الرواية بوصفها أداء لغوياً
د. صلاح صالح: الروايــة المكتوبـة بأكثـر من لغـــة نـادرة

استعمال المحكيات بـات ظاهـرة

من المنطلق ان الرواية مكونة من مادة لغوية بحتة والطبيعة اللغوية للرواية هي التي تدرجها في خانة الأدب قبل أي اعتبار آخر، فامتياز الرواية على سواها من فنون القول يتمثل في ان الرواية عملية تخليق جملة من العوالم الموازية للعالم الواقعي ولكن هذه العوالم البديلة التي أعيد انتاجها وتشكيلها روائياً لا يمكن ان تكون موجودة في غير لغة، لذلك كان عنوان «الرواية بوصفها أداء لغوياً»، محوراً أساسياً تناوله د. صلاح صالح في ندوة الادب العربي التي عقدت مؤخراً على هامش اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الادباء والكتاب العرب. وقد أكد في هذا البحث ان العالم المخلوق بواسطة اللغة تحكمه بكل بساطة قوانين اللغة التي يتشكل منها وجوده خلافاً للعالم الطبيعي المحكوم بقوانين الفيزياء الكيمياء والعضوية، ولأن ما يميز الانسان هو قدرته على النطق وممارسة الاداء اللغوي يؤكد د. صالح ان هذا ما يجعل فن الادب بأجناسه كافة في مستوى عال من مستويات الاداء اللغوي لدى البشر، وما اللغة برأيه المستعملة في الادب إلا وسيلة لإنتاج النسق الجمالي عبر الأدب، ويؤكد ان ما يجعل الادب ادباً هو طريقة التنظيم التي تخضع لها الانساق اللغوية المجتناة من الحقل الكلي للغة فيكون الادب وفق هذه الرؤية نظاماً داخل نظام.. ويوضح د. صالح ان اللفظة في القصيدة مجرد وسيلة، وبالتالي من الأولى ان تكون كذلك في الرواية التي تتضاءل في انتاجها عملياً العناية باللغة تضاؤلاً بيناً قياساً إلى العناية المعتمدة في انتاج الشعر على أساس ان يمنح الرواية صفتها الروائية يقع خارج اللغة.

ويشير إلى ان الطبيعة اللغوية للرواية بوصفها وجوداً لغوياً متميزاً بذاته داخل صفحتي الغلاف يقتضي من كاتب الرواية عناية باللغة توازي عناية الشاعر بلغة قصيدته، والرواية برأيه شكل فذ من أشكال الاداء اللغوي القائم على مبدأ تعدد مستويات الاداء أو هي أكثر دقة في تعدد اللغات والاختلافات النوعية بين أدب وأدب على أساس الاختلاف النوعي بين اللغات المستعملة في انتاج الآداب مع الاشارة إلى ان ترجمة تلك الآداب إلى لغة واحدة هي ترجمة تعجز عموماً عن منحها صفة التجانس فالرواية بجمالياتها هي الأقل تأثراً بطبيعة اللغة المستعملة في تأليفها والأقل تعرضاً للفقد في حالة الترجمة إلى اللغات الأخرى ومع هذا نجد انها تعاني المأزق ذاته الذي يعانيه الشعر المترجم لتنشأ الفروق بين الروايات المترجمة إلى العربية فمثلاً على أساسين الأول: هو طبيعة اللغة التي كتبت بها الرواية أول مرة، والثاني: هو فرق السوية الفنية بين رواية ورواية بغض النظر عن اللغة الاصلية، مع تأكيده على ان الشعر المقفى يفقد وزنه وقوافيه عند ترجمته ولا يمكن القول أيضاً ان الرواية العربية تحتفظ بكل جمالياتها إذا ما ترجمت إلى لغات أخرى وهذا ما يلحظه الجميع عند قراءة الروايات العربية التي ترجمت إلى لغات أخرى.
وباتجاه آخر يشير د. صالح إلى ان الرواية الواحدة المكتوبة بأكثر من لغة هي رواية نادرة عموماً غير انها موجودة، فهناك روايات روسية مثلاً تستخدم شخصياتها عبارات بالفرنسية.. وروايات فرنسية تضم عبارات بالانكليزية والايطالية، ويعتقد ان المثال الأبرز في تعدد اللغات الموجودة في الرواية، بالإضافة إلى تعدد مستويات الاداء في اللغة الواحدة، هو ما نجده في بعض روايات سلمان رشدي حين استعمل في بعض رواياته أكثر من خمس وعشرين لغة بما فيها العربية!؟. وهنا يؤكد د. صالح ان اللجوء إلى استعمال أكثر من لغة في الرواية يأتي عكساً لواقع التنوع الثقافي الذي يعيشه ابناء العصر وواقع التمازج الكبير لغوياً واقتصادياً وسياسياً في عالمنا المعاصر.

مستويات الأداء
ميز د. صالح بين مرحلتين عاشتهما الرواية العربية بخصوص أدائها اللغوي: الأولى هي مرحلة البدايات ومعاناة البحث عن الكينونة وهموم الرسوخ ... الخ وفي هذه المرحلة كانت لغة الرواية عموماً محكومة بقدر كبير من التجانس الذي شكل قناعاً أو جداراً سلب الرواية امكانية الشف عما يعتمل في دواخلها من تنوع العوالم، في حين ان المرحلة الثانية وقد اعتبرها د. صالح مرحلة الرواية الناضجة التي انتجت بعد هزيمة عام 1967، وهي ليست متجانسة من ناحية طرائق تعاطيها مع اللغة ولكنها تضم عدداً وفيراً من الأمثلة على تنوع مستويات الاداء اللغوي بوصف ذلك سبيلاً لانتاج تنوع الشخصيات وتنوع العوالم وبوصف ذلك أيضاً تجلياً وانعكاساً أو تعبيراً لذلك التنوع.
وقد وضع د. صالح الاداء اللغوي لرواية المرحلة الثانية في سبيلين أساسيين: أداء الشخصيات والصيانة الكلية للرواية.
وقد أشار إلى ان الاداء اللغوي للشخصية الروائية لا يتحدد فقط بطبيعة الشخصية ومواقفها على المستويات الاجتماعية والثقافية والنفسية بل وإلى درجة كبيرة بطبيعة الآخر وطبيعة أدائه اللغوي على أساس الطبيعة الحوارية للكلمة التي تتحدد في معظم الأحيان بكلمة الآخر حيث يؤكد الباحثون ان المتكلم لا يأخذ اللغة من القاموس بل من فوق شفاه الآخرين في سياقات الآخرين. ويرى د. صالح ان الروايات العربية التي حاولت استثمار تنوع مستويات أداء الشخصية الواحدة هي روايات قليلة إذ نجد تنوع الأداء قائمة عبر تنوع الشخصيات، أما الصياغة الكلية للعمل الروائي فهي التي تطرح مشكلات مستويات الاداء اللغوي العربي برأيه أكثر مما يمكن ان تفعل الانساق الحوارية المعقودة على ألسنة الشخصيات حيث صار من الشائع ان تجري حوارات بالمحكيات العربية على مختلف ألسنة الشخصيات الروائية إلا أن استعمال هذه المحكيات بطرح مشكلات فعلية تمضي ببعض الروايات إلى نفيها من الإطار الادبي العربي ويعتقد د. صالح ان مشكلة الاداء اللغوي لا تقتصر على استحداث حواجز لغوية وثقافية داخل حيز شائع على مستويي الزمان والمكان، وهو حيز متجانس لغوياً وثقافياً، ولا يقتصر كذلك على استنفار الحاجة الملحة إلى ترجمتها من محكية إلى أخرى، بل تتجاوز ذلك إلى صلب الكينونة الادبية للعمل المكتوب وبكل الأحوال قام د. صالح بتوزيع مستويات ممارسة الاداء اللغوي في الرواية العربية ضمن مستويات ثلاثة كبرى: الأول هو مستوى الاداء الفني للغة الرواية ويتفاوت هذا الاداء من كاتب إلى آخر. ومن عمل إلى آخر. ويرى د. صالح انه من الطبيعي ان يكون التفاوت في مستويات الأداء الفني للغة هو الناظم الأكبر في الرواية إذ من غير الممكن ان يتمكن الكاتب من المحافظة على سوية واحدة في أعماله، وإذا ما استطاع كاتب إنجاز ذلك في أعمال عدة، فالسوية الواحدة «الافتراضية» تؤدي إلى نفي الصفة الدرجية عنها، من خلال نفي التراتب الذي ينشأ عن التفاوت بالضرورة.. وعلى وجه العموم يعتقد د. صالح ان المستوى الفني لا يثير قضايا تتخذ صفة المأزق وإنما تندرج قضاياه في سياق معالجة معظم القضايا الفنية المتعلقة بالفن الروائي، ويجد في هذا السياق د. صالح أمثلة وفيرة تزخر بها الرواية العربية المعاصرة وقد قام بتوزيعها في اتجاهين رئيسيين:
الأول : الذي يجعل لغة الرواية لغة بذاتها أو يجعلها دعامة أساسية من دعائم بناء جماليات الرواية، وهذا موجود بوفرة كبيرة في الأعمال الروائية، وقد ضرب مثالاً على ذلك أعمال ادوار الخراط وحيدر حيدر، في حين ان الاتجاه الثاني يحرص على تنقية لغته من الجماليات المنحدرة إليها من جماليات الشعر بقصد ابراز بقية العوامل الأخرى التي تسهم في جعل الرواية رواية وبقصد الاقتراب قدر المستطاع من اللغة المستعملة في شوارع الحياة بوصفها اللغة الأكثر تداولاً ويسوق في هذا الاتجاه معظم الروايات المعاصرة وكما في أعمال صنع الله ابراهيم ونبيل سليمان والطاهر وطار وفواز حداد.. إلى جانب الاتجاه الذي يسعى فيه الكاتب إلى استثمار قسط كبير من اللهجات المحكية المنحدرة من العربية الفصيحة تحويراً أو اختصاراً أو عبر اللجوء إلي قلب أصوات اللغة واستبدالها بحيث يسعى أولئك الكتاب إلى تذكير القارىء بالأصل الفصيح للمفردة المستعملة ومن الذين برعوا في ذلك يوسف أحمد المحمود.. ويرى د. صالح ان استعمال المحكيات العربية بات يشكل ظاهرة، ومن أهم أسباب تعاظم انتشار المحكيات المحلية برأيه هو حاجة الناس إلى استعمالات ميسرة للغة، ولكن هذا لا يعني تسويغ الأفراط في استعمالها، خاصة وان ابرز المشاكل الناجمة عن استعمال المحكيات في الصياغة الكلية للعمل الروائي يتمثل في استنفار الحاجة إلى الترجمة من محكية إلى أخرى.

متابعة : أمينة عباس