قراءة في مسرحية " ملحمة السراب " للأديب سعد الله ونوس :
( سحر العولمة وسرابها : قراءة في البنية والتشكيل )
وقد تم نشر الدراسة هنا ، بنفس العنوان .

وإليكم نص الدراسة :
قراءة في مسرحية " ملحمة السراب " لسعد الله ونوس :
د. مصطفى عطية جمعة
سحر العولمة وسرابها :قراءة في البنية والتشكيل
تندرج مسرحية " ملحمة السراب " تحت ما يسمى " الرؤية الاستشرافية للمستقبل" ، فهي تمثل شهادة للتاريخ ، إنها ببساطة ، تقدّم قراءة للعولمة في بعدها التطبيقي المجتمعي . وبالنظر إلى تاريخ نشر هذه المسرحية ( 1996م عن دار الآداب في بيروت ) ، نلاحظ أن ونوس كان متوقعا للتغييرات الاجتماعية التي يمكن أن تصيب المجتمع العربي عامة ، والسوري خاصة ، إذا جاء المتعولمون الليبراليون. وبالتالي ، فإن قراءة هذه المسرحية تتم في سياق عربي أشمل . خاصة أن معطيات المسرحية الجمالية والدلالية ، كانت ضمن إطار قرية ، غير محددة الوجود الجغرافي ، وإنما هي قرية مثل آلاف القرى في عالمنا العربي ، فيها البائسون الفقراء وهم كثرة ، والغني المترف وهم قلة ، وبين هذا وذاك ، يتعايش المجتمع الإنساني بخيره وشره ، فرحه وسعادته .
فكرة المسرحية بسيطة ، وربما تكون نمطية ، " عبود " رجل غني مهاجر عن وطنه ، تعب كثيرا من أجل تكوين ثروة ضخمة في الغرب ، ولا يعرف قريته إلا بزيارات سنوية ، يتزوج فيها إحدى صبايا القرية ، يستمتع بها شهورا ، ثم يطلقها ويغادر ، بعدما جدد نفسيته ، واستمتع بصحبة أهل قرية من المتزلفين ، فيما يحتقره أهل القرية في أعماقهم ، ويصل لعلمه هذا . إلا أن " عبود" سأم من حياته تلك ، وطمح إلى التغيير ، فاقترح خادمه " الشيطاني " تغييرا من طراز آخر ، أن يعود للقرية ، بمال وفير ، فينشئ منتجعات سياحية ومحلات سوبر ماركت ، ويشتري الأرض بعشرة أضعاف ثمنها . ويحدث تأثيرا كبيرا في القرية . تستهل المسرحية بحوار خاص بين الثري عبود المسن ، وخادمه ، حيث يعاني " عبود " من السأم ، فيقترح عليه خادمه أن يذهب إلى قريته ، ويقضي عطلته فيها ، ويتزوج هناك بصبية صغيرة ، يقضي معها أجازته ، ثم يطلقها ، ويعطيها بعض المال . ولكن الثري يرى شيئا آخر ، أن يعود فيستثمر أمواله ، وينشر الخير في قريته ، بمنظور رجل الأعمال . مشاهد المسرحية قصيرة ، حيث يكون تتنقل المشاهد فنرى في الفصول الثلاثة للمسرحية : القرية قبل الثروة ، والقرية أثناء الثروة ، والقرية بعد الثروة ، واكتشاف الأكذوبة الكبرى ، حيث تصبح القرية أشبه بسوبر ماركت كبير ، فيها تجارة واسعة ، ومشروعات سياحية كبيرة وتأخذ مساحة كبيرة على الخريطة الإعلامية الرسمية ، وفي خلال ذلك تتغير النفوس ، وتتبدل القلوب ، ويسود منطق المادة . وتنتهي المسرحية بكارثة ، حيث يهرب الغني عبود إلى الخارج ، بعدما باع مشروعاته بثمن كبير لعدد من المسؤولين الحكوميين ، ويأخذ معه الصبية الجميلة " رباب " ، التي فاز بها من أبيها المغني الحالم ، ولكن حلمه تحطم وتهاوى الرجل وراء بريق المال .
نستطيع أن نقرأ هذه المسرحية وفق تاريخ صدورها ( 1996 ) ، حيث تقدم قراءة المؤلف الضمني للعولمة التي سادت العالم ، وما استتبعها من تمدد الفكر الليبرالي في العالم ضمن ما يسمى بنظرية نهاية التاريخ ، التي حسمت لصالح الرأسمالية ، وقد تم الترويج لهذه النظرية وأبرز منظروها : صموئيل هننتجتون ، وفوكوياما ، وكلاهما أمريكيان . المسرحية تنطلق من زاوية استشراف المستقبل ، فالمؤلف الضمني يرى أن ما تطرحه العولمة ، إنما هو تمدد اقتصادي فحسب ، أما ما يقال عن سيادة حقوق الإنسان ، وقيم الديمقراطية ، فهي مجرد شعارات لزوم الترويج ، وبعبارة أخرى : فإن العولمة ما هي إلا احتلال للشعوب في إطار جديد ، عبر الشراكات الدولية ، واستغلال فتح الحدود وسهولة انتقال رؤوس الأموال من أجل نهب الثروات الوطنية . من المعلوم أن نظرية نهاية التاريخ عُدّت نتيجةً لسقوط المنظومة الاشتراكية ، بانهيار الاتحاد السوفيتي العام 1990م، وقد ظل العالم خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين يردد هذه النظرية ، وتضاعف الاهتمام بها ، عقب أحداث 11 سبتمبر ، ولكن صدق عليها ما يصدق على أي منتج بشري من قصور ونقص ، وسرعان ما ظهر زيفها ، بما تم من حروب في العراق وأفغانستان والصومال ، ومن قبل البوسنة والهرسك ، وظهرت أنها كانت قناعا مثل أقنعة أخرى ، ارتداها الغرب ، في إطار سياساته الرامية لاستغلال الشعوب ، هذا على المستوى السياسي والعسكري ، فنحن بالطبع لا نتعامل مع الغرب بوصفه كلا واحدا ، وإنما العولمة أحد وجوهه الشرسة .
يأتي الإسهاب السابق ، ضمن التأويل الدلالي للمسرحية ، فلا يمكن الفصل بينها وبين المعطيات الدولية . ولكن المؤلف تعامل مع العولمة بصياغة مميزة ، أكسبت المضمون التقليدي ثوبا جديدا ، فلم يعد الأمر مجرد فتنة المال ، على الأفراد والمجتمع ، على نحو ما وجدنا في أدب حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين في مصر فيما يسمى " حقبة الانفتاح الاقتصادي " بأثريائه وقيمه ، حيث رصدَ جوانب من التغييرات الاجتماعية التي قلبت الموازين في بنية الشعب المصري الاجتماعية والثقافية ، وكانت الرؤية المهيمنة وقتئذ – في محاورها العامة – رصد السفه المالي ، وتغير النفوس ، وتخريب الاقتصاد الوطني . وهي نفس المظاهر التي نرصدها في " ملحمة السراب " ، إلا أن الفرق بينها وبين أدب الانفتاح الاقتصادي ، أن الأول كان انفتاحا استهلاكيا تجاريا ، من الداخل ، أما العولمة فتعني قدوم رأس المال الأجنبي إلى بلادنا للاستثمار ، ولكن تميز ملحمة السراب ، جاء من أن المال الأجنبي لم يأت في هيئة مستثمرين أجانب ، بل أحد أبناء الوطن المهاجرين الذين كونوا ثروات بطريقة غير مشروعة ، بعدما ضحوا بمبادئهم ، وحطموا قلوبهم .
العولمة بأذرع وطنية :
حيث قدم " عبود " بماله المتكون في الغرب ، مضحيا بمبادئ كثيرة ، في هذا يحاور خادمه : " ألا تعرف ماذا يوجد مكان القلب في صدري ؟ ... هنا يوجد صخر لا قلب " ( ص7 ، 8 ) . وسبب العودة لا يأتي من انتمائه الوطني ، بقدر ما هو استفادة من الفرص الاستثمارية في الوطن ، واستغلال قوانين التيسير التي قدمتها دول العالم النامي من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية ، يقول عبود : " لست عاطفيا إلى هذا الحد ، ولكن أعتقد أن في البلد تسهيلات يصعب أن نجدها في بلد لا نعرفه " ( ص7 ) . ذلك أنه يواجه ركودا في حركة أمواله ونموها ، يقول : " بدأ الركود يقرض أموالنا ، مثل فئران جائعة ، لم أعد أجد تسلية لا في المكتب ، ولا في البورصة " ( ص6 ) . والتسلية في النمو السريع للمال ، على طريقة الأموال الساخنة Hot Money التي لا تقيم قواعد اقتصادية وطنية ، بقدر ما تسعى للكسب السريع ، عبر التجارة والخدمات والسياحة . وهذا ما حدث عندما عاد عبود إلى قريته ، حيث أقام مشروعات سياحية ، وتجارية ، أغرقت القرية بالبضائع ، وجذبت ما في أيدي الناس من أموال ، ثم هرب عبود للخارج ، يقول الخادم الوفي ( وهو بمثابة المستشار والسكرتير لعبود ) : " نعم ، غدا ( السفر أو الهروب بالمال ) ، وكل شيء جاهز ، بيع المجمّع للمسؤول الكبير ، ووزّعت الأراضي مقاسم لبناء فيلات وشاليهات للاستجمام ، وحوّلت الأموال إلى الخارج ، ولم يبق إلا أن نودع شركاءنا ، ونصعد الطائرة " ( ص152 ) .
فالعولمة مالية ، والمال لا يعرف الانتماء لأرض أو لدين ، يقول الخادم مذكرا سيده الذي تعاطف بعض الشيء مع قومه : " ما الذي يجعلك تتذكر الآن أنهم أهلك وقومك !؟ أما حذرتك من الانزلاق إلى التعاطف ؟ إن مالك هو وطنك ، وإن الأعمال هي أهلك ، ولا مجال في عالمنا الزجاجي لخفقان القلب ، وتهدج العواطف " ( ص151 ) .
ومن هنا اتضحت الصورة ؛ فإن العولمة احتلال جديد ، اقتصادي الطابع ، عميق الهيمنة ، لأنه يسيطر على الثروة الوطنية ، ويستعبد الناس اقتصاديا ، ويجعلهم استهلاكيي الطابع ، يدورون في فراغ حلقة من المتطلبات الحياتية التي لا تنتهي ، بل تزداد يوما بعد يوم .
ووسيلة هذا الاحتلال أبناء الوطن : رجال الأعمال الذين سافروا إلى الغرب ، وتطبعوا بطابعه المادي وعادوا لا يريدون من وطنهم إلا المنفعة ، وعبر أهل السياسة في الوطن نفسه الذين يسهلون الأمور الروتينية ، ويصدرون القوانين المفصلة حسب مقاس المستثمر ، ومن ثم يشاركونه عوائد استثماراته ، ويتآمرون على خروجه .
شخصيات المسرحية :
تكاد لا توجد شخصية محورية في المسرحية أو ما يسمى البطل المحوري ، بقدر ما نجد شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية ، ولا يوجد فرق بين أدوارهم إلا في نسبة الاستحواذ المشهدي على وجودهم ، ولكنهم في المجمل يعكسون حركة واحدة في الفضاء والزمن . وهذه نتيجة طبيعية للرؤية في النص ، فالبطل ليس شخصا ، وإنما المال ، والشخصيات البشرية يعكسون تعاملهم مع المال : قبل الثراء وبعده ، ومن ثم نحن أمام محور هلامي نرى آثاره ولا نكاد نلمسه ، نكتوي بناره ولا نستطيع دفعه . شخصيات القرية متنوعة : المغني الذي لا يهتم إلا الغناء العذب ، إلا أنه سرعان ما يسقط مع إغراء عبود له بالشهرة وطباعة الشرائط ، والغناء في حفلات المسؤولين ، وكذلك زوجته الشبقة للمال " فضة " التي تضاجع – بالمال – أحد رجال القرية إلا أنها تهجر العشيق ، وتنتابها حالة من القرف المادي ، فتلتزم الدين والحجاب ، والعزلة ، وهنا نرى كيف أن اللجوء للدين كان مهربا من الطغيان المادي ، ومع امرأة كانت ترى المال حياتها ، وتحرض ابنتها على الزواج من ثري .
أما الابنة " رباب " مطمح " عبود " الثري ، فلها علاقة رومانسية مع شاب مثقف ، يساري الفكر " بسام " . وهو يمثل موقف المؤلف الضمني من العولمة ، أو بالأدق الرؤية الفكرية المضادة للعولمة ، حيث تقول له " رباب " :" أحببت كلامك عن المساواة بين الرجل والمرأة ، والعمل المشترك ضد الأفكار البالية ، والتقاليد المتخلفة ، أعجبني تقشفك وحديثك عن عش زوجيّ ، مفروش بالبسط اليدوية والطراريح .وموقدة الحطب " ( ص49 ، 50 ) .
هنا كل ملامح الفكر اليساري : ضد البذخ المالي ، ضد التقاليد الاجتماعية الجامدة ، يسعى لفكر تقدمي .
كما نجد شخصية التاجر وزوجته يعيشان حبا مشتركا ، في محل تجارة بسيط وحينما يخضع التاجر لرغبات " عبود " ، ينتهي الحب بينه وبين زوجته ، بسبب الإغراق في المال . أحد نواتج المال على العاطفة ، وهذا ما حدث أيضا بين رباب وبسام ، فقد غيرت الصبية رأيها ، وسعت للزواج من عبود طمعا ، وإنقاذا لأبيها من ديون حاصرته ، بعدما تورط في إصدار شرائط كاسيت .
وأيضا شخصية عمدة القرية ، الذي يعادل رئيس الحكومة ، وسعيه الدائم لإرضاء عبود ، فيبيع أرضه له ، ويكون سندا للثري في أعماله ، وتطويع رجال القرية ، كما نجد شيخ المسجد ، وكيف ينجرف مع الموجة ، ويبرر للناس ما يحدث من تجاوزات بحجة أن ولي الأمر أدرى بمصالح شعبه .
ومن بين الشخصيات تبرز شخصية " مريم " الزرقاء ، التي تمثل رمزا تراثيا يعيدنا إلى شخصية زرقاء اليمامة ، وقد جاء اسمها موحيا بهذا ، وأشار السارد في الهامش إلى طبيعة شخصيتها ، وأنها تبصر المستقبل ، وهي تمثل الوجه الآخر للرؤية الضمنية ، مع بسام الذي ظل ثابتا ولم يتحول ، أما الزرقاء ، فقد تنبأت بأن " عبود " وخادمه سيهربان ومعهما الصبية الجميلة " رباب " ، وهذا ما لم يصدقه أهل القرية . وبذلك تكتمل الرؤية المنبعثة من أعماق التراث .
تعيش مريم الزرقاء ( الضريرة ) في بيتها الريفي البسيط ، ولها ابنان : أمين ، ومروان التبان ، وقد جاء مروان من العاصمة ، ملحيا على أخيه ببيع الأرض التي ورثاها ، لعبود حتى يستعين بثمنها على نفقات معيشته في العاصمة ، بينما يأبى أمين ، ويرى أن الأرض عرض لهما ، ويشتبك الأخوان في جدال ، ينتهي بقتل مروان لأمين ، بمسدسه دون قصد ، فيما تبصر الزرقاء ساعتها .
إنه شخصيات تعبر عن المجتمع بجميع فئاته وطبقاته ومهنه ، وترصد المشاهد أبعاد التغيرات التي أصابت هؤلاء .
بنية الفصول والمشاهد :
توزعت المسرحية على أربعة فصول ، يمثل كل فصل مرحلة زمنية في حياة القرية ؛ الأول يكون تمهيدا للشخصيات والأحداث قبل الثروة ، والثاني : تداعيات وجود عبود في القرية والجدل الذي دار حول هذه الثروة الضخمة التي أصابت القرية ، وأربكت العقول وأضلت القلوب ، والثالث والرباع : القرية تراجع نفسها بعدما اكتوت بنيران المادة : نزاعات بين الناس ، ولهث وراء الثروة ، ووصولهم إلى نقطة اللاعودة للفقر ، وعدم امتلاك الغنى بالمعنى الحقيقي ، فيعيشون في سراب ، بينما يهرب عبود إلى الخارج ، ويتركهم غرقى في الديون .
ونصاب بالدهشة من تعمد السارد عنونة فصوله ؛ ويشير في الهامش للفصل الأول منبها على ذلك بقول :" إن عناوين الفصول هي جزء من نسيج العمل ، ولذا فإني أفترض إبرزاها في العرض ، سواء عبر أداء الممثل ، أو عبر لافتة مكتوبة تقدّم الفصل ، أو تكون جزءا من ديكور مشاهده المتوالية " ( ص5 ) ، فالسارد واع بأهمية الإشارة للعنونة الفصلية ، عند العرض . فهي جزء أساس ومكمل لدلالة المسرحية ، فالفصل الأول : " عودة عبود الغاوي الثالثة من المهجر " (ص5 ) ، والفصل الثاني : " بيع الأراضي يثير في القرية هيجانات وصدامات ... قابيل يقتل أخاه هابيل " ( ص35 ) ، والفصل الثالث : " القرية هشة .. ، وعاصفة " الجديد " متوحشة تحوّلات وتحولات .. ،( ص72 ) ، والفصل الرابع: " مالا عين رأت ولا أذن سمعت " ( ص105 ) .
وعند التأمل في هذه العناوين نلاحظ أنها : ليست عنونة بالمعنى المفهوم ، فليست موجزة الأسلوب ، بل عبارة عن جملة أو عدة جمل . كما أنها جمل : سردية الطابع ، بمعنى أنها تساهم في اكتمال مضمون النص ، ففي عنوان الفصل الأول نرى ما يسمى " الاستشراف " وهو : تقديم حديث مستقبلي للمتلقي ، يكمل الرؤية زمنيا وعلى مستوى الشخصيات ، فيلج المتلقي النص ولديه توقع مسبق بما حدث من قبل ( فعل عودة الغني للقرية مرتين سابقتين ) ، وأن ما هو قادم ( المرة الثالثة ) ، فيتيهأ وجدانيا ومعرفيا لها . ونفس الأمر ينصرف إلى سائر الفصول .
كما أن الديكور الموصوف في العمل يتجاوز الوصف الحسي الذي يمكن تجسيده إلى الواقعية السحرية ( إن جاز التعبير ) ، وهذا يتطلب مصمم سينوجرافيا مرهف الحس ، لينفذ هذا التصور الديكوري . ففي فاتحة الديكورات في المشهد الأول من الفصل الأول :
" ضوء باهر البياض ، يمتص حدود الموجودات وظلالها . كما يحول الوجوه إلى بقع ، تتماوج بين السواد والبريق . من الصعب تمييز الملامح وكذلك تفاصيل المكان . ولعل الشيء الوحيد الذي يستوقف الانتباه هو مزهرية سوداء فيها وردة ضخمة صفراء اللون . ولكن الذبول يجعل الصفرة تنحلّ إلى ألوان بنية ، تتدرج حتى الاهتراء ، تتساقط أوراق الزهرة بإيقاع غريب ، وصوت يشبه رنين جرس زجاجي صغير . عبود الغاوي ، والخادم " ( ص6 )
فهذا ليس وصفا لديكور مجسد ، إنما وصف لحالة : مكانية ، زمانية ، نفسية ، لونية ، صوتية ، متداخلة إلى درجة الامتزاج . وهذا يشي إلى أن هذ النص يجمع الأدبية والتمثيلية ، في رهافة واستشفاف . ولكن هذا غير معمم في ديكورات المسرحية ، وإنما الوصف الديكوري ينقسم إلى قسمين : قسم يعبر عن حالة المكانية السحرية ( وهي تلازم عبود وخادمه تقريبا ) ، وقسمك يعبر عن الواقع الحي المجسم ، وهي تلازم أهل القرية جميعهم . وهذا ، إن دل يدل على أننا أمام حالة من الرؤية المستقبلية التي تقع ما بين الخيال والواقع ، الظل والضوء ، السحر والحقيقة ، بين حالة التآمر الدولي / العولمي / الخفائي / المقنع ،ويعبر عنها : عبود وخادمه ، وبين حالة البساطة / العفوية / الفقر / الغنى / الحقيقة ، في القرية وأهلها .
كما أن المشاهد المسرحية ، عديدة ، متنوعة المكان ، مختلفة المكان ، وهذا يستوجب متطلبات خاصة في التجهيز المسرحي ، فإننا نجد في الفصل الواحد مشاهد وديكورات متعددة بتعدد المشاهد ، كل مشهد له ديكوره الخاص . وعلى سبيل المثال : الفصل الثاني ، يشمل سبعة مشاهد ، بسبعة ديكورات مختلفة ، معبرة عن مواضع مختلفة ، تصور جميعها : حالات أبناء القرية لحظة تلقيهم نبأ الثروة المتدفقة لشراء الأراضي والعقارات ، فنرى : التاجر يوسف وزوجته في محل البقالة البسيط ( المشهد الأول ) ، وفي المشهد الثاني : فضة زوجة المطرب " ياسين " عشيقها في مزرعة بين الأشجار ، وفي المشهد الثالث : بيت ياسين وزوجته وابنته رباب ، وفي المشهد الرابع : مصطبة أمام بيت المختار ( العمدة ) يغطيها حصير وبضعة مساند ، وفي المشهد الخامس : بيت محمد القاسم أديب الناطور ، وفي المشهد السادس : عبود الغاوي وخادمه في حالتهما السحرية المكانية ، وفي المشهد السابع : بيت أمين التبان وأمه مريم الزرقاء .
هذا التنوع المشهد يعبر عن : تنوع الشخصيات ، أمكنة القرية ، الأزمنة ، الطبقات الاجتماعية والفكرية ، فكأننا أمام كاميرا مسرحية متنقلة .
أسلوبية الحوار :
إننا نجد نصا أدبيا عالي المستوى ؛ كُتِب بأسلوب شاعري ، وكتب بوصفه نصا أدبيا أولا ، ومسرحيا ثانيا ، وهذا ما وضح في أمور عدة .
فالحوار ليس حوارا معبرا عن الشخصيات ، مساعدا في بناء الأحداث وتصاعدها ، مكملا لرؤيتنا عن الشخصية ، وإنما حوار مرهف الكلمات ، يقف في المنطقة الوسطى بين الواقعية التي تنقل الأحداث ، والوقائع ، وتدني المتلقي من الحياة المعاشة للشخصيات ، في تميز أسلوبي بديع . وبعبارة أدق : فإن أسلوبية الحوار فصيحة التراكيب ، بليغتها ، تنتقي اللفظ داني القطوف لفهم وتسمو به إلى أجواء المسرح ، حتى لو كان مطعما بمفردات عامية . ففي حوار بين التاجر " يوسف العلوني " ،وزوجته " فاطمة " و" خلف " صديقه :
خلف : ها.. ها .. أتذكرين يا فاطمة آخر مرسح عرفته هذه الضيعة ؟ كان ذلك يوم أصر ابن البدويّ أن يقيم عرسه حسب العادات القديمة ، في تلك الليلة .. ، أوقدنا النار في الميدان ، وعلى دقات الطبل والمزمار ، انعقدت حلقة الدبكة ، تصوري .. أذكر ها ، وكأنه حدث البارحة . كنت مهرة لم يكد ينهد صدرها .
يوسف مقاطعا ) ما هذا ! قلت لك دعنا من الرغي ، وادخل في المفيد .
خلف : بالله عليك يا فاطمة .. ، هل يسمّي كلامي وتلك الذكريات رغيا إلا عديم الإحساس ؟ طبعا أنت لا تذكر شيئا عن تلك الليلة ، لأنك كنت مشغولا بالبيع وعدّ المصاري . أما فاطمة فكانت تقود الرقص كأنها خيال ، ووجهها يقمره لفح النار ، وجسدها يتثنى كالعجين مع إيقاع الطبل والمزمار . ( ص129 )
إننا أمام لوحة حوارية ، تصف مشهد العرس ، مسترجعة إياه ، تطعم الحوار بالصورة الحسية التمثيلية ، حركية الطابع : " كنت مهرة لم يكد ينهد صدرها " ، "فكانت تقود الرقص كأنها خيال " ، " ووجهها يقمره لفح النار " ، " جسدها يتثنى كالعجين " .
لم تبسط الصورة مفهوما في الحوار ، أو معنى غامض ، بل يتعمد السارد أن يسمو بالحوار سموا بلاغيا ، ففاطمة ترقص ، مفهوم هذا ، كأنها " خيال " صورة بها من المبالغة الحركية ما يضفي المزيد من التصور البصري والخيالي على طبيعة رقص فاطمة ، أي أن الصورة تعطي مبالغة معنوية ، أكثر من كونها تجسد المعنى وتبسّطه . ونفس الأمر في : " يقمّره لفح النار " دلالة حمرة الوجه وتوهجه بفعل الرقص .
كما تطعم الأسلوب بألفاظ عامية أو فصيحة تلامس العامية المستخدمة ، مما ساعد على تفصيحها ضمن الحوار مثل : " المصاري ، الدبكة ، رغيا " .