السلام عليكم
عن موقع العلامه راتب النابلسي:
موضوع يستحق التوقف كثيرا:

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس صلاح الأمة في علو الهمة :

الورع :



1 – بين الورِع والمخلِّط :
والموضوع اليوم الورع .
(( وركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط )) .
[ الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال ]
2 – مَن هو المخلِّط :
والمخلط هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وهذا حال معظم المسلمين ، المسلمون بمجموعهم قلما يرتكبون جريمة قتل أو جريمة الزنا ، أو جريمة شرب الخمر ، أو ما شاكل ذلك ، لكن معظم المسلمين وقعوا في الشبهات خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
2 – حجاب الشبهات وحجاب المعصية :
إن الشبهات تحجب عن الله ، والحجاب عن الله بفعل الشبهة يساوي الحجاب عن الله بفعل الكبيرة ، لأن المؤدى انقطاع عن الله عز وجل ، لكن الذي ينقطع عن الله لأسباب صغيرة يندم أشد الندم ، إنه لم يرتكب جريمة حتى يحجب عن الله ، ارتكب شبهات هي صغائر في ظنه ، فلما أصر عليها انقلبت إلى كبائر ، بمعنى أنك إذا كنت على طريق عريض ، وعن يمينه واد سحيق ، وعن يساره واد سحيق ، لو حرفت المقود سنتمترا واحدا ، وثبت هذا الانحراف كان المصير في الوادي ، إنما الكبيرة أن تحرفه تسعين درجة فجأة ، الصغيرة أن تحرفه سنتمتراً ، وأن تثبت هذا الانحراف ، فمصير الصغيرة التي أصررت عليها كمصير الكبيرة .
لذلك أيها الإخوة ، الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم ، ولكن رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم .
هناك صغائر ، ومخالفات ، و تقصير ، وحجاب ، السبب أن التقصير والمخالفات والصغائر أدت إلى حجاب ، و والكبائر تؤدي إلى حجاب ، المحصلة أن العبد محجوب عن الله عز وجل .

أحاديث نبوية عن الورع :



الحديث الأول :
أيها الإخوة الكرام ، الحديث عن الورع حديث طويل ، من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( كن ورعاً تكن أعبد الناس )) .
[ ابن ماجة بسند صحيح عن أنس ]
وفي حديث آخر يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع )) .
[ الطبراني في الأوسط عن حذيفة بإسناد صحيح ]
الدين مستويات ، أعلى هذه المستويات الورع ، وقد جمع النبي عليه الصلاة والسلام الورع كله في كلمة واحدة فقال :
(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) .
[ ابن ماجه عن أبي هريرة بسند صحيح ]
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
(( إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة )) .
[ ذكر مثله المنذري في الترغيب والترهيب مرفوعا عن ابن عمر بلفظ : (( أفضل الدين الورع )) ]
والورع أفضل العبادة .

أقوال العلماء في الورع :



1 – قول إبراهيم بن أدهم :
وقال إبراهيم بن أدهم : " ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل في جوفه " .
أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، كيف يكون الطعام طيباً ؟ إذا اشتريته بمال حلال ، وكيف يكون المال حلالاً ؟ إذا كسبته بطريقة مشروعة .
والله التقيت بإنسان توفي ـ رحمه الله ـ والد صديقي ، زرته في العيد ، قال لي بالحرف الواحد : والله أنا عمري ستة وتسعون عاماً ، وقد أجريت تحليلات كاملة قبل أيام ، الجواب كل النسب طبيعية ، ثم قال : والله لا أعرف الحرام ، لا حرام المال ، ولا حرام النساء في حياتي .
2 – قول التستري :
يقول بعض العلماء التستري : " ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام " .
3 – قول الحسن البصري :
والإمام الحسن يقول : " يؤتي الحكمة من يشاء " ، أي الورع .
رأس الحكمة أن تكون ورعاً .
4 – قول آخر لبعض العلماء :
وسئل أحد العلماء : " ما تقول في الورع ؟ قال : رأس الأمر كله ".
نقل عن السيد المسيح ما معناه : " لو صليتم حتى تصيروا مثل الحنايا ، وصمتم حتى تكونوا أمثال الأوتاد " وجرى من أعينكم الدموع أمثال الأنهار ، ما أدركتم ما عند الله إلا بالورع " .
5 – قول آخر :
وقال بعض العلماء ، وقد سأله أحدهم ، قال له : " عظني ، فأخذ حصاة من الأرض ، فقال : زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض ، قال : زدني ، قال : كما تحب أن يكون الله لك غداً كن له اليوم " .

مستويات الورع :



أيها الإخوة الكرام ، حديث الورع حديث طويل ، ولكن الإمام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ صنف الورع في أربعة مستويات .
المستوى الأول : ورع العدول :
تعرفون أيها الإخوة أن الإنسان المؤمن يتصف بصفتين ، الضبط والعدالة ، الضبط أن يكون واعياً ، قدراته العقلية جيدة ، لذلك لا يقبل حديث شريف من إنسان لا يتمتع بالضبط ، قد يزيد كلمة ، أو قد ينقص كلمة ، أما العدالة فهي الاستقامة ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته )) .
[ مسند الشهاب عن علي بسند فيه مقال]
قالوا : فإن عاملهم فظلمهم ، أو حدثهم فكذبهم ، أو ائتمنوه فخانهم سقطت عدالته ، سقطت ـ بالتعبير المعاصر ـ حقوقه المدنية ، لا تقبل له شهادة .

العدالة بين السقوط والجرح :



لكن العلماء أدرجوا حالات كثيرة لا تسقِط العدالة ، لكنها تجرحها ، تماماً كما لو عندك آنية زجاجية ، إما أن تحطمها بمطرقة ، أو أن تشعر .
ما يسقِط العدالة :
عندنا سقوط عدالة بالكذب ، والظلم ، والخيانة ز
ما يجرح العدالة :
وعندنا جرح عدالة .
ـ مما يجرح العدالة أكل لقمة من حرام ، أنت لا تنوي أن تشتري هذه الفاكهة ، لكنك أكلت قطعة منها موهماً البائع أنك تتذوقها ، وفي نيتك ألا تشتري ، بل أكلت لقمة واحدة ، لقمة واحدة من حرام تجرح العدالة .
ـ تطفيف بتمرة ، ألقيت الحاجة في الكفة بقوة ، فرجحت ، فأمسكتها ، وقدمتها للشاري ، الميزان لم يستقر ، رجحت الكفة بفعل قوة الاندفاع ، طففت بتمرة تجرح عدالتك .
ـ من أكل في الطريق .
ـ من بال في الطريق .؟
ـ من مشى حافياً .
ـ من علا صوته في البيت .
ـ من تنزه في الطرقات ، لأن في الطرقات كاسيات عاريات .
ـ من كان حديثه عن النساء وعن أشكال النساء وعن خصائص النساء .
ـ من أطلق لفرسه العنان ، أسرع في مركبته السرعة الزائدة تجرح العدالة .
ـ من قاد برذوناً ، أي ربى حيواناً مخيفاً يمشي في الطريق مع هذا الحيوان يخيف الأولاد ، أو اقتنى كلباً كبيراً ، وبيته أرضي على مدخل البناء وفيه أطفال ، مثل هذا الإنسان تجرح عدالته ، لذلك عدّ العلماء أكثر من ثلاثة وثلاثين صنفاً تسبب جرح العدالة .
فورع العدول يعني أن كل مؤمن يجب أن يتصف بالعدالة والضبط ، الضبط إدراك والعدالة نزاهة ، وكل مؤمن ينبغي أن يكون عدلاً وضابطاً ، ومن أساء الظن بأخيه فكأنما أساء الظن بربه .
ورع العدول هو الورع الذي يجب الفسق باقتحامه ، هناك فتوى لو لم تعبأ بها لكنت فاسقاً ، هذه أدنى مستوياتها ، دفعت ثمن البضاعة ، وردّ لك البائع التتمة ، فإذا هي تزيد على ما تستحق ، لكنك تابعت المسير ، طبعاً حرام أن تبقي هذا المبلغ في جيبك ، هذا ورع أدنى أنواع الورع ، لأنك لو لم تفعل ذلك لاقتحمت باب الفسق ، وهذا الذي صعد المركبة في بريطانيا ، وأعطى السائق ورقة نقدية كبيرة ، ورد له التتمة عدها ، فإذا هي تزيد عشرين بنساً على ما يستحق ، وهو إمام مسجد ، قال : سأرد التتمة إليه ، وجلس على أحد المقاعد ، فجاءه خاطر ، إنها شركة عملاقة ، وإن دخلها فلكي ، والمبلغ يسير ، وأنا بحاجة إليه ، فلا علي أن آخذه ، لكن لما أراد أن ينزل دون أن يشعر مد يده ، ونقد الشائق هذه الزيادة العشرين بنساً ، ابتسم السائق ، وقال له : ألست إمام هذا المسجد ؟ قال : بلى ، قال : والله حدثت نفسي قبل يومين أن أزورك في المسجد لأتعبد الله عندك ، ولكنني أردت أن أمتحنك قبل أن آتي إليك ، وقع هذا الإمام مغشياً عليه ، لأنه تصور عظم الجريمة التي كاد يرتكبها لو أبقى المبلغ في جيبه ، الحد الأدنى الأدْنى من الورع أنك إن لم تكن بهذا المستوى من الورع فأنت فاسق ، هذا اسمه ورع العدول ، تسقط به العدالة ، ويثبت اسم العصيان ، ويتعرض للنار ، وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء ، هذا الحد الأدنى الذي ينبغي أن تتمتع به من الورع ، يقابله الحرام ، يعني تركت الحرام فقط ، الواضح الجلي ، كإنسان دخل إلى مطعم ، وأكل ، ولم يدفع الثمن ، لو قال : نسيت فلا مانع ، عُد وادفع الثمن ، لم يعبأ دخل بأكل المال الحرام ، هذا الورع الأول .
المستوى الثاني : ورع الصالحين :
الورع الثاني هو ورع الصالحين ، وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم ، ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر .
الإشارة حمراء ، وتابع السير في الليل ، فإذا بشرطي يكمن للمخالفين ، ضبطه بمخالفة ، أعطاه مبلغاً من المال كرشوة ، يقول لك : هذه الرشوة بلوى عامة ، لا ، كان بإمكانك أن تتقيد ، لكنك آثرت أن تتجاوز ، فلما ضبطت دفعت رشوة لست مضطراً أن تدفعها ، الفتوى عند الضرورة من أجل أن تتلافى ظلامة يمكن أن تدفع المال ، لكن هذه ليست ظلامة ، أنت بإمكانك أن تتلافى هذه المخالفة ، هذا الورع ورع الصالحين ، كان من الممكن أن تتلافى ، وما تلافيت ، وقعت في ظلامة ، وقد تكون حجز مركبة ، وقبيل العيد ، وأنت بحاجة إليها ، ولكنك خالفت ، طبعاً هناك أمثلة كثيرة .
هناك حالات نادرة جداً ، أن إنساناً أمين صندوق جمعية تعاونية معه مئة مليون ، أين يضعها ؟ هناك فتوى بوضعها في البنك ، لكن حينما تدفع المبلغ ، وفي مكان آمن مئة بالمئة ، فأنت معك فتوى ، لكنك كان من الممكن ألا تحتاج إلى هذا الوضع ، هذا ورع الصالحين .

المستوى الثالث : ورع المتقين :
أما ورع المتقين فما لا تحرمه الفتوى ، ولا شبهة في حله ، ولكن يخاف منه أداءه إلى محرم .
هناك جهاز مفيد جداً ، وفيه ضرر كبير ، وأنت واثق من نفسك أنك لا تستخدمه إلا في الوجهة الصحيحة ، لكن يمكن أن يأتي ضيف أو أن يستخدم في غيبتك هذا الجهاز في جهة أخرى ، مادام تحت السيطرة ، وأنت تمسك به فما مِن مشكلة ، لكن يمكن أن يتطرق احتمال أن يستخدم هذا الجهاز في وجهة لا ترضي الله ، هذا الورع الثالث ورع المتقين ، وهو ما لا تحرمه الفتوى ، ولا شبهة في حله ، ولكن يخاف منه أداءه إلى محرم ، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس ، وهذا ورع المتقين .
التورع عن الطعام المشبوه :
أخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من الصدقة ، وكان صغيراً ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : كَخ كخ ، ألقها ، طفل غير مكلف ، واشتهى تمرة ، لكن النبي أدّبه بأدب الإسلام ، هذا من مال الصدقة ، ويروى أن النبي عليه الصلاة والسلام وجد تمرة على سريره ، فقال : يا عائشة ، لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها .
قد يأتيه طبق من تمر الصدقة ، وقعت منه هذه التمرة ، فقال :
(( لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها )) .
[ متفق عليه عن أبي هريرة ]
فهذا ورع المتقين .
التورع عن الزينة :
من ذلك : التورع عن الزينة ، لأنه يخاف منها أن تدعو إلى غيرها ، وإن كانت الزينة مباحة في نفسها .
هناك أشياء حلال مئة بالمئة ، لكن فيها احتمال أن يتطرق إليها الحرام ، فتركها ورع المتقين .
من هذا الورع امتنع الإمام أبو حنيفة عن أن يستظل بظل بيت مرهون عنده .
بالمناسبة ، الرهن ينبغي ألا ينتفع به ، فإذا انتفع به اقترب من الربا ، فأبو حنيفة النعمان ورعه دعاه إلى ألا يستظل بظل بيت مرتهن عنده .
ومرة ثانية أيها الإخوة ،
(( وركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط )) .
[ الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال ]

ومرة ثالثة : من لم يكن له ورع يصدّه عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله .
(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا )) .
[ ابن ماجه ]
والنص الآخر : ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام .
لأنك إذا كنت ورعاً كان الطريق إلى الله سالكا ، والخط بينك وبينه سالكا ، وهاتفك فيه رنة إذا كنت ورعا ، وإذا لم يكن لك ورع فهو مقطوع الخط ، مهما كان هاتفك غاليا ، وله قيمة ، مادمت بورع فالخط ساخن ، وهناك اتصال مع الله عز وجل .
قليل من الورع خير من كثير من العبادة ، لأن الورع موصول ، والدين كله اتصال بالله عز وجل ، وغير الورع محجوب ، ولو أدى عبادات ظاهرة .

خلاصة الورع :



أهم شيء ورع المال ، الورع كله يلخص بكلمة واحدة : يا سعد ، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، وأشد أنواع الورع في الدخل ، حرر دخلك من الحرام ، والمعاصي كلها تنصب في حقلين ، معاصي كسب المال ، ومعاصي النساء ، فكل الورع في هاتين الحقلين ، فكن عفيفاً ، ولا تنظر إلى الحرام نظرة ريبة ، وكن ورعاً في كسب المال ، والله عز وجل يكافئ الورع مكافآت كبيرة جداً ، وهو أساس الدين الورع .

http://www.nabulsi.com/text/03quran/...6/ram6-15a.php