سلمى الكزبري ترحل عن 83 عاماً


ايمان عثمان (دمشق)
توفيت امس الاول الاديبة السورية الكبيرة سلمى الكزبري الراحلة ولدت في دمشق عام 1923 في بيت عرف بالسياسة والوطنية، تلقت دراستها الابتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة راهبات الفرنسيسكان في دمشق، اتقنت اللغة الفرنسية وتعلمت الانكليزية ومكنتها اقامتها في اسبانيا من تعلم اللغة الاسبانية وهذا ما مكنها من القاء محاضرات في مدريد وبرشلونة عن المرأة العربية في التاريخ. نالت الاديبة الراحلة جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي سنة 1995، كما فازت بجائزة البحر الابيض المتوسط الادبية من جامعة بالرمو في صقلية سنة 1980.
اصدرت ثلاثة دواوين باللغة الفرنسية هي: «الوردة الوحيدة 1958-ونفحات الامس 1966- وكذلك ديوان بوح» اضافة الى مجموعة شعرية كتبتها باللغة الاسبانية بعنوان «عشية الرحيل» ومؤلفات كثيرة غيرها.

جريدة عكاظ


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

دمشق...
ف
رحـــيل الكـــاتبة الســـورية ســـلمى الحـــفــار الكــزبري
الـوردة المـنــفـــردة فــــوّاحٌ عـــبـــيــرهــا

دمشق...
في الرسالة الأخيرة التي بعث بها الشاعر نزار قباني إلى سلمى الحفار الكزبري (1922 - 2006) من مدريد، حيث عمل مستشاراً في السفارة السورية في إسبانيا، والمؤرخة في 15/2/1966 يقول: "أخرج من إسبانيا بأمجاد أعتز بها، وهكذا يا سلمى يملأنا فخراً أننا تركنا فيها شعاع ضوء وبقية طيب، لا كما يأتي ويذهب الديبلوماسيون عادة تيتي... تيتي... متل ما رحتي متل ما جيتي".
تلك الرسالة كتبها نزار قباني بعد سنوات من مغادرة صديقته سلمى وزوجها الدكتور نادر الكزبري، سفير سوريا في إسبانيا، وذلك حين أعلن الانقلاب العسكري الذي قام به حزب البعث العربي الاشتراكي مع أعوانه من ضباط الجيش في سوريا عام 1963 وتبلّغ الزوجان الإحالة على التقاعد بعد سنتين من الإقامة في مدريد. لم تكن سلمى الحفار الكزبري كبقية الديبلوماسيين الذين تحدث عنهم نزار قباني بل استطاعت، بحق، أن تنثر الطيب والنور هناك. منحتها الحكومة الاسبانية تقديراً لجهودها ولأعمالها الأدبية، في مجال الدراسات العربية والأندلسية، ومحاضراتها في مدريد وقرطبة وبرشلونة، وساماً رفيعاً عام 1964، هو شريط السيدة إيزابيلا كاتوليكا، كما منحتها صقلية جائزة البحر المتوسط تقديراً لأعمالها الفريدة.
ومع ان سلمى الحفار الكزبري ولدت في دمشق عام 1922، أي في فترة انتقالية ذبلت خلالها المؤثرات الثقافية العثمانية وبدأت سيطرة الفكر الثقافي الغربي بالتسلل، كان من الصعب على هذه السيدة أن تخلق بحرية، ذلك أن المرأة عموماً كانت لا تزال خلف أسوار الحريم في المدن، ويُضرب حولها ألف حجاب وحجاب، ويُنظر إليها أنها موطن الخطيئة أو سقط متاع، بحسب مقولة لنعيم اليافي في معرض حديثه عن الأدب السوري الحديث، وسلمى من أعلامه. لكن عوامل شتى ساعدتها في شقّ طريق خاص بها، ذلك انها نشأت في بيت سياسي من بيوت دمشق العريقة والميسورة، عني بالثقافة والأدب، وهي ابنة لطفي الحفار رئيس الوزراء السوري في فترة الكفاح من أجل الاستقلال عن فرنسا، والعضو البارز أيضاً في الكتلة الوطنية. وكان لذلك كله كبير الأثر في شحن حياتها ومصيرها بحقنة مغايرة عن بنات جيلها. وهل هناك ما هو أكثر مضاء من الترعرع في خضم تلك الفاعلية؟
تذكر سلمى الحفار في احد مقالاتها ما كتبه نزار قباني يوماً عن اعتقال والده، الذي كان أيضاً عضواً في الكتلة الوطنية ومقاوماً للانتداب، وتورد بناء على ذلك اعتقال والدها أيضاً في 1925 يوم صحت مذعورة على ضجة في البيت، وكان عساكر السنغال (كما وصفهم نزار) يدخلونه، ويأخذون أباها معهم في سيارة مصفحة إلى المنفى في قرية الحجة الصحراوية في شمال سوريا، حيث أمضى فيها مع زميليه فارس الخوري وحسين البرازي أشهر الصيف اللاهب قبل نقلهم إلى بلدة أميون في منطقة الكورة في شمال لبنان، ونفيهم فيها. تتذكر: "مع الفارق أن الفرنسيين سمحوا لعائلاتهم باللحاق بهم، فصحبتني أمي معها وأمضت زهاء عامين بالمنفى بلبنان إلى أن تم الإفراج عنهم وعن رفاق لهم نفوا بعدهم في شهر فبراير عام 1982". وقامت الكزبري بتأليف كتاب عن والدها، "لطفي الحفار (1885 - 1968)، مذكرات حياته وعصره"، أرخت فيه لسيرة حياته ونضاله في الحقلين السياسي والاقتصادي مدى نصف قرن من حياة سوريا.
أتيح لسلمى أن تتعلم أصول اللغة العربية على يد والدها، وأن تكون معلمتها للغة العربية الرائدة الدمشقية ماري عجمي، وأن تدرس في مدرسة الفرنسيسكان، حيث أتقنت الفرنسية والإنكليزية، مما منحها ثقافة غربية متطورة تجاه السائد المثقل ببقايا الماضي، ومن ثم أن تتابع دروساً في العلوم السياسية بالمراسلة مع معهد اليسوعيين في بيروت من دون أن تحصل على التخرج. ذلك كله حمل الكزبري على النشر باللغتين العربية والفرنسية في وقت مبكر، فكتبت الشعر بالفرنسية، والقصة القصيرة والرواية بالعربية، وأول مقالاتها كان في مجلة "الأحد" الدمشقية عام 1940 وكان لها من العمر ثمانية عشر عاماً، كما نشرت أول كتاباتها الشعرية في جريدة "أصداء سورية".
لكن سلمى لم تنشر كتاباً مطبوعاً قبل عام 1950 صدر في دمشق، وهو الجزء الأول من سيرة ذاتية، عنوانها "يوميات هالة"، الذي ترجم إلى الفرنسية. ولم تكمله إلا في عام 1970 حين طبعت الجزء الثاني منه، "عنبر ورماد"، الصادر في بيروت. هل يكون ذلك لأنها تزوجت عام 1941 من محمد كرامي شقيق عبد الحميد كرامي، وأنجبت منه طفلاً، أو قد يكون بسبب ترملها بعد ولادة الطفل بشهر، لتعود وتتزوج عام 1948 من الدكتور نادر الكزبري الذي أنجبت منه ابنتين.
لكن الزواج الثاني شقّ آفاقاً أخرى أمام سلمى الحفار الكزبري لرؤية العالم والانفتاح على ثقافات أخرى بجانب زوج متفهم ومثقف. سافرت معه إلى الأرجنتين وتشيلي، حيث كان يعمل وزيراً مفوضاً لسوريا، وتعلمت هناك اللغة الإسبانية، لتنال في عام 1961 ديبلوماً في اللغة الإسبانية وآدابها. ثم انتقلت مع زوجها إلى مدريد، وهناك كتبت روايتها الأهم، "عينان من أشبيليا"، ونشرتها عام 1965 في بيروت. وكان نزار قباني هو الذي اختار عنوان الرواية، حين بعثت له تستفسر عن أسماء بعض المواقع بين إشبيلية ومدريد، بعد قرار إقالة زوجها ورجوعهما إلى دمشق. حين طبعت الرواية وبعثت أول نسخة منها إلى نزار كتب لها قائلاً: "تأثرت كثيراً بالإهداء الرائع الذي خصصتني به. الواقع إني شعرت بلمسة كبرياء حين رأيت العنوان الذي حلمت به يتألق على غلاف الكتاب ، ليس هذا غروراً لكنه زهو الإنسان بلقاء أحلامه وقد اكتست جلداً ولحماً". نشرت سلمى ذلك في كتابها، "ذكريات إسبانية وأندلسية مع نزار قباني ورسائله"، الصادر عن "دار النهار" عام 2000.
أعقبت سلمى أول كتبها بكتاب ثان في عام 1952 وهو مجموعة قصصية صدرت في القاهرة بعنوان "حرمان"، لتصدر في العام نفسه مجموعة أخرى بعنوان "زوايا". وفي الأرجنتين طبعت شعراً بالفرنسية عام 1958 بعنوان "أشعار الوردة المنفردة"، ولم تنشر كتاباً شعرياً حتى عام 1966 في باريس بعنوان "نفحات الأمس".
ربما كان بيت السياسة والنضال الذي نشأت فيه سلمى هو الذي جعلها أيضاً، أسوة بمعظم معاصراتها من الأديبات السوريات في تلك المرحلة، تهتم بالعمل الاجتماعي، فهي أسست جمعية "المبرة النسائية" عام 1945 التي أخذت على عاتقها رعاية الفتيات الجانحات وحضانة اللقيطات. وهي أيضاً عضوة الوفد السوري لدى لجنة شؤون المرأة المنبثقة عن المجلس الثقافي الاقتصادي، وحضرت مؤتمرها المنعقد في بيروت عام 1954. وانسحب اهتمامها بالمرأة إلى مجال الخلق أيضاً، لتنشر كتاباً من أبرز كتبها هو " مي زيادة، مأساة النبوغ"، الذي اعتمدت فيه على التوثيق، وخصوصاً في نشرها مجموعة من نصوص لمي لم تكن رأت النور من قبل، وكتابها "نساء متفردات" عام 1961، وكذلك كتاب "الشعلة الزرقاء- رسائل حب إلى مي زيادة"، وفيها رسائل جبران خليل جبران إليها، حققته بالاشتراك مع الدكتور سهيل بشروئي عام 1979 وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغات الإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية.
نشرت سلمى الحفار الكزبري أكثر من عشرين كتاباً شملت المجموعة القصصية والسير والتراجم والبحوث والشعر، كما نشرت روايات منها "الحب بعد الخمسين" عام 1989، و"البرتقال المر" عام 1974، وفازت بجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي عام 1995 وموضوع الجائزة الدراسات التي تناولت أعلام الأدب العربي الحديث.

روزا ياسين حسن

جريدة النهار