منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    رؤية خليجية لمنهج الإصلاح المجتمعي

    رؤية خليجية لمنهج الإصلاح المجتمعي




    رؤية خليجية لمنهج الإصلاح المجتمعيتمت الإضافة بتاريخ : 18/11/2008م
    الموافق : 20/11/1429 هـ نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيد. أحمد بوعتابه الزعابي - مستشار قضائي
    يرتكز منهج الإصلاح المجتمعي على تحديد ما يلي: أولاً: المرجعية التي يقوم عليها الإصلاح، ثانيًا: سمات الدعوة الإصلاحية، وأخيرًا: الأسلوب الذي يتبع في الإصلاح.
    أولاً: المرجعية التي يقوم عليها الإصلاح:

    في المقام الأول، يجب أن ينطق الإصلاح في مرجعيته من رسالة الإسلام، حيث يقول الله - تبارك وتعالى - على لسان النبي شعيب (عليه السلام): (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) (هود: 88) ، فمفهوم الدين لا ينفصل عن الحياة.
    إن الدين من حيث هو مفاهيم عقدية وتصورية، وقيم أخلاقية، وأحكام تشريعية - يعد رسالة تستمد أصولها من مصادرها الشرعية، وهما كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وهذه الرسالة تحتاج إلى بلاغ، والبلاغ لا يتم إلا بقيام دعاة يقدمون رسالتهم بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، فالدين بهذا الاعتبار هو حل لمشكلة يعانيها كل بني الإنسان، والحاجة دائمًا تدعو إلى بسط خطاب الدين من هذا المنظور الحضاري، فلا غنى للإنسان عن الدين، وعن إجاباته حول مشكلات الوجود، وعن إمداداته الروحية التي يتزود بها الإنسان لإعمار الأرض، فلا يقبل الدعاة تبنى الفكرة العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة، فهذا الربط جزء من الدين، ومن فرّط في دينه، فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة.

    الدين بهذا الاعتبار يحتاج إلى دعوة مستمرة تخاطب الإنسان، مهما بلغ موقعه حتى يصل إلى الجميع، وليس من شرط هذا الوصول أن يكون فهم النصوص مقرونًا بقراءة معينة، بل هناك رسالة واضحة في هذا الباب، أهم محتوياتها هو ربط الناس بالخالق (سبحانه وتعالى) وبكتابه وبرسالة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) ومنهجه، ثم التذكير باليوم الآخر، وبالأوامر والنواهي المتفق عليها والمعلومة من الدين بالضرورة، بهذا يكون الخطاب دعوة للجميع، يندرج تحتها كل الناس، سواء منهم من نال من الدين بحظ وافر، أو من اغترف بقدر بسيط من معينه، وبناء على هذا المنهج يكون مضمون خطاب الدعوة هذا جامعًا لكل الأطياف، وتصبح قضايا الواقع ضمن دائرة الاجتهاد، وليست ضمن دائرة العقائد والثوابت، كما يقتضي هذا المنهج بيان أن مجال الاجتهاد مفتوح في الفروع، وأن المواقف تجاهها تجعل من الطبيعي حصول خلاف في الفكر والتصور لجملة من القضايا الفرعية، ومن الجائز تقبل هذا التباين في الفروع، فتعدد الرأي يؤدي دورًا إيجابيًا في الحراك الحضاري لأية أمة من الأمم.

    ثانيًا: أهم سمات الدعوة الإصلاحية:

    رؤية لأهم سمات الدعوة الإصلاحية: (نحو دعوة: إسلامية، وسطية، إصلاحية، وطنية، ذات رسالة حضارية)

    تقوم الدعوة الإصلاحية الحقيقية كونها (دعوة إسلامية)، وفي مجتمع إسلامي على الاعتماد على ثوابتها الإيمانية والاعتقادية وفق مذهب (أهل السنة)، وفي ضوء فهم منهج سلف الأمة الأخيار المشهود لهم بالصلاح والرشد، وكما ورد في الحديث الشريف عن العرباض بن سارية (رضي الله عنه) قال: (وعظنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا، قال: قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ)[1]، فمنهج السلف الصالح واضح الأركان، فهم لا يكفرون أحد ممن نطق بالشهادتين، ولم ينكروا شيئًا معلومًا من الدين بالضرورة، وإن جوهر الإيمان توحيد الله (تبارك وتعالى) وتنزيهه، والقبول والتسليم بماجاء في كتابه، وما صح عن نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، كما أن من منهجهم نبذ البدعة في الدين، وهي ما لا أصل لها سواء كانت بالزيادة أو النقصان، (وكل بدعة ضلالة)[2].

    كذلك ينبغي الاستناد إلى فقه (مدرسة المقاصد)[3]، الذي ينير العقل لفهم النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية، والتي تبحث عن مقصد النص قبل إصدار الحكم الشرعي، كما تفهم النص في ضوء سياقه وملابساته وأسبابه، وتميز بين المقصد الثابت والوسيلة المتغيرة، كما تلائم بحكمة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، وتميز دائمًا بين شؤون العبادات وشؤون المعاملات، فالأصل في العبادات الحظر إلا ما أذن به الشارع، حتى لا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله، والأصل في المعاملات الإذن والإباحة إلا ما نص الشرع على تحريمه، كما أن الأصل في العبادات التعبد بالنص، وعدم النظر إلى العلل والمعاني، في حين أن الأصل في العادات والمعاملات هو النظر إلى العلل والمعاني والمقاصد.

    وتقوم كذلك على تقدير المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية للناس، تلك المصالح التي تقوم على حفظ المقاصد الكبرى وفق الترتيب التالي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، ثم المال، يقول ابن القيم (رحمه الله): (إن مبنى الشريعة وأساسها على مصلحة العباد في المعاش والمعاد، وأنها عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصالح كلها، وأية مسألة خرجت من العدل إلى الجَوْر، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن الحكمة إلى العبث، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة في شيء، وإن أدخلت فيها بالتأويل)[4]، وفي سياق النظر العقدي والفقهي يتم السير على منهج أولئك الذين ذكرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)[5].

    الدعوة وسطية:

    الأصل أن الدعوة تتسم بالوسطية، وتعني تبني التوازن الإيجابي في كل المجالات، اعتقادية وعملية، مادية ومعنوية، فردية واجتماعية، فالعمل - في حياة الفرد - على الموازنة بين الروح والمادة، بين العقل والقلب، بين الحقوق والواجبات، بين الدنيا والآخرة، لقول الله تعالى: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)[6]، وقوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)[7].

    كما أن الوسطية تعني تبني إقامة الموازين القسط بين الفرد والمجتمع، فلا تضخم مصالح الفرد على حساب مصلحة المجموع، كما فعلت الرأسمالية، ولا يعطى المجتمع من الصلاحيات والسلطات ما يجعله يضغط على حقوق وحريات الفرد، حتى تذبل حوافزه ومواهبه، كما فعلت الاشتراكية، بل يُعْطِي الفرد حقه، والمجتمع حقه، بلا طغيان ولا إخسار.

    إن التوسط من مقاصد الدين، وأما التطرف والتشدد والغلو في الدين، فهو مهلك للفرد وللجماعة، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)[8]، كذلك فإن الانحلال عن عروة الدين وقيمه وعقائده وشرائعه مهلك في الدنيا والآخرة، لهذا يتبنى الدعاة الفكر الوسطي في كل مجال؛ فهو الذي يصلح للأمة، وتصلح به الأمة، فهذا الفكر: وسط بين دعاة المذهبية الضيقة، ودعاة اللامذهبية المفرطة، وبين أتباع التصوف وإن انحرف وابتدع، وأعداء التصوف، وبين المحكمين للعقل، وإن خالف النص القاطع والمغيبين للعقل ولَوْ في فهم النص، وسط بين المبالغين في التحريم، حتى كأنه لا يوجد في الدنيا شيء اسمه حلال، والمبالغين في التحليل حتى كأنه لا يوجد شيء حرام!

    وسط بين المغالين في تقديس التراث، وإن كان فيه قصور البشر، والمُلْغِين له وإن تجلّت فيه الهداية، وسط بين دعاة التشدد ولو في الفروع والجزئيات، ودعاة التساهل ولو في الأصول والكليات، وسط بين دعاة التجديد والاجتهاد، وإن كان في أصول الدين وقطعياته، وخصوم الاجتهاد (دعاة التقليد) وإن كان في القضايا المعاصرة التي لم يعرفها السابقين، وسط بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط، ودعاة الانغلاق على النفس بلا مبرر، وبين دعاة الغلو في التكفير حتى كفّروا المسلمين، والمتساهلين فيه ولو مع أعداء المسلمين.

    وينضج هذا الفهم الوسطي وتترسخ جذوره بتربية الأجيال تربية إسلامية وسطية معتدلة، تعتمد أداء الفرائض الدينية، ودراسة كتاب الله وسُّنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) دراسة واعية، والاطلاع على التاريخ والتراث الإسلامي من مصادره الموثقة، بتوجيه من المختصين وأهل العلم، واعتماد المناهج التي تركز لدى طلبة العلم تصورًا سليمًا في الفكر والاعتقاد، مع ضرورة ربط الدراسة بالواقع المحيط (واقع المسلمين)، وإمكاناته المادية والبشرية، والتعرف على مواطن ضعفه وقوته، ويتضمن المنهج الاعتناء أيضًا بجانب الفن والإعلام: فالكِتاب، والمقالة، والنشرة، والموعظة، والرسالة، والقصيدة الشعرية، والأنشودة، والمسرحية، وغير ذلك، إذا توافرت فيه خصائص الفن النافع تقوي من تربية المجتمع، فالفن والإعلام هو الغذاء المتجدد لمواصلة المسيرة، والترويح عن النفس، فالأعمال شاقة والنفوس تمل، والفن النافع يجدد النشاط، ويبعث الحركة، ويثير في النفس المعاني الرفيعة والتدبير السليم، كل ذلك من عوامل الجِد لا الهزل، فمن الأولويات الاهتمام بالتربية من قبل جميع المؤسسات الوطنية، وخاصة الدعوية والإعلامية سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فهي أَضْحَت توجه الأفكار والأذواق والميول، بل تقود المجتمع إلى ما تتبناه، فيكون توجيهها لخدمة التربية من خلال برامج مدروسة ومنتقاة بعناية، تبتعد عن الإثارة والتضليل، محورها الصدق في الخبر، والرشد في التوجيه، والاعتدال في الترفيه، والالتزام بالقيم.

    الدعوة (إصلاحية):

    من المرتكزات الهامة أن تكون الدعوة إلى الخير والإصلاح الإيجابي المتدرج تطبيقًا لأمر الله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[9]، وقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[10]، وقوله تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)[11]، وقوله تعالى: (كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[12]، فالدعوة فريضة من فرائض الإسلام، والدعاة يحملون على عاتقهم هذه الفريضة، دون أن يحتكروا الدين على أنفسهم، وإلى جانب هذا فإن العملية الإصلاحية ذاتها تعتبر حاجة من الحاجات الحضارية، وضرورة من ضرورات العصر، التي تقرها كل الأمم المتمدنة المعاصرة بشرط نبذ الحزبية البغيضة التي تقوم على التعصب والتقاطع والضرر بالمصلحة العامة لمصالح ضيقة، بل الأصل التعاون على البر والتقوى، كما أمر الله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[13].

    إن الدعوة تحمل عمليتين رئيستين، الأولى: الأمر بالمعروف، وهو عملية حفظ بكل ما تحمل الكلمة من معنى، تستهدف تحصين القيم الثقافية التي تتبناها الأمة، وصارت في حكم المعروف، والعملية الثانية: تتعلق بالنهي عن المنكر، وهو إنكار القيم المتعارضة مع جوهر نظام القيم الثقافية للأمة، مما يدعو الشرع إلى النهي عنه، ثم يستنكره الناس.

    إنها القيم الأصيلة للإسلام وللمجتمع القائم عليها عبر الأجيال، وذلك الحفظ ينطلق من قول الله (تبارك وتعالى): (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)[14]، وقد شبّه الرسول (صلى الله عليه وسلم) أبناء المجتمع كمن ركبوا سفينةٍ واحدة، (فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإنّ تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)[15].

    لقد استمرت مسيرة الإصلاح والقيام بواجبه الحضاري، رغم الصعاب، انطلاقًا من الإيمان العميق بخيرية الدعوة، وأداءً للمسؤولية العظيمة التي أمر بها الإسلام والقرآن والرسول (عليه الصلاة والسلام)، واقتداءً بالأئمة المصلحين الذين بذلوا كل غالٍ ونفيسٍ، وقدموا التضحيات العظيمة لترسيخ قيم الدين والأخلاق والهوية الإسلامية والعربية في مجتمعاتهم طوال قرون.

    وعلى الدعاة اليوم أداء الواجب بأن يستمروا على الدعوة إلى دين الإسلام والتمسك بتعاليمه الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، أكثر من أي وقت مضى، وذلك خدمة لأهلهم ومجتمعهم وبلدهم، ويصرون كل الإصرار على التمسك بالدعوة إلى قيم الدين ومبادئه وأخلاقه السامية، وعلى قيامهم بواجبهم على أحسن ما يكون، رضي من رضي من الناس أو سخط، ولا يخافون في ذلك لومة لائم، رغم علمهم أن الدعوة عمل صعب لا يقوم به إلا الإنسان الذي أصلح نفسه أولاً، ثم ساهم في إصلاح المجتمع من بعد، وأما فاقد الشيء فلا يعطيه، على أن يقدم الدعاة رسالتهم بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وتقديم النصح والإرشاد والتوجيه، امتثالاً لقول الحق (تبارك وتعالى): (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[16]، وقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)[17].

    الدعوة (وطنية):

    بما أن الدعوة إلى الإصلاح تنطلق من مجتمعها الذي ترسخت فيه قيم المواطنة، والذي يرتكز على أسس الهوية الوطنية العربية الإسلامية، فالدعاة يجب أن يعتبروا أنفسهم تيارًا وطنيًا يبتغي تقوية وطنهم، وترسيخ مكانته، وحفظ وطنيته، فالوطنية في أصلها حالة مشتركة ومتشابكة بين جميع أبناء الوطن الذين يعيشون فيه، ويتحملون جميعًا صعوبات الحياة وتحدياتها المستجدة، كما تحملها آباؤهم وأجدادهم، فالوطنية تمثل ولاءهم وروحهم المشتركة في الوطن، فالوطني من يقدم كل ما يستطيع من واجبات وخدمات لوطنه؛ لكي يساهم في بناءِ حاضر قوي ومستقبلٍ متقدمٍ لوطنه، ويذود عنه كل ما قد يلحق به ضرر أو آفات أو مشكلات، سواء كانت آنية أو مستقبلية، وهي بهذا الشعور وبتلك المعاني لا تتناقض مع مبادئ الإسلام.

    إن معظم الدعوات الإصلاحية اليوم في المنطقة وطنية المنشأ عند قراءة تاريخها، حيث نشأت بين أهلها، وحملها رجال ونساء الوطن، وانتشرت بينهم ونقلوها عبر أجيال ضحّوا من أجل رفعة وطنهم بكل ما استطاعوا من جهد، وسخروا إمكاناتهم وطاقاتهم وعلومهم لخدمة أهلهم الموجودين معهم في سفينة المجتمع الواحد المبحرة إلى بر الأمان بعون الله تعالى، مع قيامهم بواجب التنبيه لركاب السفينة من الغفلة عند هبوب الرياح العاتية على سفينتهم، فالدعوة عليها أن تجعل أولى اهتمامها وطنها ومجتمعها وحمايته، فالأقربون أولى بالمعروف، ويكون ذلك بتقوية مكونات الوطن وعلاج ضعفه ومشكلاته، وفق رؤية فاحصة وقيم فاضلة أصيلة معلنة، ولا تخذل الدعوة النبيلة وطنها أبدًا، بل تجعل خدمة الوطن وهمومه أكبر أولوياتها، فالأصل أن ولاء الدعاة لوطنهم متراكم منذ زمن الأجداد، وهذا يتفق مع تعاليم الإسلام ومبادئه العظيمة، ومع الالتزام بقوانين الوطن ونظامه، والوقوف مع شرعية الحكم الدستوري والنظام القائم المستند كذلك على شرعية تاريخية، والقائمة على التراضي بين أبناء المجتمع ومن يحكمهم، كما ينطلق الداعية في ذلك من الوعي بالمبدأ الشرعي الذي يؤكد على طاعة ولاة الأمر، وعلى ألا ينازع الأمر أهله، المستمد من قول الله - تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[18]، إنها طاعة واعية، وليست طاعة عمياء؛ لأنها تقوم على ضوابط الشرع الحنيف، وفي حدود طاعة الله تعالى رسوله، كونها مقترنة بهما، فالدعاة وفق هذا الاعتبار والضابط الهام لن يتخلوا عن تقديم واجب النصح والإرشاد لأئمة المسلمين وعامتهم، وذلك بالتي هي أحسن، وبالحكمة التي يقتضيها كل موقف.

    الدعوة ذات رسالة حضارية:

    إن البعد الوطني للدعوة لا يعني الانغلاق عن الحضارة الإنسانية أو التراجع عن الإسهام في تطورها وترشيدها، وإن التأكيدات السابقة على المرجعية والثوابت الإسلامية والوطنية، لا تعني أبدًا الانغلاق على الذات، والاستغناء عن الاستفادة من تجارب الأمم وخبرات الشعوب، ومعطيات العصر الحاضر، فمن مرتكزات الدعوة اليوم خوض غمار التنافس، ليكون لها فيه دور وتأثير، كما تنفتح على التجربة الإنسانية والعلوم التي أثمرتها في مجال النظريات والآليات والضمانات والتجارب والاتجاهات الحديثة، والتي تتّصل في أغلبها بمجالات حماية الحقوق والحريات العامة، والنظم والبرامج والوسائل الحديثة التي تحقق الحياة الإنسانية الكريمة، وبناء العلاقات المستندة على أدوات العصر، انطلاقًا من أنّ (الحكمة هي ضآلة المؤمن أنّا وجدها فهو أحقّ الناس بها).

    وما يأخذه المسلمون من الفلسفات والأنظمة والتجارب البشرية مشروط بأن لا يعارض ثوابت النصّوص الشرعية الصحيحة، بل ينبغي السعي كذلك في أن يجتهد الدعاة والمجتمع الوطني بأن يضفي على تلك المقتبسات من روحه وقيمه وتراثه ما يجعلها جزءًا من منظومته، فدعاة الإصلاح هم دعاة قيم الحرية الحقيقية وحقوق وكرامة الإنسان والعدل والوطنية الصحيحة والديمقراطية البناءة والقيم الأخلاقية الناصعة، والسلم المجتمعي، والاعتدال، كما أن النظرة الإيجابية تجعل الرؤية للعالم الآخر المعاصر أن لديه خيرًا ينعم به أولئك، ويحرم منه كثير من الناس المستضعفين، في مجال الخبرات والتراتيب والنظم والإبداع والعلوم العصرية، فمن الأجدى نقل ذلك الخير، وتلك العلوم والنظم والتجارب، بل السعي للأفضل، فالدعاة ليسوا كما يفعل البعض الذي يقدم مصالحه، وينشغل بفتن الدنيا وأموالها، ثم لا يحرك ساكنًَا على واقع يموج بالتحديات والمشكلات التي واضح مداها وعجائبها.

    إن كون الدعوة الأصيلة التي تتمسك بجذورها وخصوصيتها واستقلاليتها، لكن لا يعني ذلك أن تكون منغلقة على ذاتها، بل لها اقتباساتها من العلوم والاجتهادات والتجارب العالمية، ويعد هذا الأمر ميزة من المزايا المعتبرة؛ إذ إن العولمة ووسائل الاتصال بنت علاقات متشابكة قربت بين البشر، ووضعت جميع العالم في دائرة واحدة، ولا بد من الاستفادة من الخير في العولمة، ومن إيجابياتها وخبراتها حيثما وجدت، وترك شرورها وسلبياتها، لذلك يحرص الدعاة على مد جسور التواصل، وتبادل الخبرات والتجارب والانفتاح على كثير من الهيئات والمؤسسات والجمعيات والحركات الوطنية والإسلامية المعتدلة والهيئات الإنسانية والمهنية والعلمية في مختلف دول العالم، وبالأخص الأقرب فالأقرب، وبهذا ينقل الدعاة خيرات التجربة العالمية؛ لكي يستفيد منها المجتمع، وتساهم في تطوير ذاتهم وتنمية بلدهم.

    ثالثا: المنهج المتبع في الإصلاح:

    لكي يتم ترجمة رسالة الدعوة في واقع الحياة، لابد من السير على (منهج)، فمنهج الدعوة الإصلاحية يقوم على البناء والتعديل الشامل في المجتمع، وفي مختلف قطاعاته ومؤسساته.

    يبدأ الإصلاح من بناء الدعاة لأنفسهم، وذلك بإصلاح ذاتهم، وإعداد أنفسهم لأداء رسالتهم في إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع، وضم جهود الدعاة مع جهود الدولة وفئات المجتمع لتحقيق الإصلاح المنشود، دون أي احتكار (للإصلاح) على أفراد الدعوة ومؤسساتهم فقط، وقد أوضحت التجارب السالفة في (الإصلاح) من خلال المؤسسات الرسمية والشعبية، أن الدعوات الإصلاحية - ولله الحمد - تمتلك مقومات ذاتية للقيام بدورها المكمل في إصلاح المجتمع، حيث:

    · الدعوات الإصلاحية اليوم في عدد من المجتمعات، وخاصة المجتمعات الخليجية، تمتلك رؤية متميزة يعتز ويفتخر بها الدعاة، وتمنحهم ثقة كبيرة في منهجها، وهم في ذات الوقت يحملون ذلك المنهج بتواضع، وعلى الفكرِ النير المعتدل،ِ مما يشكل دافعًا قويًا لعمل الخير وخير العمل.

    · الدعوة لديها رصيد من الخبرة يمكنها من القيام بدورها الهام والداعم والمكمل في الوقت نفسه لجهود الدولة عمومًا في مجالات الحياة، وفي الإصلاح المجتمعي خصوصًا، والمساهمة في تطوير الموارد البشرية، وإيجاد المواطن الصالح، وتحقيق السلم الاجتماعي، وتكميل جهود مؤسسات المجتمع في الإصلاح.

    · الدعوة جزء من الدفاعات الذاتية في المجتمع التي تساهم في التنمية بصورة عامة، والتنمية الفكرية والثقافية والحفاظ على الهوية وترشيد حملة الفكر الإسلامي في المجتمع بصورة خاصة، وتحد من الآثار السلبية للاختلال في التركيبة السكانية وأثارها على هوية الوطن والأجيال، والمساهمة في التفاعل المجتمعي، ومقاومة تغول وتأثير المنطومة العالمية التي تستهدف كذلك عولمة الثقافة والفكر والأخلاق والأعراف.

    ·
    إن ما تحمله دعوات الإصلاح من منهج تجزم وتفتخر بأنه من أفضل المناهج في الأرض للدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى)؛ لأنه يقوم على أسس قوية وقيم ومباديء مستمدة من دين الله (عز وجل)، وإن (منهج الدعوة في الإصلاح) يقوم على:
    1 – منهج الاعتدال.
    2 – منهج الاجتهاد والتجديد.
    3 – منهج المشاركة والتعاون.
    4 – منهج الوضوح والعلنية.
    1 – منهج الاعتدال:
    على الدعوة أن تأخذ روح الاعتدال نهجًا لها، مسترشدة بقول الله (تبارك وتعالى): (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[19]، فالناظر إلى ممارسات دعاة الإصلاح يتأكد لديه تطبيقهم العملي لتلك الروح الإيجابية البناءة في واقع مشاهد وملموس، فالاعتدال مبدأ له أهمية لتحقيق الإصلاح المنشود، ويعتمد على الإقناع بالطريقة العملية، وإن الدعوة يتبناها جيل من الشباب المتعلم الحريص على مصلحة وطنه، ويحمل كثير منهم (شهادات عالية)، ومنهم من درسوا في بلادهم، ومنهم من درس بالخارج، ولديهم الكفاءة والنزاهة والسلوك القويم، وقد اطلع كثير منهم على الأفكار والتجارب الناضجة في تطوير النظم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والقانونية، وخاصة فيما يتعلق بالتعددية الفكرية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وسيادة القانون والمشاركة السياسية والديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني والانفتاح الإعلامي واقتصاد السوق الحر وحقوق المرأة، واتجاهات الإدارة الحديثة القائمة على الكفاءات والتدريب، ومواكبة التطوير والتغيير والشفافية والبحث العلمي والإبداع، واستخدام نظم وتقنيات الاتصال وتبادل المعلومات الحديثة، ومعظمهم يرون أن الإصلاح الأمثل يكون بالتدرج في كافة الجوانب، الإصلاح المعتمد على الحوار والأساليب السلمية للتعبير عن الرأي، واعتماد العمل المؤسسي مع الحفاظ على القيم والثوابت الوطنية العربية والإسلامية.

    إن الدعاة يجب أن يتمسكوا بالنظرة المعلومة من الشرع بالضرورة التي تحرم استخدام أية وسائل من شأنها العبث باستقرار البلاد، ونشر الفوضى والبلبة في المجتمع، كما أن الدعوة المعتدلة تنبذ بل وتتبرأ من أي أسلوب من أساليب التطرف أو إكراه الناس أو إرهابهم، بل ترى ضرورة العمل مع المؤسسات الرسمية لحماية الجميع من الفكر المتطرف الذي يتبنى وسيلة العنف وانتهاك القانون لفرض آرائه، أيًا كان مكان هؤلاء وموقعهم، وطريق ذلك لا يكون إلا بتهيئة مزيد من الحريات المدنية والمشاركة وفتح مزيد من الحوار، ورد الأطراف التي تتبنى نهج الصراع إلى الأصوب؛ حتى لا تقوض تلك الممارسات أسس التلاحم والتعاون على البر والخير والنهضة والتنمية، من خلال نظرتها الضيقة المتطرفة.

    إن الدعوة المعتدلة أرقى من أن تكون حزبًا سياسيًا بالمفهوم المعاصر، فالواقع أن الدعوة اليوم تقف موقف معتدل من شرعية الحكومات القائمة، لكن الأحزاب القائمة اليوم تجعل جلَّ عملها السعي للوصول إلى السلطة، وتبني الحزبية الضيقة التي قد تأتي ذلك على حساب تفويت في مقدرات وتقدم الأمة، فالدعوة اليوم يجب أن تعمل بروح الأخوة وأداء واجبها الوطني والتوجيهي في المجتمع، وتقوية وتحصين مجتمعاتها، وتجعل الوحدة نصب أعينها، وعدم الانزلاق في التشرذم أو التنازع على السلطة، وذلك بالأسلوب والوسائل المتحضرة التي يبنى عليها الإصلاح المنشود، ومن ضمنه الإصلاح السياسي، كما يجب أن يكون منهجها الإصلاحي لا يجيز الطعن أو التشهير بالأفراد أو الهيئات، فالمؤمن ليس بطعانٍ ولا لعانٍ، مع ضرورة الإصرارعلى إظهار وبيان المواقف للناس بموضوعية في القضايا المطروحة، فالحكمة ضآلة المؤمن يأخذها أنّا وجدها.

    2 – منهج الاجتهاد والتجديد:
    على ضوء التصور المذكور سابقًا عن رسالة الإسلام، فإن قضايا الواقع تصبح ضمن دائرة الاجتهاد، وليست ضمن دائرة العقائد والثوابت، ومجال الاجتهاد يعني النظر العقلي المبني على التقدير المصلحي، فالتوافق على هذه القناعة يعني نقل الخلاف في الرأي (التعددية الفكرية) من الإطار العقدي المحكوم بمعيار الحق والباطل، إلى الإطار الاجتهادي المحكوم بمعيار مدى القرب من الأفضل أو البعد عنه، ومن ثم فجوهر الخلاف التزامًا بهذا المنهج لا يتعدى النظر والتقدير والترجيح والتقريب والتغليب كل ذلك للتعبير عن قراءة للواقع، وضمن هذا المنظور المرن لا يكون للخلاف أي أثر على وحدة المجتمع والأمة، وأنه لا شر فيه ولا خطر، إذا التُزِمت آداب الخلاف، بل هو ضمانة للحراك الحضاري الذي يثمر وينتج ويثري ويتقدم بالأمة والمجتمع إلى النهضة، فيبقى الخلاف في الرأي محكومًا بسقف أعلى بحكم أن الثوابت هي أصول لا خلاف فيها.
    أما تلك الفروع، فقد تتحول بحسب الحالات إلى أولوية بحسب الداعي والمسوغ لها، لكنها أبدًا لا تتحول إلى أصول وثوابت، لذلك فالدعوة الواعية اليوم هي التي لا تقف عند مدرسة جامدة في فكرها، كما هو حال أصحاب الرأي الواحد الحق الذي يلغي الرأي الآخر، بل قد يسعى إلى استأصاله، فالدعوة الواعية تؤمن بتعدد المدارس الفكرية ضمن إطار الثوابت الكبرى والأولويات المتفق عليها.
    إن الراصد للتاريخ يرى أن متطلبات الدول والمجتمعات المدنية المعاصرة أكثر تعقيدًا من العصور السابقة، وهي لا تقف عند حدود مكتسبات محدودة من ناحية الإمكانات أو غيرها، بل تحتاج إلى ترسيخ منظومة قوية تؤسس على القيم والمبادئ والمؤسسات والمصالح والأنظمة والقوانين والسياسات، ويمارس من خلال تلك المنظومة أغلبية فئات المجتمع جوانب حياتهم، حيث يؤدي ذلك إلى تفاعل تلقائي لأطراف تلك المنظومة المعقدة، ويحصل الناتج الحضاري للأمة، لذلك فإن الدعوة التي تعتبر نفسها جزءًا أصيلاً ومكونًا هامًا من مكونات المنظومة في بلدها، تساهم بروح إيجابية مع التيارات الفكرية والثقافية الأخرى، بل وتتفاعل مع بقية الأطراف التي تتشابك فيما بينها في كثير من المصالح، من أجل تحقيق سنن الله تعالى في التطور الإنساني، وذلك بصورة تعددية متوازنة مع بقية العوامل الفاعلة، وهي في الوقت نفسه تهدف إلى الحياة الآمنة للمجتمع والدولة والأمة، ولا تحتكر على نفسها الحق والصواب، بل تعمل ضمن روح التعددية واحترام الآراء الأخرى.
    إذا كان من أهم متطلبات الواقع المعاصر (التجديد)، وعدم الجمود الفكري، فإن ذلك يستلزم الاجتهاد المستمر، واستخلاص الاختيارات التي أكدت التجارب جدواها في علاج مشكلات الواقع المعاصر بكل تعقيداته، وهي في ذات الوقت تتحمل الصعوبات والمعوقات التي قد تواجهها عند تبنيها لتلك الاختيارات الجديدة على الساحة، وذلك لا يتم إلا بوجود استعداد وتقبل لدى أغلبية المجتمع لتلك الاجتهادات المستجدة، والتي تراعي بلا شك المصالح الكبرى أو تدفع المضار الكبرى، وتشكل عاملاً مهمًا لحيوية الفكر واستمرار تفاعله مع واقعه المتجدد، حتى لا يصاب بالجمود أو التحجر أوالوقوف عند اختيارات واجتهادات كانت صالحة في زمانها، لكن الاعتبارات التي بنيت عليها قد تغيرت، فيلزم منه الاجتهاد لتغيير تلك الاختيارات الفكرية، كالتجديد والاجتهاد في حقل تجارب العمل الإسلامي، والعمل برأي الأغلبية والاحتكام إليه لما يمثله من حسم للخلافات والمشكلات التي كانت مستعصية على الحسم، والبعد عن التحليلات القائمة على (نظرية المؤامرة) التي سادت الفكر في الفترة الاستعمارية، وكذلك النظرة الإيجابية القائمة عند القيام ببناء المشاريع والأدوار والمسؤوليات على الأخذ بالسنن والأسباب والقيم اللازمة، وامتلاك أسس النجاح المادية والمعنوية.

    كما يلزم للاجتهاد الدعوي الإحاطة بفقه الواقع، وكما هو معلوم أن الأحكام الاجتهادية قد تكون صحيحة في أصلها، لكن يمكن أن يحدث خطأ عند تنزيلها على وقائع معينة، وهذا يتطلب الإحاطة الدقيقة بذلك الواقع، فالاجتهاد هنا قد يكون هام للدعوة خاصة عند تعاملها مع قضايا إنكار المنكر في المجتمع، وكما هو معلوم عند جمهور الفقهاء أنه لا يجوز تغيير منكر بوسيلة إذا كان يعلم أن تلك الوسيلة ستؤدي إلى منكر أكبر من ذلك.

    3 – منهج المشاركة والتعاون:

    الإصلاح الحقيقي هو الذي يوازن بين ما يقوم به من واجب، وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي، فيأخذ بالمجتمع إلى الخير والتنمية، وهو كذلك الإصلاح الذاتي النابع من الداخل - وليس من الخارج - المنطلق من ثوابت الأمة ومصالحها، وليس القائم على إبعاد الإسلام أو إضعاف واقعه في المجتمع، ومن أهمّ العوامل التي تساعد على نجاح أية عملية إصلاحية هو تعاون النخب وشرائح المجتمع والقادة على أسس وآليات الإصلاح المعهودة التي تتوافق مع الأعراف المدنية السائدة، وفي نطاق اجتهاد فكري وعملي ينفتح على العصر، ويستفيد من تجارب الآخرين.

    ولكي تقوم الدعوة بدورها الرائد في إصلاح الأفراد والمجتمع عليها القيام بدور إيجابي عن طريق المشاركة في هموم الوطن وقضاياه، كما أنها تربي أفرادها على روح التفاعل والتعاون مع الجميع، فليس من منهجها الانعزال عن مجتمعها، حيث ذم ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)[20]، وإن الدعوة تستمع إلى مختلف الآراء والانتقادات، وهي تحترم النقد البناء من أبنائها، وتفتح للنقد والتوجيه مجال واسع، ولا تضيّق على الرأي الناقد المبني على الحجج والخبرة والأسس المعقولة، وهي تسمع ما يقوله الناس عن أدائها وأعمالها، فالدعاة يبادروا بصورة مستمرة في تصحيح مساراتهم، وهم بذلك يطورون من أدائهم وأعمالهم.

    إن الاختلاف بين البشر وتعارض المصالح، سنة من سنن الله تعالى، منذ أن نشأة البشرية، والاختلاف بين التيارات في الرؤية والاجتهادات والمواقف اتجاه القضايا حقيقة من حقائق الوجود الإنساني، وأن هذا الاختلاف ينظر إليه بإيجابية ولا غبار عليه ما دام في إطار الثوابت والأسس السليمة، يقول الله تعالى: (ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ)[21]، وإن الحوار الهادف والجدال بالتي هي أحسن، والمحاولات التي تقوم على الإقناع والإرادة الحرة هي الوسائل الأقرب والأرقى للتعامل عند اختلاف وجهات النظر بين أبناء الوطن الواحد، فهي تعمل على بناء جسور التقارب والتواصل بينهم، وإن من شأن الحوار الإيجابي أن يؤكد على (المشترك)، وأن يحد ويضيق مساحات الاختلاف، ولقد أثبتت الأيام فشل سياسات الإقصاء أو التهميش؛ لأن الوطن يبقى للجميع، فينبغي أن يعتمد فيه على قاعدة: (نتعاون فيما نتفق عليه، ونتحاور فيما نختلف فيه)، إنّ اتباع وسيلة الإقصاء للطاقات والخبرات والكفاءات والنخبة الفكرية المثقفة أو الفعاليات المجتمعية النشطة، متى لم تتفق مع رؤى أو مصالح البعض، أيًا كانت الحجج المبررة لتلك الأساليب، فهي تبقى أساليب غير مرغوبة عند الكل، وغير حضارية، ويؤكد ذلك تجارب حدثت في عدد من البلدان العربية والإسلامية، حين تمّ إقصاء فعاليات مجتمعية فاعلة، وكفاءات وخبرات جادة، لم ترجع إلا على منتهجها بالضعف، فالبلدان التي اختارت المنهج الإقصائي الذي يعتبر أسلوبًا من أساليب التطرف، لقد أثر ذلك على قدرات تلك البلدان، وعلى قواها الفاعلة، وانشغلت عن البناء التنموي الوطني، وأوجدت محفزًا للتطرف نتيجة لذلك، فالمسألة هنا اختيار بين منهجين أحدهما منهج يعتمد الحوار والتعاون وتقوية الإرادة القائمة على ممارسة الاقتناع الموضوعي والديمقراطي، والمنهج الثاني هو المنهج الإقصائي.

    كما أن التجارب الحضارية تثبت أن العقول المختلفة هي التي تبدع وتنتج وتسهم في تقدم الأوطان ونهضتها، بشرط القيام بتوظيف تلك العقول بشكل يعود عليها بالنفع، وإذا كان كثير من البشر اليوم يسعى إلى الحوار مع من يختلف معه في التاريخ والجغرافيا والفكر والهوية، فمن باب أولى أن يتم التحاور مع من تجمعه معه الجغرافيا والهوية والمصير المشترك، فالنخب المدنية المثقفة والتي تمتلك رؤية وطنية مدعوة إلى البحث عن الرؤى المشتركة، وهي كثيرة مع احتفاظ كل طرف بخصوصيته، فالمجتمعات التي تستوعب جميع الآراء والأفكار والتوجهات وتصهرها في بوتقة العمل الوطني الواحد هي التي تعمل لمصلحة أوطانها وللاستفادة من جهود أبنائها، وبغير ذلك يبقى كل طرف كمن يسير منعزلاً في قارب صغير في بحر متلاطم الأمواج، وينتهي أمره بأن تغرقه تلك الأمواج.

    4 – منهج الوضوح والعلنية:

    إن المجتمع الذي يوجد فيه دعوة معتدلة يعد ذلك مكسبًا حضاريًا له وإنجازًا من إنجازات ذلك المجتمع، في الوقت الذي تعصف فيه أفكار التطرف في عالم اليوم، فالمجتمع الذي رعى إنشاء مؤسسات للدعوة المعتدلة، وتضافرت جهود المخلصين فيه لكثير من أنشطتها وفعالياتها العلنية، وسارت الدعوة فيه على الوضوح والعلنية، وصرحت دائمًا وفق الإمكانيات المتاحة، عن غاياتها وأهدافها ومبادئها وبرامجها ومناهجها بكل وضوح، ولا تخرج عن تلك الأطر التي تدعو إليها، أضحت مجتمعات سليمة، هذا ما يراه المنصف من عمل الدعاة ورموزهم، فإنه يرى من عملهم الذي يدل على أن الدعوة، ولله الحمد، نشأت وامتدت في الحواضر والأرياف، ورموز الدعوة وأهل الرأي وقادة مؤسساتها ومَن لهم باع طويل في العمل الدعوي مشهورون ومعروفون بأشخاصهم عند الجميع، وأبناء الدعوة وما يقومون به من أعمال ونشاط وأدوار يعرفه البعيد عنهم والقريب، وهم يعملون حيثما يتواجدون في مناطقهم وبين أهلهم وأقاربهم ومجتمعهم الطبيعي.

    كثير من أعمال الدعوة بحاجة إلى مؤسسات، لكن ليس كل الأعمال بحاجة إلى مؤسسات، بل من الطبيعي قيام بعض الأفراد بالأنشطة الدعوية والخيرية والتربوية، دون وجود عمل مؤسسي لها؛ لأن ذلك يدخل في إطار الخصوصية المقبولة عرفًا، وتمارسها كل الفئات الاجتماعية، وهي في نفس الوقت نابعة من تنوع نشاط الدعاة وإخلاصهم، وحرصهم على الأجر والثواب تارةً، وتارةً أخرى بسبب منع بعض الدعاة وحصارهم وحرمانهم من ممارسة نشاطاتهم تلك في محاضن عامة، وإبعاد البعض منهم قسرًا عن العمل العام، فلجئوا إلى ممارستها من خلال المساحة المتاحة، كل ذلك حرصًا منهم على أداء رسالتهم وواجبهم والتواصل الطبيعي مع مجتمعهم، وهذه الظاهرة نتيجة طبيعية لغياب المتنفس العام في بعض المجتمعات، وإن التزام كثير من الدعاة وتمسكهم بحمل عبء الدعوة إلى الدين وقيمه الأخلاقية والإيمانية، والتذكير بها في المجالس وإقامة الحلقات وعقد الندوات من أجل تبليغ الدعوة، وتذكير الغافل، وتنبيه وتوجيه الناس بصورة عامة وحفظ النشء، وتربيتهم بصورة خاصة على تلك المعاني، يجعل من تلك الخصوصية عاملاً من عوامل نجاح الدعوة، ومحفزًا للدعاة على الاستمرار على طريق الدعوة.

    ونعلم أن لكل بلد خصوصيتها وأعرافها وظروفها، وإن الدعاة لديهم مجال واسع من الاختيارات والاجتهادات الدعوية، وهم على تعاون مع الجميع من أجل الإصلاح المنشود؛ فدعاة اليوم لدى معظمهم إخلاص واستقامة وخدمة لوطنهم وأهلهم، ومراعاة لمصالح بلدانهم، لكن لا يدعي أحد العصمة من الخطأ، فطبيعي أن من لا يتحرك لخدمة مجتمعه لا يخطيء، ومن يعمل ويتحرك في خدمة المجتمع قد يقع في الخطأ، وهو في دائرة التجربة والاجتهاد البشري، ويوصف بأوصاف واتهامات زائفة، ولا يضخم الخطأ عند مقارنته بالإيجابيات الكثيرة لأعمال الدعاة، وإنجازاتهم المباركة، وكما هو معلوم عند أي عاقل أنه لا تقبل أية دعوى بلا برهان يثبت صحتها، يقول الله (تبارك وتعالى): (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)[22]، أما اتباع الأهواء، فإنه ضلال عن الحق، يقول الله (تبارك وتعالى): (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)[23]، وفي ضوء المبادئ والأعراف المستقرة، فمن المفترض تفهم واقع الدعاة واختياراتهم ومبادراتهم وردودهم، واستحضار كل الممارسات الواقعة عليهم، ثم إطلاق الحكم على عملهم، ودعاة لا يملكون عصى سحرية للقيام بالإصلاح المنشود، بل هم يضعون جهدهم وإمكاناتهم الذاتية وفق السنن الماضية على البشرية والاستفادة من الخبرة التاريخية، والسعي إلى العمل والمشاركة في خدمة وطنهم، من خلال المؤسسات القانونية التي تعتبر عملهم طبيعيًا وفق الإطار العملي الذي يستوعب جميع شرائح المجتمع وطاقاته الفاعلة.
    -----------------------------------
    [1] - أخرجه الترمذي 5/ 2676، وابن ماجة 1/ 42.
    [2] - أخرجه مسلم وأبوداود وغيرهما.
    [3] - تبنى الفقه المقاصدي علماء وفقاء، منهم: العز بن عبد السلام، والشاطبي، والقرافي، وابن تيمية، وابن القيم، وفي الوقت الحديث كثير من علماء الأمة، وهيئاتها، ومجامعها الفقهية.
    [4] - انظر كتاب الطرق الحكمية / لابن القيم (15 – 16).
    [5] - أخرجه البزاز والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 121.
    [6] - سورة البقرة(201)
    [7] - سورة القصص (77)
    [8] - أخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد
    [9] - سورة آل عمران (104).
    [10] - سورة التوبة(71) .
    [11] - سورة العصر كاملة.
    [12] - سورة آل عمران (110).
    [13] - سورة المائدة (2) .
    [14] - سورة هود (117).
    [15] - متفق عليه.
    [16] - سورة النحل/125.
    [17] - متفق عليه.
    [18] - سورة النساء (59).
    [19] - سورة النحل (125) .
    [20] - أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد 5/365 برقم 23147.
    [21] - سورة البقرة (148).
    [22] - سورة البقرة (111)، وسورة النمل (64).
    [23] - سورة ص(26)

    المصدر : مركز الإمارات للدارسات والإعلام
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    جزاك الله خيراً على هذا الشرح والتوضيح
    دمت بخير

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-03-2019, 02:31 AM
  2. تقديم لمنهج باحثين غربيين في تناولهما للعروض العربي.
    بواسطة خشان محمد خشان في المنتدى العرُوضِ الرَّقمِيِّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-09-2016, 07:27 PM
  3. تطبيقات عملية لمنهج الرسول فى تعديل السلوك
    بواسطة شذى ميداني في المنتدى فرسان التجارب الدعوية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-12-2012, 04:28 PM
  4. العمل المجتمعي في حياة ناشط
    بواسطة هيا النوري في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-25-2011, 07:05 AM
  5. قضية خليجية (8)
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-26-2007, 11:27 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •