الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية حفريّات جديدة تعيد ترتيب الذاكرة الإنسانية


- تأليف: د. عبدالمنعم المحجوب
- منشورات: دار تانيت (المغرب العربي)
- آب/أغسطس، 2008
- الصفحات: 290 ص.



تقديم: وليد الزريبي


العرب والساميون يتحدثون اللغة السومرية دون أن يعرفوا ذلك، لماذا؟ لأن المقاطع والألفاظ السومرية مضمرة في جذور اللغة العربية وشقيقاتها الأفروآسيويات. كل كلمة من ثلاثة أحرف مجردة هي مقطعان سومريان أو ثلاثة. هذه هي إحدى خلاصات كتاب اما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيويةب الصادر مؤخراً عن دار تانيت من تأليف عبدالمنعم المحجوب.
يسعى المؤلف إلى تتبّع واستظهار التغيرات الصوتية (الفونيطيقية) التي أصابت سلسلة الألسن الأفروآسيوية، باللجوء إلى مقارنة أساسية بين السومرية والعربية. وقد وجد أن التداخل السومري ـ الأكدي، يتجاوز في الحقيقة ما عُرف من استخدام مشترك لعدد من المفردات، شاع أنه كان نتاجاً لتمثيل اللغتين بالخط المسماري نفسه، يتجاوز ذلك إلى صلة وثيقة تتبدّى فيها المقاطع السومرية كطبقة لغوية مضمّنة Substratum في الأكدية والعربية، وقد خلص إلى أن الضمائم اللغويّة الأفروآسيوية متحدّرة من السومرية، وإن المقاطع السومرية المفردة والمثنّاة متوطّنة قارّة في الأكدية والعربية والمصريّة.. وغيرها من بقية لغات الفروع والضمائم الأفروآسيوية، ولهجاتها المحكيّة.
من نتائج إثبات هذه الفرضية أن تحيين النشأة التاريخية للغة العربية يجب أن يبدأ من الألف الرابعة قبل الميلاد، أي منذ أن ظهرت الكتابة المسمارية لتدوين اللغة السومرية، وأن تحيين النشأة التاريخية للعرب أنفسهم يجب أن يبدأ من 12 ألف سنة، أي منذ ظهور طلائع السومريين في بلاد ما بين النهرين بعد انحسار آخر العصور الجليدية.
يقدم المؤلف - وهو شاعر وباحث ومفكر ليبي ـ المئات من الأمثلة التطبيقية لإثبات فرضيته المثيرة للجدل هذه، يقول في مقدمة له بعنوان اهذه الحفرياتب: اإن المنجز الاستشراقي فذّ في حدّ ذاته، وقد استغرقت الخلاصات المعروفة جيداً في الوقت الحالي، والمنتشرة بما يجعلها أقرب إلى المصنفات المدرسية، عقوداً طويلة من الجهد المضني والبحث الدؤوب بدءا من أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت كلّ خطوة صغيرة إلى الأمام تعدّ فتحاً علمياً صاخباً. ولكن للاستشراق إلى جانب سيرته الملحميّة هذه أوضاعاً كثيرة، وبعض هذه الأوضاع ليس صحيحاً، أما فيما يتعلق بسومر وباللغة السومرية بالذات، فإنه يبدو واقفاً رأساً على عقبب. (المقدمة(
أما بشأن انعكاس إعادة قراءة التراث اللغوي على القراءات التاريخية فإنه يقول: 'إننا نستطيع التأكيد على أن مطابقةً ما تجري بين (الحقيقة اللغوية) و(الحقيقة التاريخية) سوف تقود إلى فتح القراءة على تأويلات لا منتهية، إلا أننا نستطيع التأكيد من ناحية أخرى على أن هذين الحدّين تجمعهما تماسات ثابتة هي أوضح من أن يتم إغفالها'. (24) بينما يتجه طموحه إلى إعادة قراءة جميع لغات الشرق الأدنى وأفريقيا من خلال 'إعادة تصنيف المدوّنات بحسب أزمنتها، أي ببحث ونشر كرونولوجيا شاملة، يمكن من خلالها التعرف على تطوّر المفردات وتحديد ما أصابها من تغيرات في أزمنة مختلفة، وما مرّ به تداولها من تآثر وتقارض' (26)
في مقاربة موضوع الكتاب يقدّم المؤلف جرداً للعصور السابقة على الكتابة في العراق القديم، تحت عنوان: اتحولات العصر شبه التاريخي'، ويخلص فيه إلى أن الكتابة المسمارية كانت نتيجة مباشرة لنشأة االرسم الاختزالي المتمثّل في الخطوط المتوازية والمتقاطعة والأشرطة والأشكال الهندسية كالمثلثات والمربعات والدوائر والنجوم، في دور العُبيد، إلى جانب الرسم االطبيعيب المتمثّل في الرسوم والنقوش والزخارف وتمثيل سطوح الكتل بخطوط منحنية ودائرية، تحاكي أشكال البشر والحيوانات والمستَعملات والموجودات الطبيعية، وخاصة مع شيوع استخدام الأختام الأسطوانية في نهاية دور الوركاء بما حوته من أشكال هي من الناحية الفنية الأصل المباشر للمرحلة الصورية من الكتابة'، وهو يفترض أن الأسلوب االطبيعيب بلغ غاية إتقانه في الكتابة الهيروغليفية في وادي النيل، ويرتبط هذا الأسلوب ـ بشكل أدق ـ بفنون ورسومات ما قبل التاريخ في سلسلة تاسيلي وغيرها من المواقع جنوب الصحراء الكبرى، التي يعتبرها المؤلف اأرشيفاً' تعبيرياً لغوياً لم تفك رموزه بعد.
يترجم المحجوب مقطعاً من ملحمة اإِنْ.مَرْكِر En-marker وسيِّد أرَتَّا Araaب ليُثبت أن سومر وأكد وغيرهما من مناطق بلاد الرافدين كانت تتحدث لساناً واحداً، أما بشان اسم سومر فإنه يعيد قراءته قائلاً: 'في السومرية يشار إلى سومر بالعلامات ki.en.gi(كِ إنْ ك) ويمكننا أن نقرأها: كِنْكي، وهي كلمة يكتنف معناها الغموض والشك، وإن كان جورج رو قد أشار إلى أن البعض ناقش هذه المقاطع على أساس تركبها من المقاطع الجذرية: ki (بلد)، en (رب)، gi (قصب)، وتعني لديه: بلد [الإله] اإنْكب. ولي تفسير آخر يعتمد على قراءة المقطع الثاني (en) بمعنى: سيّد، بقصْر معنى السيادة على البشر، دون الآلهة، وقراءة المقطع الأخير (gi) بمعنى: الأصلي، كما في كلمة دُمُك dumu-gi بمعنى: رجل حرّ، أصلي؛ أو امواطنب. وقد وصف السومريون أنفسهم بهذه الكلمة بمعنى االمواطنين أو الأصلاء'، والكلمة مكوّنة من dumu: ابن وgi7، (وهو أيضاً المقطع gir15) بمعنى المقيم بالمدينة منذ الولادة، تمييزاً له عن الوافد والعبد. أي تمييزاً للطبقة الأولى من المجتمع السومري الذي انقسم إلى ثلاث طبقات، هي: المواطنون، الموالي (المستوطنون)، والعبيد. كما نعثر على هذا المقطع في كلمة أخرى وصف بها السومريون لغتهم هي: eme-gi (وكذلك: eme-gir)، أي اللغة الأصلية [الأولى]، المتكوّنة من مقطعين، هما: eme بمعنى لسان، وgi بالمعنى السابق أي الأصلي، الدالّة أساساً على القصب. فكلمة ki-en-gi بإعادة القراءة هذه إنما هي بلاد السادة الأصلاء، أو بلاد الأحرار اختصاراً. وليس كما اعتقد ج. رو الذي التبس عليه معنى gi ، إلا إذا اعتبرنا أن اللفظ في إحالته للمعنيين يشي بكناية كانت سائدةً، فكأن السومريين وصفوا أنفسهم بقصب الأرض ونبتهاب. (58)
إن أخطر فرضيات الكتاب هي التي تتصل بإعادة قراءة اللغة العربية. تقول هذه الفرضية: االلغة العربية اكتست زيّها بالزيادة على الأصل السومري الذي توضّع فيها كطبقة تحتية داخلة في نسيجها متداخلة معه، وملاحظة التنوّع الفونيمي واختلافه بين اللغتين لا يلغي اتصال هذه المسألة، فالعربيّة بتدقيق ابن سيبويه تفوق الأربعين حرفاً، استقرّ منها ما ائتلف في اللسان العربي تخفّفاً عبر الزمان فشكّل مادة صوتها، وتلك حقيقة يمكن استشفاف شواهدها من دراسة اللهجات العربية الحالية، إذ إننا بالترجيحات الفونيطيقة ربما نكتشف أنها تزيد عن خمسينب. (150(
يضيف: اكانت كلمة: كَتَبَ، أولى الكلمات التي تبدّت لي وفق هذا المنهج، إذ في سياقها التركيبي كما ورثناه وتداولناه تبرز الدلالة الأساسية المتعارف عليها (مع المقارنة بدلالات ثانوية يوردها المعجم العربي)، بمعنى: اخطّ كلمات من اللغة على سطحٍ هو غالباً ورقةٌ'، ويمكن العثور على ثلاثة مقاطع جذرية من اللغة السومرية، سرعان ما ندرك أنها أصلٌ كامن في كلمةٍ أصلٍ نجذّرها ثلاثياً بهذه الصيغة: (كَ.تَ.بَ)، وهي كالآتي:
كَ ka : فم، كلام.
تَ ta : بـ، بواسطة، غالباً ما يليها اسم أداة.
بَ ba : وهى أداة خشبيّة لكشط ألواح الطين والرقن أو النقش عليها.
هكذا تكون الدلالة الأساسية لكلمة كَتَبَ العربية، هي: الكلام بأداة النقش. أو الكلام بالقلم. أما السومريون فقد عرفوا كلمة اكتبب بما نسميه الآن بالصفة: عيي، والمعنى إجمالاً كان: مَن يعبّر بغير النطق، أو غير القادر على الكلام، أو الممنوع منه، أما االكلامب فهو:
كَ ka : فم، كلام.
لَمْ lam : كثرة، استرسال.
أي أن السومريين ربما لم يعرفوا في معنى اكَلَمب سوى الهذر وكثرة الكلام، بينما إذا أرادو الحديث عن االحديثب قالوا ادِب di ، التي ستتوَطّن الجذر ادويب بينما ستحلّ في اللهجة بمعنى الكلام والهذر معاً: 'دُوَّةب. أما اللسان أو اللغة فقد عبروا عنها بكلمة اإمِب eme التي ستتحول إلى العربية: اإمّ' بمعنى القصد والتوجّه في الكلام والرغبة والمسير وغير ذلك؛ على أن الُغَةب العربية ليست سوى مقطعين جذريين سومريين هما: الُب lu : رجل، إنسان. ا'وب أو اغوب gu : صوت. فاللغو أو اللغة إنما هما [في التأصيل السومري]: اصوت الإنسان'، وهذه الكلمة سوف تتحول أيضاً إلى logo أو logos اليونانية بنفس المعنى، قبل أن تتعدد دلالاتها إلى: كلمة، عقل، روحب. (151(
ثم يمضي المؤلف إلى دراسة التشابهات المعجمية بما يعتبره نواة أول معجم اشتقاقي سومري عربي، وهذه بعض أمثلته:
- السومرية apsin: خطّ المحراث. العربية بآسنة: سكّة الحرث. والأصل فيها apin: محراث خشبي. وهي العربية أبن: عقدة العود أو المحراث.
- السومرية barim ، parim: قحْل، أرض قاحلة. العربية بِرام: حجارة تُقطع من الجبال. مبرم: لا نفع فيه.
- السومرية daggan: عتبة الباب. العربية دّكان: الدكّة المبنية للجلوس عليها.
- السومرية girin: قطعة من الطين، حزَّ وقَطَع من الطين. العربية غِرْيَن: الطين الذي يحمله السيل.
- السومرية gusum: تحدّث. وهي تتكون من مقطعين gu: صوت + sum: أعطى. العربية قَسَمٌ.
- السومرية kalam: أرض. العربية كُلام: أرض غليظة صليبة أو طين يابس.
- السومرية karadin: فأس. العربية كِرْدَن وكردين: فأس عظيمة.
- السومرية kas'ga: اهتم، (حرفياً: فمٌ فارغ). العربية كوسج وكوسق: الناقص الأسنان.
- السومرية kib'r: إجابة (من ki: أرض + b'r: مكشوف). العربية خَبَر: إجابة.
- السومرية kima: مقام عالٍ (من ki: أرض، مكان + ma: عالٍ). العربية أكمخ وأكمح: شمخ تكبّراً. الكُماخ: الكبر والتعظّم. الإكماخ: رفع الرأس تكبّراً.
- السومرية kina: سرير، مخدع. (من ki: مكان + na: سرير). العربية كُنّة: سُّدّة. جناح متصل بالحائط يستخدم كمُخدَع. وكِنان: غطاء. ج. أكنّة.
- السومرية maلgçna: سُكنى، استقرار. العربية سكن ومسكن: بيت ومنْزل.
- السومرية muduna: زوجة، قرينة. (من mud: وَلَدَ + na: إنسان). العربية مدينة: أمَة، مدين: مملوك عبد، جارية.
- السومرية nagada: راعٍ . العربية نَقَّاد: راع (والنَّقَدُ والنِّقَاد: صغار الغنم(.
- السومرية nita: عزم وبأس. العربية نتّخَ: ثبت، رسخ على الأمر.
- السومرية surdu : صقر. العربية صُرَد: طائر يصيد العصافير وهو من سباع الطير.
- السومرية لaran ، لarin: عثّ (من لar: عديد + in: قشّة). العربية شَرّان: دواب مثل البعوض.
إلى غير ذلك من مئات الأمثلة، وفي بعض التأثيلات الاشتقاقية يلجأ المحجوب إلى بحث التحولات الدلالية لبعض الكلمات، من الأمثلة الطريفة في ذلك أن كلمة saggunu-saggunu تعني في السومرية بعض أنواع الطيور، ولا يقاربها المؤلف بكلمة واحدة للدلالة على نوع من أنواع الطيور، بل يقاربها بمعتقد كان سائداً عند عرب ما قبل الإسلام، يقول: اكانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يُدرَك ثأره تصير هامةً تزقو عند قبره، تقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرِكَ بثأره طارت. يقال: أزقيتُ هامة فلان إذا قتلته، وكانوا يقولون إن القتيل تخرج هامةٌ من هامته فلا تزال تقول: اسقوني اسقوني حتى يُقتل قاتله. وفي تعريف الهامة أنها رأس كل شيء من الروحانيين (الذين ليس لهم أجسام)، والهامة الرأس، وتتفق الكتابة المسمارية في هذا مع الخرافة العربية، إذ أن في اسم الطائر saggunu-saggunu تتكرر كلمة sa أي: رأس. فإذا أضفنا إلى ذلك فعليْ: أزقيت هامته، وتزقو (أي تصيح) عند قبره، كما وردا، عرفنا أن خرافة القتيل وطائره إنما هي صدى (والصدى من أسماء الهامة أيضاً) لأخرى سومرية متولّدة عن اسم هذا الطائر الغريبب. (199(
ومن هذه الأمثلة أن كلمة sil السومرية تعني لذة [جنسية] وسعادة وبركة. وهي تتكون من مقطعين هما si: وقف منتصباً كقرن، ملأ + ul: لذة وسعادة. انتقلت إلى العربية سلوى أي عسل، أو كلّ ما سلاّك بحلاوته (وقد شبهت العرب لذة الجماع بالعسل، فقالت عسيلة)، والسَّلوة: الرخاء. أما في في صلة sal (فرْج) وsil )بركة) فقد احتفظ المعجم العربي بكلمة sala السَّلى: جلدة رقيقة يكون فيها الولد. ج. أسلاء. وصلة الصلاة sil والجنس sil تكمن في فعل العبادة السومرية التي تخلّلتها طقوس جنسية، والجامع بينهما معنى البركة، أي نماء الخير وزيادته. والجذر التام (برك) يجسّد هذه الصلة أيضاً، فالبَركة: النماء (الخيّر)، منها: الدعاء للمرء في قولهم: بارك الله عليك، باركك الله، بارك فيك. ومنها: البروك: المرأة التي تتزوج ولها ولد كبير بالغ؛ والبِركة: الشاة الحلوب؛ وفي الأخيرة اسم البرْك أي الصدر. ولكن الجذر الأولي (سل) أجمع للمعنيين: فهو في (سلا) السلوى، ويؤدي الجذر معاني أخرى ذات صلة بعلاقة الرجل بالمرأة، أما في (سلل). فنجد السُّلالة: ما سُلّ من صلب الرجل وترائب المرأة، والماء يُسلّ من الظَّهر سلاّ أي النّطفة. والسليل أي الولد حين يخرج من بطن أمه. والسّليل كذلك هو النّخاع (ومثله الشّليل: العرق الأبيض الذي في فقر الظهر (لil). وفي نوع من التماهي مع الطبيعة جعل العرب من السليل: مجرى الماء في الوادي. وقُرن به سليل الجنة و سلسبيلها أي خالص شرابها. وقرْن هذا الجذر باللفظ السومري sil يؤدي إلى اشتقاقات (صلا) ومنها الصلاة والاستغفار. وتذهب إليه بعض اشتقاقات (شلل(.
ومن أشهر الكلمات في الثقافات الأفروآسيوية كلمة سلام التي يقول المؤلف أن أصلها السومري silim يعني: سلام، تحيّة. وقد ظهرت silim هذه بتبدّلاتها بمعنى السلام في أكثر من 20 لغة أفروآسيوية، ولكن الكلمة السومرية استخدمت غالباً للترحيب والتحية، كما نفعل اليوم في العربية تماماً بقولنا: السلام عليكم، وهي في الأصل مكوّنة من مقطعين، الأول: sil، بمعنى: فرح، بهجة، سعادة، وهذا المقطع بدوره ناشئ عن ائتلاف مقطعين آخرين هما: si: يملأ + ul: بهجة، كما تفيد sil معنى الحمد والتمجيد، وهي في جذر صلاة. أما المقطع الثاني فهو lum: يربو، ينمو بوفرة؛ يمتلئ، يتخم؛ يلين، يثمر؛ يخصّب. وتؤدي أيضاً معنى: سماد وسحاب، واللفظ مكون في الأصل من ثلاثة مقاطع تفيد الغزارة والوفرة + نبات أو عشب + يكون، فكلمة السلام العربية المستخدمة للترحيب والتحية هي بالمعنى السومري: عمّ بهجةً، أو فلتمتلئ حبوراً. (202(
وفي أحد أهم فصول الكتاب (الفصل السادس: نون البداية أداة نفي سومرية في اللغة العربية).. يقول المؤلف أن النفي في مرحلة مبكرة من نشأة وتطوّر اللغة العربية كان يتم باستخدام الأداة (ن)، وقد أجريت على الأفعال والأسماء والصفات على السواء، تماماً كما كان الأمر عليه في اللغة السومرية، ثم تطوّر استخدام هذه الأداة في مرحلة تالية، فأدغمت في الجذور الثنائية لتصبح أصلاً فيها، غيرَ مزيد، ولتنشأ بذلك الجذور الثلاثية البادئة بحرف النون في اللغة العربية؛ في حين استقلت أدوات النفي نطقاً وكتابةً، وكوّنت منظومة النفي المعروفة الآن (217). وقدم عشرات من الأمثلة في حرف النون وحده لإثبات هذه الفرضية.
ويخصص المؤلف الفصل السابع (سومر ومصر مقاربات أولية في اللغة والمعتقد) لتعميم فرضياته بنقلها من المقاربة السومرية العربية إلى مقاربة سومرية مصرية، ومن أمثلته أن أسماء بعض المعبودات المصرية لا يمكن فهمها جيداً إلا من خلال تأثيلها سومرياً، أي بقراءتها مقطعياً في اللغة السومرية.
في اخلاصات واستشرافب يلخّص المحجوب انعكاسات فرضياته على قراءة تاريخ اللغات السومرية والعربية والأفروآسيوية بالإضافة إلى فرضيات جديدة بشأن العلاقة بين السومرية واللغات الهندوأوروبية. من هذه الخلاصات:
1- اأصبح من الضروري بمكان استحداث أسلوب جديد لإعادة قراءة المقاطع الجذرية السومرية، ووصف جروسها وأبنيتها الصوتية والصرفية والمعجمية. آخذين بالاعتبار ما ظهر من معطيات جديدة، ومجمل هذا الكتاب هو نقد ضمني للطريقة التي قرأ بها علماء السومريات والأشوريات الألواح المسمارية، وأسلوبهم في النقل الحرفي الذي أفرط في الأخذ بالكتابة دون اللفظ، ولم يعد إجمالاً يفي بمتطلبات البحثب.
2- اإن قراءة السومرية جذرياً، أي بتحويل صوامتها إلى جذور مفردة وثنائية وثلاثية، مع اعتماد الصوائت الخفيفة (الحركات الأربع الأولية) هي أقرب إلى النطق والتصويت الصحيحين الذي نتوقّع أن السومريين قد درجوا عليه، بدليل تكررهما في بقية اللغات الأفروآسيوية، ونتيجة هذه المقاربة استبدال أساليب النقحرة الحاليّة وإنشاء بديل عنها يراعي هذه التواشجات، وقد طرح هذا الكتاب أساساً يمكن البدء به لصوْغ هذا البديلب.
3- اأثبتت المقارنات أن تقارباً كبيراً، وقد يكون تطابقاً في أغلب الأحيان، نشأ في أزمنة متقدّمة بين السومرية واللغات الأفروآسيوية على المستويين الصّوْرَفي (الصوتي- الصرفي) والمعجمي، وأن البيئات اللغوية المحلية قد تباعدت لسببين: الأول هو الانقطاعات التاريخية الاجتماعية، والثاني هو اختلاف أنماط الإنتاج بين أقاليم هذه البيئات، مما حتّم نشأة وانتشار تركيبات محلية من المقاطع الجذرية السومرية، جعلت لهجات تلك الأقاليم تبدو كما لو كانت لغات مستقلة، إذ أن هذه المقاطع لا تظهر في الكلام، لكنها تتوطّن الكلمات، واللغة في تداولها سياقات وأساليب بلاغية، وليست بحثاً في طبيعة المفردات التي تشكل هذه السياقات وتلك الأساليبب.
4- اللغة العربية طبيعة مقطعية تم اختزالها بتغليب الحركات وما نتج عنها من أسلوب في التصويت وتقدير الصوامت التي حلّت إلى الأبد بدلاً عن المقاطعب.
5- انشأت اللغة العربية، باعتبار طبيعتها المقطعية المضمرة في التركيبات الجذرية المعجمية، في الألف الثالثة قبل الميلاد. وشهدت نضجها بظهور القرآن الذي امتص لهجات وثقافات العرب القديمة فحلّ بديلاً عنها دون أن ينفيهاب.
6- االلهجات العربية المحكية صنو للهجات العربية القديمة وجميعها امتداد للغة السومرية، وما وجود ألفاظ سومرية متداولة في اللهجات المحكية حتى اليوم إلا دليل على هذه الصلةب.
ا 7- أصبح من الضروري إعادة بحث ودراسة قواعد اللغة العربية، على ضوء قراءة السومرية. النون النافية ونون التوكيد البادئتان مثلاً'.
8- القد شكلت السومرية أهم بؤر اللقاء والتفاعل على مسار القوس العظيم الذي رسمته رحلة اللغات الهندوأوروبية في الألف الثانية قبل الميلاد، وليس من شك في أن هذه اللغات قد تأثّرت بها. إن اللغات التي انتشرت في الفضاء الهندوأوروبي (والتي يقول الباحثون أنها تحدّرت من اللغة الهندوأوروبية الأم، وهذه اللغة مجرد فرضية علميّة، أي انها لم توجد فعلاً) تنطوي على المقاطع الجذرية السومرية التي توضّعت فيها كبنية تحتية، ونرى أن حمولة أوليّة من هذه المقاطع قد تسربت إلى تلك اللغات فالتحمت بمعجمها وتَزَيَّت بصورفتها، ومن هنا يطرأ ذلك التشابه بين ما يجريه الباحثون من مقاربات على اللغات الأفروآسيوية من جهة واللغات الهندوأوروبية من جهة أخرى، لأننا لا نقوم في الحقيقة إلا باستدعاء المقاطع الجذرية السومرية في جميع هذه اللغات، ولعلّ مسحاً فيلولوجياً صورفياً مقارناً لهذه المقاطع يثبت هذه الفرضية ضمن لغات الشرق الأدنى وشمال المتوسطب.
***
في واحدة من فقرات الكتاب يقدّم المحجوب نوعاً من التشميل االبيانيب لنظريته وممكنات انعكاسها على معرفة وإعادة قراءة التمفصلات الحضارية والتاريخية في الوطن العربي، يقول: اإن مصر عربية، وسومر كذلك، وسومر مصرية، وجزيرة العرب كذلك، وجزيرة العرب سومرية، ومصر كذلك. وليس لأحد هذه الأجزاء أن يستقل بوصف يعزله عن محيطه التاريخي والثقافي واللغوي. لقد تغيرت الآلهة، لكن اللسان الذي سبّح لها بقي خالداً، وما زالت أمامه ألوفٌ أخرى من السنين ليتجدّد فيها دون أن يَمَّحي الأصل الذي نشأ عنه، وكمن في عمقه. إن االعربيّةَ اللسَانُ'، ولعلَّ في هذا الأثر ما يغني عن التمحُّك والتعصّب، مهما كان ادِّعاء العلمية كبيراً. لقد ورثت العربية هذا التراث الخالد، فتجسد في لسانها لغةً، وفي عقيدتها ديناً، حتى لا يكادان يستقلان، والعربيّ هو من انتمى إلى هذا التراث بكلّه، مدركاً أثره في التاريخ وصنع الحضارة الإنسانية، دون أن يتوقف عند ظاهرة مفردة من ظاهراته، أو رمزاً منفصلاً من رموزه، لأن تلك الظاهرات وهذه الرموز ما هي إلا أجزاءٌ من أصلٍ، وبعضٌ من كلٍّ. فالفرعونية مثلاً، أو الفينيقية، أو الأمازيغية، إنما هي دعوات انتُزِعَت عن أصلها، أو هي فروع قُصِفت عن جذعها، بينما نعرف أنها لم تصر إلى الحياة إلا عندما ارتبطت بهذا الجذع، وما هذا الجذع إلا جماع ذلك التراث، تاريخاً، ولغةً، وحضارةً، وأصلاً أزلياً'. (252) لقد أحسست وأنا أقرأ هذا االبيان السومريب أن جيناتي تتجدّد، وأنني مقبل على نوع جديد من معرفة الذات.
مع هذا الكتاب تبدأ ثقافة عربية جديدة تعيد ترتيب الأبجديات. إن نظريته حتى الآن هي الأكثر جذرية وقدرة على إحداث tabula raza في قراءة اللغة العربية وتاريخ اللغات والآداب الأفروآسيوية. لقد أعاد عبدالمنعم المحجوب توطين اللغة السومرية في بيئتها الحضارية والثقافية، وجعل منها أصلاً لا يمكن تجاوزه، على العكس من القراءات الاستشراقية التي عزلتها في ركن معتم وأوصدت عليها الأبواب.
ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية


__________________
د. وسام البكري