درس تطبيقي في قراءة القصة القصيرة- قصة " لحظة ألم " لآداب عبد الهادي نموذجا.
عبد الرشيد حجاب/الجزائر

درس تطبيقي في قراءة القصة القصيرة- قصة " لحظة ألم " لآداب عبد الهادي نموذجا.



لقد وقع الاختيار على هذه القصة بالذات كونها محددة المعالم والرؤية ,واضحة الدلالة والرسالة,مكتملة البنية والصياغة, فهي إذن وإن كانت تفسح المجال أمام القارئ النهم لأن يذهب في تفسيرها المذاهب إلا أنها تلزمه على التقيد ببعض الدلالات التي لا يستطيع تجاوزها بحيث يخرج من القراءة بقصة ثانية لا علاقة لها بالنص كما هو حال كثير من النصوص الهلامية ذات الإشارات المتعددة والمتنوعة التي تغرق النص الأساسي وقد تلغيه أحيانا.
كما وقع عليها الاختيار, من جهة أخرى , لما لاقته من ضيم وسوء تفسير, وقصور في الفهم عند أغلب من علق عليها هنا في الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين – واتا- , حتى أن أحدهم كاد ينكر أنها قصة قصيرة , متهما إياها بالقصور والحشو،ربما لعدم جديته في القراءة أو لقصور لديه في الفهم والتذوق.
وهنا يجب أن نفتح قوسا لنقول إن الكاتب – أي كاتب – غالبا ما يبذل من الجهد والعرق , ويلاقي من السهاد والأرق , ما يخطر على البال وما قد لا يخطر, وهو يكتب قصته , ليأتي قارئ متسرع يلتهمها في دقيقة ثم يخط عليها تعليقا ما ويمضي تاركا الكاتب المسكين في حيرة من أمره , وقد بدأ يلعن فيه اليوم الذي تلبسته لعنة الكتابة , وأغراه شيطان النشر.
وليكون الدرس مفيدا سنقوم أولا بعرض القصة حتى تكون بين أيدي من لم يسبق لهم الإطلاع عليها من القراء الكرام , ثم نتعرض لبعض التعاليق التي تناولتها ,لننتهي أخيرا إلى الكشف عما بدا فيها غامضا أو غير مستساغ .وبالتالي نقدم فهما متكاملا عنها .وسوف نحاول ما أمكن تقديم قراءة بسيطة واضحة ومنطقية متجنبين المصطلحات النقدية التي قد تقف حاجزا أمام البعض , فينفر من متابعة الدرس.
أولا النص:

لحظـة ألم


حدق بها طويلاً،تأملها،نقلّها بين يديه،ثم قبّلها ، ورغماً عنه سقطت دمعة من عينه، غافلته وسقطت، مسحها بمنديله الحريري ، وحدثها مبرراً:
إنها قريبة مني ،غالية على قلبي ،لم يخطر على بالي في يوم من الأيام أن أتنازل عنها أو أبيعها ، أو أبتعد عنها أو تبتعد عني ، إنها جزء مني ،من روحي ،من قلبي ،إنها ذكرياتي ،حياتي السابقة.
-آه هذه الكاميرا الرائعة ، مازلت أذكر تماماً يوم اشتريتها ،كم كنت فرحاً لقد عملت على توفير الكثير من المال إلى أن تمكنت من شرائها ،كان يوماً ربيعياً رائعاً ،كانت السماء صافية ورائحة البنفسج تملأ الطرقات في تلك المدينة الرائعة في أسبانيا ،أوه.. لقد أصبحت هذه الكاميرا قطعة نادرة .
-ثلاثون عاماً مضت على شرائها ،ثلاثون عاماً كانت رفيقتي وصديقتي في رحلاتي الكثيرة في المدن والغابات والسهول والبحار ، إن لهذه الكاميرا الرائعة تاريخاً عظيماً ، حفظت في ذاكرتها الكثير من صور العظماء في هذا العالم ، وكثير من الغادين والصادين والكثير الآخر من صور النسور والصقور والعقبان ،كانت تؤنسني في وحدتي وتسامرني في ليلي ،كنا صديقين حميمين ، مازلت أذكر الابتسامة التي كانت ترسمها على شفتيها كلما حصلت على لقطة فنية نادرة أو أحصل على جائزة كبيرة لصورة عظيمة من إنجازها .
كانت جزءاً مني، ويصعب علي التخلي عنها .
إيه يالله وهذه البندقية الغالية النادرة ، لقد مضى على شرائها قرابة الربع قرن كم أنقذتني من هجوم أشرار ، وكم أدخلت الطمأنينة إلى نفسي وروحي ،لذلك كلما قمت بتنظيفها أشعر وكأني أنظف نفسي ، أنظفها بدموعي وأجففها برياح قلبي بنبضاته بخفقانه ، كيف سأتخلى عنها ،كيف....كيف...........
كم سأشعر بالوحدة والغربة والخوف، نعم بدونها سأشعر ببرد قارس ينخر عظامي ويفتتها، حتى هذه الصور و التي أصبحت أرى أنه لا داعياً للاحتفاظ بها،فقد مات الكثير من أصحابها ، والباقي منهم إما مريض أو جن أو في طريقه إلى الموت ، كما إنه لم تعد لي رغبة حقيقية في اقتناء واحتواء هذه الأوراق والمستندات ، ولا أدرى لما احتفظت بهذه الأشياء كل هذه السنوات ،هناك أشياء مضى عليها خمسون عاماً ، مذ كنت شاباً يافعاً،ولا أدري لما كنت أحبها وأتفاخر باقتنائي لها ،إيه غريبة هي الحياة ،غريبة جداً.
وأطلق زفرة وأعقبتها حسرة ،صمت بعدها للحظات ثم تناول المسبحة الذهبية وقلبها بين يديه ورسم على شفتيه ابتسامة رقيقة صاحبتها دمعة تربعت في عمق عينيه ، ثم هبطت من برجها العاجي لتعانق الابتسامة وبقي الوجه مراقباً لهذا العناق وهو غامض الملامح ضائعاً تائهاً محتاراً لا يعرف ماذا يريد إلى أن تحركت الشفتان وتحدثت بصوت متهدج حزين مليء بالحنين إلى الماضي إلى الذكريات :
-أيتها المسبحة ،كم كنت أتفاخر باقتنائي لك ، كنت أضعك في معصمي وأحاول رفع يدي إلى الأعلى ليراك جميع الموجودين والذين أتقصد أن يرونك معي وخاصة النساء منهم .
مازلت أذكر عندما ابتعت هذه المسبحة في إحدى المدن الفرنسية ابتعتها حينها بثلاثمائة دولار من أكثر من ربع قرن ، إنها لم تفارقن أبداً، علما أن إحداهن وفي ليلة حمراء ملتهبة سرقتها مني ، وكنت قد اكتشفت أمرها، فبحثت عنها في صباح اليوم التالي إلى أن، وجدتها وأخذتها منها بعد تهديد ووعيد ، ومن ذلك الحين لم أحضر المسبحة معي إلى وسط أو مجتمع تكثر فيه النساء ،...إيه ...أيام ...أيام .....
وقف الرجل العجوز وحدّق بصورة كانت معلقة على الحائط كانت صورته عندما كان شاباً ،ابتسم لها ثم تناول عصاه واتكأ عليها واتجه إلى كرسيه المفضل الموجود أمام المدفأة ، جلس بتثاقل ثم أسند رأسه على الطرف العلوي للعصا وتنهد متحسراً.
وفي صباح اليوم التالي أخرج الرجل العجوز حقيبة سفر قديمة من أحد أدراج خزانته ،كانت الحقيبة من الجلد الطبيعي ، سحبها بهدوء ونفض الغبار عنها ، ثم قربها إلى أنفه واستنشق رائحتها وقال:
-حتى أنت غالية عليّ ،لكن لابد مما ليس منه بد.
واتجه إلى أشيائه ،إلى الكاميرا والمسبحة والبندقية وبعض التحف الأخرى ووضعها في الحقيبة ثم اتجه إلى صورته المعلقة على الحائط ، وقف أمامها كان في ريعان الصبا ، كانت الصورة وهو في العشرينات من عمره وبالتحديد في الخامسة والعشرين، حدق بها وقال :
-لا تؤاخذني أيها الشاب ، لقد ولى العمر ، ولم يعد لي حاجة إلى هذه الأشياء ...لا تؤاخذني أيها الشاب ولا تنظر إلي هكذا ، لا تغضب ولا تحدق بي وأنت متذمر ،فأنت لا تدرك ماذا تعني الشيخوخة ،لا تدرك ماذا يعني المرض ،لا تدرك ماذا يعني العمر الذي مضى ولا تدرك أبضاً معنى الذكريات وقيمتها ولا تدرك أيضاً ماذا يعني أن يبيع الرجل العجوز أشياءه القديمة التي كان يسعد عندما يشتريها أو يحصل عليها ويتفاخر أمام الجميع باقتنائه لها لا تدرك لا تدرك لا تدرك......
هناك أشياء كثيرة لا تدرك معناها أيها الشاب المتربع في أعماق أعماق روحي سامحني إذا كنت قد اضطررت للاستغناء عن أشيائي لكن لا تعتقد أنني فرطت بها ...لا...لا..لا بل إني أشعر بالألم واليأس والأسى ، وفقداني لهذه الأشياء يعني فقداني لروحي ولنفسي ولشخصي ورغم ذلك ،لا أخفيك أيها الشاب ما أحس به ،إنني فعلاً لم أعد بحاجة لهذه الأشياء ، لم أعد بحاجة إلى بندقية أتقي بها هجوم حيوان مفترس أو عدو متوحش ،لأنني لم أعد قادرا على النوم في العراء ولم أعد قادرا على مقارعة الحيوانات المفترسة ، سامحني أيها الشاب المتربع في ذاتي فقد ولى العمر وانتهت الرحلة وآن أوان السفر ، سامحني أيها الشاب الذي لم يفارقن أبداً فقد اضطررت لبيع أشيائك وبيع مقتنياتك والتخلي عن ذكرياتك ، سامحني سامحني لأنني اضطررت لبيع أشيائك في مزاد علني.
ثانيا التعاليق:


قبل أن نتعرض للتعاليق الواردة حول هذه القصة نحب أن نشير إلى حقيقتين:

الأولى: تتعلق بمجال النشر.فنحن هنا في مجال إلكتروني مفتوح حيث نطلع على النص وعلى التعاليق حوله في نفس الوقت.وهو أمر يختلف اختلافا جذريا عن النشر الأرضي أو الورقي.فبينما نكون في مواجهة النص الورقي وحدنا ولا سلاح لنا سوى ما نملكه من رصيد معرفي , وذوق أدبي , ورغبات في الاستزادة من الخبرات تضعف وتقوى باختلاف القراء ومستوياتهم وميولهم...فإننا هنا في المجال الافتراضي/الرقمي أمام ظاهرة جديدة في القراءة تشبه إلى حد كبير القراءة المدرسية/التعليمية , ونعني بذلك القراءة الجماعية حيث يتعاون الجميع على تقديم فهم متماسك للنص يستفيد منه الجميع.

الثانية: هناك من القراء المعلقين من النبهاء والمتمرسين من يكتفي بالإشادة بالقصة دون الدخول في التفاصيل لحث المتصفحين على التعمق في قراءة النص من جهة , وحتى لا يحرم القراء من متعة الاستكناه والاجتهاد الذاتي من جهة ثانيا, وأخيرا حتى لا يفرض اتجاها معينا في القراءة.ولكم تمنيت أن يعود مثل هؤلاء النابهين إلى النصوص حين تخمد ضوضاء التعاليق ليقدموا ما لديهم في رزانة وهدوء تخدم القارئ تهذيبا وتشذيبا , كما تخدم الكاتب من وجوه كثيرة لعل أهمها هنا إعفاءه من مواجهة بعض اللجوجين من القراء , ومن اضطراره أحيانا إلى شرح نصه , وهو أكره ما يكرهه الكاتب الواثق من نفسه.
على كل حال ، إذا استثنينا المجاملات والتحيات وبعض الهمزات والغمزات الغامضة التي لا هدف لأصحابها سوى تأكيد حضورهم لسبب أو لآخر, وهي آفة عارضة ستزول حتما مع شيوع ورسوخ العالم الافتراضي وانتشار ثقافة الجدية والمهنية- نقول إذا استثنينا ذلك فسوف نجد أن التعليقات الواردة حول النص موضوع الدراسة هنا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ويمثله الذين وقفوا على أهمية النص وعمقه واكتشفوا بعض دلالات رموزه.ويمثل هؤلاء هنا الدكتور محمد فؤاد منصور الذي لم يشأ في ما يبدو الدخول في التفاصيل واكتفى بالتنبيه إلى عمق النص وجماله في قوله :
" هي محنة الإنسان وأزمته في مواجهة الزمن ، تصوير جميل ورائع من قلم يملك حساسية خاصة ، الارتباط بالأشياء هو ارتباط بالحياة ويوم ينجح الإنسان في التخلص من ذكرياته وأشيائه القديمة فكأنما صار مهيأً للرحيل ..عميقة هي الفكرة .."

بينما ذهب السيد محمود عادل بادنجكي – وهو معروف بحبه لاستكناه الخفايا –
إلى كشف ما وقف عليه من الرموز في النص وقد وفق إلى حد ما كما سوف نرى لاحقا.يقول:
"الأستاذة آداب:الرمزية في تخلّيه عن الأشياء الثلاثة
فالكاميرا هي العين السحرية التي يرى بها الأشياء, مقربة يتجمّد بها الزمان
لم تعد تلزمه بعد أن ضعف بصره,والبندقية لن تحميه من غائل الموت المحيط
أما السبحة التي ترمز لتسلية وتفاخر, فقد أصبحت مفردات جوفاء,لم تعد نافعة
لكنني أعتقد أنه لن يبيع الحقيبة, فإنها عدة السفر!!! سلم بنانك "

القسم الثاني : ويشمل هذا القسم تعليقات تتراوح ما بين القراءة البسيطة أو الأفقية أو السطحية حينا وبين عدم الوقوف على دلالات الرموز أو محاولة تفسيرها تفسيرا سطحيا بعيدا عن دلالات هذه الرموز كما سنرى لاحقا.
يمكننا الاشارة إلى بعض الأمثلة من هذه التعاليق على غرار:

- 1-تمنيتك لو لم تنهي القصة هكذا.. فأغراضه اصبحت جزءا من حياته.. هل أنت ترمزين لشئ؟؟ حاولت أن أتبين ولم أوفق ..


2-القصة جميلة بمعانيها ودلالاتها وكانت سلسة الاسلوب وواضحة المعاني
امتعتني واستطعت يا اختي الكريمة بمقدرتك الادبية ان توصلي الينا معنى تعلق المرء باشيائه التي هي حياته وذكرياته

3--في النص تحاصرين لحظة عسيرة .. فراق الامتعة العزيزة المشدودة بوثاق متين الى الماضي هو فراق للانسان .. انسابت اللغة رقراقة مع المعاني ..

4-ويبقى سؤال معلق في ذهني, نهاية القصة ..
هل الحاجة للمادة وراء ذلك أم الخلاص من أسر ذكرياته المتكدسة في ذاكرته الضعيفة ليخفف عنه عبئها ؟!

5-مهما كان الامر أنا لا أوافق طرح البطل في بيع أشياء اللماضي ..
لأنها لم تعد ملكا له..
إنها للأحفاد..
وكأنك تقولين بانفصام عروة الأجيال..
من صنع شيئا فلنفسه.

هنا نقف لنشير إلى أن أغلب التعليقات تندرج ضمن هذا القسم ..كما يجب أن نؤكد غياب الأقلام الكبيرة
المتخصصة الموجودة في واتا , وهو ما أخل بالتوازن في قيمة التعليقات , كما أن هذا الأمر يعتبر ظاهرة
قائمة بذاتها داخل هذا الصرح الثقافي العملاق وهو ما سوف نخصص له دراسة مستقلة إن شاء الله.


القسم الثالث والأخير: في هذا القسم حاول البعض التعرض لما نسميه فنيات الكتابة القصصية.مثال:
- لكن قصتك شدتني إليها وجعلتني أكملها بين مستحسن ٍ هذا ومستنكر ٍ ذاك ...
القصة جميلة , ودلالاتها واضحة ومؤثرة ولكن ...
ألا تشعرين معي بهذا القصدية والتقريرية والمباشرة في كتابتها
ألا تشعرين معي بالإطالة والإفتعال في كثير من المواضع.
ويقول نفس المعلق في موضع آخر:
- - لقد تسرعت في إطلاق تلك الأحكام دون مراجعة دقيقة .
2- تسرب لي ذلك الشعور بالإطالة بسبب بعض الترهل الذي شاب بعض العبارات ولا أقول كل القصة .
3- القصة فيها كلام كثير أردت منه على ما يبدو أن يفسر الأشياء الواضحة أصلا ً , ولكنك لو قمت ِ بتكثيف هذه العبارات لكان من شأنها أن تعمل على تعميق الحالة أكثر ودفع السرد إلى الأمام بدلا ً من المراوحة في الوصف .

هذا الرأي قد يبدو مقبولا لمن لم يقف على مغزى الرموز الواردة في القصة , إذ لو وقف عليها
لأدرك أن الكاتبة لا تستطيع تكثيف النص أكثر مما فعلت وإلا تحول إما إلى النقص أو إلى
التعمية والطلسمية.كما أن "القصدية" التي أشار إليها المعلق لا تبدو لنا مقبولة هنا لأننا أمام نص رمزي ورمزي بامتياز.وقال معلق آخر:
- لستُ ناقداً بالطبع ، و لكني قارئاً كنتُ أتمنى أن يكون النص أكثر ديناميكية و حركة .

وبالرغم من أننا لم نفهم ما هو المقصود بالضبط هنا بالديناميكية والحركة إلا أننا نؤكد أن السكون والجمود والتركيز الشديد على التصوير الدقيق هو ما يتناسب مع هذه القصة التي تحكي مرارة رجل عجوز تجرعها وذاقها قطرة قطرة ليجد نفسه شبه منبوذ كما سنرى قريبا.
قبل أن نغادر ميدان التعليقات أحب أن أنبه إلى تعليق طريف يقول صاحبه :-

لقد لامست قصتك سحر "النصوص" في نفوس العارفين، ووقعت في نفسي لترتفع بها وتسمو.
أتمنى أن تقرأي حي بن يقظان لإبن طفيل علك تحلين اللغز الذي انتابني وأنا أقرأ نصك المختلف عنها موضوعاً وزماناً ومكاناً !!..
بصدق أقول لك لا أدري لماذا حضر ابن طفيل وتمثلت أمامي "حي بن يقظان" وأنا أقرأ نصك الآسر.

وأنا أقول لهذا الأخ لماذا تذكر "حي بن يقظان" وربما "روبنسون كروزو" لأنه ببساطة فهم من القصة ما فهمه أغلبية القراء وهو ما يمكن تلخيصه في "صراع الإنسان مع الزمن"- وهي تيمة تستحضر آلاف المقاربات - وهو فهم سوف يبدو متعسفا أو هو يحاول أن يلوي عنق النص ليجعله يقول ما لم يقله إلاإذا نظرنا إلى الأمر من زاويةالإطار العام للوجود الإنساني ككل.
كما أحب أن أشير إلى أني لم أقم بتصحيح بعض الأخطاء والهفوات الواردة في التعاليق.
ثالثا : دراسة النص


1- ملخص القصة: القصة تصور لنا حياة رجل عجوز يهم ببيع بعض أغراضه في مزاد علني دون أن يكون ذلك بسبب ضيق مادي مادام يمسح دموعه حزنا على مفارقته لهذه الأشياء بمنديل حريري.هذه الأشياء هي حسب ترتيب ورودها في القصة:كاميرا- بندقية – مسبحة – تحف أخرى – حقيبة.
يقول الشيخ في التعبير عن قيمة هذه الأشياء بالنسبة إليه:
إنها قريبة مني ،غالية على قلبي ،لم يخطر على بالي في يوم من الأيام أن أتنازل عنها أو أبيعها ، أو أبتعد عنها أو تبتعد عني ، إنها جزء مني ،من روحي ،من قلبي ،إنها ذكرياتي ،حياتي السابقة.

هذه الجملة بالذات والواردة في بداية القصة تجعلنا نتأكد منذ البداية أننا لسنا أمام مجرد ذكريات بل "حياة " رجل تباع في مزاد علني.لكن لماذا؟
الجواب يكمن في فك رموز هذه الأشياء.
2- الكلمات المفتاحية في القصة ربما يجب التأكيد أولا على أن لكل قصة قصيرة مجموعة من الكلمات المفتاحية التي يؤدي عدم الانتباه إليها إلى إضاعة فرصة تذوق النص والاستمتاع بما يقدمه من رؤى بما في ذلك كلمات عنوان النص. بل قد يؤدي عدم الانتباه لكون بعض الكلمات مفتاحية إلى عدم فهم النص أو فهمه فهما سطحيا كما رأينا سابقا في الأمثلة التي أوردناها.لذلك وجب الانتباه الدقيق لكل كلمة حتى وإن بدت كلمة زائدة أو مجرد تفصيل .فثمة فرق واسع شاسع بين "يمسح دموعه بمنديله" و بين يمسح هذه الدموع ب"منديله الحريري".فحريري هنا تشير إلى حالة البطل المادية من بين ما تشير إليه من أمور.
وثمة كلمة أو عبارة وردت في النص ولم تلفت انتباه القارئ وهي في الحقيقة كلمة مفتاحية أساسية.لقد ذكر الجميع عملية البيع كما لو كانت عملية بيع عادية يلجأ إليها كل إنسان ضاقت به سبل العيش.فلماذا أصرت الكاتبة على إضافة "مزاد علني " إذا كان الأمر يتعلق بمجرد عملية بيع عادية ؟
3-

3 الزمان والمكان يجب دائما الالتقاط الجيد لكل ما يشير إلى الأزمنة والتواريخ والأمكنة.إن كاتب القصة القصيرة غالبا ما يعتمد على ثقافة القارئ وذكاءه وفطنته في فك بعض الكلمات المشفرة كون القاص محاصرا بالحيز الضيق الذي تتيحه القصة القصيرة فهو مرغم على الاختزال الشديد.
من هنا يمكن القول إن القصة القصيرة – خلافا لما هو شائع – فن نخبوي
ليس فقط لكونها تمتص من رحيق جميع الأجناس الأدبية من شعر ونثر
بل أيضا كونها رغم قصرها تحمل رؤى وأفكارا بل أحيانا فلسفة حياة كاملة. إنها مثل الألماس في مقارنتها بجواهر الأدب الأخرى.
وعلى ذكر الزمان أحب أن أسأل : ما هو عمر البطل في هذه اللحظة التي ترصدها القصة ؟
إن غالبية التعاليق قد رأت وقررت أنه شيخ عجوز قد بلغ من العمر أرذله وهو على أبواب الفناء الجسدي بل إن أحدهم قد جعله يفقد القدرة على النظر السليم ليبرر عدم حاجته إلى الكاميرا ؟ فهل هذا صحيح ؟ الكاتبة لم تشر إلى ذلك على الإطلاق بل إن عملية حسابية سريعة تثبت لنا أن البطل من ناحية العمر لم يتجاوز الستين بعد بل هو بالضبط في حدود الخامسة والخمسين من عمره , إنما الضعف والوهن الذي بدا عليه يعود بالدرجة الأولى إلى معاناة لا علاقة لها بالسن بل خيبة الأمل من جهة وفي ما عبر عنه العنوان بلحظة ألم من جهة ثانية كما سنرى لاحقا.
لقد وقف يخاطب الشاب في الصورة التي هي صورته حين كان في الخامسة والعشرين ويقول له:
"، سامحني أيها الشاب الذي لم يفارقني أبداً فقد اضطررت لبيع أشيائك وبيع مقتنياتك والتخلي عن ذكرياتك ، سامحني لأنني اضطررت لبيع أشيائك في مزاد علني. "
إذن فهو يملك هذه الأشياء منذ حوالي ثلاثين عاما حين كان في الخامسة والعشرين فعمره بعملية بسيطة هو الخامسة والخمسين.فهل هذا هو عمر الفناء الطبيعي ؟كلا.
أما المكان فهو لا يقل دلالة على الكشف عن بعض الجوانب من حياة البطل الثقافية والاجتماعية.لقد اشترى الكاميرا من اسبانيا.
ماذا تمثل اسبانيا هنا ولماذا اختارتها الكاتبة دون غيرها بالرغم من انها ليست بلدا صناعيا بارزا مقارنة بألمانيا مثلا.إنها اسبانيا الحضارة الإسلامية التي بلغت من البهاء والرونق والجمال في الأندلس ما لا زال لحد الآن يثير الإعجاب.كما أنها بلد الفيلسوف ابن رشد وابن باجة وابن طفيل صاحب حي بن يقظان وابن خلدون صاحب المقدمة وتأثير هؤلاء معروف في النهضة الأوربية والإنسانية بوجه عام نظرا لاتجاههم العقلاني في تفسير الأمور.
كما أنها من جهة أخرى بلد ميغويل دي سيرفانتس صاحب رائعة الدون كيشوت والرسام العبقري بيكاسو والشاعر العظيم الرقيق لوركا وفي القت نفسه هي بلد الثورة على الكتاتورية ممثلة في فرانكو والتي خلدها الرائع هيمنغواي في for whom the Bell tolls المترجمة إلى العربية تحت عنوان "لمن تقرع الأجراس" والحقيقة أن شخصية البطل في القصة التي بين أيدينا قد ذكرتني بهمنغواي الذي لم تكن بندقيته تفارقه حتى انتحر بها وقد كان كاتبا وصحافيا ملتزما وإنسانا بكل معنى الكلمة.وأكاد أجزم هنا رغم معرفتي السطحية بالكاتبة أنها عشقت هيمنغواي وسيرة حياته التي نجد بعض الانعكاس لها هنا على شخصية البطل خاصة وأن هيمنغواي كان روائيا وصحافيا سياسيا ملتزما ومغامرا معروفا .
أما المكان الثاني فهو فرنسا.وهي بلد معروف بالتفتح والثورة والعقلانية ورصيد ثقافي هائل.لكن السؤال هو لماذا اشترى البطل سبحته من فرنسا ؟
لنتمكن من تقديم إجابة واضحة بسيطة يجب أن نعرف أن السبحة تمثل في هذه القصة :الانتماء للوطن –العربي. واذا كانت فرنسا تذكرنا على المستوى الثقافي بكل من عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم والحي اللاتيني لسهيل إدريس وغيرهما وكيف أن هؤلاء قد اكتشفوا هويتهم وقيمهم الوطنية حين اصطدمت بالقيم الغربية في فرنسا عرفنا أننا أمام بطل مثقف قومي وطني وربما يكون قد أنهى دراسته الأكاديمية في فرنسا بلد الحرية والديمقراطية.
أما مكان تواجد البطل خلال لحظة الألم تلك فهو غير محدد بل لا نعلم حتى إن كان في بيته إو في غرفة فندق.كل ما نعلمه أنه في وطنه العربي فنتذكر الجواهري يقول:
يا وطنا بالحب نكسو أديمه فيحرمنا من رضاه ويمنع
إن ضبابية المكان هنا تؤكد حقيقة أن البطل رغم كل ما قدم لوطنه وجد نفسه أخيرا وحيدا منبوذا وكأنه المجاهد العظيم ابو ذر الغفاري رضي الله عنه الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:


( يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده )
4-





[color="Red"]
الحدث/اللحظة



إن فن القصة القصيرة هو فن الإمساك باللحظة في أوج توهجها والحدث في هذه القصة هو هذه اللحظة التي وقف البطل يقرر مصير حياته أو ما تبقى منها.
لقد قرر هيمنغواي أن يضع البندقية في فمه ويضغط على الزناد وبطلنا رغم جميع الخيبات لم يقرر الانتحار رغم وجود البندقية أمامه ورغم علمنا أن قراره بيع أشياءه في مزاد علني هو نوع من أنواع الانتحار ووجه من وجوه إعلان الاستسلام ؟
فما المغزى من ذلك؟ هذا هو جوهر السؤال في هذه القصة الرائعة.
الآن فقط بعد هذه الجولة المطولة نسبيا نستطيع أن ندخل في صلب القراءة ونحن مطمئنين إلى إمساكنا بكثير من الخيوط التي سوف ترشدنا إلى تقديم فهم متوازن لهذه القصة القصيرة.وقد يتعجب البعض لكل هذا الكم الهائل والذي لم نورد غير قليل منه مما أثاره هذا النص , ولهذا البعض نقول إن هذا من الأسباب التي جعلتنا نؤكد منذ حين أن القصة القصيرة فن نخبوي والوقوف على خباياه غير متاح إلا لقلة قليلة من القراء وكلما كانت تجربة الكاتب أغنى , وثقافته أعم وأشمل , ورؤاه أعمق , كلما كانت قراءته أصعب وأعسر.



القراءة النهائية



يعالج نص القاصة آداب عبد الهادي المعنون ب"لحظة ألم " لحظة يقرر فيها رجل في حدود الستين من عمره إشهار إفلاسه الذي لا يتحمل مسؤوليته وعدم قدرته على متابعة مسيرته النضالية التي تجاوزت الربع قرن.
لقد اختارت الكاتبة عبارة البيع في المزاد العلني لأشياء هي في الحقيقة حياته وكل ما آمن وناضل من أجله.إن الكاميرا هي ذلك الاختيار الواعي للالتزام بقضايا المجتمع وتتبع مسيرته في كل كبيرة وصغيرة.والبطل رجل سياسي حيث صور العظماء من رجال السياسة واحتك عن قرب بصقورها ونسورها.وهو إلى جانب ذلك رجل مقاومة عتيد لم يتخل قط عن بندقيته التي ترمز لذلك.كما أنه رجل وطني شريف يفتخر ويفاخر بانتمائه الوطني عبر سبحته الذهبية التي حاولت الإغراءات الكثيرة – ممثلة هنا بالمرأة باعتبارها قمة الإغراء – أن تصده عنه أي تسرق سبحته منه , بل إنه ذهب في تمسكه بهذا الانتماء حد تنازله عن حياته الخاصة في الزواج وبناء أسرة "المال والبنون زينة الحياة الدنيا وفتنة " غير أن فتنته كلها انحصرت في حب الوطن والدفاع عنه والإلتزام بخدمته عن طريق الكشف عن خبايا ما ينفعه و ما يضره مستعينا في ذلك بثقافته الواسعة والمتنوعة التي استقاها من التاريخ حينا ومن الغرب حينا آخر.
لقد ظلت الحقيبة أمامه دائما رمزا لقدرته على السفر في الوقت الذي يشاء غير أنه رفض بعناد هجر الوطن وفضل الدخول في معركة النهضة والبناء الديمقراطي تاركا الحقيبة يعلوها الغبار.
فماذا كانت النتيجة بعد اكثر من ربع قرن من النضال؟ بضعة جوائز نالها هنا وهناك.هل يكفي هذا ؟كلا. وإلا فأين الرفاق الذين حملوا معه مشروع النهضة ؟ لنتركه يخبرنا عن ذلك بنفسه:
" ، حتى هذه الصور و التي أصبحت أرى أنه لا داعياً للاحتفاظ بها،فقد مات الكثير من أصحابها ، والباقي منهم إما مريض أو جن أو في طريقه إلى الموت"
نعم لقد تفرق الرفاق وبلغ اليأس ببعضهم حد الجنون فماذا تراه يفعل وقد وجد نفسه وحيدا وكل ما ناضل من أجله يذهب هباء منثورا.
من هنا تظهر فكرة المزاد العلني كانتحار غير معلن.إن إشهار الإفلاس أمام الجميع هو إدانة مباشرة لكل من وقف في طريق تحقيق نهضة حقيقية وإرساء أسس ديمقراطية في نظام الحكم.
وكأني به يريد أن يبرئ ذمته مما آلت إليه الأحوال.لقد قمت ورفاقي بكل ما استطعنا فكانت المكافئة بضعة جوائز تافهة في حين كانت جائزتنا التي طمحنا إليها هي بناء مجتمع متفتح قوي.لم نكن أبدا صائدي جوائز وها أنتم ترونا بعد تهميشكم لنا ونحن خيرة أبناء هذا الوطن ومخلصيه بعضنا أكله الموت – والصمت نوع من الموت- وبعضنا الآخر يعاني الأمراض والجنون.


[center]وإذ يعلن الرجل إعتزاله بهذا الشكل المسرحي , أي عبر مزاد علني , فإنه بذلك يعبر عن آخر ما تبقى له من شجاعة وقوة وهو يتبرأ من الجميع. إنها مأساة خيبة جيل بأكمله .هذا ما تريد أن توصله هذه القصة القصيرة الجميلة المؤثرة .
خاتمة


من كل ما سبق نستطيع أن نسجل الخلاصات التالية:
1- القصة القصيرة قادرة كلما استطاعت الإمساك بجوهر اللحظة أن تقول في عبارات قليلة ما قد تعجز الأجناس الأدبية الأخرى في قوله عبر صفحات وصفحات.
2- قراءة القصة القصيرة في حاجة إلى الصبر والتأني وأحيانا إلى البحث كما هي في حاجة إلى رصيد ثقافي ضخم كونها تأتي غالبا مشحونة بالإشارات المقتضبة.
3- القصة القصيرة جنس نخبوي وقد تعود مع انتشار النشر الإلكتروني /الفضائي إلى احتلال الريادة بين الأجناس السردية الأخرى.

ملاحظة : أعتذر كون الموضوع قد كتب في شيء من العجالة بسب قدوم العيد المبارك وأغتنم هذه الفرصة لتقديم التهاني للجميع وكل عام وأنتم بخير.