المغامرة الشعرية في الرواية المعاصرةكيف يبدو الأدب العربي بالنسبة لكاتب روائي ومترجم وأستاذ جامعي ومستشرق مثل أندريه ميكيل؟.. هذا السؤال يطرح بين حين وآخر، ولأن أندريه ميكيل منشغل بالبحث في الأدب العربي، قديمه وحديثه، فإن وجهات نظره تحظى باهتمام بالغ، ذلك لأن البحث في الثقافة العربية يستهويه، فهو يقبل بمزيد من الحذر خاصة ما يتناوله من قضاياه، أو ما يقوم بتحليله من مكوناتها، وهو في هذا لا ينظر على هذه الثقافة على أساس الترتيب الزمني الذي تطورت فيه، وإنما وفق معطيات ما أنتجت من أدب، وما وصل اليه هذا الأدب، فهو حين تناول الرواية العربية الحديثة لم يبدأ من «زينب» محمد حسين هيكل، على سبيل المثال، وإنما جعل منها منطلقاً لسياحة أدبية، فقرأ معظم أعمال نجيب محفوظ وغيره من الروائيين العرب، ليشير من بعد ذلك الى السؤال الأساس وهو: هل ينتمي هذا الأدب على الثقافة العربية في مراحل سابقة؟.. وأين بذور التغيير في هذا الأدب؟.. وما هي النماذج والرموز التي ينضوي تحتها، والتقاليد التي اكتسبها؟.
هناك، دون أدنى شك، أمور أخرى، جوهرية، وعلى قدر كبير من الأصالة أكثر من كونها حديثة، وهنا تبرز على واجهة تفكيره أسماء مثل: إميل حبيبي وجمال الغيطاني والطيب صالح وصنع الله ابراهيم، وكل نماذج الأدب العربي المعاصر، ومع هذه الأسماء، ومن خلالها يقول أندريه ميكيل: «نستطيع أن نناقش الحداثة مقارنة بالأدب العربي الكلاسيكي»، وهو هنا يفرق بين الرواية كفن، والشعر، معترفاً بأن للشعر مجالاً آخر، وقد حقق منذ أكثر من أربعين سنة قطيعة مع التقاليد الشعرية القديمة اذا ما قورن بالنمط السائد في بدايات هذا القرن، ولكن هذه القطيعة كانت حذرة، فقد ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، أنواع أدبية أخرى، كالرواية والقصة، وقد كان انطلاقها مصمماً وفق الشكل الروائي والقصة في الغرب، محققة بذلك قطيعتها، هي الأخرى مع الأنماط السائدة قبلها، بالرغم من أن ظاهرة التجديد في الغرب، بالنسبة للأدب الفرنسي على الأقل، يعدها النقاد حديثة، لأنها بدأت بيودلير بشكل أساس، ومع بودلير ومن جاء بعده بالنسبة لأشكال الفن الأخرى، ولكن هل بالإمكان القول على النقيض من الرسالة الاعتيادية، إلا نجد رسالة؟ أو كما يقول غيتان بيكون: هل يجب على الفن ألا يتحدد في مجاله الخاص الضيق، وغايته الخاصة؟ في الشعر العربي، كما يرى أندريه ميكيل، أن التغيير قد تحقق بالفعل، وأن الشعراء العرب المعاصرين، هم في الواقع على قدم المساواة مع الشعراء الكبار المعاصرين الأوروبيين، فبين رينيه شار في فرنسا مثل، وأدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي في الوطن العربي لا يوجد تباين في المستوى الشعري العام، أما بالنسبة للرواية، فهنالك صعوبة، ولكنها صعوبة طفيفة، فالمشكلة المطروحة اليوم على الرواية العربية المعاصرة ذات وجهين، ففي البدء أن المغامرة الشعرية تتواصل في الوطن العربي من خلال الشعر، ومن خلال الرواية أيضاً، وهنا لابد من توضيح ذلك، إذ أن الشعر في معناه الاصطلاحي الأول، هو إبداع، وبالقدر الذي يكون فيه إبداعاً جمالياً، فإنه يعد ممارسة، وفي تعبير أدق «إن الشعر يبحث عن كلمات يجمعها، ومن الجمع عليه أن يستخرج أشياء جديدة».
فاللغة كوظيفة شعرية ينبغي أن ينبني خطابها على الخصوصية الصوتية للغة التي تنظم بطريقة ذاتية أولاً، وتنتظم أيضاً بالإيقاع الذي ترتبط به عناصر الشعر الصوتية الأخرى ثانياً، وهي البناء اللحني والتكرار و«التوازي الصوتي» الذي يمتد الى مستويات لغوية أخرى للشعر هي الصرف وعلم النحو، ثم تأتي بعد ذلك الخصوصية المميزة للغة الشعرية وهي تفخيم عنصر التضاد ثالثاً، وهذا ما يميز اللغة الشعرية ويفصلها تماماً عن اللغة الاعتيادية، بل وعن اللغة النثرية المنقحة، وكان «أم. جي. شينيه» قد حدد الشعر بسمات خمس هي: الوزن والقافية، والتقديم والتأخير، واختيار الكلمات، وغزارة الصور، ولكن يبقى الوزن والقافية من خارج اللغة دائماً، في حين تؤدي العناصر الأخرى الى لغة خاصة ذات كلمات رفيعة.
واذا تركنا اللغة جانباً، فإن كثيراً من الروائيين المعاصرين، يصممون أعمالهم بقدر أو آخر لكي تكون ذات زخم شعري أيضاً، ويعد نجيب محفوظ مثالاً مناسباً في هذا المجال، فهو يكتب روايات يمكن أن تمد بمغامرة أخرى، سواء تحت شكل الرواية كـ «ثرثرة فوق النيل» أو تحت شكل القصة، هذه المغامرة ليست من داخل الرواية أو القصة العربية، ولكنها من داخل الرواية والقصة القصيرة جداً، وهذه أول انطلاقة يمكن للدارس أن يتتبع أهميتها في دراسة الرواية العربية المعاصرة، الأمر الذي أهل نجيب محفوظ، لنيل جائزة نوبل للآداب التي استحقها بجدارة، فقد استقبلت رواياته في الغرب «مترجمة» استقبالاً حسناً، كرواية معاصرة، ذات تجربة يمكن أن يطلق عليها تجربة كونية بملامستها لتجارب العالم من خلال تجربته الخاصة، واذ ذاك فإن الصدمة العنيفة، كما يقول أندريه ميكيل في مستوى التعبير، التي تلقاها مثقفو الوطن العربي، منذ عقود من الزمن أدت إلى ظهور أدب جديد.
إننا حين نتناول الأدب الحديث، فإننا نضع أنفسنا قريباً جداً من بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أما إذا تحدثنا عن المعاصرة، فيعني ذلك الأدب المعاصر الذي يمثله الأدباء بدءاً من اربعينيات القرن الماضي، أو منذ بداية النهضة حتى الآن، ولأن المعاصرة هي التي تهمنا، فإن السؤال هنا يتركز على رموزها؟.. وهذا يقودنا مرة أخرى إلى نجيب محفوظ، لأنه لعب دوراً تاريخياً ليس بالقليل، كما لعب فلوبير في الآداب الفرنسية، ولتوضيح الأمر، يقول أندريه ميكيل: إن فلوبير سواء أكان كاتباً جيداً أم رديئاً، فليس لذلك أية أهمية، ولكن يشار إليه، فمعه ولدت الرواية الحديثة الحقيقية، وبالطريقة نفسها يمكن القول: إن لنجيب محفوظ أهميته لسببين : الأول: انه سعى إلى ابراز شيء من الاعماق العربية، أي أنه استمد احداث أعماله من طبيعة المجتمع (مجتمع القاهرة)، والثاني ان محفوظ - لم يكن الأول - ولكن معه انطلقت حركة التجديد، فقد لعب دوراً أساسياً في تاريخ اللغة العربية.
وإذا ما عدنا للشعر العربي، فنرى بأنه حدد موضوعاته وفضاءاته وغاياته، غير أن النثر العربي، ونعني به أسلوب الكتابة الروائية، صنع نفسه بنفسه، وهنا ليس بالإمكان القول: إن الكتّاب العرب الكلاسيكيين لم يكتبوا بشكل جيد، ولكن يمكن القول إنهم كانوا يكتبون من أجل الكتابة الجيدة، انهم يتناولون الريشة لأن هناك شيئاً مطلوباً قوله، وبالنسبة لنجيب محفوظ هنالك على مستوى الرواية ارادة لإبداع لغة روائية تصب في عربية حديثة أو في قوالب لم يكن قد تعرف عليها من قبل، وحتى رواية هيكل (زينب) التي تنتمي إلى لغة كلاسيكية مقلدة ، فإذا ما قومت اليوم مقارنة بما قبلها، فإن نجيب محفوظ، هو الذي أطلق حدود النثر العربي المعاصر دون منازع، ولا نغفل هنا أهمية طه حسين في تطور الأدب العربي الحديث، ولكن هنالك مسافة ملحوظة بين النثر العربي الكلاسيكي وطه حسين بالقدر الذي توجد فيه هذه المسافة بين نثر طه حسين ونثر نجيب محفوظ.

عصام عز الدين