هَندِس بالقصة
د. علي الحمادي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
د.على الحمادي سُئل بشر بن الحارث (الحافي): ما كان بدء أمرك؛ لأن اسمك بين الناس كأنه اسم نبي؟ قال: هذا من فضل الله، ثم ما أقول لكم: كنت رجلاً عيَّاراً (كثير الحركة والتطواف) صاحب عصبية، فجزْت يوماً، فإذا أنا بقرطاس في الطريق، فرفعته فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم»، فمسحته، وجعلته في جيبي، وكان عندي درهمان ما كنت أملك غيرهما، فذهبت إلى العطَّارين فاشتريت بهما غاليةً (نوع من الطيب)، ومسحته في القرطاس، فنمت تلك الليلة، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول: يا بشر بن الحارث! رفعت اسمنا عن الطريق وطيبتَه، لأطيبنَّ اسمك في الدنيا والآخرة! ثم كان ما كان.
- وحُكي أن بشراً كان في زمن لهوه في داره، وعنده رفقاؤه يشربون، فاجتاز بهم رجل من الصالحين، فدقَّ الباب، فخرجت إليه جارية، فقال: صاحب هذه الدار حُرٌّ أم عبد؟ فقالت: بل حرّ! فقال: صدقتِ، لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب، فسمع بشر محاورتهما، فسارع إلى الباب حافياً حاسراً وقد ولَّى الرجل، فقال للجارية: ويحكِ! من كلّمكِ على الباب؟ فأخبرتْه بما جرى، فقال: أيّ ناحية أخذ الرجل؟ فقالت: كذا، فتبعه بشر حتى لحقه، فقال له: يا سيدي! أنت الذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟ قال: نعم، فقال: أعد عليّ الكلام، فأعاده عليه، فمرَّغ بشر خدَّيه على الأرض وقال: بل عبدٌ! عبدٌ! ثم هام بشر على وجهه (حافياً) حاسراً حتى عُرف بـ(الحافي)، فقيل له: لِمَ لا تلبس نعلاً؟ قال: لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات.
هذه هي القصة التي تفعل الأفاعيل بالنفس البشرية، والتي تأسر سامعها وتسحر عقله، وهي القصة التي أحبها ويحبها وسيحبها الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والجاهل والمتعلم، والغني والفقير، والأبيض والأسود، والصالح والطالح؛ لذا وجب على صناع التأثير أن يلتفتوا إلى هذا النهج القرآني والأسلوب النبوي لإحداث التأثير الفذ وهندسة الحياة؛ فهو أسلوب مجرب قديماً وحديثاً، وقد ثبت نجاحه بالدليل القاطع، وإذا لم تصدِّق فإني أدعوك إلى تجريبه، ولو لمرة واحدة، وعندها ستدرك أيَّ أسلوب مهم أدعوك إليه.
- أخرج البيهقي عن جرير بن عبد الله البجلي رضى الله عنه : أن رجلاً كان مع أبي موسى رضى الله عنه فغنموا مغنماً، فأعطاه أبو موسى نصيبه ولم يُوفِّه، فأبى أن يأخذه إلا جميعه، فضربه أبو موسى عشرين سوطاً وحلق رأسه، فجمع الرجل شعره وذهب به إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فأخرج شعراً من جيبه فضرب به صدر عمر، فقال عمر: مالك؟ فذكر الرجل قصته، فكتب عمر إلى أبي موسى: سلام عليك، أما بعد: «فإن فلاناً بن فلان، أخبرني بكذا بكذا، وإني أقسم عليك إن كنتَ فعلت ما فعلت في ملأ من الناس إلا جلست له في ملأ من الناس، فليقتصَّ منك، وإن كنت فعلت ما فعلت في خلاء، فاقعد له في خلاء، فليقتصَّ منك، فلما دُفع إليه الكتاب، قعد أبوموسى رضى الله عنه للقصاص، فقال الرجل: قد عفوت عنه لله».
- وروي عن عبد الله بن مسعودرضى الله عنه أنه مر ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة فإذا فتيان فُسَّاق قد اجتمعوا يشربون، وفيهم مغنٍّ يقال له: «زاذان» الكندي، يضرب ويغني، وكان له صوت حَسَنٌ.. فلما سمع ذلك عبد الله بن مسعود قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله! وجعل الرداء على رأسه ومضى، فسمع زاذان قوله، فقال: من كان هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: وأي شيء قال؟ قالوا: إنه قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى؛ فقام «زاذان» وضرب بالعود على الأرض فكسره، ثم أسرع فأدركه، وجعل المنديل في عنق نفسه، وجعل يبكي بين يدي عبد الله بن مسعود، فاعتنقه عبد الله بن مسعود، وجعل يبكي كل واحد منهما، فتاب «زاذان» إلى الله تعالى من ذنوبه، ولازم عبد الله بن مسعود حتى تعلّم القرآن، وأخذ حظّاً من العلم حتى صار إماماً في العلم، وروى عن عبد الله بن مسعود وسلمان وغيرهما.
والآن، وبعد قراءة تلك المواقف والقصص، ألا ترى أثر هذه المواقف على مشاعرك وقيمك ومزاجك وطريقة تفكيرك، خاصة إذا قرأتها بوعي وتأمل وسكينة.
إن التجارب كلها تقول إنك لابد - بإذن الله تعالى - أن تجد لها تأثيراً، وسيكون التأثير أكبر عندما تسمعها (أو تحكيها) بأسلوب عاطفي جذاب أو منطقي مقنع أو واقعي موجَّه.
إن هذا الأسلوب هو أسلوب القادة الملهَمين العظام الذين قادوا الأمم لهندسة الحياة؛ ولذلك قالوا: إن القائد تحوَّل اليوم من مصدر أوامر إلى راوي قصص.
لنفرض أن لديك مشرفاً قاسياً على الموظفين، وكنت ترغب في أن تجعله يخفف حدة تعامله معهم، فإذا أوصيته بشكل مباشر وقلت له: أريدك أن تخفف من حدة تعاملك مع الموظفين، فسينفعل ويرد عليك: هل تريدني أن أسكت على الخطأ؟ هل تريدني أن أدعهم يتمادون في سلوكياتهم المعوجة؟ وهنا تقع في فخ التصريحات المباشرة، فإذا أجبته بنعم فكأنك تطلب منه أن يسكت على الخطأ، وإذا أجبته بلا فكأنك تمنحه تصريحاً بالاستمرار في القسوة؛ لذا فالحل الأمثل هو أن تتجنب الأوامر المباشرة وأن تبلور له فكرتك في قصة، وفيها ربما تحكي قصة تفسر القول المأثور الذي يقول: الرجل الذي يضرب حصانه سيضطر عاجلاً أو آجلاً إلى السير على قدميه.>