القصة القصيرة جدا بدعة فنية في إطار فن القصة. و أقول بدعة لأنها شيء مستحدث . و إن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغا للوجود في العصر الحاضر و متطلباته : من سرعة و ضيق للوقت و كثرة الهموم اليومية التي تصرف الإنسان عن مطالعة النصوص الطويلة .... و يحاول البعض الآخر أن يبحث عن جذورها في التراث العربي سواء منه المعاصر أو القديم . بغية إثبات شرعيتها في الوجود . تماما كما حدث في الشعر الحديث في الأربعينات و الخمسينات حين رفِض من طرف شعراء الكلاسيكية . فمال الطرف المدافع لإثبات وجود جذور الشعر الحديث في الموشحات ،و البند ، و النثر الشعري لجبران ، و الشعر المنثور لأمين الريحاني ، و توشيحات المهجريين و الشعرالمرسل لعبد الرحمن شكري...

و لكن ـ عموماً ـ القصة القصيرة جداً وجدت لها مكانا في الكتابة السّردية . و أصبحت تستقطب روادا في الكتابة القصصية . و مهتمين دارسين في مجال التحليل و النقد رغم قلتهم .

و تبعا لذلك ينبغي أن نتعرف أولا على هذا النوع من الفن السردي ، من خلال خصائصه . و نتساءل عن مبدعيه و مميزاتهم .

فالقصة القصيرة جداً عمل إبداعي فني . يعتمد دقّة اللّغة ، و حسن التّعبير الموجز ، و اختيار الّلفظة الدّالة ، التي تتسم بالدور الوظيفي fonctionnel. و التركيز الشديد في المعنى . و التكثيف اللّغوي الذي يحيل و لا يخبر . و لا يقبل الشّطط و لا الإسهاب ، و لا الإستطراد و لا الترادف ، و لا الجمل الاعتراضية ، و لا الجمل التفسيرية . و المضمون الذي يقبل التأويل ، و لا يستقر على دلالة واحدة . بمعنى يسمح بتعدد القراءات ...و وجهات النظر المختلفة ...

إذا كانت القصة القصيرة جدا بهذه المواصفات ، فحتما لن يكتبها غير متمرس خبير باللغة . قاص بارع في البلاغة : متقن للغة المجازية langage figuré متنبه لكمياء الألفاظ ، و فلسفة المعنى ، و عمق الدلالة . قاص لا تتحكم فيه حلاوة الألفاظ فيقتنصها لحلاوتها ، بل لما يمكن أن تخدم به السياق المقتضب . قاص لا يغتر بالقصر المجمل لقصره . أو الإٌسهاب المطول لإسهابه ، و لكن يهتم بالمعنى على أن يقدَّم بنسق لغوي فني في غاية من الاقتصاد . ليمكن القاريء الشّغوف بفن القصّ القصير أن يقرأ داخل اللغة intra - l'lnguistique لأنّ القراءة السّطحية لا تجدي نفعاً إزاء هذا النوع من القص .إذ لا بد من قراءة ما بين السطور القليلة . و خلف الكلمات المعدودة . فهناك لغة التّضمين homonymique

و إذا كات القصة القصيرة جدا و صاحبها كما رأينا . يبقى من الضروري أن نقول صراحة إن هذا الفن ليس من السّهولة في شيء ، . لكن كم هو سهل على من يستسهله ، فيكتب جملا تدخل في إطار ما يعرف بالكتابة البيضاء écriture blanche التي لا تدل إلا على اللاشيئية nullité و يعتقد أنّه دخل صرح القصة القصيرة من بابها الواسع . إلا أنّه ينبغي أن نقول بأنّ رواد هذا الفن في عالمنا العربي قلة قليلة . أما الكثرة الكثيرة ، فهي من تكتب خارج دائرة هذا الفن . و تعتقد نفسها ـ في غياب النقد و المتابعة ـ أنها داخل الدائرة . و هذا ما نجده في منتدى القصّة القصيرة جدا في ( واتا )
و أعتقد أن الذي لم يزاول كتابة القصة القصيرة و القصة ، و الذي لم تتوفر فيه بعض من الصّفات الآنفة الذكر . هو كاتب يبحث له عن اسم في فن لا يعرفه. و في لغة لا يحسن سبكها و صياغتها، لأنها لغة الملمتر و أقل .

أما لماذا الأجيال السابقة لم تستسغ هذا الفن ؟ فالأمر بسيط . الإنسان و ما تعود . فالذي عايش قصص و روايات نجيب محفوظ ، و يوسف السباعي و عبد الحليم عبد الله و إحسان عبد القدوس و توفيق الحكيم ... يصعب عليه استساغة هذا الفن الجديد . تماماً كما وقع لجيل الأربعينات و الخمسينات و الستينات مع الشعر الحـر . و المسألة تبقى دائماً مسألة ثقافة و متابعة و دراسة و نقد . و على ذكر النقد، لو بحثنا لوجدنا عدد الدراسات في هذا الفن ، تكاد لا تذكر .

مع خالص تحياتي
د مسلك ميمون