقاتلُ
    نحضنُ ظلَّ الضحى في السنابلِ،
    نرقبُ عشقَ الجداولِ،
    ... كمْ ناغتِ القريةَ الغافلة
    ولن يعبر الوحشُ في نومةِ العاشقِ المستكينِ على جثةِ النخْلِ
    لن يمتطي صهوةِ الريحِ في أفقنا ..
    كيفَ يأخذُ فيضَ البداياتِ،
    لا نرتجي أن يكونَ الرحيلُ رفيقاً لنا
    سنتركه فوق هذا الرصيفِ المخاتلِ
    يبكي على الوعْدِ، والسابلةْ
    هنا،
    يتعفن هذا الفراغُ الذي حاصرَ الوقتَ ..
    أُسكتهُ بالحياةِ التي تتحدّى الحصارَ،
    وتقتلُُ في فزعةِ الروحِ: ليل العذابِ
    / النهاياتِ
    / صوتاً له ملمحُ الرَّعدِ ..
    أوْ هجمةَ القنبلةْ.
    الرياض 5/1/2002م
    ................
    ب-القراءة:
    يقول الشاعر
    (الظلالُ الَّتي أدمنت حُبَّنا/ هجرنا )
    فلننظر للمفردة الأولى (الظلال)، الظلال: جمع ظل، يعني ظلالاً كثيرة، فـ(الظلالُ ) تعني الأماكن، و(الظلال) قد تكون ظلال الأشجارِ، أو ظلال الحوائط الأسقفِ و..و..و... مما يعني في النهاية أنها هي ظلال الوطن أو الأوطان.
    وكل هذي الظلال عاشرتنا وأحبتنا؛ أحبتنا في حبنا، وأحبتنا في هجرنا حتى أدمنت هذا الحب وأصبحت لا تستطيع أن تهجرنا، ولا نحنُ نستطيع أن نهجرها ولو فقدنا أنفسنا وأرواحنا وكل ما نملك!
    فماذا يُريد الشاعر أن يقول حتى خرج علينا بهذا المفتتح لِأن البيت الذي سوف يأتي بعد هذا البيت يقولُ فيهِ:
    ( هكذا قالت الريحُ في سفرها) ولو نظرنا في هذا البيت سنجد فعلاً وفاعلاً: الفعل (قال) فعل ماضٍِ والتاء تاء التأنيث، أما الفاعل هُنا فهي (الريح). ولماذا قال الشاعرُ (الريحَ) ولم يقل (الرياح) إشارةٌ إلى قول النبي صلى الله عليهِ وسلم : ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) لِأن الريحَ تحملُ من الشرِ أكثرُ من الخيرِ (ريحٌ صرصرٌ) قرآن كريم) هُنا يرى الشاعر مالا يراهُ الآخرون لِأن الشاعرَ تنبأ بأنَ هُناك ريحٌ سوف تأتي إلينا تحملُ شراً لِأنها تخدعُ الروحَ، وتوعدنا بالهلاك، وتهددنا بالرحيلِ، وليسَ برحيلنا وحدنا، بل: الظلال كذلك سوف ترحل هي الأُخرى.
    يقول الشاعر
    (هكذا قالت الريحُ في سفرها)
    ( تخدعُ الروحَ ، توعدنا بالهلاك)
    ثمَ تقول الريحُ
    (فهل ترحلُ الآنَ ـ قبلَ رحيل الظلال ـ خُطى القافلة)
    ثمَ يأتي البيت الذي يلي ذلكَ:
    (قالت الآنَ هذي الظلالُ التعيسة )
    (هذا أوان الرحيل )
    قالت، مَن هيَ التي قالت؟ مازال الكلامُ للريحِ، لِأنَ هذي الريحُ العاتية هي التي تقولُ بل تأمر ثم تصف الظلال التي عشقتنا وأدمنت حبها لنا بأنَّها ظلالٌ تعيسة، بل تأمرها بالرحيلِ، وتأمرنا نحنُ أيضاً بالرحيلِ لِأنها تقولُ:
    (فهل ترحلُ الآن قبل رحيل الظلالِ
    ثمَ ينقلنا الشاعرُ نقلة أُخرى : فيقول:
    ( كم قادني البوحُ نحو الفراغ الذي يجتليهِ الربيعُ)
    ولننظر هذا البيت: كم يعني مراتٍ كثيرة، ولننظر هُنا لياء المتكلم في قادني ومَن هو القائد : القائد هُنا هو البوح وماذا يُريد أن يبوح : البوح ليسَ في هذا البيت (البوح) في البيت الذي يلي هذا يقولُ الشاعر (العنادلُ في هدأةِ الوقت تحرسُ تلكَ الأغاني)
    كأنما أرادَ أن يقولَ إنَ الطيورَ هيَ التي سوف تحرسُ ما تركناهُ من تراثٍ لِأننا أصبحنا عاجزينَ عن هذا، وأصبحنا عاجزينَ تماماً أمام هذهِ الريح العاتية: لأنَ ما تركناهُ من تراثٍ مرتْ عليهِ هجماتٍ كثيرة قبل ذلكَ من خلال البيت التالي يعني تلكَ الأغاني :
    (التي لم تمت في صقيع المجرات في الهدأةِ القاتلة)
    الهدأة تعني الأوقات التي مرتْ على هذهِ الأماكن التعيسة، وهي تلك الأُوقات العصيبة التي حاول فيها المستعمرونَ إذلالنا، ولكن كُنا نقاوم. أما الآن فنحنُ عاجزونَ وما دمنا عاجزينَ فسوف نترك هذا التراثُ للعنادلِ، وهي التي سوف تحرسهُ، وهذا دليلٌ على عجزنا واستسلامنا .
    يقولُ الشاعرُ بعد ذلكَ :
    (للحقيقةِ قالَ حداءُ القوافلِ فجراً لتلك التلال الصديقةُ)
    هُنا (قالَ)، فمَن هو هذا القائلُ؟ إنه حدُاء القوافل، أي غناء القوافل. ولا بد أن يكون الغناء في هذه الساحة حزيناً! فمن يقصد بالحداء؟ ومَن هو؟ إن الحداءَ هنا هو ذات الشاعر، أو نفسهُ،. لقد أخرجَ الشاعرُ ذاتهُ وجعلها تتحدثَ مع تلك التلال الصديقة : التلال التي اعتادَ عليها ولم يتصورَ أنَّهُ سوف يتركها ولو دفنَ فيها يقولُ لها أنتِ نصوصي أنتِ تراثي الذي لا أفرط فيهِ أبداً :
    (أنتِ نصوصي التي فاوضتني الجبالُ على طهرها) (أنتِ لن تسقطي تحت أرجلِ هذا الشتاء الكسول).
    ثم تأتي مفردةٌ في سطر وحدَها، مفردة نداء: (تعالي). ولنتتبع هذا المشهد الدرامي الذي سوف يحدث من خلال هذهِ المفردة (تعالي) مَن يُنادي على مَن ذات الشاعر أو نفسه؟ تنادي على تلك التلالُ : التلالُ الصديقة التي راودتها الجبالُ على طهرها : تُنادي عليها (تعالي) أسرعي ماذا وراءَك أسرعي كي أخبركِ.
    التلالُ: ماذا تُريدين وعم تُخبرين؟
    ـ (لقد سرقَ اللصُّ ما وفرتهُ النِّمالُ )
    ـ أي لِصٍ تقصدين؟
    ـ اللِّصُّ صاحبَ الريح العاتية التي هددتنا بالرحيل نحنُ والظلال!
    ـ وأي نمالٍ تقصدين؟
    ـ النمال التي كنا نحسب أنَّها ديناصورات وما علمنا أنَّها نمالٌ إلا بعد ما أتى اللصُّ صاحب الريح العاتية الذي ضرب ودمرَ ولم يستطيع أحدٌ الوقوف في وجههِ.
    ولنتتبع استكمال المشهد عندما يعتري النفس الإنسانية الوهن والخمول تُريد الهرب ولكن في ظل شيءٍ تحتمي فيهِ فتخاطب التلال تقول
    (وذي جوقة للصوصِ تُغنيكِ: هيا لنهرب
    هيا لِنأخذ كعكتنا في الشتاءِ المواتي ونهرب)
    فتأبىَ التلالُ الأبيةُ ما تعرضهُ عليها النفس وتقول (لن نركب الرحلة الآفلة سنبقى هُنا نتحاورَ ،،، وي..يا لتلكَ النسورِ المهيضة والأرضُ لن تتركَ الأُسدَ تبكي.
    ثمَ تُشيرُ إلى الفؤوس وكأنها تقولُ (بتلك الفؤوس التي تفتحُ الآنَ بطن السهولِ لِيظهر هذا النخيلُ المقاتل نحضنُ ظلَّ الضحى في السنابل نرقبُ عشقَ الجداول ولن يعبرَ الوحشُ في نومةِ العاشقِ المستكين على جثةِ النخلِ لن يمتطي صهوةِ الريح في أُفقنا ...كيفَ يأخذ فيضَ البدايات، لا نرتجي أن يكونَ الرحيلُ رفيقاً لنا سنتركهُ فوقَ هذا الرصيفِ المخاتل يبكي على الوعد ، والسابلة. : هُنا، يتعفن هذا الفراغُ الذي حاصرَ الوقتَ .. أسكتهُ بالحياةِ التي تتحدى الحصار وتقتلُ في فزعةِ الروحِ:ليل العذاب) ثمَ أنهت كلامها بهذا المقطع الرائع (النهاياتِ: صوتاً لهُ ملمحُ الرَّعدِ أو هجمة القنبلة) .
    هكذا يجب أن تكون الجملة الشعرية أو السطر الشعري. أن تكون الجملة فيها حياة وحركة من خلال الصورة مع الصوت مع الخيال لِإجادة الدهشة والحركة. وسوف يظهر الصدق الفني في النص، فتصبح الجملة فيها حركة غير عادية كمثل خلية النَّحل فتجد المفردة التي تتساوى مع الملكة الأُم التي سوف نطلق عليها اسم المفردة الملكة، أما باقي المفردات فسوف نطلق عليها المفردةَ الشغالة التي تأتي بالرحيق من الزهور والتي تعملُ على حماية الخلية والتي تصنع الغذاء للملكة الأم فتقوم كل مفردة بما طلب منها تحت نظامٍ دقيق يتساوى فيهِ الجميع.
    وسنضربُ مثالاً على ذلكَ من خلال بعض الجمل الشعرية... ، ومنها: (الظلالُ )التي أدمنت حبَّنا / هجرنا، و هكذا قالت ( الريحُ ) في سفرها ، كم ( قادني البوحُ )نحو الفراغ الذي يجتليهِ الربيع، و( تعالي )، لقد سرقَ اللصُ ما وفرتهُ ( النِّمال )، و( تلكَ الفؤوس ) التي تفتحُ الآن بطن السهول ليظهر (هذا النخيل المقاتل )، و( ملمحُ الرعد ) ( أو هجمةِ القنبلة ) ... وغيرها.
    وهذا على سبيل المثال وليس الحصر .

  5. #25
    ( 20 ) قراءة نقدية في ديوان «حدائق الصوت»
    للشاعر حسين علي محمد

    بقلم: عبد الرحمن شلش
    ............................

    يطرح الشعر العربي المعاصر أسئلته النابعة من رؤية المشهد العربي الراهن، والمعبرة عنه .. فتتوازى وتتقاطع ـ في الوقت نفسه ـ مع أسئلة الواقع الثقافي لدينا، بإشكالياته وقضاياه وتحدياته.
    وتبدو رحلة الشاعر حسين علي محمد ـ ولمّا تزل ـ سفراً مديداً بين المكان والزمان، بين الفعل ورد الفعل، بين السهم والوتر، بين المد والجزر.
    إنها رحلة غوص في أعماق الإنسان، والمكان، والتراث، واللغة، بحثاً عن الجميل، وتنقيباً عن الكوامن واللآلئ، وكشفاً عن أسرار الكلمة المموسقة، والمتوهجة بإشراقة الأمل، والمعبرة عن نبض القلب الخافق بعشق كبير.
    هذه الرحلة التي بدأت في مصر قبل أكثر من ربع قرن بشعر العامية، ثم لم يلبث الشاعر أن هجَرَه ـ بلا عودة ـ إلى الشعر الفصيح، فن العربية الأول الذي برَعَ فيه فرسان كثيرون، قدامى ومحدثون ومعاصرون، وكأنهم في سباق للمسافات الطويلة، كان الفوز فيه للأقدر، والأوفر عطاءً، وإثراءً، وتأصيلاً، وتجديداً، وتمايُزاً، ليُسهم في دفع مسيرة الشعر العربي إلى الأمام، نحو مسارات جديدة، ونحو منطلقات يتداخل فيها الخاص بالعام، والمحلِّي بالعربي، والصوتي بالمرئي، والوعي باللاوعْي.
    فشاعرنا يعزف ألحانه منذ حقبة السبعينيات الميلادية، مع مجايليه في الوطن العربي، منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد فهمي سند، وأحمد سويلم، وأحمد عنتر مصطفى، ومصطفى النجار، وعصام ترشحاني، وخليفة الوقيَّان، وسعاد الصبّاح، وسعد الحميدين، وغيرهم كثير.
    أصدر حسين علي محمد المجموعات الشعرية التالية: "السقوط في الليل"،(1977م)، و"حوار الأبعاد الثلاثة(مشترك)" (1977م)، و"ثلاثة وجوه على حوائط المدينة" (1979م)، و"شجرة الحلم" (1980م)، و"الحلم والأسوار" (1984م)، و"الرحيل على جواد النار" (1985م)، و"حدائق الصوت" (1993م)، و"مذكرات فيل مغرور (شعر قصصي للأطفال)" (1993م).
    وله مسرحيتان شعريتان، هما: "الرجل الذي قال"(1983م)، و"الباحث عن النور"(1985م).
    كما أصدر الدراسات الأدبية التالية: "عوض قشطة: حياته وشعره"(1976م)، و"القرآن .. ونظرية الفن" (1979م)، و"دراسات معاصرة في المسرح الشعري" (1980م)، و"البطل في المسرح الشعري المعاصر" (1991م)، و"شعر محمد العلائي: جمعا ودراسة" (1993م).
    وواضح من هذا العرض تنوع عطاء الشاعر حسين علي محمد بين الشعر والمسرحية والدراسات الأدبية، سواء في موضوع القرآن ونظرية الفن، أو المسرح الشعري، أو تناول بعض الشعراء: حياتهم وأشعارهم.
    وفي قراءتنا هذه في مجموعته الشعرية "حدائق الصوت" بوصفها أحدث ما ظهر للشاعر من أعمال شعرية سنركز على أبرز الملامح أو المحاور في تجربة الشاعر من خلال رؤاه وأدواته، فضلا على رصد السمات المشتركة التي تتسم بها تجربته.
    الاغتراب النفسي والمكاني
    لعل محور الوطن في تجربة حسين علي محمد الشعرية يُشكِّل المحور الرئيس في رؤاه؛ فالوطن يعني: العشق والجذور، الأرض والإنسان، والانتماء والكرامة، والحق في الحياة الحرة، والأزمنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فالوطن: هو الحياة، والهواء الطليق، وحضن الأمن، والشموخ والأمل، ولو سافر الشاعر بعيداً عن وطنه رآه أكثر وأقترب منه أكثر، فالغربة لا تُباعد بين الشاعر ووطنه، بل تجعله دوما قريباً منه، يحيا في ذاكرته وفي مخيلته وفي قلبه، لكن ما أقسى إحساس الإنسان بأنه يعيش غريباً في وطنه وبين أهله، إنه أشد أنواع الإحساس بالغربة النفسية والمكانية.
    ويبدو شاعرنا واقعا في أتون هذا الإحساس مكتوياً بنار الغربة، وهو داخل وطنه، وهو مسافر بعيداً عنه في بغداد، وفي صنعاء، وفي الرياض. فالعشق يُحرِّك أوتار القلب، فتتَفجَّر ينابيع الرؤى وأشجان النفس، وينصهر الشعر في بوتقة الحزن والخيال المسافر عبر الزمان والمكان.
    يتحدث الشاعر على لسان المتنبي في قصيدة "سطور من مواجيد أبي الطيب المتنبي" فاتحاً نافذةً يُطلُّ منها على الحاضر:
    أفتحُ شبّاكي قلقاً
    أخشى مجهولاً
    يأتي
    (هلْ يقتلُني كافورُ الليلةَ ؟)
    أنهضُ مختنِقاً
    أسترجعُ ذكرى الأيامَ الخضراءِ
    وأفتحُ بابي للقمرِ الصيْفيِّ النشوانِ
    فيُغمِضُ عينيْهِ ، ويزْورُّ يميناً عنِّي
    وأظلُّ وحيداً
    فوقَ السطحِ شريداً
    وأٌقلِّبُ في ذاكرتي صفْحاتِ الرحلةِ :
    أحببْتُ ديارَكِ يا مصرُ ، ونيلَكِ
    والشعبَ الطيِّبَ ،
    والشمسَ ،
    وظلَّ الأيامِ المعطاءِ
    وهذا كافورُ الخيْرِ يُحاورُني
    يُغريني بالدّارِ الفخْمةِ
    والراقصةِ المكتنزةِ
    لكنِّي لا أُبصِرُ غيرَ الخوْفِ بداري
    يجلسُ ، وأُحاورُهُ :
    هلْ يأتي من أعماقِ القطْرِ الطيِّبِ
    منْ ينشُرُ فوقَ الوجْهِ الخائفِ
    ثوبَ الأمْنِ
    ومنْ يُرجِعُ لي صفْوَ الأيامِ الأولى ؟
    وفي هذا المقطع يستحضر الشاعر شخصية المتنبي كي تُصبح قناعاً، يُسقط من خلاله ما يريد أن يقوله ليس عن عصر المتنبي، بل عصرنا الراهن، ويأتي ذلك عبر عملية إسقاط واعية على حاضر الوطن، من أجل أن يعود الأمان والأمن، ويتراجع الخوف.
    ويعبر الشاعر عن مناخ النكسة والهزيمة عام 1967م حيث تكسّرت النصال على النصال في رباعية "نكسة":
    كانَ يوْماً ليسَ كالأيَّـــامِ ، إنِّي .:. قدْ خَشِيتُ الرِّيحَ ، والخوْفُ لجامْ
    لا تلُمْني قدْ مَضَتْ في الفجْرِ سُفْـني .:. ثُمَّ عـادتْ لي مع الظُّهْرِ حُطـامْ
    ويسجل الشاعر نقوشاً على ذراع الوطن في قصيدته "وشم على ذراع مصر":
    أكتبُ عنكِ وعنْ أبنائكْ
    كلِّ الفقراءِ الشرفاءْ
    منْ زرعوا أرضَكِ،
    وامتزجوا في ذرّاتِ ترابكْ
    منْ ذابوا عشقاً فيكْ
    منْ عرفوا طعمَ العرقِ ـ الملحْ
    أكتبُ عنهمْ
    فأنا أعرفهمْ فرْداً .. فردا
    لمْ أخلعْ جذري منْ تربتهمْ
    في البرْدِ القارسِ لا أتركُهمْ
    في الصيفِ القائظِ أبقى معهمْ
    وعلى ما في هذه الكلمات من ميل إلى النثرية فهي تُعبر عن إحساس صادق بالانتماء إلى الوطن: الأرض والناس، ويخاطب الشاعر واحداً من رفقة دربه في قصيدته "الحلم المسافر .. أو صابر عبد الدايم" حيث يتداخل فيها الخاص بالعام:
    كانَ العالمُ مبتعِداً فتلاقيْنا ، لنُفجِّرَ في الأعماقِ قنابلَ حيْرتِنا ، فجَّرْنا الشعرَ منابعَ ضوْءٍ فتهامستِ الأنداءُ على الأعوادِ ، قطفْنا أشعارَ جزائرِنا المهجورةِ ، غامرْنا رغمَ القيْظِ / الأنواءِ / جفافِ الزمنِ / الخوْفِ .. كشفْنا سرَّ النَّبْضْ
    وهذه الرؤية نثرية مثل سابقتها، لكنها تعبر عن المناخ أو الجو الخاص والعام الذي عاشه الشاعر وصديقه في الثمانينيات (1983م).
    تداخل الخاص بالعام
    وفي إطار تداخل الخاص بالعام ـ بشكل عام ـ يبدو الشاعر مؤرقا بهموم الناس الطيبين الشرفاء وأوجاعهم ومعاناتهم، فهو لا يكف عن التغني بعشق الوطن وحريته وأمنه وأمانه، كي يسمو شامخاً في علياء المجد والقوة في عصر لا يعترف إلا بالأقوياء.
    وتتسع الرؤية في تجربة حسين علي محمد شاملة الوطن الكبير، بعطاء أبنائه المخلصين، وسعيهم الحثيث لاستعادة مجد الآباء والأجداد، وعبور مرحلة الانكسار والانقسام، فالشاعر في كثير من قصائد المجموعة يهمس مستصرخاً بني قومه حتى يفيقوا من سباتهم العميق، ويستردوا موقعهم ومكانهم على خريطة العالم، وتحت وهج الشمس، شمس الحقيقة، وهو يعبر عن ذلك في قصيدة "من أوراد الفتح"، ومنها قوله:
    .. قدْ أَشرقتِ الشمسُ
    صباحاً
    منْ مكَّهْ
    فلماذا يرْحلُ هذا العُصفورُ
    إلى شُرفةَ قيْصَرْ
    ومنازلِ كسْرى
    يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
    في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
    ويرسم الشاعر صورة لإنسان هذا الوطن في قصيدته "فواصل من سورة الموت" معبِّراً في أحد مقاطعها عن الخروج إلى التيه، ثم نرى الشاعر في قصيدته "من إشراقات عمرو بن العاص .. أو التحديق في وجه الشمس" يستدعي الماضي كي يُحاكمَ زمانَنا:
    تُوشوشُني في المساءِ العنادلُ
    إذْ أمتطي في براريكِ صهوةَ هذا الجوادِ المُخاتلِ
    أركضٌ في صحَراءِ العيونْ
    وأبحثُ عنْ إخوةِ الصَّيْدِ
    إذْ أبعدتْهمْ أيادي المنونْ
    ـ تقدَّمْ فقدْ آذنَ البحرُ بالوصْلِ
    مدّتْ خيولُ تهامةَ أعناقَها ،
    وتمطّتْ
    بجوفِ الصحارى رجالٌ يسيمونَ
    ينطلقونَ
    يغنونَ
    فكيفَ نصيدُ الصقورَ ونحنُ نُصادْ ؟
    وتشتعلُ النارُ تحتَ الرّمادْ
    وخوفي محيطٌ من الرّملِ
    ظلِّي دوائرُ حولي
    ( أتروي الرمالُ عيوناً
    من السَّيْلِ فرَّتْ
    أتطوي الضلوعُ جبالاً
    بها الحسَراتُ استبدَّتْ ؟)
    ويطرح الشاعر رؤية أخرى في قصيدته "القناص تصطاده طريدته"، وقد كتبها في نوفمبر 1990م، معبراً فيها عن الغزو الصّدّامي الغاشم للكويت، وممّا جاء فيها:
    مازالَ مرتحلاً بطائفِهِ
    يُطاردُ ظبيةً تختالُ في أَلَقِ القصيدهْ
    *
    مدَّتْ ضفائرَها إليْهِ عشيَّةً
    فارتاعَ في فَرَقٍ
    ليُغلِقَ بابَهُ
    ويفِرُّ منْ شَرَكِ الطّريدهْ
    *
    مدَّتْ شرارتها المباغتةَ الجريئةَ
    فاستطارَ اللبُّ ،
    وانكفأتْ تُجاذبُهُ
    مرايا الشوقِ
    تستدْني خُطاهُ إلى حْماها
    منْ يُداجيها
    بطلْقاتٍ
    مُراوِغةٍ
    شهيدهْ ؟!
    وهكذا يضع الشاعر يده على جروح وطنه الكبير وأمته العربية، موقناً أنَّ ما حدث هو ابتلاء حلّ بالعرب، ومؤمناً أنَّ الفجر آت حتى ولو طال ليل الفرقة والانقسام.
    من الملاحظ أن قراءة قصائد هذه المجموعة تقودنا إلى حدائق الكلمة الشعرية حيث يهمس صوت الشاعر في مواجهة لحظات الصمت والخوف والعتمة. وهنا تتجاور الصورة مع الصوت في لوحة تجمع بين البصري والمسموع أو الصوتي، وتشي بجمالية الرؤية والتعبير.
    وإذا كان الشاعر يبدو معانياً الاغتراب النفسي والمكاني، فمرد ذلك إلى إحساسه الرهيف بالغربة التي يُعانيها الإنسان العربي المعاصر، وإن بدا الشاعر متمرداً على هذا الاغتراب، رافضاً للغربة.
    الحنين إلى الماضي
    ويعكس تعبير الشاعر عن الماضي العربي والإسلامي صوراً لحنينه إلى ماضينا، تعبر عن نزعة رومانسية في تجربته أو عالمه الشعري. ولعل ميل الشاعر إلى استخدام الرموز التاريخية، يدل على الرغبة في رفد رؤاه برموز مستلهمة من تاريخنا، ترد في النص الشعري بشكل لا يُكسيها غموضاً، بل تُسهم في تعميق الرؤية. ومن أمثلة ذلك رموز قيصر، كسرى، التيه، الفتح، عدن، البقرات السبع، عمرو بن العاص. وفي بعض قصائد الشاعر صوتان يتحاوران، مثل صوت المتنبي وصوت الشاعر، كما في قصيدة "سطور من مواجيد أبي الطيب المتنبي"، ونلمس في قصائد أخرى حسا دراميا، وميلا إلى التركيز على المفارقات سواء في رسم الشخصيات أو التعبير عن المواقف المتباينة، ناهيك عن العناية بالشعر المسرحي، مثلما في قصيدته "أوراد الفتح".
    إنها مفردات تتناثر في نصوصه الشعرية وقد لا تكون لها أهمية بحد ذاتها، ولكن عندما توجد في سياق بنية النص تزيد الرؤية إلفاً ودلالة. فالشاعر يحمل في قلبه هموماً موجعةً؛ هموم الذات وهموم الآخرين من أبناء وطنه وأمته، وهو بذلك لا ينفصل عن المشهد العربي الراهن، ولا عن أحداث عصره وقضاياه، بل يتفاعل معها معايشاً لها، ومعبرا عن موقفه منها، برؤى تثير سؤال الشعر.
    غير أن ثمة قصائد نجد فيها الفكر طاغياً إلى حد كبير على الشعر، كما في قصيدته "وشم على ذراع مصر" لأن الشاعر فيما يبدو، يصوغ رؤياه وهو واقع تحت تأثير الذهنية، التي جعلت النصَّ بعيداً عن التحليق في آفاق العاطفة، ممّا أدّى إلى طغيان الجانب الذهني على الجانب العاطفي، فجاء هذا النص أقرب إلى المباشرة، ويميل إلى التقريرية، وكاد يخلو من روح الشعر وتجلياته.
    الرؤية وعمق الصورة
    وبطبيعة الحال فإن الذهنية تُفقِد الشعر خصوصيته ومقوماته. وإن مالت بعض نصوص الشاعر إلى إعمال الذهن، فإن معظم نصوصه تميَّزت بشعرية التعبير، وعمق الرؤية النابعة من عمق الصورة ومعطياتها. إننا نراه شاعراً يمتلكُ أدواته، مهيمناً على المفردة التي تومئ وتُشير .. مثلما يمتلك إحساساً رهيفاً في تحديد المكان الذي يتعامل معه بحنوٍّ، مطلا على عالم الحلم وعالم الواقع.
    ولدى الشاعر حضور خاص في رسم صورة جديدة تعبِّر عن رؤيته للواقع، بشكل ربما كان غير مألوف من قبل، إذ ينتقي كلماته ومفرداته بعناية، ليُشكِّل منها عزفاً شعريا، يُسهم في إثراء رؤاه، كما نجد حضوراً للتضاد في الصور والمعاني لدى الشاعر، وهنا تكمن مقدرته وشاعريته، فهو شاعر مؤرَّقٌ بالوجع الإنساني؛ وجع الناس الذين يُحسُّ بوجودهم، معبراً عن معاناتهم وهمومهم.
    ويؤكد الشاعر بهذا الإحساس شاعرية ملتزمة بقضايا المُتعَبين، تُدافع عن حقهم في الحياة الحرة الكريمة، كي يعيشوا في ظل الأمان المفقود.
    وعلى ما في كثير من أشعاره من مسحة حزن مقيم ونغمة تشاؤم، فإن شعره بصفة عامة يفتح أبواباً أو آفاقاً على التفاؤل وأسئلة الشعر.
    .................................................. ...
    *نشرت بعنوان «قراءة في المجموعة الشعرية «حدائق الصوت» للشاعر حسين علي محمد»، في مجلة «الحرس الوطني»، الرياض 1994م.

    </i>

  6. #26
    (21) الحلم المناضل في ديوان «شجرة الحلم» للشاعر حسين علي محمد

    بقلم: أ.د. علي عشري زايد
    ..................................

    يحدد لنا الشاعر حسين علي محمد الإطار العام لرؤيته الشعرية في هذه المجموعة منذ المقطع الأول من القصيدة الأولى من مجموعته هذه، بل إنه يُحدِّد لنا هذا الإطار منذ عنوان المجموعة ذاته «شجرة الحلم» .. ولذلك فلم يكن مُصادفة أن يكون هذا العنوان هو عنوان القصيدة الأولى، وهو في الوقت نفسه عنوان مقطعها الأول. هذا الإطار الذي يحدده لنا الشاعر ـ بوسائله الفنية الخاصة ـ هو "الحلم".
    ولكن حلم شاعرنا ليس هو الحلم ـ الخدر والغيبوبة، وإنما هو الحلم المناضل، الحلم الذي يُدرك بوعي فادح مدى جهامة الواقع واربداده، ولكنه يصر ـ مع هذا الوعي ـ على أن يرسل أشعته، تخترق ظُلمات الجهامة، لتعانق توق الوجود إلى الحلم بواقع أكثر وضاءة، ولتحفز هذا التوق إلى العمل والنضال في سبيل تحقيق هذا الحلم. ولهذا فإن الشاعر يُجسِّد لنا حلمه في رمز من رموز العطاء والخصب والحياة، وهو "الشجرة". بل إنه يحرص على أن يكشف لنا منذ البدء ـ في مُفارقة تصويرية رائعة ـ عن تميز حلمه المناضل عن أحلام الحذر والغيبوبة التي تمتص كل حوافز العمل والنضال لدى الآخرين، فيقول في مقطع "شجرة الحلم" من القصيدة الأولى، في المجموعة التي تحمل نفس الاسم:
    يشربُ غيري منقوعَ الكلماتِ الشافيةِ من الأدواءْ
    ويبيعُ الفجر الآتي ذات صباحٍ أبيضَ للضُّعفاءْ
    أقفُ وأصرُخُ في الأمواتِ: أفيقوا
    هذا زمنُ الحجرِ الصَّنَمِ الرابضِ في الأبْهاءْ !
    فلتخرُجْ كلُّ شجيراتِ الأحلامْ
    ولتنفضْ عن عاتِقِها ظلَّ غُبارِ الأيَّامْ !
    كي تحمينا ـ نحنُ الإخوة والأبناء ـ
    من هذي الشَّمسِ الحارقةِ الصَّمَّاءْ
    فالحلم الذي يتبنّاه الشاعر ويدعو إليه، ليس ذلك الحلم / الغيبوبة والوهم، الذي يسقي الحالمين منقوع الكلمات المعسولة، ويبيع لهم وهم فجر قادم لن يأتي في الحقيقة أبداً، وإنما هو الحلم / اليقظة، الحلم / الثورة، الحلم / الشجيرات الفتية، التي تنفض عن عاتقها كل رماد الغيبوبة، وتبسط ظلَّها العظيم لتحمي الأخوة والأبناء من هجير الشمس الحارقة الصماء.
    وحتى في إطار هذا الحلم المناضل العام الذي يدعو إليه الشاعر، والذي يجسده شعريا في هذه الشجيرات الفتية، لا يفوته أن يصور تميز حلمه بين هذه الأحلام عن طريق مفارقة تصويرية جزئية أخرى، يستغل فيها وعيه اللغوي المرهف، وإدراكه للفروق الدلالية والإيحائية بين الصيغ اللغوية المختلفة، حيث يستخدم للتعبير عن حلمه الخاص الصيغة المكبرة للشجرة، بينما يستخدم للتعبير عن الأحلام الأخرى الصيغة المصغرة "شجيرات"، وعلى حين ينحصر العطاء المأمول من هذه الشجيرات في مجرد الظل والحماية من الهجير، فإن شجرة حلمه تتجاوز هذا ـ فيما يُشبه أن يكون صوتاً داخليا ـ إلى عطاء أكثر سخاءً، فتملأ سمعه بالأنغام الصدّاحة، وتُحيل أيّامه إلى ربيع:
    (هذي شجرةُ أحلامي
    بينَ شُجيراتِ الواحَهْ
    تقصدُها كلُّ عصافيرِ الوادي
    تملأُ أُذني بالأنغامِ الصَّدَّاحَهْ
    وحبيبةُ روحي تبدو في فَرَحٍ غامِرْ
    وأنا أحيا أيَّامَ ربيعي)
    وسيظل الحلم بهذا المفهوم الإيجابي الخلاق إطاراً عاما لرؤية الشاعر في هذه المجموعة، تتعانق في نطاقه الأبعاد المختلفة لهذه الرؤية وتتفاعل وتتصارع، ومن خلال تعانقها وتصارعها ينمو العالم الشعري الغني عبر القصائد.
    وفي إطار هذا الحلم يتصارع الأمل المزدهر مع كل عوامل الإحباط التي تُحيط به وتترصّده، هذه العوامل التي لا تغيب لحظة عن وعي الشاعر، والتي يكتسب حلم الشاعر كل قيمته الإيجابية من وعيه بها. وقد تلون هذه العوامل رؤيا الشاعر بظلال يأس كابية، ولكنه لا يلبث أن يبدد هذه الظلال بوهج حلمه الثائر، فهو حين يرى ـ في مقطع "الكلمات المفقودة" من قصيدة "شجرة الحلم" ذاتها ـ محبوبته الحلوة تتلفّت بين الجدران فاتنة غجرية، تتدحرج فوق تراب الخوف وأحجار الأحزان قمراً طفلاً، تكفهر رؤياه، وتربد بظلال يأس حزين:
    يصعدُ في حلقي الشَّجَنُ فأمْضي
    (في طُرقاتِ اليأْسِ وحيداً)
    أبحثُ عنْ بارِقَةِ أَمانْ!
    لكن حلمه المناضل لا يلبث ـ فيما يشبه مرة أخرى أن يكون صوتاً داخليا ـ أن يبدد ظلمات اليأس .. ويُرشد خُطاه إلى طريق الثورة:
    (النَّارُ بأعراقي مُسْتَعِرَهْ
    أوردتي الثلْجِيَّةُ صارتْ ورْدَهْ
    أهدابُ الليلِ أراها تتفتَّحُ
    .. عنْ أكمامِ الصُّبحِ المُمتدَّهْ)
    والصراع بين الحلم وعوامل الإحباط ليس صراعاً مسطحاً، ينتهي دائماً نهاية سعيدة بانتصار رموز الأمل المضيئة على ظلال اليأس والقنوط، فقد تُحقق عوامل اليأس والإحباط انتصاراً مرحليا في بعض أبعاد الرؤية الشعرية في الديوان، بحيث تنتهي هذه القصيدة أو تلك من قصائد المجموعة، ولا تزال ظلال يأس قانط ترين على أفق الرؤيا لدى الشاعر، كما في قصيدة «متى تجيء المعجزة»، التي تنتهي وملامح تضرج وتبرم ضجر بطول الانتظار لتحقق الحلم والمعجزة، والصبر على فساد الواقع ورداءته تلون أفق الرؤيا:
    فَسَدَ الحليبْ
    وتقولُ لي :
    "هذا أوانُ المعجزهْ"
    قدْ ضِقتُ مثلَكَ بالأغاريدِ القديمةِ
    والسُّعارْ
    والليلُ طالَ .. الليْلُ طالْ
    .. ومتى تجيء المعجزهْ ؟!
    فلقدْ مللْنا الانتظارْ !
    بل إن قصيدة "شجرة الحلم" ذاتها التي يحدد فيها الشاعر ملامح حلمه المناضل تنتهي بمقطع تغلب عليه ظلال اليأس والقنوط، متمثلة في ذلك الوعي الفادح الأليم بقوة عوامل الإحباط وعتوها. يجسد الشاعر هذا الوعي في مجموعة من الصور والرموز الشعرية البارعة: فذرات الطمي العالقة بحبات الرمل تصرخ باحثة عن جذر أخضر في الصحراء، وتتوق لقطرة ماء، وهجير الواقع القاسي الجهم لا يبسم للأحلام العجفاء، والأرض تغص بأشجار الكذب والزيف، وتُجهض أشجار الحلم، وتُشعِل في الجمع الغائب نار السكرة:
    … والأُجراءْ
    يبكونَ صباحَ مساءْ
    والعرقُ الغامرُ أجسادَهم النَّاحِلَةَ السَّمراءْ
    يحكي عن سادةِ "طِيبَهْ"
    وقصورِهِم الشاهقةِ الشَّهباءْ
    فطوبى .. طوبى للتُّعَساءْ!
    ولكن هذا الوعي ذاته بقوة عوامل الإحباط، ومهما كانت درجة فداحته، هو الذي يُكسِب حلم الشاعر إيجابيته وفعاليته، ويميزه عن الأحلام السكرى البلهاء التي تُغمض عينيها عن جهامة الواقع، وما يغص به من معوقات للأحلام، وتحاول أن تبني فوق هذا الواقع قصوراً من وهم، فأي حلم يضع في اعتباره قوة هذه العوامل التي تُجهض أشجار الحلم لا بد أن يكون حلماً راسخاً واثقاً مناضلاً، لأنه يُدرك جهامة الواقع بوعي، ويُصر مع ذلك على أن يتجاوزها، ويُبددها، ويبني على أنقاضها في ثقة أركان عالم أكثر وضاءةً وعدلاً، وهو في نفس الوقت الذي يدرك مدى قسوة المعركة التي عليه أن يخوضها بكل هذا الوضوح والوعي، يُدرك بنفس الدرجة من اليقين مدى مضاءة أسلحته ونفاذها، وليس هذا الوعي بقسوة المعركة، وعتو العقبات، وطول المسيرة، إلا سلاحاً من أمضى الأسلحة، كما أن اليقين الواثق من النصر ـ المبني على تمثل واع لأبعاد الصراع ـ سلاح آخر، وأخيراً فإن اليقين من عدالة هذا الحلم ونبالته، سلاح ثالث، يجعل من أي تضحية تُبذل في سبيله ملمحاً من ملامح النصر، حتى لو لم تُحقق عائداً ملموساً.
    في مقطع «الوجه الأخضر» من قصيدة "سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق"، يكشف الشاعر عن وعيه العميق بأبعاد الصراع، ومعرفته بأسراره مما يبعث فيه يقيناً واثقاً من النصر والوصول إلى الحلم؛ فذات الوجه الأخضر تستبطئ تحقق الحلم، ولا ترى حولها إلا عوامل الإحباط ومظاهر الجدب، ولكن الشاعر يُدرك مواقيت كل شيء، ويعرف أسرار الخصب وموعده، نفس معرفته بأسرار الجدب وبواعثه:
    أعرِفُ أَنَّكِ مُتَعَجِّلةٌ ...
    سوفَ يقولُ الوجهُ الأخضرُ:
    إنَّ الخيْرَ بعيدٌ
    إنَّ النَّهرَ ضنينٌ
    فانْتظريني..
    إنِّي أعرفُ كيْفَ يغيضُ النَّهرُ …،
    وكيفَ يفيضْ
    وانطلاقاً من هذا اليقين الراسخ، فإن الشاعر يدعو ذات الوجه الأخضر أن تبدأ معه الرحلة المنتصرة إلى الحلم، إلى المدن المفتوحة، فقد أعدّ الشاعر للرحلة ـ رغم طولها ومشقتها ـ كل عدتها:
    عودي .. إنِّي أصدُقُكِ الحبَّ، وأعرِفُ
    أنَّ الشَّوْطَ طويلٌ
    عودي .. كيْ نبدَأَ رحلتَنا نحوَ المُدُنِ المفتوحةِ
    عودي ..إنِّي أنتظِرُكِ قُدَّامَ البيْتِ،
    وقدْ أسرجْتُ حِصاني
    وإذا كان "الحلم" هو الإطار العام لرؤية الشاعر
    … والعصفورُ يُحاورُني:
    ـ خنتَ صباحاً ، وتراجعَ خَطْوُكَ!
    ـ لم أتراجعْ
    ـ لا تُنْكِرْ …
    ـ لا أُنْكِرُ .. لكنَّ الفَرَسَ هزيلْ !
    *صمَتَ العصفورُ ، أدارَ الوجْهَ وقالَ بصوْتِ اليائسِ : هذا أنتَ تُجيدُ الكلماتِ المحفوظةَ ! وانطلقَ العصفورُ يُغَرِّدُ لجزيرتِهِ الواعدِةِ ، ويحلمُ حلماً يعصِفُ بالوجْدانْ
    ولم يضع هذا الحوار العاصف بين شطري ذات الشاعر هباء، حيث لم يلبث الشطران أن توحَّدا في كل واحد هو «الشاعر الثائر»، أو العصفور الذي يُدحرج كرة النار فوق أودية الأحزان: «مع نسماتِ الفجرِ أراني أولدُ ثانيةً في تغريدةِ عصفورٍ دحْرجَ كرةَ النّارِ على أوديةِ الأحزانْ». وليس هذا التوحد سوى تجسد من تجسدات «الحلم المناضل» الذي يتجسّد في شتى الصور والأشكال الشعرية.
    (يتبع)

    </i>

  7. #27
    وعلى الرغم من تعدد الخيوط الشعرية والنفسية التي يتكون منها النسيج العام للرؤية الشعرية في هذه المجموعة وتنوعها وتشابكها فإننا نستطيع أن نُدرك بوضوح أن الشاعر كان أكثر انشغالاً بالهموم العامة ـ سياسية كانت أو اجتماعية أو فكرية أو إنسانية عامة ـ منه بالهموم الذاتية الخاصة، بحيث لا نكاد نعثر على بعد ذاتي من أبعاد رؤيته لم يُحمله ملامح هم عام، وتمتزج الهموم العامة بالهموم الخاصة إلى الحد الذي لا يُدرك القارئ في كثير من الأحيان ما إذا كان الشاعر يتحدث عن محبوبته الحقيقية، أو عن وطنه، وما إذا كان ينفث مواجعه الخاصة أو مواجع الناس، وما إذا كان يعبر عن أحلامه أو أحلام الجماهير، فالعام في تجربة الشاعر يمتزج بالخاص ويذوب فيه ويتحد به.
    ويمكننا أن نلمح بوضوح أن الوجدان الديني يمثل مكوناً أساسيا من مكونات الرؤية الشعرية في هذه المجموعة، فنحن نجد قصيدتين من قصائد المجموعة يُشكل الوجدان الديني فيهما لحمة الرؤية الشعرية وسُداها ..
    وأولى هاتين القصيدتين هي قصيدة «التجربة» التي كانت أول قصيدة أتعرف منها على صاحب هذه المجموعة الشاعر المبدع حسين علي محمد، وقد قلتُ عن هذه القصيدة في مكان آخر( ): «أما قصيدة «التجربة» للشاعر حسين علي محمد فتحقق لوناً آخر من الامتزاج بين الحداثة والموروث؛ حيث ينتقل الموروث في هذه القصيدة في مضمونها الروحي والصوفي، بينما تتمثّل الحداثة في البناء الشعري للقصيدة، سواء في ذلك الجانب الموسيقي بما فيه من استخدام لآخر إنجازات التجديد في مجال الشعر الحر كالتدوير، والجانب التصويري بما فيه من توظيف بارع للصور في الإيحاء بجوانب هذه «التجربة» الروحية الخصبة، حيث يرسم الشاعر أبعاد هذا الجو الروحي بمجموعة من الألفاظ الصوفية الموحية، ومجموعة من الصور البارعة التي تحملنا إلى هذا الجو الشفاف الذي يتجرد فيه المريد من كل هموم الحياة ومشاغلها وأثقالها، ويُصبح هدفه الأسمى هو الوصول «اترُكْ أحزانَكَ قُدَّامَ البابِ، اخْلعْها جنْبَ حذائكَ، وتعالَ إليْنا، فستحْيا أحلى لَحَظاتٍ في ظِلِّ الشيخِ "وليِّ الدِّينِ" الليْلَهْ!» ولنتأمل على سبيل المثال هذه الصورة الذكية «اخْلعْها جنْبَ حذائكَ» بما فيها من إيحاءات غنية، هذه الإيحاءات التي لا تقف عند حد ضرورة التجرد من هموم الحياة وأثقالها وتركها عند الباب، وإنما تتجاوز ذلك إلى التعالي عن هذه المشاغل والهموم، واحتقارها، ووضعها بجانب الحذاء.
    وأخيراً ذاك الختام الشعري الرائع للتجربة يإيحاءاته العميقة، حيث يفر الشيخ ويترك المريدين بعد أن وضعوا أقدامهم على الطريق، فالوصول إلى الله ليس في حاجة إلى وسائط، وحسب المرشد أن يضع أقدام المريدين على طريق الوصول، وقد يكون الراغب في الوصول أقدر على سلوك الطريق من المرشد ذاته: «لكنَّ الشَّيخَ العاشقَ شربَ الكأْسَ، ونظَر ملِيًّا في الصَّدْرِ النَّابِضَ بالحبِّ الأسمى للخالقِ، نظرَ وقالَ: "أحبَّائي، إنِّي أضعفُكُمْ، إنِّي آخرُكُمْ قُدَّامَ اللهِ"، وأعطى ساقيْهِ للريحِ، وفرّْ».
    ولا شك أن انفتاح شعرنا الحديث على هذا النبع المتمثل في تراثنا الروحي يصل شعرنا بمعين لا ينضب له عطاء، ويمثل أملاً من آمال هذا الشعر في اجتياز أزمته الحالية».
    أما القصيدة الثانية التي يمثل الوجدان الديني فيها البعد الأساسي في الرؤية الشعرية، فهي قصيدة «ترنيمة بلال»، حيث يمثل «بلال» فيها تجسداً آخر من تجسدات «الحلم المناضل»، ويحمل دلالات رمزية معاصرة، ويستغل الشاعر من شخصية بلال ـ  ـ ملمحين أساسيين: المؤذن، والمجاهد الصامد، فإلى جوار كون بلال هو مؤذن الرسول  فهو واحد من الذين تحمّلوا أقسى صنوف العذاب في سبيل عقيدته، وصمد صموداً فذا والمشركون يجرّونه في شعاب مكة، ويضعون الصخور على صدره ليُعلن كفره بالدين الجديد، ولكنه لم يكن يُحرِّك لسانه بسوى هذا الدعاء العلوي «أحد .. أحد». وقد امتزج هذان الملمحان امتزاجاً فنيا بارعاً، للرمز من خلال هذا المزج إلى انتصار صوت الحق دائماً في النهاية، واكتساح نور الحق لكل ظلمات الضلال والظلم، شريطة أن يجد هذا الحق أنصاراً في مثل صمود بلال، ومثل يقينه:
    خلفَ النوافذِ حطَّ عصفورٌ شريدْ
    نقرَ المساءْ
    فافترّ عنْ فجرٍ جديدْ
    فجرِ العصافيرِ التي
    غَنَّتْ كثيراً للصباحْ
    أحَدٌ .. أحَدْ
    أحَدٌ .. أحَدْ
    أحَدٌ .. أحَدْ
    والليْلُ يرحلُ والجراحْ
    والشمسُ شمسُ محمّدٍ
    تجتاحُ مكّةَ والبِطاحْ
    وبالإضافة إلى هاتين القصيدتين الكاملتين نجد هذا الوجدان الديني يترقرق عبر الكثير من جوانب رؤيته، ونجد المعجم الديني ـ وبخاصة المعجم القرآني ـ يمثل مكوناً أساسيا في الكثير من صوره وأدواته الفنية، فالذي يقرأ الصور التالية مثلاً «تعالَوْا نقرأْ "للمنصورةِ" فاتحةَ الوصْلِ ، … لوْ متنا فالقبْرُ مضيءٌ فيهِ الياقوتةُ خيْرٌ منْ ذهبِ الدُّنيا .. هأنذا أُبْصِرُ مقعدَنا منْ جنَّاتِ اللهِ العُلْيا ، والطيرُ الأخضرُ ينسربُ من الرُّوحِ ، ويَرِدُ الأنهارَ ، ويأكلُ منْ ثمراتِ اللهِ ، ويأْوي للقنديلِ الهابطِ منْ سقْفِ العرْشِ» (قصيدة «الأميرة تنتصر»)، و«في الفجْرِ تراني أخرجُ طفلاً عرياناً بين الرحمِ وماءِ الصلبِ الدّافقِ» (قصيدة «قنديل الحلم»)، و«نكص على عقبيْه وفر» (قصيدة «المهرج») و«يركب خيل الليلِ السريِّ، ويصحبُهُ طيْرُ أبابيلَ فيُمطرهمْ» (قصيدة «سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق»)، و «يسقطُ من عينيها ظل شعاعٍ فتانٍ، يبعثُ في الوهْمِ السُّفليَّ النارَ القدسيَّةَ، فأكادُ أموتُ وحيداً بين الطينِ ورحمِ الأرضِ الحبالى بالنور العلويّْ» (قصيدة «شجرة الحلم») .. الذي يقرأ هذه الصور وغيرها لا يُخطئ إدراك دور المعجم الديني في تشكيل هذه الصور، ومدى تغلغل الوجدان الديني في رؤيا الشاعر.
    وهذا يقودنا إلى الحديث عن الأدوات الشعرية التي يستخدمها الشاعر في تجسيد رؤيته الشعرية، والحقيقة أن أدواته تمتزج امتزاجاً بارعاً بأبعاد رؤيته، وتتحد بها، إلى الحد الذي تُصبح فيه محاولة الفصل بين أبعاد الرؤية الشعرية وأدوات تجسيدها ضرباً من التعسف، ومن ثم فإن الحديث عن الأدوات الشعرية هو بالضرورة حديث عن الرؤية الشعرية التي تتقمّص هذه الأدوات.
    وكما تعدّدت أبعاد الرؤية وتنوعت فقد تعددت الأدوات أيضاُ وتنوعت، وإن كانت الأداتان الأساسيتان في هذه المجموعة هما «الصورة» و«الرمز»، وإن كان الشاعر قد اعتمد إلى جانب ذلك على أدوات إضافية أخرى، كالأسطورة، ووسائل التشكيل اللغوي المتنوعة، والموسيقى، والمفارقة التصويرية، وبعض التكنيكات المسرحية كالحوار وتعدد الأصوات وتصارعها في القصيدة .. وغير ذلك من الأدوات الفنية المتعددة التي تمتزج وتتفاعل، ليُثري بعضها إيحاء بعض، ولتزيد بدورها الرؤية العامة في الديوان ثراءً وعمقاً ورحابة.
    وقد تنوّعت المصادر التي يستمدُّ منها الشاعر مواد صوره ورموزه، فهو يستمدها تارة من الطبيعة، وتارة من التراث القديم والمعاصر، وتارة من الأساطير، وتارة من عالم اللاشعور حسبما تقتضي طبيعة الرؤية الشعرية.
    ولعل أكثر رموز الطبيعة شيوعاً في المجموعة هي تلك الرموز التي توحي بالخصب والحيوية والعطاء، كالنهر والشجرة، وهما رمزان أساسيان من الرموز التي يتكئ عليها الشاعر اتكاءً كبيراً في الإيحاء بأبعاد تجربته، وتتعدد إيحاءات هذين الرمزين وتتنوّع، فلا يتجمّدان على إيحاء واحد؛ فالنهر مثلاً يرمز للعطاء والخصب «إنِّي أعرفُ كيْفَ يغيضُ النَّهرُ …، وكيفَ يفيضْ»، ويرمز للطهارة «أنزلُ للنَّهْرِ وأغسلُ وجْهي ، تتعلَّقُ بالثَّوْبِ الأبيضِ ذرَّاتُ الطَّمْيِ الأسمرِ»، ويرمز للقوة والتدفق والعنف والثورة «ينطلِقُ النِّيلُ حصاناً همَجِيَّ الخُطُواتْ»، ويرمز للأمل المرتقب «أتشهَّى جسَدَ امرأةٍ تطلُعُ منْ زهْرِ النَّارِ، وتُعطيني أحواضَ الدُّنيا، تمنحُني الكوْثَرْ». وقد يحمل كل هذه الدلالات ويشع بكل هذه الإيحاءات في آن واحد كما في قصيدة «نهر الغضب» ـ وهي مرثية لنجيب سرور ـ حيث يصبح النهر في هذه القصيدة رمزاً لكل المعاني السابقة «نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ أراهُ يفورُ ، ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ ، ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ … ويُمنِّينا أنْ يحملَ فوقَ قِلاعِ الغضبِ صباحَ العيدْ». وما يُقال عن النهر يُمكن أن يُقال مثله عن «الشجرة» وعن «النار» وعن «النور» وعن «العصافير» وغيرها من المعطيات التي استمدها الشاعر من الطبيعة ليشكل منها صوره ورموزه.
    أما المصدر التراثي فإن الشاعر يلجأ إليه في بعض الأحيان، ويستمد منه أدوات ومعطيات يوظفها توظيفاً رمزيا بارعاً، كما فعل مثلاً في قصيدته «الأميرة تنتصر» ـ وهي واحدة من أجود قصائد المجموعة ـ التي اتكأ فيها على الموروث التاريخي، ووظفه توظيفاً رمزياً بارعاً يمتزج فيه المُعاصر بالموروث، والماضي بالحاضر امتزاجاً فنيا رائعا. وقد اختار الشاعر لحظة من أكثر لحظات موروثنا التاريخي إشراقاً ونصاعةً، لتكون هي محور البناء الفني في القصيدة، وهي معركة المنصورة، التي حقق فيها الجيش المصري الأيوبي المسلم بقيادة الملك الصالح أيوب ـ ثم زوجته شجر الدر وابنه تورانشاه من بعده ـ نصراً حاسماً على الجيوش الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، حيثُ عادت هذه الجيوش تجر أذيال الخيبة والهزيمة بعد أن تكبّدت أفدح الخسائر، وبعد أن أُسِر قائدُها لويس نفسُه. وقد استغل الشاعر المعطيات التراثية لهذه اللحظة بمهارة فنية واضحة، واستطاع أن يُوحِّد بينها وبين معطيات الواقع المُعاصر في رؤية شعرية شديدة الشفافية والعمق والبراعة، ولا يكتفي الشاعر بمعطيات هذه اللحظة فيرفدها بمعطيات تُراثية أخرى تزيد من نصاعتها وإشراقها:
    «هذي "شجرُ الدُّرَّ" فكمْ يشتاقُ الصَّالحُ للضَّمَّةِ ! ، هذي قِطَعُ الليلِ القادمِ منْ دِمياطَ ، العابرِ لُجَجَ المتوسِّطِ لمْ تُرْهِبْنا ، لمْ نتبدَّلْ في النَّقْعِ (وكانتْ حين التحمَ الجيشانِ كسَدٍّ عاتٍ يحمينا منْ أسيافِ الأعداءِ ، وكانتْ تلثُمُ هذا الجمعَ المتشرنِقَ في الليلِ ، الباحثَ عنْ نورِ الفجْرِ) وأرضُ الباحةِ تمتلئُ بخيْلٍ يصْهلُ ، وبصُلبانٍ ، ونواقيسَ . ومئذنةُ الفجْرِ أراها تصرخُ في أعماقِ الجمعِ : صموداً . يُشرقُ خالدُ وابنُ الخطابِ وسعدٌ في الظُّلمَةِ أقماراً ، هذا وعْدُ اللهِ لنا ، لمْ يكتُبْ في اللوْحِ الباقي ـ للأبناءِ البررةِ ـ غيْرَ النصرِ ، فهاتي حضنيْكَ ، وهذي "المنصورةُ" تصبرُ وتقاتِلُ ، تنفضُ عنْ كتِفيْها ذُلَّ العُمْرِ ودَهْرَ السُّخْرَهْ ! »
    ولا يقف استرفاد الشاعر للتراث عند حدود تراثنا القديم ـ بمصادره المتعددة ـ وإنما يتجاوز ذلك إلى تراثنا الأدبي المعاصر، فيستمد منه رموزاً تلائم طبيعة الرؤية التي يُجسدها، فمثلاً في قصيدة «ثلاثة أصوات ترسم النهاية» التي يُهديها إلى سر بدر شاكر السياب ـ تُصبح معطيات حياة السياب ومُعطيات شعره أدوات فنية في يد الشاعر، ورموزاً يُسقط عليها أشدَّ أبعاد رؤيته خصوصية وذاتية. وهكذا تتحول «إقبال» ـ زوجة السياب ـ و«بويب» ـ نهر جيكور الذي طالما غنّى له السياب ـ و«البصرة» ـ بلد الشاعر ـ و«لندن» ـ التي قضى فيها الشاعر مرحلة مرضه، و«الأقنان» ـ الذين كتب عنهم السياب أحد دواوينه «منزل الأقنان» ـ هكذا تتحوّل كل هذه المعطيات إلى رموز ووسائل إيحاء تمتزج برموز الشاعر الخاصة، وتتحد كل هذه الرموز بأبعاد رؤية الشاعر الذاتية في هذه القصيدة:
    «إني أحمل في القلب حكايا وتراتيل
    وباقة أشعارٍ خضراءْ
    وتغريدةَ عصفورٍ،
    أُطلقُها في أفيائكِ يا "لندنُ"
    حتى تسكبَ موسيقاها
    في شريان الشجرةِ "إقبالَ"
    ويهدرُ قلبٌ أخضرُ:
    عادَ يُغنِّي، يمشي مرفوعَ الهامةِ
    يطرقُ أبوابَ الفجرِ
    ويجلسُ مع أصحاب صباه مساءً
    قُدّامَ الدارِ،
    وأنت "بُويبُ" حزينُ، قل لي:
    لمَ لا تُثمرُ أشجارُ حدائقِكَ اليابسةِ
    لماذا لا ينطلقُ العصفورُ بنارِ الوصْلِ
    ويحرقُ تذكاراتِ (الأقنانِ) التعسةِ والحلوهْ؟»
    وهو يصنع نفس الصنيع في قصيدته «السمان والخريف» التي يستمد أدواتها من رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، فالرمز الأساسي في القصيدة هو «عيسى الدباغ» بطل رواية نجيب محفوظ.
    بل إن الشاعر يقوم في مجال استرفاد التراث الأدبي المعاصر بتجربة جريئة، حيثُ يُضمِّن بعض قصائده مقاطع كاملة من شعر أصدقائه من الشعراء العرب الشبان المُعاصرين، كما فعل مثلاً في المقطع الأخير من قصيدة «سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق»، وهو المقطع الذي يحمل عنوان «طائر الخرافة»، فقد ضمّن الشاعر هذا المقطعَ مقطعاً كاملاً من شعر الشاعر الأردني عبد الله الشحام:
    «قالَ صديقي عبدُ اللهِ الشَّحّامُ قديماً
    "فليحصُلْ ما يحْصُلْ
    ولتُصبِحْ مأساتي صلصلةً وأزيزا
    ولتُصبِحْ أُقصوصةُ حبي مَحْرَقَةً وخريفا
    ولتنْدكَّ قلاعُ الكَفَرَهْ!
    ولْيحْصُلْ غزْوٌ ما
    هذا .. هذا
    شاهدْتُ العالَمَ كالقائمِ
    والمنكوبَ صليباً وغماما
    شاهدْتُ الدُّنيا بالمقلوبِ
    وشاهدْتُ البحْرَ على الشاطِئِ
    يحملُ سيفاً ورصاصاً، ويُعيدُ عيوني»
    ويُعلِّق شاعرنا في قصيدته على هذا المقطع بقوله:
    «وكأنَ صديقي عبدَاللهْ
    كانَ يُطالِعُ في اللوحِ المحفوظِ
    فقالَ، وعاشَ، وشاهدَ ما أُبصرُهُ الآنَ»
    وكأنما يُقدم التبرير الفني للجوئه إلى هذا التكنيك الشعري البارع، وهو وحدة الرؤية، ووحدة المُعاناة.
    ولكن إذا كان الشاعر قد حقق هذا النجاح الكبير في استرفاده لموروثه العربي والإسلامي ـ القديم والمُعاصر ـ فإنه لم يكن على نفس هذا القدر من التوفيق عندما حاول أن يسترفد بعض التراثات الأجنبية، كالتراث الإغريقي مثلاً، حيث تبدو هذه التراثات غريبة على نسيج رؤيته الشعرية وطبيعة أدواته الفنية، ويبدو استخدامه لهذه الموروثات مجرد مجاراة لتيار اللجوء إلى التراثات الأجنبية، دون أن يكون في طبيعة الرؤية الشعرية ما يقتضي هذا اللجوء أو يبرره .. فضلاً عن أن هذه التراثات تظل غريبة على وجدان المتلقي العربي وذوقه، وهذا واضح في مقطع «مشهد الموت والميلاد» من قصيدة «شجرة الحلم» الذي اعتمد فيه الشاعر اعتماداً أساسيا على معطيات أسطورة «أوديب» الإغريقية، وقتله لأبيه «أيوس» ـ دون أن يعرف أنه أبوه ـ وزواجه من أمه «جوكاسته» ـ دون أن يعرف أنها أمه ـوقد فقأ عينيه وقتلت أمه نفسها بعد اكتشاف الحقيقة .. فعلى الرغم من أن الشاعر نجح في أن يُحمِّل هذه المعطيات بعض رؤيته العامة في القصيدة فإن هذه المعطيات تظل ـ رغم ذلك ـ غريبة على النسيج العام للرؤية الشعرية .. وطبيعة الأدوات الأخرى المستخدمة في تجسيدها.
    *
    أما بالنسبة للموسيقا في الديوان، فيستلفت النظر فيها ظاهرتان:
    الأولى: أن الشاعر استخدم وزناً واحداً في معظم قصائد الديوان؛ فجاءت قصائد المجموعة باستثناء عدد قليل منها من «بحر الخبب» الذي هو أحد صيغ «بحر المتدارك»، ووحدة إيقاع هذا البحر «فعلن»، وموسيقى هذا البحر على قدر كبير من الاضطراب بطبيعتها وقريبة من النثرية والركاكة الموسيقية، ولكن شاعرنا نجح في إن ينأى بإيقاعه الموسيقي ـ إلا في مواضع قليلة ـ من هذه الركاكة الموسيقية التي هي سمة طبيعية من سمات هذا الوزن.
    أما الظاهرة الثانية فهي استخدام الشاعر لأسلوب «التدوير» استخداماً بارعاً في هذه المجموعة. و«التدوير» ظاهرة أخرى شاعت في نتاج الشعر الحر شيوعاً لافتاً للنظر .. بحيث أصبح استخدام معظم الشعراء له لوناً من التقليد والمُجاراة للآخرين دون أن يكون في طبيعة الرؤية ما يُبرر استخدام هذا الأسلوب .. فضلاً عن أن الاستخدام غير الواعي لهذا الأسلوب يُضاعف من ظهور النثرية والركاكة الموسيقية في معظم نماذج الشعراء الشباب، ولكن شاعرنا واحد من الشعراء الشباب القليلين الذين ينجحون ـ في معظم الأحيان ـ في السيطرة على هذا الأسلوب وتجاوز مزالقه، خاصة وأن رؤيته في هذه المجموعة فيها من التدفق والاطراد ما يُلائم هذا الأسلوب الموسيقي .. وإن كان الشاعر لم يسلم تماماً من الوقوع في مزالق النثرية وعدم الانضباط التي يقود إليها استخدام هذا الأسلوب.
    وقد وضع الشاعر بعض الضوابط الموسيقية الفنية على تدفق هذا الأسلوب غير المنضبط، بأنه كان يلجأ إلى عدد من القوافي تكون بمثابة محطات، يتوقف عندها تدفق الإيقاع، ويستريح معه القارئ، فكانت بعض القصائد تتكوّن من مجموعة أبيات طويلة مدوّرة موحدة القافية. والنموذج على ذلك قصيدته «الأميرة تنتصر» التي تتألّف من ثمانية أبيات مدوّرة طويلة، يصل طول بعضها إلى ما يقرب من مائة تفعيلة، وكل هذه الأبيات مبنية على قافية موحّدة، حيث تتوالى قوافي الأبيات الثمانية على النحو التالي: «البررة. المندحرة. الوعرة. الشجرة. المستعرة. الدرة. السخرة. السترة».
    وفي القصائد التي تتألّف من مقاطع منفصلة كان الشاعر يبني كل مقطع من مجموعة من الأبيات المدورة الموحدة القافية، ويغيِّر القافية من مقطع إلى آخر.
    كما كان الشاعر يلجأ في بعض القصائد إلى استخدام أبيات قصيرة غير مدورة، إذا كان في طبيعة الرؤيا ما يقتضي ذلك، كما في قصيدة "نهر الغضب" وهي مرثية كتبها للشاعر نجيب سرور .. شاعر الثورة والغضب، ففي هذه القصيدة يستخدم الشاعر ـ إلى جانب الأبيات الطويلة المدورة ـ أبياتاً قصيرة غير مدورة، فحين تهدر رؤيته بالغضب والثورة يتدفّق الإيقاع هادراً في أبيات مدورة، على قدر واضح من الطول والتدفق، أما حين يطغى عليه الحزن فإن الأبيات تقصر، وتأخذ صورة الندب شكلاً وإيقاعاً، كما في المقطعين الثاني والثالث اللذين يندب فيهما الشاعر نجيباً:
    2
    *لكنَّ نجيباً غابْ
    *والفجرُ الأخضرُ كنتُ أراهُ على الأبوابْ

    3
    *منْ قتَلَ نجيبْ ؟
    *والليلُ كئيبْ ؟
    وهذان المقطعان يتوسطان مقطعين آخرين يتألف كل منهما من بيتين طويلين مدوّرين، يتدفقان بالغضب، ويبلغ طول بعض الأبيات المدورة أكثر من ثلاثين تفعيلة، كما في البيت الأول من المقطع الأول، الذي يقول فيه الشاعر:
    *نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ أراهُ يفورُ، ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ، ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ، اندفعتْ منْ شرنقةِ الليلِ نساءُ الفجْرِ، هتفْنَ بصوتِ الغضبِ الثورةِ: هذا النهرُ عنيدْ
    هكذا يُسيطر الشاعر على أدواته، وهكذا تُصبح الموسيقى وسيلة إيحاء وتعبير وليست مجرد إطار نغمي عام، وإنما هي كالصورة، والرمز واللغة تتشكل بشكل الرؤية الشعرية وتُجسدها.
    وبعد؛
    فأرجو أن تكون هذه القراءة النقدية لمجموعة الصديق الأستاذ حسين علي محمد إسهاماً متواضعاً في إلقاء بعض الضوء على جهود شعرائنا الشباب، ومحاولتهم النبيلة تحدي كل عوامل الإحباط واليأس التي تُطالعهم من كل أرجاء الواقع المُحيط بهم ..
    كما أرجو أن تكون تحية مخلصة للشاعر، وكل الذين يشاركونه محاولة الاحتفاظ للكلمة الشعرية بنصاعتها وتألقها من ذوي الأحلام النبيلة المُناضلة.
    علي عشري زايد


    </i>

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

المواضيع المتشابهه

  1. دراسات في فقه اللغة - محمد الأنطاكي
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-10-2015, 04:04 AM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-08-2013, 08:06 PM
  3. العمامة والوردة : فرانسوا نيكولو
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-10-2011, 06:57 PM
  4. مهرجان ابن أحمد يزين مدينة ابن أحمد المغربية
    بواسطة ابراهيم خليل ابراهيم في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-09-2008, 09:37 AM
  5. «محمد الماغوط العاشق المتمرد»
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-12-2006, 09:49 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •