***********
أميركا والعالم .. حوار كاشف مع بريزنسكي وسكوكر وفت 2 - 2

أدار الحوار : ديفيد اغناتيوس -

عرض وتحليل : مازن حماد
عن صحيفة الدستور الأردنية
هذا الكتاب
صدر كتاب (أمريكا والعالم) مؤخرا في الولايات المتحدة الامريكية، وقد شغلت به الأوساط السياسية والإعلامية لما تضمنه من طروحات جريئة تتعلق بمستقبل سياسة أمريكا الخارجية على ضوء المتغيرات التي طرأت على الساحة العالمية.
والكتاب عبارة عن حوار مطول أجراه صحفي نابه هو ديفيد اغناتيوس مع اثنين من كبار الساسة الأمريكيين هما زبينغيو بريزنسكي وبرنت سكوكروفت، وقد شغل الاثنان منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي، رغم أن احدهما ينتمي إلى الحزب الجمهوري والاخر إلى الحزب الديمقراطي.
وقد ارتأت (الدستور) أن تقدم لقرائها الكرام ملخصا في حلقتين لأبرز ما جاء في هذا الكتاب تعميما للفائدة ، خصوصا وأن أمريكا الآن على أعتاب إعادة النظر في مجمل سياساتها وتوجهاتها بعد انتخاب باراك اوباما لموقع الرئاسة في أمريكا.
أخذت القضية الفلسطينية حيزا كبيرا من حوار اغناتيوس مع بريزنسكي وسكوكروفت باعتبار أن الصراع العربي الاسرائيلي هو المشكلة الكبرى في حياتنا. ويؤمن بريزنسكي بقوة أن تلك المشكلة كبيرة للغاية وعميقة للغاية وعاطفية للغاية ومتجذرة بطريقة تجعل من الصعب على الفلسطينيين والاسرائيليين ان يحلوها بأنفسهم. وقد دلتنا تجربة كامب ديفيد، كما يضيف، أن الولايات المتحدة هي وحدها القادرة على ان تكون الوسط الفعال. ويعني ذلك بالنسبة لبريزنسكي امرين اولهما الا تتحول واشنطن الى طرف في النزاع وتؤيد طرفا ضد الآخر ، وثانيهما الا تلتزم الدولة الاعظم بموقف سلبي ، بل عليها ان تقدم آراءها الخاصة تجاه ما يجب عمله ، وان تكون ذات عقلية متوازنة تحترم المصالح الحيوية لكلا الطرفين ، والا تخجل من توضيح موقفها والاصرار على الالتزام به.
ويضيف بريزنسكي ان ايا من الطرفين غير مستعد للاقدام على التنازلات التي يحتاج اليها الحل ، ان ايا منهما غير جاهز لاتخاذ الخطوة الاولي. خشية ان يكتفي الطرف الاخر بذلك التنازل ، لذلك لا بد من وجود طرف ثالث مستعد للتدخل ودفع الامور الى الامام. وفي كامب ديفيد ارتكزت جميع المفاوضات على اوراق امريكية مفصلة اوجزت جميع الترتيبات ، وكان يشرف عليها رئيس امريكي يعرف تفاصيل القضية ويصر على التوصل الى تسوية.
ويقول بريزنسكي انه اذا اردنا حدوث تقدم الان ، علينا ان نتفق على اربعة اطر عامة ، ثم ترك باقي الامور للبحث بين الجانبين وعدد هذه الاطر وهي: اولا الغاء حق عودة الفلسطينيين الى اسرائيل ، وهي حبة دواء مرة جدا على الشعب الفلسطيني ان يبتلعها.. وعلى المرء ان يدرك مدى مرارة هذه الحبة لان كيان الهوية الفلسطينية مبني على فكرة ابعادهم من اسرائيل دون وجه عدالة.
والامر الثاني هو تقاسم القدس ، وهي حبة دواء مرة للاسرائيليين فلن يكون هناك سلام قابل للاستمرار اذا لم يكن المسجد ذو القبة الذهبية والمدينة القديمة وشرق القدس عاصمة للفلسطينيين. فالسلام لا يمكن ان يعتبر شرعيا دون ذلك.
والامر الثالث هو الالتزام بحدود «1967» مع تعديلات متبادلة تسمح بضم الكتل الاستيطانية الكبيرة الواقعة على اطرف الآخر من الحدود الى اسرائيل مقابل ارض مساوية في النقب والجليل حتى لا يفقد الفلسطينيون المزيد من الارض. ورغم ان الفلسطينيين والاسرائيليين متساوون تقريبا بعدد السكان ، فان اعداد الجانب الفلسطيني ستتزايد قبل مضي وقت طويل ، ولدى الاسرائيليين الان %78 من فلسطين القديمة ولدى الفلسطينيين 22%.
والامر الرابع هو ان تكون فلسطين منزوعة السلاح ، وقد اقترحت مؤخرا - والكلام لبريزنسكي - ان ترابط قوات امريكية على طول نهر الاردن لمنح اسرائيل حسا بالعمق الاستراتيجي ضد اي تهديد ، اما بقية الامور فتعتمد على ما يتفق عليه الجانبان ، ولكن هذا ما يجب ان تدافع عنه الولايات المتحدة تصر عليه ويعتقد بريزنسكي ان جورج بوش ليس جاهزا للقيام بالدفعة التي يحتاجها مثل هذا الحل.. واذا لم يفعلها بوش ، فالامر متروك للرئيس القادم ليقوم بما يلزم ويدفع الامور نحو التسوية.
كلهم عرب،
وانتقل بريزنسكي للتحدث عن تجربته مع مناحيم بيغن رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي وقع معاهدة كامب ديفيد مع انور السادات ، فقال انه عندما التقاه للمرة الاولى ، قال له بمنتهى الصراحة انه لا يوجد شيء اسمه فلسطيني ، فهذه الكلمة مجرد وهم حسب بيغن ، فكلهم عرب لذلك عليهم ان يخرجوا من «ارض اسرائيل» وبعد عشرين سنة قبل آرييل شارون حل الدولتين ، ورغم انه بقي غامضا بالنسبة لمشكلة الاراضي فانه قبل من حيث الاساس مبدأ الدولتين وهناك عبرة في ذلك ، اذ ان الاحزاب مهما بلغ تطرفها تتطور اذا كنت صبورا ورغبت في التحدث معها ، ويفكر بريزنسكي بحركة حماس بالطريقة ذاتها ، ويضيف ان حماس غير مستعدة للاعتراف باسرائيل ، لكنها مستعدة لقبول بهدنة تمتد عشر سنوات معها ولو كنا اذكياء في التعامل مع حماس ، فانها ستصبح اكثر اعتدالا مع مرور الايام كما فعلت حركة فتح.
وقال سكوكروفت انه عندما انغمس في هذه القضية في البداية في اوائل السبعينات لم يسمح له بالتحدث مباشرة مع فتح ، وانما كانت المفاوضات تجري عبر طرف ثالث هو المغرب وغيره من الدول ، واعتقد والكلام ما زال لسكوكروفت ان الولايات المتحدة تحتاج الى التحدث لحركة حماس ، مضيفا ان حماس تقترح وقفا لاطلاق النار مع اسرائيل لكننا لن نعرف ما تعني الحركة بذلك تماما الا عندما نتحدث معها ، وتابع المتحدث قائلا: شعوري ان بامكاننا ان نتقدم في العملية السلمية ، وفي هذه الحالة ستجد حماس انها لا تستطيع ان تترك وحدها في غزة ، فهذا ليس حلا قابلا للحياة ، واعتقد انه يجب عدم السعي الى اخراس حماس ، لان مثل هذا المسعى سيجعل الحركة اقوى وسيضعف فتح.
وايد بريزنسكي ما قاله سكوكروفت واضاف عليه ان عدم التحدث لحماس يعني مقاطعتها ، ويعني ايضا معاقبة مليون ونصف المليون فلسطيني في منطقة تعاني من مشاكل انسانية ومن المرض والجوع. وتابع يقول ان عدم اهتمامنا بما يجري في غزة يخلق الالم والكراهية للامريكيين في الشرق الاوسط وهو امر لا نستطيع تجاهله.. وذهب المتحدث الى حد القول ان الفكرة القائلة اننا يجب ان نثبت صداقتنا لاسرائيل من اخلاقية في محتواها وغير عملية من الناحية السياسية.
إحباط كبير
وفي رأي سكوكروفت سيكون هناك احباط كبير اذا تركت ادارة جورج بوش السلطة دون اتفاق فلسطيني اسرائيلي ، فالمنطقة هشة الان ولبنان على وشك التفجر ومحمود عباس ليس مضمونا بقاؤه في السلطة ، واذا كنا نظن اننا سنحصل على شخص افضل منه اذا ذهب ، فهذا الظن ليس في محله ، واعتقد والكلام ما زال لسكوكروفت ان المخاطر عظيمة وان الشرق الاوسط هش للغاية.
اما بريزنسكي فقد استغرب اصرار بوش وترديده المستمر ان اتفاقية سلام ستوقع هذه السنة ، فهو لا يستطيع ان يكرر هذا القول دون ان يعني ما يقول بطريقة او بأخرى ، وعندما سئل بريزنسكي كيف يمكن للدولة العبرية ان تشعر بالامان والديمقراطية ، قال انه عندما ذهب الى الشرق الاوسط الاول مرة للترويج لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر واسرائيل قال له بعض العرب «بقي الصليبيون في القدس تسعين سنة ، ثم ذهبوا.. فنحن لسنا في عجلة من امرنا» لذلك يقول بريزنسكي هناك مشروعية لقلق اسرائيل ، ولكن عليهم ان يسألوا انفسهم ان كان هذا السيناريو المرعب اكثر ام اقل احتمالا اذا لم يكن هناك سلام؟ واضاف انه اذا كان السلام شرعيا فهذا يعني ان الطرفين مستعدان للعيش في ظله وهذا ما يضمن امن اسرائيل.
بالنسبة لمصر قال ان معنى الانتخابات الحرة ان يفوز الاخوان المسلمون ، وانه لا يحب ان يرى اسامة بن لادن ينافس في انتخابات شرعية في احدى الدول العربية ، اما حول سوريا فهو يرى بعد ان اجتمع بالرئيس بشار الاسد ان دمشق اخذت تتخلى عن البعثية الاشتراكية وانها ترى نفسها جزءا من الاقتصاد المعولم. واكد ان سوريا مستعدة لاتفاق مع اسرائيل يعيد الاراضي السورية كاملة وكما كانت قبل حزيران يونيو «1967».
المشكلة الباكستانية
واذا كانت المشكلة الفلسطينية متروكة دون حل فان هناك مشكلة اخرى مهمة لم تعرف التسوية وهي المشكلة الباكستانية التي قد تتفجر بطرق خطيرة للغاية ، وعندما وجه اغناتيوس سؤالا الى سكوكروفت حول رؤية لمشكلة باكستان التي تملك قنبلة نووية ، رد بقوله ان الوضع في تلك الدولة في غاية الخطورة ، اذ انه بعد تقسيم الهند عام «1947» كانت المناطق القبلية الواقعة على الحدود مع افغانستان من حظ الدولة الباكستانية ، وهذه المنطقة هي الاشد خطورة وتشققا ولم يرث الباكستانيون حزب المؤتمر الذي منح الهند حسا بالوحدة الاقليمية وهو حس لم يعرفه الباكستانيون..وفيما مارست الهند الديمقراطية بنشاط وحيوية تعاملت معها باكستان بتحفظ ، كما شهدت الدولة الكثير من الاضطرابات والفساد الحكومي والاداري وشرح سكوكروفت الحالة الباكستانية بقوله انه عندما كانت باكستان في بداية انشائها كانت أوثق الحلفاء مع امريكا ، ولكن بعد الحرب الهندية الباكستانية الثانية فرضت الولايات المتحدة عقوبات على البلدين وتوقفت بيعهما اسلحة ، لم يهتم الهنود كثيرا للامر لانه يملكون صناعة حربية على عكس الباكستانيين الذين دفعهم حسهم بالأمن الى تطور السلاح النووي.
ورأى بريزنسكي ان على الولايات المتحدة الا تنغمس بعقم في السياسات الداخلية لباكستان ، فهذه الدولة اكبر وأعقد وأكثر سكانا من ان يتمكن الامريكيون من التدخل بفعالية في السياسات المحلية الباكستانية ، وأبدى بريزنسكي اعتراضه على المبادرة الامريكية التي شجعت بي نظير بوتو على العودة الى بلادها من المنفى ، مضيفا ان الامر بدا اشبه بمحاولة خلط الماء بالزيت ، لانني كنت مقتنعا كما قال بأنه اما ان تقتل هي او يقتل مشرف ، فقتلت هي. وبحدوث ذلك ، أثبتت الولايات المتحدة ان فهمها للسياسات الباكستانية ضحل للغاية ، لهذه السياسات مزيج من القبلية وتوريث الحكم والمنافسة الدموية مع وجود تأثير قوي جدا للجيش.
لذلك نصح المتحدث واشنطن باتباع الحكمة والصبر تجاه الشؤون الباكستانية وترك الباكستانيين يحلون مشاكلهم بأنفسهم وذلك في اشارة الى الخلاف بين الولايات المتحدة والدولة الباكستانية حول كيفية التعامل مع مقاتلي القاعدة وطالبان ، ولجوء الامريكيين احيانا الى قصف معامل المتطرفين دون تنسيق مع الحكومة في باكستان.

المسألة الصينية
وقد استحوذ موضوع الصين واتجاهها المستقبلي لان تصبح اضخم عسكريا وأقوى اقتصاديا لتلعب دورا أكبر على الساحة الدولية ، على جانب لا بأس به من الحوار مع بريزنسكي وسكوكروفت اللذين سألهما ديفيد اغناتيوس عن كيفية تحويل النمو الصيني الى مصلحة الولايات المتحدة.
وقد ابدى بريزنسكي تفاؤله رغم ان الولايات المتحدة تحس بالقلق تجاه بعض جوانب المنافسة مع العملاق الاصفر في مجالات التجارة والقضايا العسكرية وهو بطبيعة الحال قلق مشروع ، وقال ان استيعاب الصين في النظام الدولي يتطلب رغبة امريكية في التعامل مع الواقع ، مبينا ان استيعاب الصين في النظام الدولي لا يشيه استيعاب دولة صغيرة ، فالامر يتطلب تغيير النظام الدولي نفسه واعادة تعريف الهيمنة الامريكية. واضاف بريزنسكي ان الموقف الامريكي يجب ان يكون ابعد نظرا من موقف القوى الامبريالية الرئيسية عام 1914 عندما كانت المانيا تحاول ان تصبح قوة دولية عالمية ذات تطلعات امبريالية واستعمارية جدية. لكن الولايات المتحدة ، كما يعتقد بريزنسكي تتصرف بشكل اكثر ذكاء.
ومن اسباب تفاؤله ايضا ان القيادة الصينية لا تسيرها ايديولوجية تعتمد على فرض القيم الخاصة بها على العالم مثل روسيا الستالينية او المانيا الهتلرية ، فما يقود بكين هو ان تصبح الدولة الصينية جزءا من العالم ، وهو يتفكر الآن في افضل الوسائل لتفعل ذلك. وعبر المتحدث عن اعتقاده بأنه اذا تصرفت الولايات المتحدة والصين بصورة عاقلة واذا لم يحدث ما يعطل ذلك ، فإن العملية ستتواصل.
وعبر سكوكروفت ايضا عن تفاؤله ، وقال ان العملية بدأت في اوائل السبعينات في القرن الماضي عندما مدت الولايات المتحدة يدها للصين في ذروة الحرب الباردة ، وتوصلت الى تفاهم مع بكين لمعارضة الهيمنة السوفياتية ، كما عملت الولايات المتحدة وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية على تشكيل نظام عالمي جديد تحكمه سياسة الانفتاح ، وقد لجأت واشنطن الى هذا الاسلوب كانعكاس للاخطاء التي ارتكبها العالم في فترة ما بين الحربين ، رغم ان الدولة الامريكية اشترطت على ألمانيا واليابان ان تتجها نحو الديمقراطية قبل السماح لهما بالعودة الى النظام العالمي ، وعلى سبيل المثال سمحت الولايات المتحدة للصين الشيوعية ان تحتل مقعدا في الامم المتحدة رغم طبيعة النظام.
قيادة متطورة
وفيما يتعلق بتجربة بريزنسكي بالنسبة للصين ، قال انه وجد القيادة الصينية متصورة بطريقة تدعو الى الدهشة وحريصة على التعلم وفهم الحقائق ، وكان ذلك هو الانطباع الاول الذي احس به بريزنسكي عندما التقى الزعيم الصيني دينغ هسياو بينغ ، كما تمكن البلدان في ذلك الوقت من التوصل الى تحالف شبه سري ضد الاتحاد السوفياتي شمل عمليات استخبارية مشتركة وتبادل المساعدات في ما يخص المقاومة الافغانية ، وتحدث بريزنسكي باستفاضة واعجاب عن جهود القيادة الصينية لتثقيف نفسها ، مشيرا الى ان تلك القيادة تنتهج منذ خمس سنوات عقد ندوات تدريب لاعلى مستويات القيادة مثل مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة. وهذه الندوات عبارة عن جلسات تستغرق اليوم كله ويطلب من كبار القيادات جميعا حضورها ، ومن القضايا التي تبحث اهمية الدستور وفهم حكم القانون ، وفهم افضل للاقتصاد العالمي وخاصة العولمة ، وتوجهات التكنولوجيا العسكرية ، ونظرة على تاريخ العالم مع تركيز علي صعوبة ونهاية الدول الامبريالية. وتمنى بريزنسكي لو ان الرئيس الامريكي يمضي بعض الوقت في دورات كهذه.
ويعني هذا النوع من القيادة ان الصينيين يفهمون مدى القوة وكذلك مخاطر تجاوز الحدود ، ولذلك فإنه لم تحدث ثورات محلية في الصين ، فإنه لن يكون من الصعب التأقلم مع ما هو مطلوب ، رغم ان منافسة الصين للولايات المتحدة قد تبدو مؤلمة بالنسبة للامريكيين.
ولفت المتحاوران الى ضرورة التعامل الامريكي مع الصين باحترام فهذه الحضارة لن تتقبل المواعظ من الامريكيين ، فالصينيون حساسون لتاريخهم وثقافتهم وهناك ما يبرر ذلك ، لان ذلك التاريخ وتلك الحضارة من اعظم ما شهد العالم ، واذا سعت واشنطن الى اعطائهم دروسا حول كيفية التصرف ، فإنهم لن يستمعوا إليها ، ثم ان القيادة الصينية ذكية للغاية وهي تجري هذه الايام نقاشا عاما حول كيفية فتح المزيد من الديمقراطية في نظام غير ديمقراطي.
اختفاء الامبراطورية
كان برنت سكوكروفت مستشارا لشؤون الأمن القومي عندما اختفى الاتحاد السوفياتي وولدت روسيا من جديد ، ويقول شكن ذلك انه عندما وصل بوش الاب الى السلطة كان هناك غليان في اوروبا الشرقية ، فجلسنا نتباحث حولي ما يجب ان تكون عليه سياستنا هناك ، وفي الماضي كان الاتحاد السوفياتي يسحق اي تحرك في اوروبا الشرقية ، حدث ذلك في المانيا الشرقية عام 1953 والمجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968 وكانت ردة فعل واشنطن تجاه التطورات الروسية انها ارادت تغذية الليبرالية في شرق اوروبا وتشجيع ميخائيل غورباتشوف في سياسته الانفتاحية ، وقد استنتجنا اما ما يحاول غورباتشوف عمله هو بناء انظمة اكثر انفتاحا في اوروبا الشرقية واردنا تشجيعه على ذلك.
ويقول سكوكروفت ان غورباتشوف رأى في سياسته المسماة «غلاسنوست» وسيلة لزيادة كفاءة وفعالية الاتحاد السوفياتي. وكان الاتحاد مليئا بالقادة المرضى والخرفين ابتداء بليوتيد بريحنيف ، لذلك رأى غورباتشوف نفسه كقوة لتجديد النظام وليس لاحلال نظام آخر مكانه. ومن وسائل التجديد شطب الارهاب والقمع ، لكنه فشل في اقناع الحزب الشيوعي بما يريد فهدد باجراء انتخابات حزبية ليتخلص من «الاشرار» ، وهذا في رأي سكوكروفت ما ادى الى العد التنازلي الذي دفع بالاتحاد السوفياتي الى الانهيار ، حيث ان غورباتشوف هو الذي زرع بذور فناء الاتحاد دون ان يقصد هذه النهاية.
وتحدث بريزنسكي عن الموضوع نفسه ، فقال انه كتب رسالة الماجستير حول روسيا والاتحاد السوفياتي ، وكان رأيه ان روسيا تحت اسم الاتحاد والسوفياتي لم تكن دولة قومية بل امبراطورية تحكمها موسكو ، وان تاريخها يشمل «400» عام من التوسع الاقليمي الذي وصل الى ذروته عام 1945 ، ولكن في زمن القوميات شعر بريزنسكي ان هذه الامبراطورية لن تدم ، وان الاتحاد السوفياتي كان يغذي المشاعر القومية لدى غير الروس.
وعاد سكوكروفت الى التدخل قائلا انه لو تدخل المكتب السياسي للحزب الشيوعي واختار بريجنيف آخر بدل غورباتشوف لأخذت الاحداث مسارا مختلفا ، وربما لاستمر الاتحاد السوفياتي ، ففي النهاية لم يستطع الاتحاد ان يدعم نفسه سياسيا او اقتصاديا ، لكن ردة فعل غورباتشوف اسهمت في انهيار الاتحاد ، وعندما دخل غورباتشوف الانتخابات بعد انهيار الاتحاد لم يحصل سوى واحد بالمائة من الاصوات فهو في الواقع من اكثر الاشخاص المكروهين في روسيا ، حيث يعتقد على نطاق واسع انه دمر مجد روسيا.
ثم جاء يلتسين وفكك اقتصاد الدولة وطلب من الحكومات الاقليمية ان تستولي علي كل السلطات التي تستطيع ممارساتها وهو ما ساعد في نشوء طبقة من الاغنياء القلة مقارنة بكثرة الفقراء. ويعتقد سكوكروفت ان فلاديمير بوتين دخل لما حدث ، وبغض النظر عن دوافعه فهو مركزي التوجه ، وحاول ان يلملم اطراف الدولة الروسية وانقاذ ما يستطيع من الامبراطورية على حد ما قاله سكوكروفت.
رأي بوتين
وعندما تزايدت الكراهية ليلتسين الذي اكثر من شرب الخمر اصبح بوتين هو الرئيس ، وكما يقول بريزنسكي فإن هناك مفاتيح تدل على ما يريده بوتين ، وهو يقول على سبيل المثال ان انهيار الاتحاد السوفياتي يمثل اكبر كارثة جيو - سياسية في القرن العشرين. فكيف يقول ذلك عن قرن شهد حربين عالميتين قتل فيهما مئات الملايين من البشر ، وقرن شهد الهتلرية والمحرقة والستالينية. ولكن بالنسبة لبوتين فان التفكك السلمي تقريبا للاتحاد السوفياتي يمثل اسوأ كوارث القرن.
لكن بوتين رجل عاقل ، لذلك فهو لا يحاول ايجاد اتحاد سوفياتي جديد ولكنه سيفعل امرين كما يعتقد بريزنسكي ، الامر الاول هو محاولة عزل اسيا الوسطى لابقاء الغرب بعيدا قدر الامكان ، وهو يمارس ذلك بطريقة فعالة للغاية حيث جعل كل النفط والغاز المنطلقين من دول آسيا الوسطى يمران عبر الاراضي الروسية. وثانيا سيحاول اخضاع دول مهمة جغرافيا مثل اوكرانيا وجورجيا. فضياع اوكرانيا يعني انتهاء امل باقامة اتحاد سلافي وبقاء روسيا دولة قومية ، وضياع جورجيا خطير لان له عواقب على الاوضاع القوقازية ، كما ان خطر انبوب النفط الذي يمر من باكو الى شيهان يعطي وانشطن امكانية الوصول الى بحر قزوين ، وهو خط يتمنى الروس لو بالامكان قطعه.
تجاوز السيادة
يقول اغناتيوس الذي ادار الحوار مع كل من بريزنسكي وسكوكروفت: عندما نفكر باميركا والعالم ، نميل الى الافتراض بأن اوروبا منطقة ثابتة لا تتغير نعرف عنها كل شيء ولا نحتاج الى معرفة المزيد. لكننا ننسى، كما يضيف، ان اوروبا تغيرت في السنوات العشرين الماضية كأي منطقة اخرى في العالم. فقد تم انشاء الاتحاد الاوروبي وتوسع خارج اوروبا الغربية وتنوع اعضاؤه. واصدرت اوروبا عملتها الموحدة ، واصبحت بشكل او باخر منطقة مختلفة ، فهل هي اوروبا جديدة وما الذي يجعلها مختلفة؟ وماذا تقدم للولايات المتحدة من قضايا امنية؟
يرد بريزنسكي على هذه التساؤلات بقوله ان الجديد بشأن اوروبا هو الجهد المؤسسي الذي تجاوز التقليد السيادي الوطني ، وهذا بحد ذاته انجاز عظيم. لكن الولايات المتحدة اتحاد اكثر اكتمالا من الاتحاد الاوروبي. وعند تأسيس الاتحاد الاميركي كان اقرب ما يكون الى اتحاد معظم رعاياه من الآنغلو ساكسون مضافا اليهم العبيد وبعض بقايا الهنود الحمر. غير ان تشكل الاتحاد الاوروبي من بلدان متمايزة بصورة كبيرة وذات لغات مختلفة هو امر فريد من الناحية التاريخية.
ويمضي بريزنسكي الى القول ان النظر الى الاتحاد الاوروبي من وجهة النظر الاميركية ، يركز على عدة نقاط منها ان تكون اوروبا اكبر واكثر تحديدا من الناحية السياسية واقوى عسكريا وان تكون متحالفة مع الولايات المتحدة.
ولدى سؤال بريزنسكي عما اذا كان يتعين على الولايات المتحدة ان توجه اهتمامها تجاه المحيط الهادىء وآسيا ، قال ان مركز الجذب العالمي ينتقل الى الشرق الاقصى ، وان هيمنة الدول الاطلسية التي تتواصل منذ ستمائة عام بدأت تهدأ. ولكن مع ذلك ، فانك اذا نظرت الى الامكانيات الفكرية والاقتصادية والعسكرية مجتمعة لدى الولايات المتحدة واوروبا ، من الواضح انه اذا تمت تعبئة هذه الموارد بذكاء وتركيز على سياسة بناءة ، فإن الاسرة الاطلسية ما زالت تملك ادوات مهمة للعب دور مسيطر. ولكن يبقى السؤال: هل تستطيع الولايات توليد اتجاه استراتيجي او هل بامكانها ايجاد التوازن بين اقتسام القرارات واقتسام الاعباء؟ وهل تتمكن واشنطن من تحديد الاهداف التي لا توفر الخدمة الذاتية فحسب ، ولكن الموجهة ايضا الى الابقاء الاكبر المرتبطة بالاقتصاد العالمي؟
ويرى المتحدث انه اذا استطاع الغرب ان يفعل ذلك ، فانه سيظل القوة المهيمنة على العالم لعدد من العقود. وتابع قائلا انه لو اهتمت الولايات المتحدة اكثر بالشرق الاقصى فإن اليابان بحاجة الينا مثل حاجتنا اليها ، وان الصين رغم كل مكامن الريادة لديها ستظل في العقود المقبلة ، دولة ذات مشاكل في البنى التحتية وانتشار الفقر. اما الهند فان عليها ان تبرهن قدرتها المحافظة على وحدتها الوطنية ، لكن هناك في الهند مليار انسان غير فعالين من الناحية السياسية وغير معبئين ايضا. ولا ندري ماذا يمكن ان يحدث عندما تستيقظ هذه الجماهير ذات اللغة والعرق والديانة المختلفة. يأمل بريزنسكي من ان تتمكن الولايات المتحدة من تأمين قيادة قادرة على تحديد اتجاه الاحداث عبر الاطلسي ، لكن من الصعب ان يوفر الاوروبيون مثل هذه القيادة.
اول مائة يوم
في الفصل الاخير من الكتاب طلب ديفيد اغنانيوس من المسؤولين السابقين ان يقولا له ماذا يجب على الرئيس المقبل للولايات المتحدة ان يفعله في المائة يوم الاولى من ولايته لتمكينه من الاستجابة الى العالم الذي تحدثا عنه. يقول سكوكروفت في اجابته على هذا السؤال ان العالم قد تغير ، لكن الهياكل المعتمدة في عمل اجهزة الامن القومي الاميركي بنيت اصلا للحرب الباردة. وقد تشكل مجلس الامن القومي بقانون صدر عام 1947 ، وهذا ذات القانون الذي انشأ وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع. كل هذه الاجهزة تم انشاؤها للحرب الباردة واستنادا الى دروس تم تعلمها من الحرب العالمية الثانية. لكن هذه الهياكل لم تتغير رغم انه تم توسيع مجلس الامن القومي بطريقة ما حيث اضاف كلينتون المجلس الاقتصادي القومي فيما اضاف بوش مجلس الامن المحلي. وهكذا نكون ، كما قال سكوكروفت ، قد بدأنا بتوسيع الهيكليات للتعامل مع قضايا اخرى.
ويضيف سكوكروفت انه لو عاد مستشارا للامن القومي الآن فانه لن يسعى لانشاء مجلس جديد ، وانما سيحبذ تعديل قانون مجلس الامن القومي بهدف تعديله. وقال: لقد اجرينا بعض التغييرات في اجهزة المخابرات ولكن من المبكر معرفة ما اذا كانت هذه التغييرات مناسبة. ويقول قانون مجلس الامن القومي على سبيل المثال ان المخابرات الاجنبية هي من مسؤولية السي. آي. ايه ، فيما المخابرات المحلية من اختصاص ال ف. بي. آي. وكان مثل هذا الترتيب ملائما للحرب الباردة لان معظم العمليات الاستخبارية كانت خارجية. ولكن الارهاب يجعل الاختلاف بلا معنى ، فمن المشاكل التي عانينا منها في هجمات 9 ـ 11 ان لدينا وكالات مختلفة وخاصة السي. آي. ايه والاف . بي. اي ، حيث ان لكل منهما فلسفة خاصة حول كيفية التصرف وهما تحاولان تمرير المعلومات عبر حواجز بيروقراطية.
وتابع سكوكروفت إن العراق مثال آخر، فبعد تدمير حكومة صدام نصبنا إداريا أميركيا في العراق، فلمن كان هذا الاداري يتبع؟ في البداية كان تابعا لوزارة الدفاع ثم عمل موظفا في مجلس الامن القومي ، وكان هذا الامر مربكا.. وفي افغانستان لا توجد مرجعية اميركية للوضع هناك ككل.
بريزنسكي من جانبه قال إنه على افتراض أن الرئيس القادم يريد أن يلعب دوراً نشطا في تشكيل السياسة الخارجية، فإنني أحثه أولا وقبل كل شيء على أن يختار مستشاره لشؤون الأمن القومي من بين أشخاص يعرفهم بشكل جيد ويحس بالراحة معه. كما يجب أن يتوفر بينهما تناغم عقلي، فمستشار الأمن القومي مقرب جدا من الرئيس، ويجب عليه أن يراه بكثرة، وأن يكون مستعداً لممارسة سلطة الرئيس نيابة عنه من خلال ثقة متبادلة تدفعه إلى التعبير عن آراء الرئيس. وأضاف أن جزءاً من المشكلة التي واجهتها كوندليزا رايس خلال عملها كمستشارة للأمن القومي أنه كان يتم تجاوزها من قبل كولن باول ودونالد رامسفيلد، ولم تستطع أن تنسق وتفرض القيادة الرئاسية على عملية صنع السياسة.
آلية تخطيط
ويقول بريزنسكي انه سيقول للرئيس ايضا ان الحكومة الاميركية ينقصها بشكل عام آلية تخطيط استراتيجي فعال ومركزية. فوزارة الخارجية تمارس اعمالها على افتراض ان الشؤون الخارجية هي مسألة دبلوماسية فيما تتبع وزارة الدفاع سلسلة من الوكالات المكلفة بالتخطيط. ولكن لا توجد آلية تخطيط فعالة كالتي كانت موجودة في عهد ايزنهاور وهي عبارة عن مجلس خاص للتخطيط ، واعتقد والكلام لبريزنسكي ان الوقت ملائم لاقامة مثل هذه الآلية.
ولم ينس المتحدث ان يطلب من الرئيس الجديد ان يلجأ في بداية عهده الى الالتفات باهتمام فوري لقضيتين اولاهما الشرق الاوسط ، حيث لو كنت مكان الرئيس لعينت مندوبا رئاسيا لقيادة قوة عمل للتعامل مع قضايا تلك المنطقة وهي قضايا ملحة. وقال انه يفضل ان يتعامل ذلك المندوب الرئاسي مع قضايا الشرق الاوسط وكذلك العراق وايران ، كما يريد من الرئيس ان يعين مندوبا رئاسيا آخر لمعالجة علاقات التحالف ، ومنها على سبيل المثال كيفية اجتذاب دول كاليابان وكوريا الجنوبية الى تعهدات اطلسية معينة ليس من خلال استيعابهما في الناتو بطبيعة الحال ، ولكن من خلال دفعهما الى المساهمة في تأمين الاستقرار العالمي.