الأغانى وأبو الفرج الأصفهانى:
قضايا ملتهبة وملتبسة
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
منذ بضعة أيام، وعلى وجه التحديد مساءَ السبت الموافق الثانى عشر من إبريل لعام 2008م، كنت أحد الضيوف فى تسجيل حلقة من برنامج "للود قضية"، الذى يُعِدّه د. كمال يونس، وكانت الحلقة عن كتاب "الأغانى" لأبى الفرج الأصفهانى والمكانة التى يحتلها فى التراث العربى والمآخذ التى توجَّه إليه... إلخ. وحدث، أثناء كلامى فى الحلقة المذكورة، أنْ وجدت نفسى أَعِد المشاهدين بتناول تلك المسائل فى دراسة موسعة أنشرها لمن يحب التعمق فى الموضوع، وهأنذا أشرع الآن فى الوفاء بالوعد. وكنت قبل هذا بسبع سنوات تقريبا قد اشتركت فى حلقة فى نفس البرنامج من إعداد أستاذ آخر، وكانت عن كتاب أ. شريف الشوباشى وكيل وزارة الثقافة المصرية: "لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، وهو الكتاب الذى أثار صخبا آنذاك، ودعَانى معدّ البرنامج مع بعض الضيوف الآخرين، ومنهم صاحب الكتاب، لمناقشة ما فيه من قضايا. وبعد أن أذيعت الحلقة وجدت نفسى أسجل كتابةً ما قلته فيها بعد أن زدت عليه كثيرا من الإضافات الهامة، ثم نشرته فى كتاب ورقى عنوانه: "لتحيا الغة العربية يعيش سيبويه"، فضلا عن نشره فى بعض المواقع الضوئية. وكنا قد أثرنا فى الحلقة التى نحن بصددها بعض القضايا المتعلقة بالأصفهانى وكتابه، من مثل قيمته التاريخية والأدبية والحضارية، وكذلك ما يحتويه الكتاب من مجون وحديث كثير عن الدعارة والشذوذ والفساد الخلقى وتصوير كثير من أعلام المسلمين وحكامهم بصورة من لا يرعى فى سلوكه ولا أخلاقه إلاًّ ولا ذمة... وهو ما سوف أتناوله هنا موسعا ومفصلا، مضافا إليه بعض المسائل التى لم تتح الفرصة لتناوله فى الحلقة المذكورة.
وقبل أن أدخل فى موضوعى أود أن أسوق نبذة عن الأصفهانى، ثم أثنى بنبذة عن كتاب "الأغانى". فأما الرجل فقد وُلِدَ عام 284هـ، وتُوُفِّىَ عام 356هـ فى خلافة المطيع لله. وله كتب أخرى تسير على نفس المنوال الإخبارى الذى يسير عليه كتاب "الأغانى" مثل: "مجرَّد الأغانى، والتعديل والانتصاف فى أخبار القبائل وأنسابها، ومقاتل الطالبين، وأخبار القيان، والإماء الشواعر، والمماليك الشعراء، وأدب الغرباء". وكان الناس يحذرون لسانه ويتَّقون هجاءه ويصبرون فى التعامل معه على كل صعب من أمره. وأما الكتاب فقد ذكر صاحبه أن رئيسا من رؤسائه كلفه جمعه له وأطلعه على ما بلغه من أن الكتاب المنسوب إلى إسحاق الموصلى فى الغناء مدفوع أن يكون من تأليفه، فضلا عن أنه قليل الفائدة. وقد صدَّر الأصفهانى كتابه بذكر مائة الصوت التى أمر هارون الرشيد إبراهيم الموصلى وإسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء باختيارها له من الغناء. وكان أبو الفرج يبدأ بذكر الصوت الذى اختاره والشعر المغنَّى به، مستطردا إلى ذكر أشعار أخرى قيلت فى المعنى نفسه وتم تلحينها والتغنى بها، مع إيراد المناسبة التى نُظِمَتْ فيها. وهو، فى أثناء هذا، يتعرض لأخبار الشعراء والمغنين والقبائل، ويسوق القصص والأشعار والـمُلَح، مما يلمّ القارئ معه بكثير من العادات والبيئات وطرائق الحياة فى البادية والقصور، وبالذات ما تعلق منها بجانب اللهو والتسلية. وقد لاحظ الدارسون أن أبا الفرج لم يلتزم، فى عرض الأصوات التى أوردها، الترتيب الزمنى للشعراء والمغنين، بل رتبها حسب الأصوات المائة التى اختارها المغنون الثلاثة للرشيد. ويشتمل كتاب "الأغانى" على تراجم ما يقرب من ثلاثمائة شاعر وشاعرة وستين مغنيا ومغنية لم يلتزم فيها المؤلف أيضا بالترتيب التاريخى، بل كان يسوق ما يعنّ له منها كيفما اتفق، متبعا طريقة المحدِّثين فى إسناد كل خبر إلى رواته.
وسوف يكون أول موضوع أطرقه هو ما يُنْسَب إلى الأصفهانى أو ما يُنْسَب إليه الأصفهانى من تشيع. وهناك كلام كثير لدى القدماء عن تشيع أبى الفرج. ومنهم، كابن الأثير، من أبدى استغرابه أن يكون أموىٌّ مثله شيعيًّا. لكن أحدا منهم، فى حدود علمى، لم يحاول أن يبين لنا الدوافع التى حدت به إلى الانحياز إلى الشيعة، وبخاصة أنه، وهو الأموى، كان المنتظر منه ألا ينسى أمويته وينتقل إلى الضفة الأخرى من النهر فيخرج على ما يدين به بنو أمية من أنه ليس للعلويين حق دينى فى الخلافة. إلا أن د. محمد أحمد خلف الله يرد هذا التشيع إلى أمه وأخواله من بنى ثوابة، الذى كانوا نصارى ثم أسلموا وتشيعوا وكانوا متعصبين لتشيعهم كما يقول (انظر كتابه: "صاحب الأغانى أبو الفرج الأصفهانى الراوية"/ دار الكاتب العربى للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1968م/ 47- 48). وقد انتشر القول حتى فى كتابات المحدثين بأن الأصفهانى كان شيعيا إلى الدرجة التى نجد فيها ضمن المادة المخصصة لأبى الفرج الأصفهانى (Abu al-Faraj al-Isbahani) فى "دائرة المعارف البريطانية: Encyclopædia Britannica"، مع أنها ليست متخصصة فى التراث الإسلامى والأدب العربى كــ"دائرة المعارف الإسلامية: Encyclopædia of Islam" مثلا، أنه كان من المتشيعين رغم أصله الأموى، إذ كان ينتمى إلى آخر خلفاء بنى أمية مروان بن محمد. وهذا نص ما يجده القارئ فى طبعة 2007م من الدائرة المذكورة: "Abu al-Faraj was a descendant of Marwan II, the last Umayyad caliph of Syria. Despite the enmity of this family and the 'Alids, he was a Shi'ite Muslim, upholding the rights of the descendants of the Prophet Muhammad's son-in-law 'Ali to the caliphate. He spent most of his life in Baghdad where he enjoyed the patronage of the Buyid amirs".
لكن الملاحظ مع ذلك أنْ ليس فى كتابات الرجل ما يوحى أنه كان شيعيا. إنما هو كلام يقال دون برهان، بل عكس البرهان كما سيتضح بعد قليل. وأحسبه لو كان الأمر كما يزعم د. خلف الله لأتانا عن أبى الفرج ما يشير إلى أنه قد ورث التشيع عن أمه وأخواله، إذ مثل أبى الفرج ليس ممن يُعَدِّى عن تلك المسألة بهدوء وتجافٍ. بل ليس فى أحداث حياة أبى الفرج ما يشير إلى أنه كان شيعيا كأن يكون تجادل ولو مرة مع من لا يشاركه فى المذهب والرأى. وكيف يفلت الأصفهانى الفرصة فلا يهتبلها ويتحدث عن شيعيته فى مقدمة "مقاتل الطالبيين"، وهو الكتاب الذى يتخذه القائلون بتشيعه دليلا على ذلك.
وقد اعتمد خلف الله، فى القول بتشيع آل ثوابة، على ما كتبه ياقوت الحموى فى المجلد الرابع من "معجم الأدباء" فى ترجمة محمد بن أحمد بن ثوابة، إذ فهم منه أنه كان من الروافض، وإن كان سماه: "أحمد بن محمد" لا "محمد بن أحمد" كما فى ياقوت. وإلى القارئ ما كتبه الحموى: "كان محمد بن أحمد بن ثوابة كاتبا لباكباك التركي، فلما أُغْرِيَ المهتدي بالرافضة قال المهتدي لباكباك: كاتبك والله أيضا رافضي. فقال باكباك: كذب والله على كاتبي ما كان يقول هؤلاء. فشهدت الجماعة عليه، فقال باكباك: كذبتم، ليس كاتبي كما تقولون. كاتبي خَيِّرٌ فاضلٌ يصلي ويصوم وينصحني، ونجاني من الموت. لا أصدق قولكم عليه. فغضب المهتدي وردد الأيمان على صحة القول في ابن ثوابة، وهو يقول: لا، لا. فلما انصرف القوم من حضرة المهتدي أسمعهم باكباك وشتمهم ونسبهم إلى أخذ الرشا والمصانعات وأغلظ لهم وأمر ببعضهم فنِيلَ بمكروه، إلى أن تخلصوا من يده. واستتر ابن ثوابة، وقلد المهتدي كتابة باكباك سهل بن عبد الكريم الأحول، ونودي على ابن ثوابة. ثم تنصل باكباك إلى المهتدي واعتذر إليه، فقبل عذره وصفح عنه. فلما قدم موسى بن بغا سُرَّ مَنْ رَأَى من الجبل تلقاه باكباك وسأله التلطف في المسألة في الصفح عن كاتبه ابن ثوابة. فلما جدد المهتدي البيعة في دار أناجور التركي عاود باكباك المسألة في كاتبه، فوعده بالرضا عنه وقال: الذي فعلتُه بابن ثوابة لم يكن لشيء كان في نفسي عليه يخصني، لكن غضبا لله تعالى وللدين. فإن كان قد نَزَعَ عما أُنْكِرُ منه وأظهر تورعا فإني قد رضيت عنه. ثم رضي عنه الخليفة في يوم الجمعة، النصف من محرم سنة خمسين ومائتين، وخلع عليه أربع خِلَعٍ وقلده سيفا، ورجع إلى كتابة باكباك ميمون بن هارون".
ومن هذا النص نعلم أن المهتدى اتهم ابن ثوابة بالرفض، لكن باكباك رئيسه فى العمل شهد له بالفضل والديانة وأصر فى وجه المهتدى على موقفه وكذّب متّهِمى الرجل وأغلظ لهم ونكل ببعضهم. وإذا كان ابن ثوابة قد استتر عن العيون فليس معنى ذلك أنه كان بالضرورة رافضيا، بل من المحتمل أن يكون خوفه من النكال هو الذى حثه على التوارى خشية أن يناله الخليفة بسوء رغم كل شىء ما دام قد سمع فيه قول متهميه. وإذا كان باكباك قد تنصَّل إلى الخليفة فإن النص لم يذكر لنا من أى شىء تنصَّل. ولعل تنصُّله إنما كان لمخالفته الخليفة فى الرأى وتصلُّبه فى تلك المخالفة كما رأينا لا على أنه قد اتضح له رفض ابن ثوابة. وعلى كل حال فإن النص يقول بصريح العبارة إن الخليفة قد عفا عن ابن ثوابة وحَسُنَ رأيه فيه وأعاده إلى وظيفته كرة أخرى وخلع عليه أربع خِلَع. وهذا، إن أخذنا بأن ابن ثوابة كان فعلا رافضيا، لدليل قوى على أنه قد رجع عن رفضه. ولنفترض أن ابن ثوابة كان وظَلَّ بعد ذلك رافضيا، فهل معنى هذا أن كل آل ثوابة كانوا من الرافضة بحيث إن كان محمد رافضيا كان أخوه يحيى (جد أبى الفرج) رافضيا بالتبعية، وذلك إن كان أخاه حقا ولم يكن خلف الله قد أخطأ فى الأمر؟ ولنفترض أنهم كلهم كانوا كذلك، فهل من الحتم اللازب أن يكون ابن أختهم أبو الفرج الأصفهانى رافضيا مثلهم وعلى طريقتهم؟ من هنا يرى القارئ أنْ ليس ثم دليل يؤبَه به على شيعية أبى الفرج. فإذا أضفنا أن شواهد الحال كلها تقول بملء الفم إنه لم يكن شيعيا عرفنا لماذا يرفض كاتب هذه السطور الدعوى التى تنسب الأصفهانى إلى التشيع، وهو ما سوف نراه ونلمسه لمسًا فيما يلى من سطور. وبالمناسبة فقد سكت صاحب "أعيان الشيعة" عن الترجمة لأبى الفرج فيمن ترجم لهم.
وقد تناول تشيع أبى الفرج أيضا الباحث كاظم المظفر فى مقدمة الطبعة الثانية من كتاب: "مقاتل الطالبيين" (مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر/ قم/ إيران/ 1385ه‍- 1965م/ 14- 15)، فقال إن أبا الفرج "كان شيعي الهوى والعقيدة على مذهب الزيدية المعروف، وقد نص على تشيعه أكثر مترجميه، ومنهم معاصره القاضي التنوخي، فقد ذكر في كتابه: "نشوار المحاضرة" أنه من المتشيعين الذين شاهدهم. وقال ابن شاكر في "عيون التواريخ" إنه كان ظاهر التشيع. وكذلك نص على تشيعه الحرّ العاملي في "أمل الآمل"، والخونساري في "روضات الجنات". أما ابن الاثير في كتابه: "الكامل" فقال إنه كان شيعيا، ولكنه رأى في تشيعه مدعاة للاستغراب، فقال: "وهذا من العجب". ولعل موضع العجب عند ابن الأثير كون أبي الفرج من صميم الأسرة الأموية، فكيف صار إذن على مذهب الشيعة مع كل ما عرفه التاريخ من ألوان العداء ثم الخصومة السياسية والدينية التي اشتجرت نيرانها طويلا بين الأمويين والعلويين؟ وفي الواقع أن الرأي، أيّ رأي، لا يعرف وطنا ولا جنسية، كما أن العقيدة لا دخل لها في نسب المرء أيا كان هذا النسب. فمهما كان العداء التقليدي بين شيعة الأمويين وشيعة العلويين متين الأسباب طويل الآماد، فهو لا يحول أبدا دون أن نجد بين الفريقين من يعطف أحدهما على الآخر. ولقد رأينا في الأمويين أكثر من واحد لا يرى رأى أهله ولا يعتقد عقيدة قبيله.
وظاهرة التشيع عند أبي الفرج واضحة الدلالة كل الوضوح في كتابه: "مقاتل الطالبيين" الذي نقدمه للقارئ على هذه الصفحات. ترجم أبو الفرج في هذا الكتاب جميع الشهداء الطالبيين، أي من كان من ذرية عبد المطلب بن عبد مناف، منذ عصر النبوة إلى الوقت الذي ألف فيه أبو الفرج كتابه في عام 313 هـ "سواء كان المترجَم له قتيل الحرب أو صريع السم في السلم، وسواء أكان مهلكه في السجن أم في مهربه أثناء تواريه من السلطان" كما أوضح أبو الفرج هذا المعنى في مقدمة الكتاب. وأبو الفرج في تصويره لمصارع الطالبيين وعرضه لتراجمهم وتقديمه لمناقبهم وفضائلهم يبدو شديد العطف عليهم، لا يرى في مصائبهم إلا كل فضيلة ومجد، بل يراهم دائما يسلكون سبيل الحق في نهضاتهم ضد الدولة الأموية، مع أن خلفاء هذه الدولة هم آباؤه الصلبيون الذين لا ينكر أبو الفرج نسبته إليهم، وإن كانت هذه النسبة، كما لاحظت، لم ترد عنده في موضع الفخر والاعتزاز".
ولا أظن أبا الفرج كان شيعيا فى يوم من الأيام. ولو كان شيعيا فكيف، وهو المؤلف الغزير الإنتاج والإبداع صاحب الأسلوب الذى يعزّ له نظير فى السلاسة والانسيابية والإحكام والتصوير والقدرة على إثارة الانفعالات والعواطف وشحن النفوس بمحبة الشيعة وكراهية أعدائهم إن كان شيعيا، يسكت فلا يدعو إلى التشيع وينافح عنه ويثير العواطف ويشحن النفوس بمحبة هذا المذهب والرغبة فى اعتناقه؟ كما كان الرجل شاعرا مقتدرا على تصريف فنون القول، فلماذا يا ترى سكت فلم يحاول أن ينافح عن حق آل البيت فى الخلافة ويبين أن إمامتهم للمسلمين جزء لا يتجزأ من أركان الإسلام على ما هو معروف كما صنع الكميتُ الأسدى مثلا ودِعْبِلٌ الخزاعى وأبو فراسٍ الحَمْدانى، وهؤلاء من الشيعة الإمامية، أو فضل بن العباس بن عبد الرحمن وعمارة اليمنى، وهما شيعيان زيديان، أو الأمير تميم بن المعز والداعى المؤيد الفاطميان؟
بل إن القاضى التنوخى، الذى قال عنه إنه أحد المتشيعين الذين شاهدهم، قد روى عنه فى "نشوار المحاضرة" ما يبرهن بأقوى برهان على أنه كان يتخذ ما تؤدى إليه بعض عقائدهم موضعا للسَّخَر والهزء البذىء كعادته، وهو ما لا يتفق بسهولة وإيمانه بالتشيع، كما فى الحكايتين التاليتين مثلا: "أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو بكر يموت بن المزرع، قال: سمعت أبا عثمان الجاحظ، يحدث أنه رأى حَجّاما بالكوفة يَحْجِم بنسيئةٍ إلى "الرجعة" لشدة إيمانه بها". "أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: سمعت رجلاً من القطيعة يؤذن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله، أشهد أن عليا ولي الله، محمد وعلي خير البشر، فمن أبى فقد كفر، ومن رضي فقد شكر، ضرطتْ هند على ابن عمر، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".
أما تأليف أبى الفرج كتاب "مقاتل الطالبيين" فإنه فى ذاته لا يدل على تشيعه مثلما لا يدل تأليفه كتاب "نسب بنى عبد شمس" مثلا على كرهه للطالبيين، فقد يكون فَعَلَ ذلك لأن أحدهم طلب إليه أن يؤلف فى هذا الموضوع كتابا فألفه، أو يكون استجاب لداعى الكتابة فى قضية شغلته علميا ليس إلا، أو يكون قد آلمه ما حدث لآل البيت كما يتألم أى مسلم لم تلوثه العصبيات المذهبية، إذ ذكر الدكتور أحمد أمين فى كتابه: "يوم الإسلام" أن الأمويين قتلوا منهم ستة وثلاثين، على حين أن العباسيين فى عهد السفاح وأبى جعفر وحدهما قَضَوْا على تسعة عشر (د. أحمد أمين/ يوم الإسلام/ مكتبة النهضة المصرية/ 1952م/ 67- 68)، وهى أعداد تبعث على الألم والغضب، وتستفز مشاعرنا وتثير لدينا الاشمئزاز رغم أننا لسنا على مذهب المتشيعين، ذلك المذهب الذى لا يمكن أن يقف حاجزا بيننا وبين كراهية هذه القسوة المفرطة. ولا ننس أن عمر بن عبد العزيز، وهو من خلفاء بنى أمية أنفسهم، كان يعطف على آل البيت فأوقف مسلسل اضطهادهم ولم يسمح بسبّ علىّ كرم الله وجهه على المنابر يوم الجمعة كما جرت بذلك العادة منذ أيام معاوية، ورد إلى أهل البيت أرض فدك، الذى كانت تطالب به فاطمة فى عهد الصديق والفاروق رضى الله عنها وعنهما جميعا. وابن عبد العزيز بطبيعة الحال لم يكن شيعيا قط، بل كان مسلما صالحا أصغى فى مواقفه هذه وغيرها من مواقف الإصلاح المتعددة التى اتخذها أيام خلافته إلى صوت الإسلام النقى فى قلبه.
كذلك فالطالبيون لديه هم بَشَرٌ من البَشَر فيهم الصالح المستقيم، وفيهم المنحرف الشرير. ولهذا نراه ينص فى مقدمة ذلك الكتاب على أنه لم يتناول من الطالبيين المقتولين إلا الطائفة الأولى التى لم تخرج على الدولة ابتغاء الفساد والعَيْث فى الأرض: "... ومقتصرون في ذكر أخبارهم على من كان محمود الطريقة سديد المذهب لا من كان بخلاف ذلك أو عدل عن سبيل أهله ومذاهب أسلافه أو كان خروجه على سبيل عَيْثٍ وإفساد". ثم إننا إذا قرأنا الكتاب راعنا أن الأصفهانى هادئ القول يؤدى المعلومة فى تجرد وحيادية، ويقتصر دوره على التأريخ لما وقع دون أن يندّ من قلمه ما يدل على أنه كان يدعو بدعوة الشيعة، فلم يتطرق قط إلى أن الإمامة حق لآل البيت لا يتم الإيمان إلا باعتقاده، ولم يقع أنْ دعا أيا من آل البيت: لا الحسن ولا الحسين ولا زيد بن على ولا غيرهم بــ"الإمام". وفى ترجمته لعيسى بن زيد نراه يذكر شجاعته وتصديه للبؤة عرضت له ولأصحابه فى بعض الطريق وقتله إياها وتسميتهم له من ثم بــ"مُيَتِّم الأشبال"، ثم يقفى قائلا: "وذكرها (أى هذه الواقعة) أيضا الشميطي، وكان من شعراء الإمامية، في قصيدة عاب فيها من خرج من الزيدية رضوان الله عليهم فقال:
سن ظلم الإمام للناس زيدٌ * إن ظلم الإمام ذو عقّال
وبنو الشيخ والقتيل بفخ * بعد يحيى ومُوتِم الأشبال".
قال هذا دون أن يفكر فى الإنكار على الشميطى أو الدفاع عن عقيدة الزيدية فى أئمتهم، مكتفيا بتقرير الواقعة كما وقعت دون زيادة حرف واحد. فهو، كما قلت، مجرد مؤرخ لا صاحب مذهب.
ولنقرأ مثلا ما كتبه فى مقتل الحسين، وليكن بدء أمرنا من لدن جاءه، رضى الله عنه، أن مسلم بن عقيل بن أبى طالب أخذ له البيعة من أهل الكوفة. قال: "وكان مسلم قد كتب إلى الحسين بأخذ البيعة له واجتماع الناس عليه وانتظارهم إياه، فأزمع الشخوص إلى الكوفة، ولقيه عبد الله بن الزبير في تلك الأيام، ولم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، ولا أحب إليه من خروجه إلى العراق طمعا في الوثوب بالحجاز. وعلما بأن ذلك لا يتم له إلا بعد خروج الحسين، فقال له: على أي شيء عزمت يا أبا عبد الله؟ فأخبره برأيه في إتيان الكوفة وأعلمه بما كتب به مسلم بن عقيل إليه، فقال له ابن الزبير: فما يحبسك؟ فوالله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلومت في شيء. وقَوَّى عزمه ثم انصرف. وجاءه عبد الله بن عباس، وقد أجمع رأيه على الخروج وحقَّقَه، فجعل يناشده في المقام ويعظم عليه القول في ذم أهل الكوفة، وقال له: إنك تأتي قوما قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وما أراهم إلا خاذليك. فقال له: هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم. فقال له ابن عباس: أما إذا كنت لا بد فاعلا فلا تخرج أحدا من ولدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليق أن تُقْتَل وهم ينظرون إليك كما قُتِل ابن عفان. فأبى ذلك ولم يقبله. قال: فذكر من حضره يوم قُتِل وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته وهن يخرجن من أخبيتهن جزعا لقتل من يُقْتَل معه وما يَرَيْنَه به ويقول: لله دَرُّ ابن عباس فيما أشار عليَّ به. قال: فلما أبى الحسين قبول رأي ابن عباس قال له: والله لو أعلم أني إذا تشبثت بك وقبضت على مجامع ثوبك وأدخلت يدي في شعرك حتى يجتمع الناس عليَّ وعليك كان ذلك نافعي لفعلته، ولكن اعلم أن الله بالغ أمره. ثم أرسل عينيه فبكى وودع الحسين وانصرف. ومضى الحسين لوجهه، ولقى ابنُ العباس بعد خروجه عبدَ الله بن الزبير فقال له:
يا لك من قبرةٍ بمَعْمَرِ * خلا لك الجو فبيضي واصْفِري
ونَقِّري ما شئت أن تنقِّري * هذا الحسين خارجا فاستبشري
فقال: قد خرج الحسين وخلت لك الحجاز. قال أبو مخنف في حديثه خاصة عن رجاله: إن عبيد الله بن زياد وجَّه الحر بن يزيد ليأخذ الطريق على الحسين، فلما صار في بعض الطريق لقيه أعرابيان من بني أسد، فسألهما عن الخبر، فقالا له: يا ابن رسول الله، إن قلوب الناس معك، وسيوفهم عليك، فارجع. وأخبراه بقتل ابن عقيل وأصحابه، فاسترجع الحسين، فقال له بنو عقيل: لا نرجع والله أبدا أو ندرك ثأرنا أو نُقْتَل بأجمعنا. فقال لمن كان لحق به من الأعراب: من كان منكم يريد الإنصراف عنا فهو في حِلٍّ من بيعتنا. فانصرفوا عنه، وبقي في أهل بيته ونَفَرٍ من أصحابه.
ومضى حتى دنا من الحر بن يزيد، فلما عاين أصحابُه العسكرَ من بعيد كبَّروا، فقال لهم الحسين: ما هذا التكبير؟ قالوا: رأينا النخل. فقال بعض أصحابه: ما بهذا الموضع والله نخل، ولا أحسبكم تَرَوْنَ إلا هوادي الخيل وأطراف الرماح. فقال الحسين: وأنا والله أرى ذلك. فمضوا لوجوههم، ولحقهم الحر بن يزيد في أصحابه، فقال للحسين: إني أُمِرْتُ أن أُنْزِلك في أي موضع لقيتُك وأجعجع بك ولا أتركك أن تزول من مكانك.
قال: إذًا أقاتلك، فاحذر أن تشقى بقتلي، ثكلتك أمك. فقال: أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذِكْرَ أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يُقْدَر عليه. وأقبل يسير، والـحُرّ يسايره ويمنعه من الرجوع من حيث جاء، ويمنع الحسين من دخول الكوفة حتى نزل بأقساس مالك، وكتب الحر إلى عبيد الله يعلمه ذلك.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب عن عتبة بن سمعان الكلبي، قال: لما ارتحلنا من قصر ابن مقاتل وسرنا ساعة خفق رأس الحسين خفقة ثم انتبه فأقبل يقول: "إنا لله، وإنا إليه راجعون"، و "الحمد لله رب العالمين" مرتين. فأقبل إليه علي بن الحسين، وهو على فرس، فقال له: يا أبي، جُعِلْتُ فِدَاك! مِمَّ استرجعت؟ وعلام حمدت الله؟ قال الحسين: يا بني، إنه عرض لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون، والمنايا تسري إليهم. فعلمت أنها أنفسنا نُعِيَتْ إلينا. فقال: يا أبتاه، لا أراك الله سوءًا أبدا! ألسنا على الحق؟ قال: بلى والذي يرجع إليه العباد. فقال: يا أبت، فإذًا لا نبالي. قال: جزاك الله خير ما جُزِيَ ولد عن والده. قال: وكان عبيد الله بن زياد، لعنه الله، قد ولَّى عمر بن سعد الرَّيّ، فلما بلغه الخبر وجَّه إليه أن سِرْ إلى الحسين أولاً فاقتله، فإذا قتلته رجعتَ ومضيتَ إلى الري. فقال له: أعفني أيها الأمير. قال: قد أعفيتك من ذلك ومن الري. قال: اتركني أنظر في أمري. فتركه، فلما كان من الغد غدا عليه فوجه معه بالجيوش لقتال الحسين، فلما قاربه وتواقفوا قام الحسين في أصحابه خطيبا فقال: اللهم، إنك تعلم أني لا أعلم أصحابا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت خيرا من أهل بيتي، فجزاكم الله خيرا فقد آزرتم وعاونتم، والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا. فإذا جَنّكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم.
فقال إليه العباس بن علي أخوه وعلي ابنه وبنو عقيل فقالوا له: معاذ الله والشهر الحرام،! فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟ أنقول لهم إنا تركنا سيدنا وابن سيدنا وعمادنا وتركناه غرضا للنَّبْل، ودريئة للرماح، وجَزَرًا للسباع وفررنا عنه رغبة في الحياة؟ معاذ الله! بل نحيا بحياتك، ونموت معك. فبكى وبكوا عليه، وجزاهم خيرا ثم نزل صلوات الله عليه.
فحدثني عبد الله بن زيدان البجلي، قال: حدثنا محمد بن زيد التميمي، قال: حدثنا نصر بن مزاحم عن أبي مخنف عن الحرث بن كعب عن علي بن الحسين، قال: إني والله لجالس مع أبي في تلك الليلة، وأنا عليل، وهو يعالج سهاما له، وبين يديه جون مولى أبي ذي الغفار، إذ ارتجز الحسين:
يا دهر، أفٍ لك من خليل * كم لك في الإشراق والأصيلِ
من صاحب وماجد قتيل * والدهر لا يقنع بالبديلِ
والأمر في ذاك إلى الجليل * وكل حي سالك السبيلِ
قال: وأما أنا فسمعته ورددت عبرتي. وأما عمتي فسمعته دون النساء فلزمتها الرقة والجزع، فشقت ثوبها ولطمت وجهها وخرجت حاسرة تنادي: واثكلاه! واحزناه! ليت الموت أعدمني الحياة! يا حسيناه، يا سيداه، يا بقية أهل بيتاه، استقلت ويئست من الحياة! اليوم مات جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي فاطمة الزهراء، وأبي عليٌّ وأخي الحسن، يا بقية الماضين، وثمال الباقين. فقال لها الحسين: يا أختي، لو تُرِك القطا لنام. قالت: فإنما تغتصب نفسك اغتصابا، فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي. وخرت مغشيا عليها، فلم يزل يناشدها واحتملها حتى أدخلها الخباء... قال: فوجه إلى عمر بن سعد، لعنه الله، فقال: ماذا تريدون مني؟ إني مخيركم ثلاثا: بين أن تتركوني ألحق بيزيد، أو أرجع من حيث جئت، أو أمضي إلى بعض ثغور المسلمين فأقيم فيها. ففرح ابن سعد بذلك، وظن أن ابن زياد، لعنه الله، يقبله منه، فوجه إليه رسولا يعلمه ذلك، ويقول: لو سألك هذا بعض الديلم ولم تقبله ظلمته. فوجه إليه ابن زياد: طمعت يا ابن سعدٍ في الراحة، وركنت إلى دعة! ناجز الرجل وقاتله، ولا ترض منه إلا أن ينزل على حكمي. فقال الحسين: معاذ الله أن أنزل على حكم ابن مرجانة أبدا، فوجه ابن زياد شمر بن ذي الجوشن الضبابي، أخزاه الله، إلى ابن سعد، لعنه الله، يستحثه لمناجزة الحسين. فلما كان في يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وستين ناجزه ابن سعد، لعنه الله، فجعل أصحاب الحسين يتقدمون رجلا رجلا يقاتلون حتى قُتِلوا.
وقال المدائني عن العباس بن محمد بن رزين عن علي بن طلحة، وعن أبي مخنف عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن حميد بن مسلم، وقال عمر بن سعد البصري: عن أبي مخنف عن زهير بن عبد الله الخثعمي، وحدثنيه أحمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن العلوي عن بكر بن عبد الوهاب عن إسماعيل بن أبي إدريس عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه، دخل حديث بعضهم في حديث الآخرين: إن أول قتيل قُتِل من ولد أبي طالب مع الحسين ابنه علي. قال: فأخذ يشد على الناس وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي
من شبث ذاك؟ ومن شمر الدني؟ * أضربكم بالسيف حتى يلتوي
ضرب غلام هاشمي علوي * ولا أزال اليوم أحمي عن أبي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي
ففعل ذلك مرارا، فنظر إليه مرة بن منقذ العبدي فقال: علي إثم العرب إن هو فعل مثل ما أراه يفعل، ومَرّ بي أن أثكله أمه. فمرَّ يشد على الناس ويقول كما كان يقول، فاعترضه مرة وطعنه بالرمح فصرعه، واعتوره الناس فقطعوه بأسيافهم. وقال أبو مخنف: عن سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم، قال: سمعت بأذني يومئذٍ الحسين وهو يقول: قتل الله قوما قتلوك يا بني! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم! ثم قال: على الدنيا بعدك العفاء.
قال حميد: وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي: يا حبيباه، يا ابن أخاه. فسألت عنها، فقالوا: هذه زينب بنت علي بن أبي طالب. ثم جاءت حتى انكبت عليه، فجاءها الحسين فأخذ بيدها إلى الفسطاط، وأقبل إلى ابنه، وأقبل فتيانه إليه، فقال: احملوا أخاكم. فحملوه من مصرعه ذلك، ثم جاء به حتى وضعه بين يدي فسطاطه.
حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثنا غير واحد عن محمد بن عمير عن أحمد بن عبد الرحمن البصري عن عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن سعيد بن ثابت، قال: لما برز علي بن الحسين إليهم أرخى الحسين، صلوات الله عليه وسلامه، عينيه فبكى، ثم قال: اللهم، كن أنت الشهيد عليهم. فبرز إليهم غلام أشبه الخلق برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يشد عليهم ثم يرجع إلى أبيه فيقول: يا أباه، العطش! فيقول له الحسين: اصبر حبيبي، فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكأسه. وجعل يكر كرة بعد كرة حتى رُمِيَ بسهم فوقع في حلقه فخرقه، وأقبل ينقلب في دمه ثم نادى: يا أبتاه، عليك السلام. هذا جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول: عجل القدوم إلينا. وشهق شهقة فارق الدنيا.
قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم، قال: أحاطوا بالحسين عليه السلام، وأقبل غلام من أهله نحوه، وأخذته زينب بنت علي لتحبسه، فقال لها الحسين: احبسيه. فأبى الغلام فجاء يعدو إلى الحسين فقام إلى جنبه، وأهوى أبحر بن كعب بالسيف إلى الحسين. فقال الغلام لأبجر: يا ابن الخبيثة، أتقتل عمي؟ فضربه أبجر بالسيف، واتقاه الغلام بيده فأطنَّها إلى الجلد، وبقيت معلقة بالجلد، فنادى الغلام: يا أمه. فأخذه الحسين فضمه إليه وقال: يا ابن أخي، احتسب فيما أصابك الثواب، فإن الله ملحقك بآبائك الصالحين: برسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة وعلي وجعفر والحسن عليهم السلام.
قال: وجاء رجل حتى دخل عسكر الحسين، فجاء إلى رجل من أصحابه فقال له: إن خبر ابنك فلان وافى. إن الديلم أسروه، فتنصرف معي حتى نسعى في فدائه. فقال: حتى أصنع ماذا؟ عند الله أحتسبه ونفسي. فقال له الحسين: انصرف، وأنت في حل من بيعتي، وأنا أعطيك فداء ابنك. فقال: هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك. لا يكون والله هذا أبدا ولا أفارقك. ثم حمل على القوم فقاتل حتى قُتِل رحمة الله عليه ورضوانه. قال: وجعل الحسين يطلب الماء، وشمر، لعنه الله، يقول له: والله لا تَرِدُه أو تَرِد النار. فقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنه بطون الحيات؟ والله لا تذوقه أو تموت عطشا. فقال الحسين: اللهم، أَمِتْه عطشا. قال: والله لقد كان هذا الرجل يقول: اسقوني ماء، فيؤتى بماء فيشرب حتى يخرج من فيه، وهو يقول: اسقوني. قتلني العطش. فلم يزل كذلك حتى مات.
قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم، قال: لما اشتد العطش على الحسين دعا أخاه العباس بن علي فبعثه في ثلاثين راكبا وثلاثين راجلا، وبعث معه بعشرين قربة، فجاءوا حتى دَنَوا من الماء فاستقدم أمامهم نافع بن هلال الجملي، فقال له عمرو بن الحجاج: من الرجل؟ قال: نافع بن هلال. قال: مرحبا بك يا أخي. ما جاء بك؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. قال: اشرب. قال: لا والله لا أشرب منه قطرة، والحسين عطشان. فقال له عمرو: لا سبيل إلى ما أردتم. إنما وضعونا بهذا المكان لنمنعكم من الماء. فلما دنا منه أصحابه قال للرجالة: املأوا قِرَبكم. فشدت الرجالة فدخلت الشريعة فملأوا قربهم ثم خرجوا، ونازعهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن علي ونافع بن هلال الجملي جميعا، فكشفوه ثم انصرفوا إلى رحالهم، وقالوا للرجالة: انصرفوا. فجاء أصحاب الحسين بالقِرَب حتى أدخلوها عليه.
قال المدائني: فحدثني أبو غسان عن هارون بن سعد عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة، قال: رأيت رجلا من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنت أعرفه جميلا شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك. قال: إني قتلت شابا أمرد مع الحسين بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتى يأتي جهنم فيدفعني فيها، فأصيح، فما يبقى أحد في الحي إلا سمع صياحي. قال: والمقتول العباس بن علي عليه السلام.
قال المدائني: فحدثني مخلد بن حمزة بن بيض وحباب بن موسى عن حمزة بن بيض، قال حدثني هانئ بن ثبيت القايضي زمن خالد، قال: قال: كنت ممن شهد الحسين، فإني لواقف على خيول إذ خرج غلام من آل الحسين مذعورا يلتفت يمينا وشمالا، فأقبل رجل منا يركض حتى دنا منه، فمال عن فرسه، فضربه فقتله. قال: وحمل شمر، لعنه الله، على عسكر الحسين فجاء إلى فسطاطه لينهبه، فقال له الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في الدنيا، فرحلى لكم عن ساعة مباح. قال: فاستحيا ورجع. قال: وجعل الحسين يقاتل بنفسه، وقد قُتِل ولده وأخوته وبنو أخيه وبنو عمه فلم يبق منهم أحد، وحمل عليه ذرعة بن شريك، لعنه الله، فضرب كتفه اليسرى فسقطت، صلوات الله عليه. وقتله أبو الجنوب زياد بن عبد الرحمن الجعفي والقثعم وصالح بن وهب اليزني وخولى بن يزيد، كل قد ضربه وشَرِكَ فيه. ونزل سنان بن أنس النخعي فاحتزّ رأسه. ويقال: إن الذي أجهز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبابي لعنه الله. وحمل خولي بن يزيد رأسه إلى عبيد الله بن زياد. وأمر ابن زياد، لعنه الله وغضب عليه، أن يوطأ صدر الحسين وظهره وجنبه ووجهه فأُجْرِيَت الخيل عليه. وحُمِل أهله أسرى، وفيهم عمر وزيد والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان الحسن بن الحسن بن علي قد ارتث جريحا فحُمِل معهم، وعلي بن الحسين الذي أمه أم ولد وزينب العقيلة وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وسكينة بنت الحسين. ولما أُدْخِلوا على يزيد، لعنه الله، أقبل قاتل الحسين بن علي يقول:
أَوْقِرْ ركابي فضة أو ذهبا * فقد قتلت الملك المحجبا
قتلتُ خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا
ووضع الرأس بين يدي يزيد، لعنه الله، في طست، فجعل ينكته على ثناياه بالقضيب وهو يقول:
نفلِّق هاما من رجالٍ أَعِزَّةٍ * علينا، وهم كانوا أَعَقَّ وأظلما
وقد قيل: إن ابن زياد، لعنه الله، فعل ذلك. وقيل: إنه تمثل أيضا، والرأس بين يديه بقول عبد الله بن الزبعري:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأَسَلْ
قد قتلنا القَرْمَ من أشياخهم * وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ
ثم دعا يزيد، لعنه الله، بعلي بن الحسين، فقال: ما اسمك؟ فقال: علي بن الحسين. قال: أو لم يُقْتَل الله علي بن الحسين؟ قال: قد كان لي أخ أكبر مني يسمونه عليا، فقتلتموه. قال: بل الله قتله. قال علي: "الله يتوفَّى الأنفس حين موتها". قال له يزيد: "وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم". فقال علي: "ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير* لكيلا تأسَوْا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخور". قال: فوثب رجل من أهل الشام فقال: دعني أقتله. فألقت زينب نفسها عليه، فقام رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه أتخذها أمة. قال: فقالت له زينب: لا، ولا كرامة. ليس لك ذلك ولا له إلا أن يزيد حسبك من دمائنا. وقال علي بن الحسين: إن كان لك بهؤلاء النسوة رحم وأردت قتلي فابعث معهن أحدا يؤدّيهن. فرقَّ له وقال: لا يؤديهن غيرك.
ثم أمره أن يصعد المنبر فيخطب فيعذر إلى الناس مما كان من أبيه فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا علي بن الحسين. أنا ابن البشير النذير. أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه. أنا ابن السراج المنير. وهي خطبة طويلة كرهت الإكثار بذكرها، وذكر نظائرها. ثم أمره يزيد بالشخوص إلى المدينة مع النسوة من أهله وسائر بني عمه، فانصرف بهم.
وقال سليمان بن قتة يرثي الحسين:
مررت على أبيات آل محمد * فلم أرها أمثالها يوم حلَّتِ
ألم تر أن الشمس أضحت مريضة * لفقد حسين والبلاد اقشعرت؟
وكانوا رجاءً ثم صاروا رزية * لقد عظمت تلك الرزايا وجَلَّتِ
أتسألنا قيس فنعطي فقيرها * وتقتلنا قيسٌ إذا النعل زَلَّتِ؟
وعند غني قطرةٌ من دمائنا * سنطلبها يوما بها حيث حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها * وإن أصبحت منهم برغمي تخلَّتِ
فإن قتيل الطف من آل هاشم * أذل رقاب المسلمين فذلَّتِ
قال أبو الفرج: وقد رثى الحسينَ بن علي، صلوات الله عليه، جماعةٌ من متأخري الشعراء أستغني عن ذكرهم في هذا الموضع كراهية الإطالة. وأما من تقدم فما وقع إلينا شيء رثي به. وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بني أمية وخشية منهم. وهذا آخر ما أخبرنا به من مقتله صلوات الله عليه ورضوانه وسلامه". فانظر كيف أدى أبو الفرج رواية مقتل الحسين فى إيجاز وهدوء أعصاب ودون أن يثير المشاعر ويحرك الدمع ويطلق الأنين، اللهم إلا الدعاء باللعنة على من تعرض له رضى الله عنه ولأهل بيته، وهو أقل ما يصدر عن أى مسلم لم تلوثه العصبية. ولو كنت أنا مكانه لجلجل صوتى وقلمى بلعن من قتل الحسين أو حض عليه، وكذلك من رضى به مجرد رضى، ولما اكتفيت بما صنعه الأصفهانى قط رغم أنى لست شيعيا بأى حال من الأحوال. ولقد تعمدت أن أنقل هنا ما كتبه فى مقتل الإمام الحسين لأن مقتله هو أول وأفجع قتلة وقعت للعلويين. أما إذا قرأنا ما كتبه فى غيره من قتلى الطالبيين فلسوف نلاحظ هدوءا وحيادية أشد وأبين. وعندنا العقاد مثلا، الذى تحدث عن مقتل سيد الشهداء فى كتابه عنه بما أسال الدموع الغزار وأطلق الألسن باللعنات على كل من آذاه هو وأهل بيته وكان وراء مقتله. فهل كان العقاد شيعيا؟ كلا وألف كلا. إنما هو شعور المسلم المستقيم النفس والضمير.
وإذا كان أبو الفرج قد وُصِفَ بأنه شيعى زيدى فها هو ذا ما كتبه فى مقتل زيد بن على بن أبى طالب، الذى ينتسب إليه الزيدية. ولسوف يرى القارئ بنفسه أن الأصفهانى لم يورد أى شىء يدل على أن زيدا، رضى الله عنه، كان يدعو بالإمامة لنفسه، بل صوَّره رجلا مسالما يريد اجتماع كلمة المسلمين، وكفى. أفلو كان أبو الفرج كما قيل، أكان قلمه يطاوعه على هذا؟ فلنقرأ إذن ما خطه ذلك القلم: "زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى أبا الحسين. وأمه أم ولد أهداها المختار بن أبي عبيدة لعلي بن الحسين فولدت له زيدا وعمر وعليًّا وخديجة. حدثني محمد بن الحسين الخثعمي وعلي بن العباس، قالا: حدثنا عباد بن يعقوب، قال: حدثنا الحسين بن حماد أخو الحسن بن حماد، قال: حدثنا زياد بن المنذر، قال: اشترى المختار بن أبي عبيدة جارية بثلاثين ألفا فقال لها: أدبري. فأدبرت. ثم قال لها: أقبلي. فأقبلت،. ثم قال: ما أدري أحدا أحق بها من علي بن الحسين. فبعث بها إليه، وهي أم زيد بن علي.
حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا الحسن بن الحسين الكندي عن خصيب الوابشي، قال: كنت إذا رأيت زيد بن علي رأيت أسارير النور في وجهه. حدثني الحسن بن علي السلولي، قال: حدثنا أحمد بن راشد، قال: حدثني عمي سعيد بن خيثم، قال: حدثني أبو قرة، قال: خرجت مع زيد بن علي ليلا إلى الجبان، وهو مرخي اليدين، لا شيء معه، فقال لي: يا أبا قرة، أجائع أنت؟ قلت نعم. فناولني كمثراة ملء الكف ما أدري أريحها أطيب أم طعمها، ثم قال لي: يا أبا قرة، أتدري أين نحن؟ نحن في روضة من رياض الجنة. نحن عند قبر أمير المؤمنين علي. ثم قال لي: يا أبا قرة، والذي يعلم ما تحت وريد زيد بن علي إن زيد بن علي لم يهتك لله محرما منذ عرف يمينه من شماله. يا أبا قرة، من أطاع الله أطاعه ما خلق. حدثي علي بن محمد بن علي بن مهدي العطار، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا الحسن بن الحسين عن أبي داود العلوي عن عاصم بن عبيد الله العمري، قال: ذكر عنده زيد بن علي فقال: أنا أكبر منه. رأيته بالمدينة وهو شاب يُذْكَر الله عنده فيغشى عليه حتى يقول القائل: ما يرجع إلى الدنيا. حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا يحيى بن الحسين، قال: حدثنا هرون بن موسى، قال: سمعت محمد بن أيوب الرافقي يقول: كانت المرجئة وأهل النسك لا يَعْدِلون بزيدٍ أحدا.
حدثني علي بن العباس المقانعي ومحمد بن الحسين الخثعمي، قالا: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين، قال المقانعي: عن عبد الله بن حرب، وقال الأشناني: عن عبد الله بن جرير، قال: رأيت جعفر بن محمد يمسك لزيد بن علي بالركاب ويسوي ثيابه على السرج. حدثني علي بن العباس، قال: حدثنا الحسن بن الحسين، قال: حدثنا أبو معمر سعيد بن خيثم، قال: كان بين زيد بن علي وعبد الله بن الحسن مناظرة في صدقات علي، فكانا يتحاكمان إلى قاض من القضاة، فإذا قاما من عنده أسرع عبد الله إلى دابة زيد فأمسك له بالركاب.
حدثني علي بن العباس، قال: حدثنا عباد بن يعقوب، قال: أخبرنا محمد بن الفرات، قال: رأيت زيد بن علي وقد أثر السجود بوجهه أثرا خفيفا. حدثنا محمد بن علي بن مهدي، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن أبي عاصم، قال: حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن البابكي، واسمه عبد الله بن مسلم بن بابك، قال: خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة، فلما كان نصف الليل واستوت الثريا قال: يا بابكي، أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحدا ينالها؟ قلت: لا. قال: والله لوددت أن يدي ملصقة بها فأقع إلى الأرض أو حيث أقع فأتقطع قطعة قطعة وأن الله أصلح بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثنا يحيى بن الحسن، قال: حدثنا الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، قال: حدثنا الحسن بن الحسين عن يحيى بن مساور عن أبي الجارود، قال: قدمتُ المدينة فجعلتُ كلما سألت عن زيد بن علي قيل لي: ذاك حليف القرآن.
حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثنا يحيى، قال: سألت الحسن بن يحيى: كم كانت سن زيد بن علي يوم قُتِل؟ قال: اثنتان وأربعون سنة. حدثني علي بن العباس، قال: حدثني إسماعيل بن إسحاق الراشدي، قال: حدثنا محمد بن داود بن عبد الجبار عن أبيه عن جابر عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسين: "يخرج رجل من صلبك يقال له: "زيد" يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غُرًّا محجَّلين، يدخلون الجنة بغير حساب". حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا عباد بن يعقوب، قال أخبرنا خالد بن عيسى أبو زيد العكلي عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُقْتَل رجل من أهل بيتي فيُصْلَب لا ترى الجنة عين رأت عورته". أخبرني أحمد بن سعيد، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن قني، قال: حدثنا محمد بن علي بن أخت خلاد المقرئ، قال: حدثنا أبو حفص الأعشى عن أبي داود المدني عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي، قال: يخرج بظهر الكوفة رجل يقال له: "زيد" في أبهة والأبهة الملك، لا يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون، إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير أو شبه الطوامير حتى يتخطَّوْا أعناق الخلائق تتلقاهم الملائكة فيقولون: هؤلاء حلف الخلف، ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "يا بَنِيَّ، قد عملتم ما أُمِرْتم به، فادخلوا الجنة بغير حساب" .
حدثني علي بن العباس، ومحمد بن الحسين، قال: حدثنا عباد بن يعقوب، قال: أخبرنا الحسين بن زيد بن علي عن ريطة بنت عبد الله بن محمد بن الحنفية عن أبيها، قال: مر زيد بن علي بن الحسين على محمد بن الحنفية فرقّ له وأجلسه وقال: أعيذك بالله يا ابن أخي أن تكون زيدا المصلوب بالعراق، ولا ينظر أحد إلى عورته ولا ينظره إلا كان في أسفل درك من جهنم. حدثني محمد بن علي بن مهدي بالكوفة على سبيل المذاكرة، ونبأني أحمد بن محمد في إسناده، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا عيسى بن كثير الأسدي، قال: حدثنا خالد موالى آل الزبير، قال: كنا عند علي بن الحسين فدعا ابنا له يقال له: زيد، فكبا لوجهه وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: أعيذك بالله أن تكون زيدا المصاب بالكناسة، من نظر إلى عورته متعمدا أصلى الله وجهه النار. حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثني أحمد بن محمد قني، قال: حدثنا محمد بن علي بن أخت خلاد، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: سعيد بن عمرو عن يونس بن جناب، قال: جئت مع أبي جعفر إلى الكتاب فدعا زيدا فاعتنقه وألزق بطنه ببطنه وقال: أعيذك بالله أن تكون صليب الكناسة.
حدثنا علي بن العباس، قال: حدثنا محمد بن مروان، قال: حدثنا موسى الصفار عن محمد بن فرات، قال: رأيت زيد بن علي يوم السبخة، وعلى رأسه سحابة صفراء تظله من الشمس تدور معه حيث ما دار. حدثني الحسن بن علي، قال: حدثنا جعفر بن أحمد الأزدي، قال: حدثنا حسين بن نصر، عن أبيه عن أبي خالد، قال: كان في خاتم زيد بن علي "اصبر تؤجر، وتَوَقَّ تَنْجُ" .
حدثني علي بن أحمد بن حاتم، قال: حدثنا الحسين بن عبد الواحد، قال: حدثنا زكريا بن يحيى الهمداني، قال: حدثتني عمتي عزيز بنت زكريا عن أبيها، قال: أردت الخروج إلى الحج فمررت بالمدينة فقلت: لو دخلت على زيد بن علي. فدخلت فسلمت عليه، فسمعته يتمثل:
ومن يطلب المال الممنَّع بالقنا * يعش ماجدا أو تخترمْه المخارمُ
متى تجمع القلب الذكي وصارما * وأنفًا حميًّا تجتنبْك المظالـمُ
وكنتُ إذا قوم غزَوْني غزوتُهم * فهل أنا في ذا يالهمدان ظالـمُ؟
قال: فخرجت من عنده وظننت أن في نفسه شيئا، وكان من أمره ما كان.
حدثني به محمد بن علي بن شاذان، قال: حدثنا أحمد بن راشد، قال: حدثني عمي أبو معمر سعيد بن خيثم، وحدثني علي بن العباس، قال: أخبرنا محمد بن مروان قال: حدثان زيد بن المعذل النمري، قال: أخبرنا يحيى بن صالح الطيانسي، وكان قد أدرك زمان زيد بن علي، وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا المنذر بن محمد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال: حدثنا أبو مخنف، وأخبرني المنذر بن محمد في كتابه إلي بإجازته أن أرويه عنه من حيث دخل، يعني حديث بعضهم في حديث الآخرين، وذكرت الاتفاق بينهم مجملا، ونسبت ما كان من خلاف في رواية إلى رواية. قالوا: كان أول أمر زيد بن علي، صلوات الله عليه، أن خالد بن عبد الله القسري ادعى مالاً قِبَل زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وداود بن علي بن عبد الله بن عباس وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن عباس بن الوليد بن المغيرة المخزومي. وكتب فيهم يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم، عامل هشام على العراق، إلى هشام، وزيد بن علي ومحمد بن عمر يومئذ بالرصافة. وزيد يخاصم الحسن بن الحسن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدمت كتب يوسف بعث إليهم فذكر ما كتب به يوسف، فأنكروا فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم إليه يجمع بينكم وبينه.
قال له زيد: أَنْشُدك الله والرَّحِم أن لا تبعث بنا إلى يوسف. قال له هشام: وما الذي تخاف من يوسف؟ قال: أخاف أن يتعدى علينا. فدعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف: "أما بعد، فإذا قدم عليك زيد وفلان وفلان فاجمع بينهم وبينه: فإن أقروا بما ادعى عليهم فسرِّحْ بهم إليَّ، وإن هم أنكروا فاسأله البينة. فإن لم يقمها فاستحلفهم بعد صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما استودعهم وديعة ولا له قِبَلهم شيء، ثم خَلِّ سبيلهم". فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدى كاتبك ويطول علينا. قال: كلا. أنا باعث معكم رجلا من الحرس ليأخذه بذلك حتى يفرغ ويعجل. قالوا: جزاك الله عن الرحم خيرا، لقد حكمت بالعدل. فسرَّح بهم إلى يوسف، وهو يومئذ بالحيرة، فاجتنبوا أيوب بن سلمة لخؤولته من هشام ولم يؤخذ بشيء من ذلك. فلما قدموا على يوسف دخلوا عليه فسلموا، فأجلس زيدا قريبا منه ولاطفه في المسألة، ثم سألهم عن المال فأنكروا، فأخرجه يوسف إليهم، وقال: هذا زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي اللذان ادعيتَ قِبَلهما ما ادعيت. قال: ما لي قِبَلهما قليل ولا كثير. قال له يوسف: أفبي كنت تهزأ وبأمير المؤمنين؟ فعذبه عذابا ظن أنه قد قتله.
ثم أخرج زيدا وأصحابه بعد صلاة العصر إلى المسجد فاستحلفهم، فحلفوا، فكتب يوسف إلى هشام يعلمه ذلك، فكتب إليه هشام: خَلِّ سبيلهم. فخلى سبيلهم. فأقام زيد بعد خروجه من عند يوسف بالكوفة أياما، وجعل يوسف يستحثه بالخروج فيعتلّ عليه بالشغل وبأشياء يبتاعها، فألح عليه حتى خرج فأتى القادسية. ثم إن الشيعة لقُوا زيدا فقالوا له: أين تخرج عنه، رحمك الله، ومعك مائة ألف سيف من أهل الكوفة والبصرة وخراسان يضربون بني أمية بها دونك، وليس قبلنا من أهل الشام إلا عِدّة يسيرة؟ فأبى عليهم، فما زالوا يناشدونه حتى رجع بعد أن أعطوْه العهود والمواثيق. فقال له محمد بن عمر: أُذْكِرك الله يا أبا الحسين لـمّا لحقت بأهلك ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك، فإنهم لا يفون لك. أليسوا أصحاب جدك الحسين بن علي؟ قال: أجل. وأبى أن يرجع. وأقبلت الشيعة وغيرهم يختلفون إليه ويبايعون حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة خاصة سوى أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان.
وأقام بالكوفة بضعة عشر شهرا وأرسل دعاته إلى الآفاق والكور يدعون الناس إلى بيعته، فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد والتهيؤ فجعل من يريد أن يفي له يستعد. وشاع ذلك، فانطلق سليمان بن سراقة البارقي إلى يوسف بن عمر وأخبره خبر زيد، فبعث يوسف فطلب زيدا ليلا فلم يوجد عند الرجلين اللذين سعى إليه أنه عندهما. فأتى بهما يوسف، فلما كلمهما استبان أمر زيد وأصحابه، وأمر بهما يوسف فضربت أعناقهما. وبلغ الخبر زيدا، صلوات الله عليه، فتخوف أن يؤخذ عليه الطريق فتعجل الخروج قبل الأجل الذي بينه وبين أهل الأمصار. واستتب لزيد خروجه، وكان قد وعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة فخرج قبل الأجل. وبلغ ذلك يوسف بن عمر فبعث الحكم بن الصلت يأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم فيحصرهم فيه، فبعث الحكم إلى العرفاء والشُّرَط والمناكب والمقاتلة فأدخلوهم المسجد، ثم نادى مناديه: أيما رجل من العرب والموالي أدركناه في رحبة المسجد فقد برئت منه الذمة. ائتوا المسجد الأعظم. فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد، وطلبوا زيدا في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، فخرج ليلا، وذلك ليلة الأربعاء لسبع بقين من المحرم في ليلة شديدة البرد، من دار معاوية بن إسحاق، فرفعوا الهرادي فيها النيران، ونادوا بشعارهم شعار رسول الله: "يا منصور، أمت"، فما زالوا كذلك حتى أصبحوا. فلما أصبحوا بعث زيد عليه السلام القاسم بن عمر التبعي ورجلا آخر يناديان بشعارهما. وقال سعيد بن خيثم في رواية القاسم بن كثير بن يحيى بن صالح بن يحيى بن عزيز بن عمرو بن مالك بن خزيمة التبعي، وسمى الآخر الرجل، وذكر أنه صدام، قال سعيد: وبعثني أيضا، وكنت رجلا صيتا أنادي بشعاره. قال: ورفع أبو الجارود زياد بن المنذر الهمداني هرديًّا من ميمنتهم ونادى بشعار زيد. فلما كانوا في صحارى عبد القيس لقيهما جعفر بن العباس الكندي، فشدوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الرجل الذي كان مع القاسم، وارتث القاسم فأتى به الحكم بن الصلت فكلمه فلم يرد عليه، فأمر به فضربت عنقه على باب القصر، وكان أول قتيل منهم رضوان الله عليه.
قال سعيد بن خيثم: قالت بنته سكينة:
عَيْنُ، جودي لقاسم بن كثير * بدرورٍ من الدموع غزيرِ
أدركته سيوفُ قومٍ لئامٍ * من أولي الشرك والردى والشرورِ
سوف أبكيك ما تغنى حمامٌ * فوق غصنٍ من الغصون نضيرِ
قال أبو مخنف: وقال يوسف بن عمر وهو بالحيرة: من يأتي الكوفة فيقرب من هؤلاء فيأتينا بخبرهم؟ قال عبد الله بن العباس المنتوف الهمداني: أنا آتيك بخبرهم، فركب في خمسين فارسا، ثم أقبل حتى أتى جبانة سالم فاستخبر ثم رجع إلى يوسف فأخبره. فلما أصبح يوسف خرج إلى تل قريب من الحيرة فنزل عليه ومعه قريش وأشراف الناس، وأمير شرطته يومئذ العباس بن سعيد المزني. قال: وبعث الريان بن سلمة البَلَوِيّ في نحو من ألفي فارس وثلثمائة من القيقانية رجالة ناشبة. قال: وأصبح زيد بن علي، وجميع من وافاه تلك الليلة مائتان وثمانية عشر من الرجالة، فقال زيد بن علي عليه السلام: سبحان الله! فأين الناس؟ قيل: هم محصورون في المسجد. فقال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر. قال: وأقبل نصر بن خزيمة إلى زيد فتلقاه عمر بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت في خيل من جهينة عند دار الزبير بن أبي حكيمة في الطريق الذي يخرج إلى مسد بني عدي فقال: يا منصور، أمت. فلم يرد عليه عمر شيئا، فشد نصر عليه وعلى أصحابه فقتله، وانهزم من كان معه. وأقبل زيد حتى انتهى إلى جبانة الصيادين وبها خمسمائة من أهل الشام، فحمل عليهم زيد في أصحابه فهزمهم، ثم مضى حتى انتهى إلى الكناسة فحمل على جماعة من أهل الشام فهزمهم. ثم شلهم حتى الظهر إلى المقبرة، ويوسف بن عمر على التل ينظر إلى زيد وأصحابه وهم يكرون، ولو شاء زيد أن يقتل يوسف يومئذ قتله.
ثم إن زيدا أخذ ذات اليمين على مصلى خالد بن عبد الله حتى دخل الكوفة، فقال بعض أصحابه لبعض: ألا ننطلق إلى جبانة كندة؟ فما زاد الرجل أن تكلم بهذا إذ طلع أهل الشام عليهم. فلما رأَوْهم دخلوا زُقَاقًا ضيقًا فمضوا فيه، وتخلف رجل منهم فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج إليهم فضاربهم بسيفه وجعلوا يضربونه بأسيافهم، ثم نادى رجل منهم فارس مقنَّع بالحديد: اكشفوا المِغْفَر عن وجهه واضربوا رأسه بالعمود. ففعلوا، فقُتِل الرجل، وحمل أصحابه عليهم فكشفوهم عنه، واقتطع أهل الشام رجلا منهم فذهب ذلك الرجل حتى دخل على عبد الله بن عوف بن الأحمر فأسروه، وذهبوا به إلى يوسف بن عمر فقتله. وأقبل زيد بن علي فقال: يا نصر بن خزيمة، أتخاف أهل الكوفة أن يكونوا فعلوها حسينية؟ قال: جعلني الله فداك. أما أنا فوالله لأضربن بسيفي هذا معك حتى أموت. ثم خرج بهم زيد يقودهم نحو المسجد، فخرج إليه عبيد الله بن العباس الكندي في أهل الشام، فالتقَوْا على باب عمر بن سعد، فانهزم عبيد الله بن العباس وأصحابه حتى انتهَوْا إلى دار عمر بن حريث، وتبعهم زيد عليه السلام حتى انتهَوْا إلى باب الفيل، وجعل أصحاب زيد يُدْخِلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون: يا أهل المسجد، اخرجوا. وجعل نصر بن خزيمة يناديهم: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل إلى العز، وإلى الدين والدنيا. قال: وجعل أهل الشام يرمونهم من فوق المسجد بالحجارة، وكانت يومئذ مناوشة بالكوفة في نواحيها. وقيل: في جبانة سالم.
وبعث يوسف بن عمر الريان بن سلمة في خيل إلى دار الرزق، فقاتلوا زيدا عليه السلام قتالا شديدا. وخرج من أهل الشام جرحى كثيرة، وشلهم أصحاب زيد من دار الرزق حتى انتهَوْا إلى المسجد الأعظم، فرجع أهل الشام مساء يوم الأربعاء وهم أسوأ شيءٍ ظنًّا. فلما كان غداة يوم الخميس دعا يوسف بن عمر الريان بن سلمة فأفف به، فقال له: أف لك من صاحب خيل! ودعا العباس بن سعد المزني صاحب شرطته فبعثه إلى أهل الشام، فسار بهم حتى انتهَوْا إلى زيد في دار الرزق، وخرج إليهم زيد، وعلى مجنبته نصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق. فلما رآهم العباس نادى: يا أهل الشام، الأرض. فنزل ناس كثير واقتتلوا قتالا شديدا في المعركة. وقد كان رجل من أهل الشام من بني عبس يقال له: نائل بن فروة قال ليوسف: والله لئن ملأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنَّه أو ليقتلنّي. فقال له يوسف: خذ هذا السيف. فدفع إليه سيفا لا يمر بشيء إلا قطعه. فلما التقى أصحاب العباس بن سعد وأصحاب زيد أبصر نائل، لعنه الله، نصر بن خزيمة، رضوان الله عليه، فضربه فقطع فخذه، وضربه نصر فقتله، ومات نصر رحمه الله. ثم إن زيدا عليه السلام هزمهم، وانصرفوا يومئذ بأسوأ حال. فلما كان العشي عبأهم يوسف ثم سرحهم نحو زيد، وأقبلوا حتى التقَوْا فحمل عليهم زيد فكشفهم ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة ثم شد عليهم حتى أخرجهم من بني سليم فأخذوا على المسناة. ثم ظهر لهم زيد فيما بين بارق ورؤاس فقاتلهم قتالا شديدا، وصاحب لوائه رجل من بني سعد بن بكر يقال له: عبد الصمد. قال سعيد بن خيثم: وكنا مع زيد في خمسمائة، وأهل الشام اثنا عشر ألفا. وكان بايع زيدا أكثر من اثني عشر ألفا فغدروا، إذ فصل رجل من أهل الشام من كلب على فرس رائع فلم يزل شتما لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل زيد يبكي حتى ابتلت لحيته وجعل يقول: أما أحد يغضب لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما أحد يغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما أحد يغضب لله؟ قال: ثم تحول الشامي عن فرسه فركب بغلة. قال: وكان الناس فرقتين: نظارة ومقاتلة. قال سعيد: فجئت إلى مولى فأخذت منه مشملا كان معه، ثم استترت من خلف النظارة حتى إذا صرت من ورائه ضربت عنقه وأنا متمكن منه بالمشمل، فوقع رأسه بين يدي بغلته، ثم رميت جيفته عن السرج، وشد أصحابه عليَّ حتى كادوا يرهقونني، وكبَّر أصحاب زيد وحملوا عليهم واستنقذوني، فركبت فأتيت زيدا فجعل يقبل بين عيني ويقول: أدركت والله ثأرنا، أدركت والله شرف الدنيا والآخرة وذخرها. اذهب بالبغلة، فقد نفّلتكها. قال: وجعلت خيل أهل الشام لا تثبت لخيل زيد بن علي، فبعث العباس بن سعد إلى يوسف بن عمر يعلمه ما يلقى من الزيدية، وسأله أن يبعث إليه الناشبة، فبعث إليه سليمان بن كيسان في القيقانية، وهم نجارية، وكانوا رماة، فجعلوا يرمون أصحاب زيد. وقاتل معاوية بن إسحاق الأنصاري يومئذ قتالا شديدا فقُتِل بين يدي زيد. وثبت زيد في أصحابه حتى إذا كان عند جنح الليل رُمِيَ زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى فنزل السهم في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا للمساء والليل.
قال أبو مخنف: فحدثني سلمة بن ثابت، وكان من أصحاب زيد، وكان آخر من انصرف عنه هو وغلام لمعاوية بن إسحاق، قال: أقبلت أنا وأصحاب زيد نقتفي أثر زيد فنجده قد دخل بيت حران بن أبي كريمة في سكة البريد في دور أرحب وشاكر، فدخلت عليه فقلت له: جعلني الله فداك أبا الحسين. وانطلق ناس من أصحابه فجاؤا بطبيب يقال له: سفيان مولى لبني دواس، فقال له: إنك إن نزعته من رأسك متّ. قال: الموت أيسر علي مما أنا فيه. قال: فأخذ الكلبتين فانتزعه، فساعة انتزاعه مات صلوات الله عليه. قال القوم: أين ندفنه؟ وأين نواريه؟ فقال بعضهم: نلبسه درعين ثم نلقيه في الماء. وقال بعضهم: لا، بل نحتز رأسه، ثم نلقيه بين القتلى. قال: فقال يحيى بن زيد: لا والله لا يأكل أبي السباع. وقال بعضهم: نحمله إلى العباسية فندفنه فيها. فقبلوا رأيي.
قال: فانطلقنا فحفرنا له حفرتين، وفيهما يومئذ ماء كثير، حتى إذا نحن مكَّنّا له دفنّاه ثم أجرينا عليه الماء، ومعنا عبد سندي. قال سعيد بن خيثم في حديثه: عبد حبشي كان مولى لعبد الحميد الرؤاسي، وكان معمر بن خيثم قد أخذ صفقته لزيد. وقال يحيى بن صالح: هو مملوك لزيد سندي، وكان حَضَرهم. قال أبو مخنف عن كهمس، قال: كان نبطي يسقي زرعا له حين وجبت الشمس، فرآهم حيث دفنوه، فلما أصبح أتى الحكم بن الصلت فدلهم على موضع قبره، فسرّح إليه يوسف بن عمر العباس بن سعيد المزني. قال أبو مخنف: بعث الحجاج بن القاسم فاستخرجوه على بعير. قال هشام: فحدثني نصر بن قابوس، قال: فنظرت والله إليه حين أقبل به على جمل قد شد بالحبال، وعليه قميص أصفر هروي، فألقي من البعير على باب القصر فخر كأنه جبل. فأمر به فصُلِب بالكناسة، وصُلِب معه معاوية بن إسحاق وزياد الهندي ونصر بن خزيمة العبسي. قال أبو مخنف: وحدثني عبيد بن كلثوم أنه وجه برأس زيد مع زهرة بن سليم، فلما كان بضيعة ابن أم الحكم ضربه الفالج، فانصرف وأتته جائزته من عند هشام.
فحدثني الحسن بن علي الأدمي، قال: حدثنا أبو بكر الجبلي، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن العنبري، قال: حدثنا موسى بن محمد، قال: حدثنا الوليد بن محمد الموقري، قال: كنت مع الزهري بالرصافة، فسمع أصوات لعابين، فقال لي: يا وليد، انظر ما هذا. فأشرفت من كوة في بيته فقلت: هذا رأس زيد بن علي. فاستوى جالسا ثم قال: أهلك أهلَ هذا البيت العجلةُ. فقلت: أوينكلون؟ قال: حدثني علي بن الحسين عن أبيه عن فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: المهدي من ولدك. قال أبو مخنف: حدثني موسى بن أبي حبيب أنه مكث مصلوبا إلى أيام الوليد بن يزيد، فلما ظهر يحيى بن زيد كتب الوليد إلى يوسف: "أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر عِجْل أهل العراق فأحرقه وانسفه في اليم نسفا، والسلام" . فأمر به يوسف، لعنه الله، عند ذلك خراش بن حوشب، فأنزله من جذعه فأحرقه بالنار، ثم جعله في قواصر ثم حمله في سفينة ثم ذراه في الفرات.
حدثني الحسن بن عبد الله، قال: حدثنا جعفر بن يحيى الأزدي، قال: حدثنا محمد بن علي بن أخت خلاد المقرئ، قال: حدثنا أبو نعيم الملائي عن سماعة بن موسى الطحان، قال: رأيت زيد بن علي مصلوبا بالكناسة، فما رأى أحد له عورة. استرسل جلد من بطنه من قدامه ومن خفه حتى ستر عورته. حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عفير، قال: حدثنا أبو حاتم الرازي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي عن جرير بن حازم، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو متساند إلى جذع زيد بن علي وهو مصلوب، وهو يقول للناس: "أهكذا تفعلون بولدي؟". حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثنا يحيى بن الحسن بن جعفر، قال: قتل زيد بن علي يوم الجمعة في صفر سنة إحدى وعشرين ومائتين".
فكما نرى لم يكن زيد بن على، حسبما صوره لنا أبو الفرج، يفكر فى الخروج على الدولة لولا أن جماعة من أهل العراق كالعادة أَغْرَوْه بذلك كما أغروا أخاه الحسين من قبل وبذلوا له المواعيد، وكانت كالعادة مواعيد كاذبة، فعندئذ خرج، وكان ما كان. إلا أن الملاحظ أثناء ذلك كله أنه لم يحول الأمر إلى دعوة ومجادلات وأخذ ورد، بل اقتصر أمره على وصف القتال، الذى انتهى فى خاتمة المطاف إلى مقتله بعد أن كانت الحرب فى بعض مراحلها تجرى فى صالحه عليه رضوان الله.
ومما يدل أيضا على أن أبا الفرج لم يكن متشيعا أنه لا يتردد فى انتقاد بعض أعلام آل البيت واتهامهم فى رواياتهم: فهو مثلا فى كلامه عن علي بن عبد الله بن محمد، أحد قتلى الطالبيين فى اليمن، يردّ روايته بناء على أنه كان يقول بالإمامة، فهو من ثم لا يؤدى الرواية فى رأيه على وجهها الصحيح، بل يدفعه تعصبه فى التشيع إلى تحريف القول، وهو ما جعله لا يأخذ بما يرويه. وهذا نص كلامه: "وعلي بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قتل باليمن في أيام أبي السرايا أيضا. كتب إلي علي بن أبي قربة العجلي، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن الكاتب، قال: حدثني نصر بن مزاحم المنقري بما شاهد من ذلك، قال: وحدث بما غاب عنه عمن حضره فحدثني به، ويحيى بن عبد الرحمن أيضا بنتف من خبره عن غير نصر بن مزاحم، وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي بأخباره. فربما ذكرتُ الشيء اليسير منها والمعنى الذي يحتاج إليه لأن علي بن محمد كان يقول بالإمامة فيحمله التعصب لمذهبه على الـحَيْف فيما يرويه، ونسبه من روى خبره من أهل هذا المذهب إلى قبيح الأفعال، وأكثر حكاياته في ذلك بل سائرها عن أبيه موقوفا عليه لا يتجاوزه، وأبوه حينئذٍ مقيم بالبصرة لا يعلم بشيء من أخبار القوم إلا ما يسمعه عن ألسنة العامة على سبيل الأراجيف، فيسطره في كتابه عن غير علم طلبا منه لما شان القوم وقدح فيهم. فاعتمدت على رواية من كان بعيدا عن فعله في هذا، وهي رواية نصر بن مزاحم، إذ كان ثبتا في الحديث والنقل، ويظهر أنه ممن سمع خبر أبي السرايا عنه...".
كذلك لو كان أبو الفرج شيعيا ما فكر مجرد تفكير فى تصوير عدد من كبار آل البيت بما صوَّرهم به فى كتابه: "الأغانى"، إذ يشير ما كتبه عنهم هناك إلى أنهم لم يكونوا يأخذون الحياة مأخذ الجِدّ، بل كانوا ذوى فراغ ولهو وبطالة وانصراف إلى سفاسف الأمور، بل إلى ما يشين منها فى غير قليل من الأحيان. ولم يقتصر هذا على الرجال منهم بل شمل نساءهم أيضا، وعلى رأسهن سُكَيْنة بنت الحسين، التى لم تَرْعَ الرواياتُ التى أوردها عنها الله فيها ولا الشرف، بل أعطانا عنها من الأخبار ما لو صَحَّ لكان خليقا أن يشوه شخصيتها تشويها، وأىّ تشويه!
قال عن الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر بن أبى طالب: "وذكر القحذمي وابن عائشة وخالد بن جمل أن ابن أبي عتيق صار إلى الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم وجماعة من قريش، فقال لهم: إن لي حاجة إلى رجل أخشى أن يردّني فيها، وإني أستعين بجاهكم وأموالكم فيها عليه. قالوا: ذلك لك مبتذَلٌ منا. فاجتمعوا ليومٍ وعدهم فيه، فمضى بهم إلى زوج لبنى. فلما رآهم أعظمَ مصيرَهم إليه وأكبره. فقالوا: لقد جئناك بأجمعنا في حاجة لابن أبي عتيق. قال: هي مقضية كائنةً ما كانت. قال ابن أبي عتيق: قد قضيتها كائنة ما كانت من ملْك أو مال أو أهل؟ قال نعم. قال: تهب لهم ولي لُبْنَى زوجتك وتطلّقها. قال: فإني أشهدكم أنها طالق ثلاثا. فاستحيا القوم واعتذروا وقالوا: والله ما عرفنا حاجته، ولو علمنا أنها هذه ما سألناك إياها. وقال ابن عائشة: فعوَّضه الحسن من ذلك مائة ألف درهم وحملها ابن أبي عتيق إليه. فلم تزل عنده حتى انقضت عدتها، فسأل القوم أباها فزوَّجها قيسا، فلم تزل معه حتى ماتا. قالوا: فقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي * على الإحسان خيرا من صديقِ
فقد جربت إخواني جـمـيعـا * فما ألفيت كابن أبي عـتـيقِ
سعى في جمع شملي بعد صَدْعٍ * ورأيٍ حِدْتُ فيه عن الطـريقِ
وأطفأ لوعةً كانت بـقـلـبـي * أَغَصَّتْني حرارتهـا بـِرِيقـي
قال: فقال له ابن أبي عتيق: يا حبيبي، أمسك عن هذا المديح، فما يسمعه أحد إلا ظنني قَوّادًا". وهى كلمة سفيهة تمسّ كذلك، بل قبل ذلك، الحسن والحسين وابن جعفر عليهم رضوان الله لأن ما ينطبق على ابن عتيق ينطبق عليهم أوّلاً. كما أنه لا يليق أن يوصف هؤلاء الكرام بالسذاجة التى تسول لهم الاندفاع فى أمر شائن دون أن يحاولوا معرفة كنه ما هم مقدمون عليه، بل دون أن يصدر عنهم بعد أن وقعت الواقعة ما يدل دلالة حقيقية على أنهم قد ندموا على ما تورطوا فيه من التفريق بين سيدة وزوجها على هذا النحو المخزى والمضحك فى آن.
أما ما قاله فى حق سكينة بنت الحسين وبنت أخى زيد بن على، وهما محورا التشيع الإمامى والزيدى، فهو من البلايا الشنيعة التى لا يمكن أن يقولها شيعى يؤمن بأن هؤلاء القوم هم أصحاب الحق فى إمامة المسلمين، إذ يصورها امرأة عابثة مستهترة لا تبالى ما يصدر عنها من سلوك لا تقدم عليه امرأة تراعى على الأقل سمعتها وتتوقى ما يمكن أن يقوله الناس عنها، إن لم تراع قيم الدين والتقوى. والواقع أن ما ينسبه لسكينة رضى الله عنها من سلوك وأقوال لو صدر عن امرأة مسلمة عاديّة فى عصرنا لأزرى بها وأجرى سمعتها تُلاَك على كل لسان، فما بالنا بامرأة من البيت النبوى الشريف فى ذلك العصر، وهى فوق ذلك بنت الحسين عليه السلام؟ قال مثلا: "أخبرني علي بن صالح، قال: حدثنا أبو هفان عن إسحاق عن مصعب الزبيري، قال: اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه ومجلسه وحديثه، فتشوقن إليه وتمنينه. فقالت سكينة: أنا لكنّ به. فبعثت إليه رسولا أن يوافي الصُّورين ليلةً سَمَّتْها، فوافاهن على رواحله، فحدثهن حتى طلع الفجر وحان انصرافهن. فقال لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده، ولكني لا أخلط بزيارتكن شيئا. ثم انصرف إلى مكة وقال في ذلك: ألمم بزينب إن البين قد أَفَدا... وذكر الأبيات المتقدمة".
وقال أيضا، وهذا أشنع، إذ جعلها على استعداد لأن تنتفى من دين جدها عليه الصلاة والسلام لا لشىء إلا لحرصها على سماع غناء ابن سُرَيْج. ووالله لو كانت روح الإنسان لتزهق إن لم يسمع غناء هذا المغنى أو غيره ما قال مثل تلك المقالة الشنعاء التى أجراها أبو الفرج على لسان حفيدة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فضلا عما اجترح خَدَمُها وخوادمها، بناءً على أمرها لهم حسب روايته السخيفة الملفقة، من منكرات وشناعات وبذاءات لا تطاق ولا يرضى بها ولا عنها أى حر كريم، فى سبيل الاستجابة لمطلبها العجيب فى سماع ابن سُرَيْج. قال: "أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن مصعب الزبيري، قال: حدثني شيخ من المكيين، ووجدت هذا الخبر أيضا في بعض الكتب مرويًّا عن محمد بن سعد كاتب الواقدي عن مصعب عن شيخ من المكيين، والرواية عنهما متفقة، قال: "كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة، وآلى يمينا ألا يغني، ونَسَكَ ولزم المسجد الحرام حتى عُوفي. ثم خرج وفيه بقية من العلة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وموضع مُصَلاّه. فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النُّسُك والقراءة، فكان أهل الغناء يأتونه مسلمين عليه، فلا يأذن لهم في الجلوس والمحادثة. فأقام بالمدينة حَوْلاً حتى لم يحسّ من علته بشيء، وأراد الشخوص إلى مكة. وبلغ ذلك سكينة بنت الحسين، فاغتمت اغتماما شديدا وضاق به ذَرْعُها. وكان أشعب يخدمها، وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره، وقالت لأشعب: ويلك! إن ابن سريج شاخص، وقد دخل المدينة منذ حَوْل، ولم أسمع من غنائه قليلا ولا كثيرا، ويعزّ ذلك علي، فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا؟ فقال لها أشعب: جُعِلْتُ فداك! وأَنَّى لك بذلك، والرجل اليوم زاهد، ولا حيلة فيه؟ فارفعي طمعك، والحسي تورك تنفعك حلاوة فمك.
فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه، وخنقنه حتى كادت نفسه أن تتلف، ثم أمرت به فسُحِب على وجهه حتى أُخْرِج من الدار إخراجا عنيفا. فخرج على أسوأ الحالات، واغتمَّ أشعب غما شديدا، وندم على ممازحتها في وقت لم يَنْبَغِ له ذلك. فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه، فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب. ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب، والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته، وثيابه ممزقة، وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدَّوْس والخنق، ومات الدم فيها. فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه، فقال له: ما هذا ويحك؟ فقص عليه القصة، فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماذا نزل بك؟ والحمد لله الذي سلَّم نفسك، لا تعودَنّ إلى هذه أبدا. قال أشعب: فديتك! هي مولاتي، ولا بد لي منها. ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببا لرضاها عني؟ قال ابن سريج: كلا. والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته. قال أشعب: قد قطعتَ أملي ورفعت رزقي، وتركتني حيران بالمدينة، لا يقبلني أحد وهي ساخطة عليَّ. فاللهَ اللهَ فيَّ، وأنا أَنْشُدك الله إلا تحمّلتَ هذا الإثم فيَّ. فأبى عليه. فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه: لا حيلة لي، وهذا خارج، وإن خرج هلكتُ. فصرخ صرخة آذن أهل المدينة لها، ونبه الجيران من رقادهم، وأقام الناس من فرشهم، ثم سكت. فلم يَدْر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم. فقال له ابن سريج: ويلك! ما هذا؟ قال: لئن لم تَصِرْ معي إليها لأصرخنّ صرخة أخرى لا يبقى بالمدينة أحد إلا صار بالباب، ثم لأفتحنّه ولأُرِيَنّهم ما بي، ولأُعْلِمَنّهم أنك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان (يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به)، فمنعتُك وخلّصتُ الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى، ففعلتَ بي هذا غيظا وتأسفا، وأنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه. وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه. فقال ابن سريج: اغرب، أخزاك الله! قال أشعب: والله الذي لا إله إلا هو، وإلا فما أملك صدقة، وامرأته طالق ثلاثا، وهو نَحِيرٌ في مقام إبراهيم، والكعبة، وبيت النار، والقبر قبر أبي رِغَال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلنّ.
فلما رأى ابن سريج الجِدَّ منه قال لصاحبه: ويحك! أما ترى ما وقعنا فيه؟ وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا. فقال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث. وتذمَّم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل، فقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل. فقال: رِجْلي مع رِجْلك. فخرجا، فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب: امض عني. قال: والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحنّ الساعة حتى يجتمع الناس، ولأقولنّ إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها فتغنيها سرا، وإنك كابرتني عليه وجحدتني، وفعلت بي هذا الفعل. فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه، فقال: أمضي، لا بارك الله فيك. فمضى معه.
فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب، فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب قد جاء بابن سريج. ففُتِح الباب لهما، ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة، فجلسا ساعة، ثم أُذِن لهما فدخلا إلى سكينة، فقالت: يا عُبَيْد، ما هذا الجفاء؟ قال: قد علمتِ بأبي أنت ما كان مني. قالت: أجل. فتحدثا ساعة، وقص عليها ما صنع به أشعب، فضحكتْ وقالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه. وأمرتْ لأشعب بعشرين دينارا وكُسْوة. ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين بأبي أنت؟ قالت: وأين؟ قال: المنزل. قالت: برئتُ من جدي إن برحتَ داري ثلاثا، وبرئتُ من جدي إن أنت لم تغنّ إن خرجت من داري شهرا، وبَرِئْتُ من جدي إن أقمتَ في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا، وبرئتُ من جدي إن حنثتُ في يميني أو شفَّعْتُ فيك أحدا. فقال عبيد: واسُخْنَةَ عيناه! واذهاب دنياه! ثم اندفع يغني:
أستعين الذي بكفيه نفعـي * ورجائي على التي قتلتني
فقالت له سكينة: فهل عندك يا عُبَيْد من صبر؟ ثم أخرجت دُمْلُجًا من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا، فرمت به إليه، ثم قالت: أقسمت عليك لـمّـا أدخلتَه في يدك. ففعل ذلك".
والآن أفهذا كلامُ شيعىٍّ فى حفيدة على، الذى هو أساس فكر التشيع ومحوره كله، وبنت الحسين عمود الشيعة الإمامية، وبنت أخى زيد قطب التشيع الزيدى؟ ودعنا من هذا كله وتعال نسأل: ألم يكن لسكينة زوج يغار عليها ويكنها فى كِسْر بيتها ويُلْزِمها العقل إن لم تكن عاقلة ويُفْهِمها أن ما تصنعه أمر لا يليق؟ إن أبا الفرج بروايته هذه ليصورها امرأة لا رجل لها، وأنها كانت تعيش، أستغفر الله، على حل شعرها. ولو كان هذا صحيحا لما سكتت عنه كتب التاريخ، بَيْدَ أن كتب التاريخ لم تتطرق إلى شىء من هذا فى ترجمتها أو كلامها عن سكينة. كما أن الأمويين كانوا خُلَقاء أن ينتهزوا هذه التصرفات الرعناء الماجنة فيشنّعوا على العلويين ويتخذوا من ذلك مطعنا فيهم وفى دعواهم هم وأتباعهم استحقاقهم الخلافة بعد رسول الله، إذ ها هم أولاء يعجزون عن لجم امرأة منهم عن غيها وحمقها ومجونها. وأى امرأة؟ امرأة هى حفيدة على وبنت الحسين وبنت أخى زيد! لكن شيئا من ذلك لم يقع. وهَبْنا ضَرَبْنا عن كل هذا صَفْحًا، أفلم تكن لدى بنى هاشم كلهم على بكرة أبيهم شىء من النخوة والشهامة يأخذون بهما سكينة ويُلْزِمونها حدّها حتى لا تفضحهم أو حتى لا تفسد عليهم على الأقل أمرهم؟ ألا إن أمر أبى الفرج كله لغريب غاية الغرابة. ومع هذا يقال إنه كان شيعيا! الحق أن أعداء العلويين ما كانوا بمستطيعين أن يجدوا من هو أفضل منه لتشويههم وتنفير الناس منهم!
الرجل إذن لا يمكن أن يكون شيعيا. بَيْدَ أن القاضى التنوخى، وهو أحد تلاميذه، قد ترجم له فى "نشوار المحاضرة" على النحو التالى: "ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني: كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله. ويحفظ دون ذلك من علومٍ أُخَر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا، مثل علم الجوارح والبيطرة، ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وله شعر يجمع بين إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء". فماذا نفعل فى هذا الخبر الذى يبدأ بأن أبا الفرج كان من المتشيعين؟ الحق أن فى تلك السطور شيئا لا يبعث على الاطمئنان، إذ ما معنى قول التنوخى: "ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني"؟ إن العبارة تصح لو كانت مشاهدة أحد الشيعة فى بغداد شيئا من خوارق العادات. أمّا، والعراق يمتلئ بالشيعة، فمثل هذه العبارة الاستغرابية لا محل لها من الإعراب أو البناء. كما أن قوله عقب ذلك: "كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله. ويحفظ دون ذلك من علومٍ أُخَر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا، مثل علم الجوارح والبيطرة، ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك" يبدو وكأنه تفسير لعبارة "من المتشيعين"، إلا أنه تفسير لا يتسق معها بحال، ومن ثم كان القلق الذى يشعر به الباحث إزاء تلك العبارة، وهو ما يمكن أن يزول بكل بساطة لو أُجْرِى عليها شىء بسيط من التغييير يتسق مع السياق والمنطق حسبما يتضح بعد قليل.
أما على تفسير د. مروان العطية الباحث العمانى الذى أضاف فى سبيل حل تلك القضية بعض العناصر المضيئة فإن الأمر يبدو متسقا، إذ ضمّن كتابا له بعنوان "لمحات من تراثنا" فقرات فى غاية الأهمية هذا نصها: "رُمِيَ الرجل بالتشيع رغم كونه من بني أمية. هذا التشيع من أبي الفرج، أو بعبارة أدل على المراد: من أموي، كان مبعث الدهشة والاستغراب ومثار النقد والتعليق. فابن الأثير يذكر عنه، وهو يقص أحداث سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ما يلي: "فيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي، وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي. وكان شيعيا وهذا من العجب". نجد مثل هذا الاستغراب عند الخوانساري في "روضات الجنات"، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" و"العبر"... ونحن يحق لنا أن نستغرب تشيع أبي الفرج، فضلا عن استنكاره لما ستعلمه بعد قليل. فالرجل كان رقيق الدين، ولم يكن بالرجل المتزمت، وإنما كان من اللاهين العابثين. ذلك هو الأمر الذي يدل عليه شعره، ويدل عليه نثره، ويفسره صحبته للقوم الماجنين. لقد كان أبــو الفـرج يشرب الخمر، ويـحب الغلمان، ويحيا حياة المستهترين، ويصف مجالسه تلك شعرا مرة، ونثرا أخرى. وتــعود المشكلــة إلــى خبرٍ مرويٍّ عـن تلميذه المحسِّن بــن علي التنوخي حيث قــال: "ومن الرواة المتسعين الذين شاهدناهم أبـو الفــرج علـي بـن الحسين الأصبهاني، فإنه كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والحديث المسند والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله". إن كلمة "المتسعين" في هذا الخبر المروي عن التنوخي والتي تــدل علـى التوسع فـي الحفظ والرواية، والتي يدل عليها السياق، تصحفت عند المؤرخين وأصبحت: "مـــن الرواة المتشيعين". وقد نُقِلَتْ هذه الكلمة عـن التنوخي، ثم عـن ولـده أبي القـاسم عـلي بــن المحسِّن عـن الخطيب البغدادي فـي تاريخه مصحفةً سهوًا أو عمـدًا وأصبحت: "مــن الرواة المتشيعين". وقد نقلها على هذه الصورة المشوهة كل من ياقوت والقفطي وابــن خـلكان ومــن جاء بعدهم ممن ذكر هذا الخبر من المؤلفين. وبذلك صار أبو الـفرج "متشيعا" بـعد أن كان "متسعا"، علما أن النديم صــاحب "الفهرست"، وهــو مــن معاصريه وأصحابـه، وقـــد روى وحـــدَّث عنــــه، لـــم يشر إلـــى هــــذه النــــاحيـــة مطلقـــا. وكذلك الشــأن مع كــل معاصريه أو الذين عاشوا قريبـــا مــن عصره أو عـايشوا وعاصروا بعض مــن يعرف عن الرجل أخباره، حيث لــم يذكر واحد منهم مثل هــذا الخبر العجيب: فهذا أبـو نعيم الأصبهاني، وقد ترجم لأبي الفرج الأصبهاني في كتابه: "ذكر أخبار أصبهان"، ولم يشر إلى تشيع أبي الفرج من قريب أو بعيد. ومثله الثعالبي وابن حزم. إذن فالمسألة واضحة، وهذا التشيع الذي لصق بالرجل طويلا جاء عن طريق هــذا التصحيف العجيب الخبيث. وبهذا يزول عجب ابن الأثير وغيره من المؤرخين" (http://www.alwaraq.net/Core/waraq/bo...kid=9&pageid=1)
والواقع أن هذا تفسير وجيه يمكن جدا أن يكون هو ما قد وقع، إلا أن الكاتب للأسف لم يقدم لنا الدليل القاطع على وقوع هذا التصحيف. ولو كان فعل لكان قد حسم الأمر نهائيا. إننى لا يخالجنى شك فيما قلته عن التشيع المزعوم لأبى الفرج، لكننى فى هذا قد اعتمدت على منطق الأحداث فى عصره وعلى تحليل شخصيته وكتاباته لا على الوثائق. وقد قدم د. العطية كلاما يتسم بوجاهة التفسير، لكنه لو كان قد أضاف الدليل على ما قاله، رغم وجاهته الشديدة فى حد ذاته، لوضع كلامه حدا نهائيا للقضية.
ومع هذا فقد ذكر د. محمد أحمد خلف الله فى كتابه: "صاحب الأغانى أبو الفرج الأصفهانى الراوية" (ص136- 137، 174) للرجل شعرا يعلن فيه أنه إمامى، ونصه:
أنت يا ذا الخال في الوجـــــــــــــــــــــــــــــــنة مما بِيَ خالي
لا تبالي بي ولا تُخْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطِ رني منك ببالِ
لا ولا تفكر في حا لي، وقد تعرف حالي
أنا في الناس إمامــــــــــــــــــــــــــــــــيٌّ، وفي حبك غالي
وهو، إن صح، اعتراف صريح من الرجل بأنه شيعى. لكننا للأسف نسمع صاحب الشعر يقول عن نفسه إنه إمامى، على حين أن خلف الله قد كرر القول بأن أبا الفرج زيدى لا إمامى، والزيديون والإماميون طريقان مختلفان رغم ان كلا الفريقين يتعصب لذرية على كرم الله وجهه، إلا أن مدار التعصب من ذرية علىٍّ لدى هؤلاء غيره لدى أولئك. وقد سبق أن رأينا الشميطى، وكان من شعراء الإمامية، يعيب من خرج من الزيدية قائلا:
سن ظلم الإمام للناس زيدٌ * إن ظلم الإمام ذو عقّال
وبنو الشيخ والقتيل بفخ * بعد يحيى ومُوتِم الأشبال
وقبل هذا فإن الشعر ليس لأبى الفرج أصلا، بل لأبى الحسن بن مقلة. وهذا مذكور فى "يتيمة الدهر" ذاتها التى أحال إليها خلف الله فى نسبة الشعر للأصفهانى، وإن كان صاحب "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" قد نسبها إلى أبى الفرج مع أنها لا تشاكله ولا تشاكل شعره، وبخاصة أنها تقوم على اصطياد المحسنات اصطيادا مما لا يوافق شعر العصر الذى كان أبو الفرج يعيش فيه ولا أسلوب أبى الفرج نفسه فى شعره أو نثره.
وهناك مؤلف شيعى أنكر إنكارا شديدا أن يكون الأصفهانى شيعيا، وهذا المؤلف هو محمد باقر الموسوى الخوانسارى صاحب "روضات الجنات فى أحوال العلماء والسادات"، إذ قال: "وأيًّا ما وُجِد فى كلماته من المديح (أى مديح آل البيت) ففيه أولا أنه غير صريح. ولو سُلِّم فهو محمول على قصده التقربَ إلى ملوك ذلك العصر الـمُظْهِرين لولاية آل البيت غالبا والطمعَ فى جوائزهم العظيمة بالنسبة إلى مادحيهم كما هو شأن كثير من شعراء ذلك العصر، فإن الإنسان عبد الإحسان، مع أنى تصفحت كتاب "أغانيه" المذكور إجمالا فلم أر فيه إلا هزلا وضلالا، أو بقصص أصحاب الملاهى اشتغالا، وعن علوم أهل بيت الرسالة اعتزالا، وهو فيما ينيف على ثمانين ألف بيت تقريبا، مضافا إلى كون الرجل من الشجرة الملعونة فى القرآن وداخلا فى سلسلة بنى أمية وآل مروان. فكيف يمكن وجود رجل من أهل الإيمان فى قوم تُوَجَّه إلى قاطبتهم الألعان على أى لسان، ومن أى إنسان؟".
ولست مع ذلك أشاطر الكاتب الشيعى ما قاله فى لعن الأمويين جميعا، فالأمويون ليسوا شيئا واحدا، ومن ثم لا يصح أن نلعنهم كلهم عاطلا مع باطل، فضلا عن أن ننفى عنهم الإيمان، فهذا تألٍّ على الله سبحانه وتعالى وقلة أدب معه عز وجل قد تحبط عملنا وتُرْدِينا نحن فى النار، بل نلعن من قتلوا الحسين وأشاروا به ورَضُوه، وإن كنا لا نرى له رضى الله عنه ولا لأبيه رغم إجلالنا لهما ولأهل البيت عموما، إلا من انحرف منهم عن قصد السبيل، أى حق دينى فى الخلافة. إنما هى الكفاءة ومصلحة الإسلام والمسلمين ليس إلا. وأرى أن عليا كرم الله وجهه أفضل من معاوية خلقا وعلما وشجاعة وأنقى سلوكا، وقد كنت أحب لو أنه لم يُقْتَل وأنه بقى فى خلافة المسلمين يدبر أمور العباد إلى أن يقضى الله أمرا، لكن كان للقدر حكم آخر فنجح الخوارج فى قتله هو وحده ونجا معاوية وعمرو بن العاص رغم أنهم كانوا قد خططوا لاغتيال الثلاثة جميعا. لماذا نجح اغتيال على وحده، وفشلت الخطة مع الاثنين الآخرين؟ عِلْم ذلك عند رب القضاء والقدر! على أن تفضيلى عليًّا على معاوية لا ينسحب على أبى بكر وعمر وعثمان، فهؤلاء الأربعة كلهم عندى فى مستوى واحد من الفضل، إذ هم جميعا قد خدموا دين الله منذ بدايات الإسلام بكل ما يستطيعون، لم يقصِّروا فى ذلك شعرة واحدة، وأعطَوْه من أموالهم وذاتهم ومواهبهم ما يشهد بأن كلا منهم كان أمة وحده على اختلاف مواهبهم ونوع عطائهم أحيانا، رضى الله عن الجميع. كما أن إيثارى أبا الحسين على معاوية لا يعنى أن أبا يزيد يخلو من أى فضل، فقد نفع الله به الإسلام ومد بحنكته رقعة الدولة إلى مسافات بعيدة ، كما كان سياسيا أريبا، وفيه واقعية ساعدته على سَوْس البشر، على عكس علىٍّ، الذى يبدو لى أنه كان يحتاج إلى أن يمزج مثاليته بشىء من الواقعية حتى يمكنه مواجهة النفوس والأحداث وتوجيهها وتطويعها على النحو الذى يتمنى. فالسياسة تحتاج إلى قدر من المرونة والنزول على مقتضيات الواقع والظروف دون أن يتنكر السياسى لمبادئه بالضرورة. لكن تلك نقرة أخرى.
على أن الغريب ادعاء محمد بن الحسن الطوسى (385 - 460 هـ)، وهو أحد أعمدة الشيعة فى عصره،‍ أن أبا الفرج قد ألف كتابا بعنوان "ما نزل من القرآن فى أمير المؤمنين وأهل بيته عليه السلام"، وكتابا آخر يتضمن كلام فاطمة فى فدك، وهو ما لم يقله أحد غيره، إذ لا نجده فى "الفهرست" لابن النديم ولا "معجم الأدباء" لياقوت ولا "العِبَر" لابن خلدون ولا "تاريخ بغداد" للخطيب ولا "عيون التواريخ" لابن شاكر ولا "كشف الظنون" لكاتب جلبى، فضلا عن أن الأصفهانى ذاته لم يقله، ومن ثم فلا يؤبَه به. وإلى القارئ نص ما قال ذلك الكاتب الشيعى: "أبو الفرج الأصفهاني: زيدي المذهب، له كتاب "الأغاني" كبير، وكتاب "مقاتل الطالبيين"، وغير ذلك من الكتب، وكتاب "ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام"، وكتابٌ فيه كلام فاطمة عليها السلام في فَدَك، وغير ذلك من الكتب. أخبرنا عنه جماعة منهم أحمد بن عبدون بجميع كتبه ورواياته" (الطوسى/ الفهرست/ تحقيق جواد القيومى/ مؤسسة نشر الفقاهة/ 1417هـ/ 280).
أبو الفرج إذن لم يكن شيعيا ولم يكن متحمسا لأى أحد ولا لأى شىء، فقد كان كل همه هو نِشْدان المتعة: متعة الغناء، ومتعة الطعام ومتعة السمر، ومتعة الشراب، ومتعة الغلمان طبقا لما قيل عنه وما قاله هو عن نفسه فى هذا الجانب. أما أن يكون شيعيا أو متحمسا لأى مذهب آخر على ذلك النحو الذى يشغلنا بتصنيف ما كان يدين به فكلا وألف لا. مثل أبى الفرج لا يصلح لذاك ولا يصلح ذاك له. إنما هو رجل دنيا ولذة، وهذا لا ينفى عنه أنه كان عالما فى مجاله، وكان أديبا ذا أسلوب قلما نجد له نظيرا فى السلاسة والانسيابية والدفء وقوة الأسر والبراعة فى الحكاية والقص والتصوير والفكاهة والمقدرة على إيراد ما يشاء من الشواهد الشعرية وغير الشعرية فى الوقت الذى يريد، وفى الموضع الذى يريد، وعلى النحو الذى يريد ويخدم ما يريد. وأنت إذا شرعت فى قراءة "الأغانى" شَدَّك شَدًّا رغم كل ما أخذناه عليه. وقد اعترف بذلك الجميع حتى الذين انتقدوه على مجونه وعبثه وفسقه وتطاوله على كل شىء وكل إنسان تقريبا. وسوف نعود إلى معالجة تلك النقطة بالتفصيل فيما بعد.
***
ومما لا تطمئن النفس إليه أيضا من أخبار أبى الفرج ما وصفوه به من وساخته فى ملبسه وبخله على نفسه حتى لقد زعموا أنه إذا ارتدى ثوبا فإنه لا يغيره ولا يغسله أبدا، بل يظل يلبسه إلى أن يَبْلَى. وهو أمر غير متصوَّر ولا يمكن تصديقه بسهولة. ذلك أنه كان يجالس كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الوزير المهلبى، الذى ظلت علاقته به قوية على مدار بضع عشرات من السنين قبل الوزارة أيام أن كان فقيرا، وكذلك بعد الوزارة وإقبال الدنيا والترف عليه، وكان يمدحه فيعطيه العطايا الكثار، فأين كان يذهب كل ذلك النوال؟ وكيف كانت تواتيه نفسه إلى معاودة المديح وطلب النوال فى الوقت الذى لا يظهر أثر نعمة النوال عليه؟ كذلك لو افترضنا أنه كان رجلا غريب الأطوار شاذ السلوك نافر الذوق، فكيف قبل ذلك منه المهلبى المترف الذى يصفه القاضى التنوخى أحد جلسائه على النحو التالى الذى يبين بأجلى بيان أنه كان متنوِّقا لا يمكنه احتمال ما يصفون به الأصفهانى من الوساخة والنتانة؟ قال التنوخى فى "نشوار المحاضرة": "شاهدنا نحن أبا محمد المهلبي في وزارته، وقد اشترى في ثلاثة أيام متتابعة ورداًبألف دينار، فطُرِح في بركة عظيمة كانت له في دار كبيرة تعرف بدار البركة، وشُرِب عليه ونُهِب. وكان في البركة فواره حسنة، فطرح الورد فيها وفرشه في مجالسه".
وفى "معجم الأدباء" لياقوت الحموى و"الوافى بالوفيات" لصلاح الدين الصفدى نقرأ، والنص للصفدى: "كان أبو الفرج من أصحاب الوزير أبي محمد المهلبي الخصيصين به. وكان أبو الفرج وسخا في نفسه، ثم في ثوبه قذرا. لم يكن يغسل دراعة يلبسها، ولا تزال عليه إلى أن تبلى. وكان له قط اسمه: يقق. مرض ذلك القط بقولنج فحقنه بيده، وخرج ذلك الغائط على يديه. وقد طرق الباب عليه بعض أصحابه الرؤساء، فخرج إليهم وهو بتلك الحال لم يغسل يديه، واعتذر إليهم بشغله عنهم بأمر القط. وكان يوما على مائدة الوزير أبي محمد المهلبي، فقُدِّمَتْ سكباجة فوافقت من أبي الفرج سعلة، فبدر من فمه قطعة بلغم وقعت في وسط السكباجة، فقال الوزير: ارفعوها وهاتوا من هذا اللون بعينه في غير هذه الغضارة. ولم يبن عنده ولا في وجهه إنكار، ولا داخل أبا الفرج استحياء ولا انقباض. وكان الوزير من الصلف، على ما حُكِيَ عنه، أنه كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وغير ذلك وقف من الجانب الأيمن غلام معه ثلاثون ملعقة زجاجا مجرودا، فيأخذ ملعقة ويأكل بها لقمة واحدة، ويناولها لغلام آخر وقف على يساره، ثم يتناول ملعقة غيرها جديدة ويأكل بها لقمة واحدة ثم يدفعها إلى الغلام الذي على يساره حتى لا يُدْخِل الملعقة في فمه مرة أخرى. وكان مع هذا الصلف والظرف والتجنب يصبر على مؤاكلة أبي الفرج ويحتمله لأدبه ومحادثته. ولما طال الأمر على الوزير صنع له مائدتين: عامة وخاصة، يدعو إلى الخاصة من يريد مؤاكلته".
كذلك كان المهلبى يتبسط على مائدة الطعام مع ضيوفه بما يدل على أن مجلسه لم يكن مجلس تحشم بل مجلس طيب وأنس وطلاقة وتلقائية: قال صاحب "نشوار المحاضرة: "كان أبو محمد المهلبي يكثر الحديث على طعامه، ويكون أطيب الحديث وأكثره مذاكرة بالأدب وضروب الحديث على المائدة لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيرا ما أحضر. فقُدِّم إليه في بعض الأيام طيهوج فقال: أذكرني هذا حديثا طريفا. فسئل: ما هو؟ فقال: أخبرني بعض من كان يعاشر الراسبي الأمير، قال: كنت آكل معه يومًا، وعلى المائدة خلق عظيم فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممن يقطع الطريق، فاستأمن إليه، فأمَّنه واختصه، وطالت أيامه معه. فكان في ذلك اليوم على مائدته إذ قُدِّم حجل، فألقى الراسبي منه واحدة إلى الكردي كما يلاطف الرؤساء مواكليهم، فأخذها الكردي وجعل يضحك. فتعجب الراسبي من ذلك وقال: ما سبب هذا الضحك، وما نرى ما يوجبه؟ فقال: خبر كان لي. فقال: أخبرني به. فقال: شيء طريف ذكرته لما رأيت هذه الحجلة. قال: ما هو؟ فقال: كنت أيام قطعي الطريق، وقد اجتزت في بعض المحجة الفلانية في الجبل الفلاني، وأنا وحدي، في طلب من آخذ ثيابه حتى استقبلني رجل وحده، فاعترضته وصحت عليه، فاستسلم إلي ووقف، فأخذت ما كان معه وطالبته أن يتعرى، ففعل ومضى لينصرف، فخفت أن يلقاه في الطريق من يستنفره على طلبي، فأُطْلَب، وأنا وحدي، فأُوخَذ، فقبضت عليه وعلوته بالسيف لأقتله. فقال: يا هذا، أي شيء بيني وبينك؟ قد أخذت ثيابي وعريتني، ولا فائدة لك في قتلي. فكتفته ولم ألتفت إلى قوله وأقبلت أقنِّعه بالسيف. فتلفت كأنه يطلب شيئا فرأى حجلة قائمة، وهي على الجبل، فقال: يا حجلة، اشهدي لي عند الله تعالى أني أُقْتَل مظلوما. فما زلت أضربه حتى قتلته وسرت، فما ذكرت هذا الحديث حتى رأيت هذه الحجلة فذكرت حماقة ذلك الرجل فضحكت. قال: فانقلبت عين الراسبي حردا وقال: لا جَرَم أن شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم في الدنيا قبل الآخرة، وما أمَّنتك إلا على ما كان منك من فساد السبيل. فأما الدماء فما أسقطها الله عنك بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الإقرار عندي. يا غلام، اضرب عنقه. قال: فبادر الغلام إليه وغيره بسيوفهم يخبطونه، وضرب كل واحد منهم قفاه، فكأن رأسه قثاءة قطعت نصفين. فتدحرج رأسه بين أيدينا، ونحن على المائدة، وجُرَّتْ جثته. ومضي الراسبي في الأكل".
كما كان المهلبى طلق اليد مبسوطها يسارع إلى الكرم دون تفكير فى مقدار ما ينفق من مال. جاء فى "نشوار المحاضرة" عن أَرْيَحِيّته: "وكان رحمه الله من بقايا الكرام. ولقد شاهدت له مجلسا في شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وثلثمائة كأنه من مجالس البرامكة ما شهدت مثله قط قبله ولا بعده. وذلك أن كاتبه على ديوان السواد، أبا الحسن عبد العزيز بن إبراهيم المعروف بابن حاجب النعمان، سقط من رَوْشَنٍ في دار أبي محمد على دجلة فمات في اليوم الثامن من السقطة. فجزع عليه أبو محمد وجاء من غد إلى أولاده لأنهم كانوا دفنوه عشيًّا. وكنت معه وحضر، وقد أعدوا له دستا يجلس فيه. فلما دخل عدل عنه ولم يجلس فيه، فعزّاهم بأعذب لسان، وأحسن بيان، ووعدهم الإحسان، وقال: أنا أبوكم، وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه. ثم قال لابنه الأكبر أبي عبد الله: قد ولّيْتُك موضع أبيك، ورددت إليك عمله، ووليت أخاك الحسين (وكان هذا صبيا سنه إذ ذاك عشر سنين أو نحوها) كتابة حضرة ابني أبي الغنائم، وأجريت عليه كذا وكذا (رزقا كثيرا، وقد ذهب عني)، فلْيَلْزَمْه، فإن سنيهما متقاربة، ليتعلم بتعلمه وينشأ بنشأته فيجب حقه عليه. ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت خليفته على الوزارة: اكتب عهدا لأبي عبد الله، واستدع كل من كان أبو الحسين رحمه الله مستأجرا منه شيئا فخاطبْه في تجديد الإجارة للورثة، فإن أكثر نعمته إنما كانت دخالات وإجارات ومزارعات، وقد انحلت الآن بموته. ومن امتنع فزده من مالي واسأله، ولا تقنع إلا بتجديد العقد كيفما جرت الحال.
ثم قال لأبي المكارم بن ورقاء، وكان سلف الميت: إن ذيل أبي الحسن طويل، وقد كنت أعلم أنه يُجْرِي على أخواته وأولادهن وأقاربه شيئا كثيرا في كل شهر. وهؤلاء الآن يهلكون بموته، ولا حصة لهم في إرثه. فقم إلى ابنة أبي محمد المادرائي (يعني زوجة المتوفى) فعزِّها عني، واكتب عنها جريدة بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسن يجري عليهن وعلى غيرهن من الرجال وضعفاء حاشيته. وقال لأبي العلاء: إذا جاءك بالجريدة فأطلقها عاجلاً لشهر، وتقدم بإطلاقها على الإدرار. فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسرا في الشهر، وعُمِلَتْ في المجلس وأُطْلِق مالها وامتُثِل جميع ما رسم به أبو محمد. فلم يبق أحد إلا بكى رقة واستحسانا لذلك.
ولقد رأيت أبا عبد الله محمد بن الحسن الداعي العلوي، رحمه الله، ذلك اليوم، وكان حاضرا المجلس، وقد أجهش بالبكاء وأسرف في شكر أبي محمد وتقريظه، على قلة كلامه إلا فيما يعنيه، وعلى سوء رأيه (كان) في أبي محمد. ولكن الفضل بهره فلم يمنعه ما بينهما أنْ نطق بالحق. وقلت أنا لأبي محمد في ذلك اليوم: لو كان الموت يستطاب في وقت من الأوقات لطاب لكل ذي ذيل طويل في أيام سيدنا الوزير أطال الله بقاءه، فإن هذا الفعل تاريخ الكرم، وغاية تسامي الهمم، وبه يتحقق ما يروى عن الأسلاف من الأجواد، والماضيين من الكرماء الأفراد، وغير ذلك مما حضرني في الحال. ثم نهض أبو محمد رحمه الله، فارتفعت الضجة من النساء والرجال وأهل الدار والشارع، بالدعاء له والشكر".
فما دام المهلبى كذلك فكيف قبل أن يحضر الأصفهانى مجلسه، وفيه الكبار والعلماء والندماء، وهو بهذه الحال الوسخة المنتنة المنفرة؟ أفما كان مستطيعا أن يخلع عليه ولو فى كل مرة يأتيه للمجالسة والمنادمة ملابس نظيفة مطيبة يلبسها آنذاك، وليصنع بها بعد قيامه من مجلسه ما يشاء؟ ولا يقل أحد إنه كان يحتشمه فلا يمكنه أن يجرح شعوره بمثل هذا التصرف. ذلك أن أبا الفرج لم يكن بالرجل المحتشم، وهذا كتابه: "الأغانى" يدل على أنه كان ماجنا هازلا عابثا فاسقا، ومثله لا يمكن الاحتشام منه. كما أنه صلته بالمهلبى قد بلغت من البعد عن الوقار مبلغا لا يمكن تصوره، إذ يقال مثلا إن المهلبى قال له ذات مرة إنه يعلم تمام العلم أنه يهجوه فى غيابه، وإنه يريد منه أن يهجوه فى وجهه بما يقوله من وراء ظهره، وإنه ظل يلح عليه وأبو الفرج يحاول التملص عبثا إلى أن استجاب له وبدأ بمصراع بيت مفحش سرعان ما أكمله المهلبى إكمالا أشد إفحاشا، فضلا عن كونه ينال منه ومن رجولته وشرفه نيلا شنيعا. إذن فلا حرج على المهلبى إن أعد للأصفهانى ملابس جديدة نظيفة يجالسه بها كل مرة يزوره فى قصره للاجتماع بالعلماء والقضاة والشعراء وكبار الدولة. وما كان أبو الفرج ليرى فى ذلك، حسبما أتصور، ما يسىء إليه، وإلا فلم كان يمد يده بقصائد المديح؟
كذلك من الممكن أن يصبر المهلبى وضيوفه على أبى الفرج مرة أو مرتين أو ثلاثا بنحو أو بآخر، بيد إنه لمن الصعب جدا، إن لم يقارب المستحيل، أن يجدوا أنفسهم مضطرين إلى ملابسته على عرّه ووساخته ونتن ثوبه وجسمه طوال العمر، إذ ما الذى يُكْرِههم على هذا، والحل سهل ميسور لهم وله كما أوضحنا، وبخاصة أنه كثيرا ما أمر الوزراء والخلفاء وكبار رجال الدولة ببعض ضيوفهم ممن لهم ظروف خاصة لم تسعفهم على اتخاذ زينتهم لمجالس هؤلاء الكبار أن يؤخذوا إلى الحمّام ليعودوا بعد قليل خلقا جديدا؟
ثم إن أبا الفرج إنما كان نديما لا عالم دين مثلا، والمنادمة إنما جُعِلَتْ للمتعة الدنيوية واهتبال لذائذ الجسم والقلب من شراب وورد وضحك وغناء وما إلى ذلك بسبيل، وليس للزهد واطراح نعيم الحياة. كما أن مواهبه الأدبية تكاد تنحصر فى حديث الموسيقى والأصوات الجميلة والإماء والمخنثين والشعراء وحكاياتهم التى لم يكن يهتم أبو الفرج منها عادة إلا بجوانبها العابثة الماجنة، فكأنه مغناطيس لا ينجذب إلا إلى تلك الأمور. فهل من المعقول أن يكون نديما وأديبا بهذا الشكل ثم يكون على تلك الصفة من القذارة الجسدية والمعنوية؟ ذلك ما يصعب على النفس والعقل تصوره! أما حكايته مع قطه يقق فالحق أنها إنما تصور إنسانيته وحَدْبه على الحيوان الأعجم لا قذارته وفساد ذوقه، إذ كان الرجل يطبِّب هِرَّه ويحاول أن يداويه ويريحه مما يألم منه، فليس ها هنا موضع انتقاد بل موضع ثناء ومدح لو أنصف الراوون. كما كان الأصفهانى ذا ثقافة بيطرية، وكان مغرما بتربية القطط فى بيته، وكان ما يصنعه فى علاج يقق تطبيقا لتلك المعارف. ويبدو لى أن فى وصفه بالقذارة الشديدة التى تصورها لنا بعض الحكايات مبالغة تردّ على مبالغاته فيما أورده فى "الأغانى" عن الشخصيات العربية والإسلامية الشهيرة وتصويره إياها تصويرا يسىء إليها ولا يبالى بحق أو باطل فأذاقه الرواة من كأس شبيهة، وبخاصة أنه كان حديد اللسان مما يمكن أن يكون قد دفع بمترجميه إلى التغالى بدورهم فى وصف عيوبه. ولست أستبعد أن يكون فى الرجل شىء من الإهمال فى أمور المظهر والملبس واللياقة وما إلى ذلك، فاستغله من كتبوا عنه وغالَوْا فيه وأخرجوه لنا منفرا مقززا على النحو الذى رأينا.
كذلك كيف سكت الناس جميعا عنه ممن كانوا يعاشرونه من علماء وطلاب وجيران وتجار وأصدقاء فلم يذكروا شيئا عن هذه الخلة الكريهة، اللهم إلا شخصا واحدا كما سوف نرى لم يكن له به خلطة ولم يكن قد وُلِد بعد حين مات أبو الفرج، كما أنه كان صابئيا، أى من بيئة غير البيئة بما يجعل الخلطة بين أبى الفرج وأهل ذلك الشخص أوغل فى الاستبعاد؟ ولقد كان من أساتذته مثلا ابن جرير الطبرى وابن الأنبارى والأخفش الصغير وغيرهم، فهل من المعقول أن أيا من هؤلاء لم يجد فى نفسه الرغبة فى تبصير تلميذه بما ينبغى أن يأخذ نفسه به من النظافة، إن لم يكن من أجل شىء فامتثالا لأمر الدين؟ كما كان من زملائه فى الدرس المرزبانى والسيرافى والصاحب بن عباد على سبيل المثال، ومع هذا لم نسمع من أى منهم، وكلهم من الكتاب المقاويل، شيئا عن تلك القذارة وذلك الدنس! ولقد كان ابن العميد زميله فى الكتابة لركن الدولة، وكانت بينهما منافسة، فكيف لم يستغل ابن العميد ما كان عليه من القذارة والدنس ويصب عليه نار هجائه ردا على تقريعه له فى بعض شعره؟ وكان لأبى الفرج هجاء فى السيرافى النحوى الشهير والبريدى وزير الراضى بالله، فكيف لم يردا عليه بما يفحمه من ذكر وساخته ودنس ثيابه؟ بل لقد كان يهجو الوزير المهلبى على سبيل الضحك والعبث فى محضره ومغيبه، فهل يعقل أن المهلبى لم يفكر ولو مرة فى رد الصاع بمثله فيعابثه بدوره من هذا الجانب؟ ومن بين تلاميذ أبى الفرج نجد الدارقطنى المحدث المشهور. أفلم يفكر هذا العالم المحدّث مرة، عملا بسنّة المصطفى التىتحث على النظافة وتجعلها من الإيمان، فى تنبيه أستاذه إلى ما يحفظ عليه كرامته ومنزلته بين الناس؟ ثم لقد كان أبو الفرج هجّاء طويل اللسان جريئا فى انتقاد الآخرين لا يبالى مشاعرهم فكان يحرجهم أمام الحاضرين، فكيف لم يقع أن يهجوه أحد من خصومه بالقذارة المدّعاة؟
لقد ساق محمد عبد الجواد الأصمعى أقوال أحد وعشرين من علمائنا القدماء ترجموا له، فلم يحدث أن أشار إلى قذارته إلا واحد فقط هو أبو الحسين هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابى الذى مات أبو الفرج قبل ولادته بعدة سنوات بما يعنى أنه لم يره قط. أما إذا أخذنا بالرواية الأخرى المضعَّفة التى تضع سنة وفاته فى 362 للهجرة فيكون أبو الحسين غلاما صغيرا له من العمر ثلاث سنوات فحسب حين وافت أبا الفرج المنية، ومن ثم فإنه لم يخالطه ولم يعرفه لأنه كان فى ذلك الوقت لا يعقل من أمور الحياة والناس شيئا، فضلا عن أنه كان ينتمى إلى بيئة صابئية مما يباعد بينه وبين أبى الفرج مسافة أخرى قبل أن يدخل الإسلام فى آخر عمره بعد أن تُوُفِّىَ أبو الفرج بعشرات السنين. أما باقى الأحد والعشرين الذين ترجموا له وأورد محمد عبد الجواد الأصمعى ما قالوه فى حقه فهم الثعالبى ومحمد بن أبى الفوارس والقاضى التنوخى والنوبختى (وهؤلاء من معاصريه، وبعضهم كان يعرفه معرفة شخصية)، ثم الخطيب البغدادى وأبو الحسن البستى وابن الجوزى والحافظ أبو نعيم وابن خلكان وابن كثير والقفطى وياقوت الحموى وابن الأثير وأبو الفدا المؤرخ المعروف والذهبى وابن شاكر الكتبى وبدر الدين العِينىّ وابن تغرى بردى وابن العماد (انظر محمد عبد الجواد الأصمعى/ أبو الفرج الصفهانى وكتابه "الأغانى"- دراسة وتحليل لأزهى العصور الإسلامية/ دار المعارف/ 1951م/ 97- 111). فهل يعقل أن يكون هلال بن المحسّن هو الوحيد الذى عرف أن الأصفهانى رجل وسخ دنس ينفر من النظافة ولا يغسل أبدا ملابسه أو يغيرها حتى تتمزق ولا تعود صالحة للاستعمال، رغم أنه، كما أسلفت، لم يكن من معاصريه؟ فمن قال له ذلك؟ الواقع أنه لم يُحِلْ فى هذا إلى شخص بعينه، بل أورده والسلام، فكأنه وحى لا يقبل نقضا ولا إبراما. ألا إن هذا لشىءٌ عُجَاب!
كذلك فإن هلالا الصابى لم يورد حادثة بعينها تشهد على وساخة الأصفهانى كتلك التى أوردها ياقوت فى "معجم الأدباء" وصلاح الدين الصفدى فى "الوافى بالوفَيَات" مثلا للتدليل على وساخة نفطويه وصُنَان جسمه. قال ياقوت: "كان نفطويه مع كونه من أعيان العلماء وعلماء الأعيان غير مكترث بإصلاح نفسه، فكان يفرط به الصُّنَان فلا يغيره. فحضر يوما مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر فتأذى هو وجلساؤه بكثرة صُنَانه. فقال حامد: يا غلام، أَحْضِرْنا مَرْتَكًا. فجاء به، فبدأ الوزير بنفسه فتَمَرْتَكَ، وأداره على الجلساء فتمرتكوا، وفطنوا لما أراد بنفطويه وأنه أراد من نفطويه أن يتمرتك فيزول صنانه من غير أن يجبهه بما يكره. فقال نفطويه: لا حاجة بي إليه. فراجعه فأبى. فاحتد حامد واغتاظ وقال له: يا عاضَّ كذا من أمه، إنما تمرتكنا جميعا لتأذِّينا بصُنَانك. قم لا أقام الله لك وزنا. ثم قال: أخرِجوه عني، أو أبعِدوه إلى حيث لا أتأذَّى به". ومثلها ما أورده محمد كرد على فى الفصل الذى عقده فى كتابه: "كنوز الأجداد" (ط2/ دار الفكر/ دمشق/ 1404هـ- 1984م/ 9- 46) عن أستاذه الشيخ طاهر الجزائرى وغرائب تصرفاته فيما يتعلق بملابسه ومسكنه وعدم إلقائه البال إلى شىء من أمور الأناقة والنظافة، إذ يحكى للقارئ وقائع معينة ولا يكتفى بالقول المجرد الطائر، وهو ما أكده محمد عبد الجواد الأصمعى من واقع مشاهدته للشيخ ومصاحبته إياه عند تناول الطعام على مائدة شيخ العروبة أحمد زكى باشا (انظر الأصمعى/ أبو الفرج الأصفهانى وكتابه "الأغانى"/ 159- 161). فلو كان الأصفهانى فعلا بالقذارة التى يصفها المحسِّن الصابى لأتتنا عمن يخالطونه وقائع محددة تدل على هذا الجانب من شخصيته، وهو جانب ما لم يكن ليغيب عن عين أحد، وكان خليقا أن يبعث كل من يعرفونه على الإنكار والاستنكار! لكننا ننظر فلا نجد شيئا من ذلك على الإطلاق، بل لم يتحدث عن ذلك الجانب لدى الرجل إلا شخص لم يره لأنه لم يكن قد وُلِد بعد عند وفاته، ولا كانت لأهله به صلة.
ومع ذلك كله نرى من كتبوا عنه فى العصر الحديث يصفونه بالوسخ والدنس كأنه أمر مفروغ منه لا سبيل إلى الريب فيه. ومن هؤلاء الشيخ عبد العزيز البشرى، الذى يتحدث عن ذلك حديث المطمئن إلى اتصافه بهذا العيب تمام الاطمئنان، زاعما أن معاصريه قد أثبتوا هذا عليه. وهذا كلام غير صحيح، إذ لم يرم الرجل بهذه المنقصة أىٌّ من معاصريه كما رأينا. ثم إن قائل هذا ليس إلا شخصا فردا لا غير عكس ما يقول الشيخ عبد العزيز، الذى عزاه إلى "معاصرى" أبى الفرج بلفظ الجمع لا إلى واحد منهم فقط (انظر كلام البشرى فى كتاب محمد عبد الجواد الأصمعى/ 112- 113). الرجل إذن لم يكن قذرا وسخ الثياب، أو على الأقل: لم يكن قذرا وسخ الثياب على النحو الذى ذكره المحسّن الصابى. وعلى هذا فلا مجال لاستعجاب د. مصطفى الشكعة، الذى ذكر "من غرائبه أنه على علمه وفضله كان وسخا قذرا لم يغسل ثوبا منذ أن فصّله إلى أن قطعه، وهو مع هيئته الرثة هذه كان من ندماء الوزير المهلَّبى، والمهلبى هو من نعلم أناقةً وأبهةً ونظافةً وأسلوب حياة" (د. مصطفى الشكعة/ مناهج التأليف عند العرب- قسم الأدب/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1982م/ 329).
***
ومن المسائل التى أود أن أتناولها فى هذه الدراسة أيضا ما أثاره د. محمد أحمد خلف الله بشأن طبيعة الأصفهانى فى كتاب "الأغانى"، فهو يرى أن أبا الفرج راوية وليس مؤرخا، بمعنى أنه يضع نصب عينيه إيراد كل ما يصله من روايات بغض النظر عن صحتها أو عدمه، تاركا مهمة تمحيص الروايات وتحقيقها والحكم عليها للقارئ متبرئا من العهدة والمسؤولية فى وجه الطاعنين والعائبين، وإن كان يسارع فى غير قليل من الحالات إلى إصدار حكمه على ما يورد من روايات فى كلمة سريعة ودون إبداء الحيثيات أحيانا، وفى شىء من التفصيل والتعليل فى بعض الأحيان الأخرى. والسبب الذى يدعوه إلى إيراد ما لا تطمئن إليه نفسه من الأخبار والحكايات هو أنه، كما يقول، لا يحب أن يخلى كتابه مما يرويه الناس أو يدونونه. ومن ذلك قوله: "أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمي قال مدح موسى شهوات أبا بكر بن عبد العزيز بن مروان بقصيدة أحسن فيها وأجاد وقال فيها:
وكذاك الزمانُ يذهب بالنـــــــــــــــــاس وتَبْقَى الديارُ والآثارُ
فقام الأحوص ودخل منزله، وقال قصيدة مدح فيها أبا بكر بن عبد العزيز أيضا وأتى فيها بهذا البيت بعينه، وخرج فأنشدها. فقال له موسى شهوات: ما رأيت يا أحوص مثلك. قلت: قصيدة مدحتُ فيها الأمير فسرقت أجود بيت فيها وجعلته في قصيدتك. فقال له الأحوص: ليس الأمر كما ذكرت، ولا البيت لي ولا لك. هو للبيد، سرقناه جميعا منه. إنما ذكر لبيد قومه فقال:
فعفا آخرُ الزمانِ عليهم * فَعلى آخرِ الزمان الدَّبَارُ
وكذاك الزمانُ يذهب بالنــــــــــــــــــــاسِ وتبقى الرُّسُوم والآثارُ
قال: فسكت موسى شهوات فلم يحر جوابا كأنما ألقمه حجرا. ونسختُ من كتاب أحمد بن سعيد الدمشقي خبر الأحوص مع سلامة، التي ذكرها في هذا الشعر، وهو موضوع لا أشك فيه لأن شعره المنسوب إلى الأحوص شعر ساقط سخيف لا يشبه نمط الأحوص، والتوليد بَيِّنٌ فيه يشهد على أنه محدث، والقصة أيضا باطلة لا أصل لها. ولكني ذكرته في موضعه على ما فيه من سوء العهدة". ومن ذلك أيضا تعقيبه على عدد من الروايات أوردها لابن الكلبى قائلا: "قال مؤلف هذا الكتاب: هذه الأخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبي موضوعةٌ كلها، والتوليد بيِّنٌ فيها وفي أشعارها، وما رأيت شيئا منها في ديوان دُرَيْد بن الصِّمّة على سائر الروايات. وأعجب من ذلك هذا الخبر الأخير، فإنه ذكر فيه ما لحق دُرَيْدًا من الهـُجْنة والفضيحة في أصحابه وقَتْل من قُتِل معه وانصرافه منفردا. وشعر دريد هذا يفخر فيه بأنه ظفر ببني الحارث وقتل أمائلهم. وهذا من أكاذيب ابن الكلبي، وإنما ذكرته على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء قد رواه الناس وتداولوه".
هذا ما قاله خلف الله فى أبى الفرج وما يورده من روايات، بَيْدَ أن لوليد الأعظمى حكما آخر، إذ يرى أن رجال الحديث كانوا يُعْنَوْنَ بالروايات عناية تامة فيتحرَّوْن عن رواتهم ويميزون بين العدول والمجرّحين منهم فيقبلون روايات الأولين ويرفضون روايات الآخرين. وانتقل هذا الاهتمام إلى المؤرخين فكانوا ينظرون إلى ما يقع لهم من روايات فيُجِيلون فيها النظر ويقلبونها على وجوهها المختلفة ويقارنون بين بعضها وبعض، ويختارون منها ما يطمئنون له ثم يردون ما سواه. أما أبو الفرج فإنه كان يتساهل فى الرواية ولا يبالى أن يكون رواته كذابين مجروحين مطعونا عليهم. ثم مضى الأعظمى فساق أسماء طائفة كبيرة من رواة الأصفهانى الكذابين الذين لا يحظَوْن بالثقة ولا يأخذ المؤرخون ورجال الحديث برواية أى منهم. ومع هذا كان الأصفهانى يعتمد عليهم اعتمادا واسعا رغم معرفته بانعدام عدالتهم، إذ روى عن كل منهم عددا كبيرا من الروايات القبيحة الكذب التى تسىء إلى تاريخنا وأدبنا ورجالنا واعلامنا وترضى أعداءنا وكارهينا، وهو ما ينبئ لدى الأصفهانى عن شعوبية خبيثة ورغبة فى الهدم وحقد متلظٍّ لا ينطفئ حسبما يقول. بل إن الأعظمى ليتساءل بما معناه: ألا يمكن أن يكون أبو الفرج قد اختلق هذه الأسانيد الكاذبة اختلاقا؟ وهو سؤال وراءه ما وراءه! (وليد الأعظمى/ السيف اليمانى فى نحر الأصفهانى صاحب الأغانى/ دار الوفاء/ المنصورة/ ط2/ 1410هـ- 1989م/ 25- 43).
أما د. كمال يونس فقد وصف الأصفهانى صراحة بالكذب، بل جعل عنوان مقاله عن كتاب "الأغانى"، الذى نشره فى موقع "رابطة أدباء الشام" بتاريخ السبت 12/ 4/ 2008م، هو "الأغانى للأكذبانى". وفى هذا المقال نراه يأخذ عليه ما أخذه عليه الأعظمى قبلا من معايب وأخطاء بلغت نحو عشرين مأخذا، وكلها مآخذ خطيرة، ولكنه زاد عليها القول المباشر دون جمجمة أو دروان بأن "الأغانى للأصفهانى تجسيد للكذب والدس والتحريف التاريخى والأدبى والعقائدى فى أوضح صورة، إذ تحايل على إلباس الروايات الكاذبة ثوب العدل والصدق عن طريق الإيهام بالسند".
وهذا الذى قاله خلف الله قد سبق أن تعرضت له عند تناولى لتفسير الطبرى فى كتابىّ: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ومذاهبه" و"مسير التفسير: الضوابط والمناهج والاتجاهات". وهذا نص ما سطرته فى الكتاب الأخير: "والواقع أن نواة التفسير عند الطبرى هى تلك الروايات التى يصل سلاسل بعضها إلى الرسول، فى حين يقف بعضها الآخر عند الصحابى أو التابعى. وهو عادة لا يتناول سلاسل الإسناد بنقد. ويدافع عنه الدكتور الذهبى فى هذه النقطة قائلا إنه "كان يرى، كما هو مقرر فى أصول الحديث، أن من أسند لك فقد حمّلك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح. فهو بعمله هذا خرج عن العهدة". والواقع أن هذا ليس بِرَدّ: أولا لأن الطبرى لم يكن مجرد راوية، بل كان عالمامن علماء الحديث وطرقه وصحيحه وسقيمه وناسخه ومنسوخه كما ذكر ياقوت الحموى فى ترجمته فى "معجم الأدباء"، كما كان عالما ضليعا فى اللغة والقراءات، وله فى معظم الأحيان رأيه الذى يؤسسه على براهين مستمدة من ذوقه اللغوى المرهف وحسه الأدبى والأسلوبى والمنطق الإنسانى العام وغير ذلك. فأين كان هذا كله لدن إيراده كل تلك الروايات التى يعجّ بها كتابه والتى يندّ عنها الإحصاء؟ وثانيا هل يُعْقَل أن ننتظر من كل من يرجع إلى الطبرى أن يقف عند كل سلسلة من سلاسل إسناده فيمحّص رجالها رجلا رجلا قبل أن يرفض أو يقبل هذه الرواية أو تلك؟ وثالثا كيف نقبل هذا الرد ونحن نرى أن الطبرى لم يَعُدّ نفسه قد خرج من العهدة بمجرد إيراد السند، بل علق على بعض سلاسل إسناده أو بعض رجالها برأيه، وإن كان يجنح فى ذلك نحو إلإيجاز؟ أما قول محمود شاكر إن "استدلال الطبرى بهذه الآثار التى يرويها بأسانيدها لا يراد بها إلا تحقيق معنى لفظ أو بيان عبارة"، وإنه "من أجل هذا الاستدلال لم يبال بما فى الإسناد من وهن لا يرتضيه" لأنه "استدلال يكاد يكون لغويا" (تفسير الطبرى/ تحقيق محمود شاكر/ دار المعارف/ 453- 454 بالهامش)، فهو ملاحظة تصح فى بعض الأحيان، لكنها فى معظم الأحيان غير صحيحة.
وإلى القارئ بعض أمثلة على ما نقول: ففى تفسير قوله تعالى فى أول سورة "النساء": "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا" نجده يورد الرواية التالبة: "حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: "وَخَـلَقَ مِنْها زَوْجَها"، قال: حوّاء من قُصَيْرَى آدم وهو نائم، فـاستـيقظ فقال: "أثا" بـالنبطية، امرأة". فمن ذا الذى يستطيع أن يقول إن آدم قد قال هذا حين رأى حواء وإنه قاله بالنبطية إلا أن يكون ذلك من كتاب سماوى لم يحرَّف أو كلام نبى مقطوع بصحته مُوحًى إليه من رب العزة؟ وهل كانت هناك لغة نبطية فى أول التاريخ البشرى قبل أن لم يكن هناك كلام أو لغة أصلا؟ ومثلُ ذلك فى التعرض لعلم الغيب دون استناد إلى وحى يقينى قولُه فى الآية التاسعة ومابعدها من سورة "فصلت"، وهى الآيات التى تتحدث عن خلق السماوات والأرض: حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس، قال هناد: قرأت سائر الحديث على أبي بكر أن اليهود أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض، قال: "خَلَقَ اللّهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الجِبالَ يَوْمَ الثّلاثاءِ ومَا فِيهِنّ مِنْ منَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الأرْبَعاءِ الشّجَرَ والمَاءَ والمَدَائِنَ والعُمْرَانَ والخَرَابَ، فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ، ثُمّ قال: أئِنّكُمْ لَتَكْفُرونَ بالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا، ذلكَ رَبّ العَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِها وبَارَكَ فِيها، وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاءً للسّائلِيِنَ لِمَنْ سأَلَ. قالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السّماءَ، وخَلَقَ يَوْمَ الجـُمُعَةِ النّجُومَ والشّمْسَ والقَمَرَ وَالمَلائِكَةِ إلى ثَلاثَ ساعاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ: فَخَلَقَ في أوّلِ ساعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثّلاثَةِ الآجالَ حِينَ يَمُوتُ مَنْ ماتَ، وفي الثّانِيَةِ ألْقَى الآفَةَ على كُلّ شَيْءٍ مِمّا يَنْتَفِعُ بِهِ النّاسُ، وفي الثّالِثَةِ آدَمَ وأسْكَنَهُ الجَنّةَ، وأمَرَ إبْلِيسَ بالسّجُودِ لَهُ، وأخْرَجَهُ مِنْها في آخِرِ ساعَةٍ". قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: "ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ". قالوا: قد أصبت لو أتممت. قالوا: ثم استراح. فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فنزل: "وَلَقَدْ خَلَقْنا السّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سِتّةِ أيّامٍ وَما مَسّنا مِنْ لَغُوبٍ* فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ". حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق عن شريك عن غالب بن غلاب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، قال: إن الله خلق يوما واحدا فسماه: الأحد، ثم خلق ثانيا فسماه: الاثنين، ثم خلق ثالثا فسماه: الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه: الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه: الخميس. قال: فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين. وخلق الجبال يوم الثلاثاء، فذلك قول الناس: هو يوم ثقيل. وخلق مواضع الأنهار والأشجار يوم الأربعاء. وخلق الطير والوحوش والهوامّ والسباع يوم الخميس. وخلق الإنسان يوم الجمعة، ففرغ من خلق كلّ شيء يوم الجمعة. حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السديّ: خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ: في الأحد والاثنين. وقد قيل غير ذلك، وذلك ما حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن عليّ، قالا: حدثنا حجاج عن ابن جريج، قال أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أمّ سلمة عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خَلَقَ اللّهُ التّرْبَةَ يَوْمَ السّبْتِ، وَخَلَقَ فِيها الجِبالَ يَوْمَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهُ يَوْمَ الثّلاثاءِ، وَخَلَقَ النّورَ يَوْمَ الأرْبِعاءِ، وَبَثّ فِيها الدّوَابّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ آخِرِ خَلْق في آخرِ ساعَةٍ مِنْ ساعاتِ الجُمُعَةِ فِيما بَينَ العَصْرِ إلى اللّيْلِ". وما قلناه فى حق ما ذكره السيوطى من روايات فى ذات الموضوع نقوله هنا أيضا.
وفى تفسير قوله سبحانه: "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا..." (المائدة/ 12) يقول: "حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي عن أبـيه عن ابن عبـاس، قوله: "وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا" فهم من بنـي إسرائيـل، بعثهم موسى لـينظروا له إلى الـمدينة. فـانطلقوا فنظروا إلـى الـمدينة، فجاؤوا بحبة من فـاكهتهم وِقْر رجل، فقالوا: قدِّروا قوّة قوم وبأسهم هذه فـاكهتهم. فعند ذلك فُتِنوا فقالوا: لا نستطيع القتال فَـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلاَ إنّا هَهُنا قَاعِدونَ". ولكن من غير المعقول أن يكون شىء من ذلك صحيحا، إذ إن سيماء التزيد والمبالغة واضحة أشد الوضوح فى هذا الكلام. أما فى شرحه لقوله عز شأنه: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ" (الطلاق/ 12) فإنه يورد حديثا غريبا لا أدرى كيف واتته نفسه على السكوت على ما جاء فيه من كلام منسوب للنبى عليه السلام يجرى على النحو التالى: "والذى نفسى بيده لو دلَّى رجل بحبل حتى يبلغ أسفل الأرضين السابعة لهبط على الله" بما يفيد من أنه سبحانه وتعالى متحيز فى مكان. فهل هذا مما يليق بذاته العلية؟ وهل هذا مما يصحّ أن يمرّ به مفسر عظيم كالطبرى دون أن يفنّده، بله أن يورده أصلا فى تفسيره؟".
وإذا كنا قد أخذنا على الطبرى هذا المنحى فإن مؤاخذتنا للأصفهانى يجب أن تكون أشد. ذلك أن الطبرى كان يذكر عادةً الرأى والرأى المقابل، بل كان يذكر أحيانا أكثر من رأيين، أما أبو الفرج فيذكر فى الأغلب الأعم، إن لم يكن فى كل الأحيان، رأيا واحدا، وهو فى كثير من الأحوال رأى مسىء لشخصية جليلة من شخصيات الصحابة أو خلفاء بنى أمية وبنى العباس، بل قد تتضمن إساءة إلى الرسول عليه السلام، بل إلى الله ذاته جل وعلا، دون أن يكون هناك رواة عدول لما يقول، بل رواة من الضرب الذى ذكره المرحوم الأعظمى مما مرت الإشارة إليه آنفا. كما أنه ينص أحيانا على عدم تصديقه لما يورد من روايات، فلم يا ترى يوردها إذن مادامت تسىء، وفوق ذلك فإساءاتها من النوع الشنيع الذى لا يسهل تداركه، وبخاصة أن الإلحاح على الفكرة حتى لو كانت خاطئة هو أمر أقوى من السحر حسبما هو معروف للجميع؟ وفضلا عن هذا فإن الروايات التى من هذا الصنف عند الطبرى هى روايات قليلة، أما الروايات الماجنة الخارجة السفيهة البذيئة فى كتاب "الأغانى" فعددها ضخم هائل تطبع فى نفس القارئ مهما يكن احتراسه أن تلك العصور كانت عصور فساد وفسق ومجون وإلحاد وانحلال أخلاقى وسلوكى، وهو ما لا يمكن أن يكون صحيحا، وإلا لكان انهار المجتمع الإسلامى انهيارا شاملا دون توان، ولكان ما نخرج به من الكتب الأخرى الكثيرة التى تتجاوز كل عد وإحصاء ويحترم أصحابها أنفسهم فيحرصون على تجلية الحقائق من أن حياة المسلمين فى ذلك الوقت كانت تسودها الصحة والاستقامة وطهارة الخلق والسلوك إلى حد بعيد هو كلام فارغ، وكلام الأصفهانى هو وحده الكلام المعقول رغم تناقضه مع العقل وقوانين الحياة وأوضاع المجتمعات.
ومن مجونه وجرأته على الدين وبذاءاته الشنيعة الشواهد التالية، وهناك ما هو أشع وأشنع: "أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال: دخل أشعب يوما على الحسين بن علي، وعنده أعرابي قبيح المنظر مختلف الخلقة، فسبَّح أشعب حين رآه، وقال للحسين عليه السلام: بأبي أنت وأمي، أتأذن لي أن أسلح عليه؟ فقال الأعرابي: ما شئت. ومع الأعرابي قوس وكنانة، ففوق له سهما وقال: والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها، قال أشعب للحسين: جُعِلْتُ فِدَاءك، قد أخذني القولنج". وفى الواقع فإن الرواية لا تستقيم إلا إذا كان الحسين هو قائل عبارة "ما شئت". ذلك أنها رد على السؤال الذى وجهه أشعب للحسين، كما أن الأعرابى لم يكن قد تكلم بعد، فضلا عن أنه قرن كلامه بالاستعداد للفعل ولم يقتصر على الكلام. كذلك لا يعقل أن يقول له الأعرابى: "ما شئت" ثم ينقلب فى الحال مهددا إياه بالسهم الذى فوَّقه نحوه كى يمنعه مما ينتوى فعله.
"أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني، قال: لما ولي الوليد بن يزيد لهج بالغناء والشراب والصيد، وحمل المغنين من المدينة وغيرها إليه، وأرسل إلى أشعب فجاء به فألبسه سراويل من جلد قرد له ذنَب وقال له: ارقص وغنني شعرا يعجبني، فإن فعلت فلك ألف درهم. فغناه فأعجبه فأعطاه ألف درهم. ودخل إليه يوما، فلما رآه الوليد كشف عن أيره وهو مُنْعِظ. قال أشعب: فرأيته كأنه مزمارُ آبنوسٍ مدهون، فقال لي: أرأيت مثله قط؟ قلت: لا يا سيدي. قال: فاسجد له. فسجدت ثلاثا، فقال: ما هذا؟ قلت: واحدة لأيرك، وثنتين لخصيتيك. قال: فضحك وأمر لي بجائزة. قال: وتكلم بعض جلسائه والمغنية تغني، فكره ذلك وأضجره، فقال لبعض جلسائه: قم فنكه. فقام فناكه، والناس حضور، وهو يضحك. وذكرت جارية أنه واقعها يوما وهو سكران، فلما تنحى عنها آذنه المؤذن بالصلاة، فحلف ألا يصلي بالناس غيرها، فخرجت متلثمة فصلت بالناس".
"أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن شريك، قال: حدثني عمي علي بن عمرو قرقارة، قال: حدثني أنيف بن هاشم بن الكلبي، ومات قبل أبيه، قال: حدثني أبي، قال: خرج الوليد بن يزيد من مقصورة إلى مقصورة، فإذا هو ببنت له معها حاضنتها، فوثب عليها فافترعها. فقالت له الحاضنة: إنها المجوسية. قال: اسكتي. ثم قال:
من راقب الناس مات غما * وفاز باللذة الـجـسـور
وأحسب أنا أن هذا الخبر باطل لأن هذا الشعر لسَلْم الخاسر، ولم يدرك زمن الوليد".
"ذكر الهيثم بن عدي عن ابن الكلبي وابن عياش، وذكر بعضه الزبير بن بكار عن عمه عن مجالد أن منظور بن زبان تزوج امرأة أبيه، وهي مُلَيْكة بنت سنان بن أبي حارثة المري، فولدت له هاشما وعبد الجبار وخولة، ولم تزل معه إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان يشرب الخمر أيضا، فرُفِع أمره إلى عمر، فأحضره وسأله عما قيل، فاعترف به وقال: ما علمت أنها حرام. فحبسه إلى وقت صلاة العصر، ثم أحلفه أنه لم يعلم أن الله عز وجل حرّم ما فعله. فحلف، فيما ذُكِر، أربعين يمينا، فخلى سبيله وفرق بينه وبين امرأة أبيه وقال: لولا أنك حلفت لضربت عنقك. قال ابن الكلبي في خبره: إن عمر قال له: أتنكح امرأة أبيك، وهي أمك؟ أوما علمت أن هذا نكاح الـمَقْت؟ وفرّق بينهما فتزوجها محمد بن طلحة. قال ابن الكلبي في خبره: فلما طلقها أسف عليها وقال فيها:
ألا لا أبالي اليوم ما صنع الدهر * إذا مُنِعَتْ مني مُلَيْكَةُ والخمـرُ
فإن تك قد أمست بعيدا مزارهـا * فحَيِّ ابنة المرِّيّ ما طلع الفجرُ
لعمري ما كانت مُلَـْيَكة سـوءةً * ولا ضُمَّ في بيتٍٍ على مثلها سِتْرُ
... رجع الخبر إلى رواية ابن الكلبي، قال: فلما فرّق عمر رضي الله عنه بينهما وتزوجت رآها منظور يوما وهي تمشي في الطريق، وكانت جميلة رائعة الحسن، فقال: يا مليكة، لعن الله دينا فرق بيني وبينك. فلم تكلمه وجازت، وجاز بعدها زوجها. فقال له منظور: كيف رأيت أثر أَيْري في حِرِ مليكة؟ قال: كما رأيت أثر أَيْر أبيك فيه، فأفحمه. وبلغ عمر رضي الله عنه الخبر فطلبه ليعاقبه، فهرب منه".
"أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن بعض أهل المدينة قال: خرج الغَرِيض مع قوم فغناهم هذا الصوت:
جرى ناصحٌ بالود بيني وبينهـا * فقرّبني يوم الحصاب إلى قتلي
فاشتد سرور القوم، وكان معهم غلام أعجبه، فطلب إليهم أن يكلموا الغلام في الخلوة معه ساعة ففعلوا. فانطلق مع الغلام حتى توارى بصخرة، فلما قضى حاجته أقبل الغلام إلى القوم، وأقبل الغريض يتناول حجرا حجرا يقرع به الصخرة، ففعل ذلك مرارا، فقالوا له: ما هذا يا غريض؟ قال: كأني بها قد جاءت يوم القيامة رافعة ذيلها تشهد علينا بما كان منا إلى جانبها، فأردت أن أجرح شهادتها علي ذلك اليوم".
"أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، قال: حدثني حمزة النوفلي، قال: صلى الدلال المخنث إلى جانبي في المسجد، فضرط ضرطة هائلة سمعها من في المسجد، فرفعنا رؤوسنا وهو ساجد، وهو يقول في سجوده رافعا بذلك صوته: سبَّح لك أعلاي وأسفلي. فلم يبق في المسجد أحد إلا فُتِن وقطع صلاته بالضحك".
"اجتمع يحيى بن زياد ومطيع بن إياس وجميع أصحابهم فشربوا أياما تباعا، فقال لهم يحيى ليلة من الليالي: ويحكم! ما صلينا منذ ثلاثة أيام، فقوموا نصلِّ. فقالوا: نعم. فقام مطيع فأذن وأقام، ثم قالوا: من يتقدم؟ فتدافعوا ذلك، فقال مطيع للمغنية: تقدمي فصلي بنا. فتقدمت تصلي بهم عليها غلالة رقيقة مطيبة بلا سراويل. فلما سجدت بان فرجها، فوثب مطيع وهي ساجدة، فكشف عنه وقبله، وقطع صلاته ثم قال:
ولما بدا فرجها جاثما * كرأس حليق ولم يعتمد
سجدت إليه وقبلته * كما يفعل الساجد المجتهد
فقطعوا صلاتهم وضحكوا، ثم عادوا إلى شربهم".
ربما يقول البعض: وهل كتاب "الأغانى" كتاب فى التفسير أو الأحاديث حتى نطالب صاحبه بتدقيق رواياته كما يدقق المحدثون والمفسرون رواياتهم؟ ولقد قال ذلك فعلا مقدم البرنامج التلفازى الذى دار حول الأصفهانى وكتابه والذى أعلنت للمشاهدين فيه أنه سوف يكون حافزا لى على وضع الدراسة الحاليّة عن الأصفهانى و"أغانيه"، إذ أكد المقدم المشار إليه أن "الأغانى" للأصفهانى ليس إلا كتاب أدب قُصِد به التسلية والمتعة. وكان ردى أن "الأغانى"، وإن كان كتاب أدب ومتعة، هو أيضا مصدر ومرجع علمى يعتمد عليه العلماء والباحثون فى دراسة الجاهلية وصدر الإسلام وعَصْرَىِ الأمويين والعباسيين دراسة تاريخية وحضارية وأدبية، وهو يفيض بأخبار الخلفاء والوزراء والشعراء وكبار رجال العرب وأحداث تلك الفترات الأربع، مع سيول من نصوص الشعر والأحكام التحقيقية والنقدية والمقارنات الأدبية، فكيف نتغاضى عن ذلك كله ونحصر أهمية الكتاب فى أنه كتاب إبداع أدبى ليس إلا رغم معرفتنا أن المتعة الأدبية ليست بالشىء القليل على ما فى الكتاب من عَرٍّ وغَرّ؟ ولقد قال د. زكى مبارك إن "الأغانى" ليس كتابا فى التاريخ بل فى الأدب، بمعنى أن صاحبه لم يقصد إلى إعطائنا صورة صحيحة من أوضاع ذلك العصر ولا ظروف أهله ولا وقائعه (د. زكى مبارك/ النثر الفنى فى القرن الرابع/ دار الكتب المصرية/ 1352هـ- 1934م/ 1/ 335)، مع أنه هو نفسه قد أخبرنا قبل ذلك ببضع عشرة سنة أنه قد عوَّل عليه، وعليه وحده، فى الكلام عن ابن أبى ربيعة ودراسة حياته وشعره (د. زكى مبارك/ الأسمار والأحاديث، وحب ابن أبى ربيعة وشعره/ سلسلة"الصفوة"/ الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان/ 1998م/ 256).
إن الأشعار التى يفيض بها الكتاب مثلا تحتاج إلى تمحيص حتى نعرف أهى أشعار صحيحة أم لا، وإذا كانت صحيحة أهى لمن نُسِبَتْ إليه من الشعراء أم لسواه، وإذا كانت غير صحيحة فما هى الأسباب التى أدت إلى انتحال الشاعر لها أو نَحْل الرواة إياها له. وبالمثل تستلزم الأخبار التى يعجّ بها الكتاب معرفة مدى ما فيها من حقيقة أو زيف حتى نستطيع أن نبنى دراساتنا حول تلك العصور وشعرائها ورجالها على أساس متين... وهكذا وهكذا. ولا بد فى كل ذلك من التحقق من صدق الروايات والرواة وإعمال العقل فيما يقولون، إذ لا يعقل أن يُغَشِّىَ ما فى رواياتهم من فكاهات ومجون على منطقنا وعقلنا فلا نرى أن وقوع أحداثها فى كثير من الأحيان أمر مستحيل، أو فى أقل القليل: مستبعد أشد الاستبعاد. والتحقق من صدق ما نسمع ونقرأ هو السبيل الوحيد للتقدم العلمى الحضارى، وبدونه لا يمكن إنجاز شىء. فكيف بالله يصح أن يقال إن كتاب "الأغانى" هو مجرد كتاب للمتعة الأدبية والفنية لا يهم التحقق من صدق ما فيه من أخبار وحكايات؟ وحتى لو كان كتابا للتسلية والمتعة لا غير، ألا يجب دراسته للتحقق من أنه لأبى الفرج مثلا وليس كتابا منحولا عليه؟ ثم ألا يجب دراسته من جهة أخرى للتحقق من أنه يمثل فعلا شخصيته وأنه لم يضعه لمجرد إرضاء خليفة أو وزير مثلا كى يحصل على رِفْده ويتقرب إليه، على حين أنه فى أعماقه كاره لهذا اللون من التأليف؟
ولقد كان الاعتماد على ذلك الكتاب فى بعض الأحيان على أنه يتضمن الصورة الصحيحة للمجتمعات الإسلامية فى القرون الثلاثة الأولى من تاريخها مثار معارك فكرية وأدبية كالتى ثارت بين جرجى زيدان ومخالفيه حول مصداقية رواياته التى يؤرخ فيها للإسلام. ومثلها المعركة الكبيرة الطاحنة التى أوقد نارها طه حسين حين كان ينشر مقالاته الموسومة بــ"حديث الأربعاء" والتى اعتمد فيها على ما جاء فى كتاب "الأغانى" دون أن يبذل ما كان ينبغى بذله من جهد علمى فى تمحيص رواياته وأخباره، فهب العلماء والكتاب المحققون وأَصْلَوْه نارا حامية وبينوا أن ما زعمه فى بعض تلك المقالات من أن القرن الثانى للهجرة كان عصر شك وإلحاد وفسق ومجون إنما هو كلام خفيف من الناحية العلمية لا يصمد للبحث والتحرى، ومن ثم ليست قيمة له تُذْكَر، إذ إن ما ورد فى كتاب الأصفهانى لا يمثل رجال العصر جميعا، بل طائفة منهم صغيرة جدا كما هو واضح، وتبقى الأمة وراء ذلك سليمة مستقيمة بوجه عام بطوائفها المختلفة من تجار وعلماء وصناع وزراع وطلاب وجند ومجاهدين ومرابطين وعبّاد وزهّاد وربات بيوت، وهو ما يشكل الأغلبية الساحقة الماحقة التى لا يساوى من كتب عنهم الأصفهانى إلا نسبة تافهة منها. كذلك إذا كان أبو الفرج قد صور ذلك العصر على أنه عصر شك وانحلال وفسق وإلحاد فى الدين فثم مئات الكتب الأخرى التى كتبها علماء وأدباء غير أبى الفرج وصوروا فيها العصر صورة أخرى، صورة صادقة يقبلها المنطق والعلم لا الغرض المدخول ولا الهوى المنحرف المسىء الذى يشغف به طه حسين وأضرابه.
ولو وقفنا مثلا عند خبر الوليد وجاريته التى أصر على أن تؤم الناس فى الصلاة، فما الذى ينبغى أن نصنع به؟ ترى هل نقبله كما هو؟ أم هل ننظر فيه أوّلاً لنرى مدى صحته أو زيفه واختلاقه؟ ذلك أن كلا من هذين الموقفين ستترتب عليه أحكام وآراء خطيرة فى العصر والوليد والمسلمين من حوله بل فى الإمبراطورية كلها. وبطبيعة الحال لا يمكن العقل أن يصدق كلمة واحدة من ذلك الخبر، إذ لا يعقل أن تؤم الجارية الناس وهى متلثمة فلا يعرف المصلون من الإمام الذى يصلى بهم، وبخاصة فى حضور الخليفة. وهذا لو سلمنا جدلا بأن الوليد يمكن أن يقدم على مثل ذلك التصرف، وهو ما لا يمكن أن يكون حتى لو قبلنا كل ما يُرْوَى عنه من إلحاد وزندقة، إذ هناك ضوابط تحكم تصرفات الساسة فى كل عصر مهما كانت عقيدتهم التى يحتفظون بها بينهم وبين أنفسهم. وكان ذلك العصر قريب عهد بعصر المبعث، فكان للدين قدسيته فى نفوس الجماهير، ولا يستطيع أى حاكم بالغا ما بلغ طغيانه أن يكسر هذه القدسية بمثل تلك البساطة الخرقاء المتهورة. وهبنا قَبِلْنا أن تؤم جارية بهذا الشكل المسلمين فى أهم جوامع العالم الإسلامى آنذاك لكونه الجامع الذى يصلى فيه الخليفة ذاته بشحمه ولحمه، فكيف يا ترى استطاعت تلك الجارية أن تغير صوتها وهيئتها وحركاتها وتخفى بروز صدرها وأردافها بحيث يحسب المصلون وراءها أنها رجل لا امرأة؟ وهبها استطاعت ذلك، أفكانت فقيهة قرارية تعرف أحكام صلاة الجماعة بكل تفاصيلها بحيث لا تأتى تصرفا يريب المصلين ويدفعهم إلى مجادلتها والاحتكاك بها مما من شأنه أن يثير فتنة فى المسجد على الفور كما يقع فى مثل تلك الأحوال؟ ثم إن إمامة امرأة للرجال فى الصلاة قد انتظرت أكثر من أربعة عشر قرنا واستلزمت تدخل دهاة المستشرقين والمبشرين والحاخامات ورجال المخابرات الأوربية والأمريكية وتجهيز عتاة المنحرفين والمنحرفات من أبناء المسلمين وبناتهم المرتبطين والمرتبطات بدوائر الاستعمار الغربى، قبل أن تتم مثل تلك الإمامة، ومع هذا استفز الأمر العالم الإسلامى وهاجه هياجا من أقصاه إلى أقصاه. فكيف نصدق بالله ما قاله أو رواه الأصفهانى فى هذا الموضوع بما عُرِف عنه من خفة وطيش ومجون؟ فانظر، أيها القارئ، ما يستلزمُناه خبر واحد تافه كهذا الخبر من تحقيق وتمحيص قبل أن نقرر الأخذ به أو نبذه وراءنا ظِهْرِيًّا. وهذا من جهة المنطق العام دون الدخول فى علم الرجال والرجوع إلى أحداث التاريخ ومقابلة ما كتبه الأصفهانى بما كتبه غيره، وما إلى ذلك! وبمناسبة الحديث عن الجرح والتعديل فمن يرد أن يعرف طبيعة رواة الأصفهانى فبمكنته الرجوع إلى الفصل الأول من كتاب وليد الأعظمى: "السيف اليمانى فى نحر الأصفهانى صاحب الأغانى"، ففيه كشفٌ لحقيقة عدد كبير من رواة أبى الفرج غير الجديرين بالثقة. بل إنى لأظن أن الأصفهانى كان فى كثير من الأحيان يخترع سلاسل الإسناد اختراعا كى يستر بها عورة الروايات التى لا يمكن أن تدور إلا فى ذهن مسطول ولا تصلح إلا لقعدات الحشيش وما أشبه، فهى ليست سوى حكايات بذيئة مفحشة مما يغرم به الحشاشون فى مثل تلك القعدات.
ولدينا خبر آخر من أخبار "الأغانى" لا يمكن تصديقه بحال، ومع هذا لا أذكر أن أحدا من المؤلفين قد وقف إزاءه مستغربا، ولا أقول: مكذِّبا مُنْكِرا. ألا وهو خبر السَّلْعَة التى خرجت فى أسفل عين السيدة سُكَيْنة فنالت من جمالها كما جاء فى الرواية التالية. يقول صاحب "الأغانى": "وقال هارون: وحدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعمه وغيرهما من مشايخ الهاشميين والطالبيين أن سكينة بنت الحسين عليه السلام خرجت بها سلعة في أسفل عينها، فكبرت حتى أخذت وجهها وعينها وعظم شانها. وكان بدراقس منقطعا إليها في خدمتها، فقالت له: ألا ترى ما قد وقعتُ فيه؟ فقال: لها أتصبرين على ما يمسّك من الألم حتى أعالجك؟ قالت نعم. فأضجعها وشق جلد وجهها حتى ظهرت السلعة، ثم كشط الجلد عنها أجمع، وسلخ اللحم من تحتها حتى ظهرت عروق السلعة، وكان منها شيء تحت الحدقة، فرفع الحدقة عنه حتى جعلها ناحية، ثم سلَّ عروق السلعة من تحتها. فأخرجها أجمع ورد العين إلى موضعها وعالجها، وسكينة مضطجعة لا تتحرك ولا تئن حتى فرغ مما أراد فزال ذلك عنها، وبرئت منها. وبقي أثر تلك الجراحة في مُؤْخِر عينها، فكان أحسن شيء في وجهها، وكان أحسن على وجهها من كل حَلْيٍ وزينة، ولم يؤثر ذلك فى نظرها ولا فى عينها".
والواقع أن هذه الحكاية وحدها تكفى لتعليمنا مدى الانتباه والحذر الذى ينبغى أن نتلقى به كثيرا مما سطره الأصفهانى فى كتابه ذاك العجيب الممتع رغم كل شىء، إذ لا يعقل أن تخرج فى وجه سكينة مثل تلك السلعة التى وصفها أبو الفرج بأنها قد كبرت حتى "أخذت وجهها وعينها"، ثم يستطيع مستطيع أيا كانت براعته وخبرته فى الطب والجراحة أن يعيد الأمر إلى ما كان عليه، فضلا عن أن يكون من قام بذلك هو مجرد خادم لا علم له ولا صلة بالطب بأى حال، ودون أن يستخدم أيا من أدوات الطبابة والعمليات الجراحية، وفى موضع من الجسد هو أشدها دقة وحروجة وحساسية، حتى إن المتخصصين الآن ليعجزون أن يقوموا بمثل ما قام به بدراقس ذلك. وأدهى من ذلك وأمر أن يقال إنه كان للسلعة جذور تحت الحدقة، وكأننا هنا أمام نبات أو شجرة لا دُمَّل أو غُدّة، وهو ما استدعى من ذلك الطبيب المعجزة شق جلد الوجه كله وكشْطه حتى ظهر أصل السلعة ثم رفْع الحدقة من موضعها ثم إعادة ذلك كله إلى موضعه مرة أخرى كما كان. الله أكبر! الحق أنه لا أطباء أمريكا أو بلاد الجن الأحمر يستطيعون، رغم كل التقدم العلمى والطبى والتقنى الهائل فى عصرنا، أن يصنعوا ما صنعه بدراقس فى القرن الأول للهجرة بسكين المطبخ أو بالساطور (وهل كان بين يديه أية أدوات أخرى؟)، وبدون مخدر أو شاش أو مطهِّر أو معقِّم أو غرفة جراحة أو مائدة عمليات أو مساعدين من الأطباء والممرضات يقفون بجواره ويعينونه. ثم أين زوجها وسائر أهلها من هذه العملية الإعجازية؟ أم ترى الأمر لم يستغرق أكثر من بضع ثوان كان الطبيب الخارق قد انتهى خلالها من عمله وجلس يأكل مع مريضته ويشرب ويسمعان الغناء، فلم يجدا داعيا لإزعاجهم بأمر تافه كهذا؟ لقد سمعت كثيرا أبا لمعة (بطل "ساعة لقلبك") وهو "يَفْشُر"، والخواجة بيجو يشدّ شعره ويشقّ هدومه بسبب فَشْره، إلا أننى أعترف أن أبا لمعة لم يستطع يوما أن يحلق بخياله إلى هذه المسافات المبعدة فى سماوات الفَشْر. ولقد نسيت أن أتساءل: كيف كان منظر سكينة يا ترى قبل أن يتمكن المحروس بدراقس "بسلامته" أن يزيل السلعة؟ لا ريب أن "أمنا الغولة" كانت تبدو كملكة جمال بالنسبة إليها. أليس كذلك؟ ثم إذا كانت السلعة ضخمة إلى ذلك الحد الذى أخذت فيه من وجهها وعينيها، فكيف كان حجم العروق التى تربطها بقعر العين يا ترى؟ وهل بعد كل الذى صنعه ذلك الجراح الكونى بعينيها عادت فشافت النور؟ عجايب!
وخذ إليك أيضا ما كتبه زكى مبارك فى كتابه: "حب ابن أبى ربيعة وشعره" معتمدا فى المقام الأول والأخير على "أغانى" أبى الفرج، إذ كان رأيه، بعد أن اطلع على الروايات التى أوردها الأصفهانى عن سكينة بنت الحسين، أن "صورة تلك السيدة كما رسمها الأولون هى صورة طبيعية لا غرابة فيها ولا شذوذ. ولو كُتِب عنها فصل فى مجلة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية لتلقاه أهل الغرب بالقبول وعَدُّوا حياتها المرحة دليلا على تأصل الحضارة فى تلك الأسرة التى سادت الشرق زمنا غير قليل" (د. زكى مبارك/ الأسمار والأحاديث، وحب ابن أبى ربيعة وشعره/ 256)، وهو ما أنكرته عليه بنت الشاطئ إنكارا لاذعا، مؤكدة أن مثل هذه التصرفات التى نسبها كتاب "الأغانى" زُورًا لسكينة لا تُعَدّ فى مجتمعات الغرب دليلا على التحضر فى شىء، بل تبعث على الاستنكار (انظر كتابها: "سكينة بنت الحسين"/ دار الهلال/ 162- 163). وكان زكى مبارك قد وصف السيدة سكينة قبل بضع سطور بأنها "نزقة طائشة تؤثر الخفة على الوقار، وتَهْوَى أن يخلَّد حسنها فى قصائد الشعراء، فقد قضت الطبيعة أن تكون المرأة كذلك، إلا إن قُدِّر لها المسخ فعادت شرطيًّا يلبس أثواب النساء" (ص255- 256)، كما وسمها بأنها كانت "تخلط الوقار بالمجون" (ص261)، وهو كلام لا يُقْبَل بحال، إذ هو قائم على تصديق روايات الأصفهانى، التى لا يهش لها العقل ولا منطق التاريخ ولا التحليل النفسى المتعمق لشخصية امرأة كالسيدة سكينة.
وقد سبق أن نبَّه الدكاترة زكى مبارك نفسه فى ذات الكتاب إلى أنه لا يَضْمَن صحة كل ما ينقله "الأغانى" عن ابن أبى ربيعة وحبيباته من أخبار (ص233)، ومع هذا نراه يصرح فى الهامش بأنه على هذا الكتاب وحده كان تعويله فيما كتبه عن ذلك الشاعر. ثم إنه عندما استحصدت خبرته فى ميدان التأليف وَصَمَ أبا الفرج بأنه كان "مسرفا أشنع الإسراف فى اللذات والشهوات، وقد كان لهذا الجانب من تكوينه الخلقى أثر ظاهر فى كتابه، فإن كتاب "الأغانى" أحفل كتاب بأخبار الخلاعة والمجون. وهو، حين يعرض للكتّاب والشعراء، يهتم بسرد الجوانب الضعيفة من أخلاقهم الشخصية ويهمل الجوانب الجِدّية إهمالا ظاهرا يدل على أنه كان قليل العناية بتدوين أخبار الجِدّ والرزانة والتجمل والاعتدال. وهذه الناحية أفسدت كثيرا من آراء المؤلفين الذين اعتمدوا عليه. ونظرة فيما كتبه المرحوم جورجى زيدان فى كتابه: "تاريخ آداب اللغة العربية" وما كتبه الدكتور طه حسين فى "حديث الأربعاء" تكفى للاقتناع بأن الاعتماد على كتاب "الأغانى" جَرَّ هذين الباحثين إلى الحطّ من أخلاق الجماهير فى عصر الدولة العباسية وحَمَلهما على الحكم بأن ذلك العصر كان عصر شك وفسق ومجون... ولكن الخطر كل الخطر أن يطمئن الباحثون إلى أن لروايات الأغانى قيمة تاريخية وأن يبنوا على أساسها ما يشاؤون من حقائق التاريخ" (د. زكى مبارك/ النثر الفنى فى القرن الرابع/ 1/ 334- 335).
وكان أبو الفرج هائما بالغناء شريبا للخمر يعشق الغلمان، ولهذا جاء كتاب "الأغانى" على هذا النحو، ولهذا حامت أكثر تآليفه حول ذلك الميدان. وقد كان ما يعجّ به الكتاب من مجون وبذاءات وفحش هو أحد الأسباب فى قيام بعض العلماء فى الأعصر المختلفة بتلخيصه وتخليصه من هذه الجوانب المؤذية. وأول محاولة من هذا القبيل ما قام به الوزير الحسين بن على المعروف بالمغربى المتوفَّى عام 418هــ، وآخرها ما عمله الشيخ محمد الخضرى المصرى المتوفَّى عام 1927م. ومن هذه المحاولات المختصَر الذى قام به ابن واصل الحموى المتوفَّى سنة 697 هــ، وسماه: "تجريد الأغانى من ذكر المثالث والمثانى"، وجرَّد فيه الكتاب من صفته الموسيقية وما فيه من الأخبار والأشعار المشتركة والتكرار والعنعنات، وأضاف إليه فوائد أخرى، مع شرح ما صَعُب من ألفاظه. ولدينا كذلك ما قام به ابن منظور صاحب "لسان العرب"، الذى أطلق على مختصره: "مختار الأغانى فى الأخبار والتهانى"، ورتب تراجمه ترتيبا هجائيا، مضيفا إليها بعض التراجم التى لم تكن موجودة من قبل، مثل ترجمة أبى نواس. وهذا الكتاب يقع فى ثمانية مجلدات. وممن لخصوا "الأغانى" أيضا الأب أنطون الصالحانى، وسمى مختصره: "رنات المثالث والمثانى فى روايات الأغانى"، وجعله فى ثلاثة أجزاء: الأول في الروايات الأدبية، والثانى فى أخبار المغنين والشعراء، والثالث فى أيام العرب فى الجاهلية والإسلام، وجرده من الأسانيد والأغانى.
ينبغى إذن أن نفرق بين "أغانٍ" و"أغانٍ": فإن كان غرضنا من قراءة "الأغانى" هو التسلية والمتعة فليس لزاما الوقوف أمام رواياته للتحقق من صحتها أو كذبها، أما إن كان مقصودنا من مطالعته درس عصر أو شخص أو موضوع مما نعرض له مؤلفه فلا مناص لنا من التحقيق والتدقيق قبل أن نستشهد بشىء منه. وقد انتقد الدكاترة زكى مبارك أبا الفرج الأصفهانى لأنه، رغم وضْعه كتابه للمتعة والتسلية لا للدرس والتمحيص، كان حريصا على سَوْق أخباره على أنها حقائق، كما هو الحال فيما ذكره من أخبار عمر بن أبى ربيعة، إذ أوردها بأسانيدها كأنها تاريخ من التاريخ، مما أوهم أكثر الباحثين بأنهم إزاء عمل يبعث على الاطمئنان والتصديق (انظر "النثر الفنى فى القرن الرابع"/ 1/ 337). وفى الأصل الفرنسى لكتاب "النثر الفنى" نرى الدكتور زكى يقول ذات الكلام، وإن كان مختصرا، لكنه يضيف أن كتاب "الأغانى" ليس أثرا أدبيا رائعا فحسب، بل هو فوق ذلك "وثيقة من الطراز الأول: un ******** de premier ordre" (Zaki mubârak, La Prose Arabe au IVe siècle de l'Hégire. Librairie Orientale & Américaine, Paris, 1931, P. 104). لكنه لم يوضح للأسف ماذا يعنى بكلمة "وثيقة" هنا، وإن كان الذهن ينصرف فى غير هذا السياق إلى أنها وثيقة تاريخية، أى يمكن الاعتماد عليها. ثم إنه رجع كرة أخرى إلى القول بوثاقة الكتاب، مكررا مع هذا نفس ما قاله من أنه لا يعتمد عليه تاريخيا (P. 106).
ولابن خلدون كذلك رأى فى أمثال روايات "الأغانى" أجد من الفائدة إيراده هنا على طوله رغم أنه ليس من الحتم الأخذ به على حذافيره، إلا أن له مع هذا وجاهة كبيرة. قال فى "مقدمته": "وأما ما تموّه له الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر واقتران سكره بسكر الندمان فحاشا لله، ما علمنا عليه من سوء. وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء ومحاورته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري ومكاتبته سفيان الثوري وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها؟ حكى الطبري وغيره أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة، وكان يغزو عاما ويحج عاما. ولقد زجر ابنَ أبي مريم مُضْحِكه في سَمَره حين تعرض له بمثل ذلك في الصلاة لما سمعه يقرأ: "وما لي لا أعبد الذي فطرني؟"، وقال: والله ما أدري لم. فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم التفت إليه مغضبا وقال: يا ابن أبي مريم، في الصلاة أيضا؟ إياك إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
وأيضا فقد كان من العلم والسذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك، ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن. إنما خلَّفه غلاما. وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها. وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطأ: يا أبا عبد الله، إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به تجنَّبْ فيه رُخَص ابن عباس وشدائد ابن عمر، ووطِّئْه للناس توطئة. قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ. ولقد أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال. ودخل عليه يوما وهو بمجلسه يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان من ثياب عياله، فاستنكف المهدي من ذلك وقال: يا أمير المؤمنين، عليَّ كسوة هذه العيال عامنا هذا من عطائي. فقال له: لك ذلك. ولم يصده عنه ولا سمح بالإنفاق فيه من أموال المسلمين. فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة وأبوّته وما رُبِّيَ عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته والتخلق بها أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها، وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة، ولم يكن الكَرْم شجرتهم، وكان شربها مذمة عند الكثير منهم، والرشيد وآباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم والتخلق بالمحامد وأوصاف الكمال ونزعات العرب؟
وانظر ما نقله الطبري والمسعودي في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين أحضر له السمك في مائدته فحماه عنه ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله، وفطن الرشيد وارتاب به ودس خادمه حتى عاينه يتناوله، فأعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في ثلاثة أقداح: خلط إحداها باللحم المعالج بالتوابل والبقول والبوارد والحلوى، وصب على الثانية ماء مثلجا، وعلى الثالثة خمرا صرفا. وقال في الأول والثاني: هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه. وقال في الثالث: هذا طعام ابن بختيشوع. ودفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه الرشيد وأحضره للتوبيخ أحضر ثلاثة الأقداح، فوجد صاحب الخمر قد اختلط وأماع وتفتَّت، ووجد الآخَرَيْن قد فسدا وتغيرت رائحتهما، فكانت له في ذلك معذرة. وتبين من ذلك أن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته وأهل مائدته. ولقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع. وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاويهم فيها معروفة. وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها ولا تقليد الأخبار الواهية فيها، فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة. ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد، فما ظنك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلة إلى الحرمة؟
ولقد اتفق المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع مَنْ سَلَفَ من خلفاء بني أمية وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق والسيوف واللُّجُم والسروج، وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد. وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم، فما ظنك بمشاربهم؟ ويتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول إن شاء الله، والله الهادي إلى الصواب. ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنه كان يعاقر الخمر وأنه سكر ليلة مع شربه فدفن في الريحان حتى أفاق. وينشدون على لسانه:
يا سيدي وأمير الناس كلهمو * قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني * كما تراني سليب العقل والدين
وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرشيد، وشرابهم إنما كان النبيذ، ولم يكن محظورا عندهم، وأما السُّكْر فليس من شأنهم، وصحبته للمأمون إنما كانت خلة في الدين. ولقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت ونقل في فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسس ويلتمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم، وثبت أنهما كانا يصليان الصبح جميعا، فأين هذا من المعاقرة؟
وأيضا فإن يحيى بن أكثم كان من عِلْيَة أهل الحديث، وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي، وخرَّج عنه الترمذي كتابه: "الجامع"، وذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير "الجامع"، فالقَدْح فيه قَدْحٌ في جميعهم. وكذلك ما ينبزه المجان بالميل إلى الغلمان بهتانا على الله وفِرْيَةً على العلماء. ويستندون في ذلك إلى أخبار القصّاص الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه، فإنه كان محسودا في كماله وخلته للسلطان، وكان مقامه من العلم والدين منزها عن مثل ذلك. وقد ذُكِر لابن حنبل ما يرميه به الناس، فقال: سبحان الله! سبحان الله! ومن يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكارا شديدا. وأثنى عليه إسماعيل القاضي، فقيل له ما كان يقال فيه، فقال: معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذيب باغ وحاسد. وقال أيضا يحيى بن أكثم: أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما كان يُرْمَى به من أمر الغلمان. ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله، لكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق فرُمِيَ بما رُمِيَ به. وذكره ابن حبان في "الثقات"وقال: لا يُشْتَغَل بما يُحْكَى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه. ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربه صاحب "العِقْد" من حديث الزنبيل في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران وأنه عثر في بعض الليالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل مدلًّى من بعض السطوح بمعالقَ وجُدُلٍ مُغَارة الفتل من الحرير فاعتقده وتناول المعالق فاهتزت وذهب به صعدا إلى مجلسٍ شأنه كذا، ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته وجمال رؤيته ما يستوقف الطَّرْف ويملك النفس، وأن امرأة برزت له من خلل الستور في ذلك المجلس رائقة الجمال فتانة المحاسن فحيته ودعته إلى المنادمة، فلم يزل يعاقرها الخمر حتى الصباح، ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره، وقد شغفتْه حبا بعثه على الإصهار إلى أبيها. وأين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الراشدين من آبائه وأخذه بسِيَر الخلفاء الأربعة أركان الملة ومناظرته العلماء وحفظه لحدود الله تعالى في صلواته وأحكامه؟ فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهترين في التطواف بالليل وطروق المنازل وغشيان السمر سبيل عشاق الأعراب؟ وأين ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصون والعفاف؟
وأمثال هذه الحكايات كثيرة، وفي كتب المؤرخين معروفة. وإنما يبعث على وضعها والحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة وهتك قناع المخدرات. ويتعللون بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم، فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقّرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين. ولو ائتسَوْا بهم في غير هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون. ولقد عَذَلْتُ يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له: ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك. فقال لي: أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين في زمانه؟ فقلت له: يا سبحان الله! وهلا تأسيت بأبيه أو أخيه؟ أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم؟ فصَمَّ عن عَذْلي وأَعْرَض، والله يهدي من يشاء".
***
ومع ذلك فكتاب "الأغانى" إنجاز عظيم القيمة رغم كل ما قلناه وما يمكن أن نقوله فيه من ناحية مصداقيته التاريخية أو من ناحية القيم الخلقية التى يحرص مؤلفه على إشاعتها ونشرها بكل سبيل ويجد لذة شديدة فى ذلك. ذلك أنه أولا ثمرة صبر طويل وجهد شاق بذله أبو الفرج على مدى زمنى شاسع، وهذا الجهد وذلك الصبر هما قيمة حضارية عظيمة ينبغى أن نقف أمامها طويلا ونتملاها، وبخاصة فى ضوء ما نراه الآن من غلبة ضيق الصدر والملل على العرب والمسلمين، إذ لا نجد لديهم فى عمومهم هذا النفس الطويل أو الاستعداد لبذل ذلك الجهد الجهيد. والحضارات لا تنشأ ولا تستمر إلا ببذل الجهود المضنية والتذرع بالصبر الجميل مهما كانت التضحيات والمتاعب والمشقات، وإلا فلا حضارة ولا تقدم. ولقد قرأت فى تفسير سورة "العصر" للشيخ محمد عبده كلاما عن الصبر وأهميته ينبغى أن يُكْتَب بالإِبَر على آماق البصر كما كان القدماء يقولون. وأحسبه كتبه وهو منغص حزين لما يراه حوله بين العرب والمسلمين من نفاد الصبر وعدم الرغبة فى إنجاز شىء ذى قيمة، فضلا عن إتقانه وتجويده. ويؤسفنى أن أقرر أن الصبر الآن إنما يرتبط فى نفوس المسلمين بوجه عام بأنه الصبر على الضيم والهوان والمذلة بحيث لا يخطر فى بال الكثيرين منهم أنه قيمة إيجابية لا يمكن أن يستغنى عنها أى مبدع يريد أن ينجز عملا من أعمال الحضارة والتقدم مهما جلَّ أو دقّ. ذلك أن الصبر هو الضلع الثالث فى أى نتاج إنسانى، إذ هو الزمن، أما الضلعان الآخران فهما الإنسان والطبيعة.
وثانيا فالكتاب دائرة معارف ليس لها مثيل فى أخبار الجاهلية والقرون الأولى فى الإسلام والخلفاء والوزراء وكبار رجال الدولة والمغنين والملحنين والموسيقى وأخبارها وآلاتها ومصطلحاتها، وكثير مما كان يقع فى داخل القصور والبيوت والحانات والأسواق، إلى جانب تراجم الشعراء مصحوبة بفيضٍ هائلٍ من نصوص أشعارهم وآراء النقاد فيهم. صحيح أن فى كثير من كتب التراث أشياء مما فى "الأغانى"، لكن ليس بهذ الوفرة ولا بهذا التنوع ولا بهذا العرض الشائق الساحر ولا بهذه الفكاهة الفاتنة، وإن تحولت الفكاهة فى غير قليل من الأحيان إلى مجون فاضح كما شرحنا قبلا، لكن فى الكتاب مع ذلك جدا كثيرا وجدوى أكثر، فهو منجمٌ فيه التبر والتراب جميعا. وعلى هذا فكتاب أبى الفرج يغنى عن كثير غيره من الكتب، لكن هذه الكتب لا تغنى عنه. إنه سيل هدار من التراجم والأشعار والأحكام النقدية والروايات والحكايات واللوحات والصُّوَر، ولا يستطيع أى باحث فى الأدب والغناء العربى وما يتعلق بهما الاستغناء عنه طرفة عين. ولا أذكر أننى درست شاعرا أو موضوعا فى أدب الجاهلية أو صدر الإسلام أو عصر بنى أمية أو العصر العباسى الأول وبعض الثانى إلا ورجعت إليه وعوَّلت عليه جاعلا إياه نصب عينى فى المقام الأول، مجادلا أبا الفرج أو موافقا له فيما كتب، ومستمتعا به فى موافقاتى ومخالفاتى على السواء. إنها متعة لا يقدرها إلا من خبرها. لكن لا بد أن يكون القارئ، رغم هذا كله، على ذكْرٍ دائمٍ مما سقناه من مآخذ على الكتاب وصاحب الكتاب، فلا يغفل أبدا عن استصحاب حاسته النقدية طوال الوقت إن أراد الاعتماد على "الأغانى" بوصفه مرجعا علميا، وإلا فسدت أحكامه وطاشت آراؤه. أما إذا كان يبغى المتعة الأدبية فى الكتاب ليس إلا ولا يبالى بالجانب العلمى فيه فذلك موضوع آخر.
والحق أن الكتاب من الناحية الأدبية تحفة إبداعية. وأول ما ينبغى الوقوف عنده من هذه الناحية هو الأسلوب الرائع الذى صُبَّ الكتاب فى قالبه. إن أبا الفرج واحد من كبار أصحاب الأساليب فى الأدب العربى قديمه وحديثه. وإن أنس فلن أنسى أبدا تلك الأوقات الهنيئة التى كنت أنفقها فى الحقول حول قريتنا كتامة الغابة (إحدى قرى مركز بسيون بمحافظة الغربية) فى النصف الأول من سبعينات القرن المنصرم ومعى هذا المجلد أو ذاك من كتاب "الأغانى" الذى كنت أستعير مجلداته من مكتبة كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة، فكنت آخذ فى كل مرة مجلدين أو ثلاثة ولا أكذِّب خبرا وأسافر إلى القرية التى كنت أموت عشقا فيها وفى التجوال فى حقولها، وبخاصة فى فصلى الخريف والربيع، وأبحث عن مكانٍ منكفتٍ أجلس على راحتى فيه ككوم قش أو شاطئ ترعة أو ظل توتة أو جميزة أو مصلًّى، ثم أفتح الكتاب وأنسى نفسى. ولكن فيم كنت أنسى نفسى؟ إنه الأسلوب أولا وقبل كل شىء. ويا له من أسلوب! لكأن اللغة العربية قد قُطِّرَتْ واستُخْلِصَتْ واستُصْفِيَتْ وصُبَّتْ فى قارورة من البِلَّوْر النقى النظيف الفخيم وسُلِّمَتْ أبا الفرج الأصفهانى، وقيل له: دونك القارورة، فافعل بها ما تشاء، فهى ملكك وطوع يمينك. ولقد كان الرجل عند حسن الظن به، فإنه قد تصرف فى اللغة على أحسن ما يكون التصرف، واستخرج منها عبقريتها كأحلى ما يكون الاستخراج، فكان شيئا بديعا عجبا!
وليلاحظ القارئ أن الذى يقول هذا الكلام هو هو نفسه الذى قال فى أبى الفرج من قبل ما قال فى مجونه وعبثه وتقولات حكاياته على رجالات العرب الـحُرِّين وسيداتهم الـحـُرّات وتصويره مجتمعات العرب والمسلمين فى بعض ما كتب وكأنها خمارة كبيرة وماخور وَسِيع. قلت: "فى بعض ما كتب"، أما فى سائره فهو مصور وناقد وحَكّاء وصاحب كنز هائل من نصوص الشعر وتراجم شعرائه، ومن عادات العرب وتقاليدهم وتواريخهم، ومن أخبار ملحنيهم ومغنيهم... وحتى فى حكاياته المشوِّهة لسمعة أعلام تاريخنا رجالا ونساء نجد ذلك الشيطان رائق الروح خفيف الظل. أليس شيطانا؟ ومتى كانت الشياطين ثقال الظل والروح؟ إنهم لو كانوا كذلك ما استطاعوا إغواء البشر وقَوْدهم إلى الجحيم! بيد أننا، بحمد الله، كنا نقرأ الأصفهانى ونحن مفتحو الأعين متيقظو العقل، فكنا نستمتع بفنه وعبقرية أسلوبه وتدفق معلوماته: الصحيح ومنها والمضروب، ولكننا كنا فى ذات الوقت نستمتع بملاحظة ألاعيبه وفَشْر رواياته ونضحك منها وعليها معا. ولقد سأل مقدم الحلقة التلفازية المذكورة عن مدى الخطر الذى يمثله تقرير نصٍّ من نصوص "الأغانى" على طلبة المرحلة الثانوية، فرددتُ بأن الناس فى بلاد العرب والمسلمين بوجه عام لا تقرأ، فلا خوف إذن على على أحد. لكنه عاد فقال: فلنفترض أن الطلاب سيقرأون هذا النص، فهل هناك من خطر عليهم؟ فقلت: لو قرأوا كتاب "الأغانى" كله، وليس هذا النص فقط، لكنت أسعد السعداء بغض النظر عن النتائج، فالمهم أن يقرأوا. ثم أضفت أن المسؤولين عن تقرير هذا النص لا بد أنهم راعَوْا بُعْدَه عن المجون وإثارة الشهوات. ثم عدت فأردفت ضاحكا: وعلى كل حال فهأنذا أمامك سليما لم يحدث لى شىء ضارّ، إذ ما زلت أصلى وأصوم وأزكى وأحجّ، والحمد لله، رغم قراءتى الكتاب كله فى شبابى الأول، ولم يترك الكتاب فى شخصيتى أثرا مما فى بعض نصوصه من تهتك وانحلال. ومما زاد فى استمتاعى بالكتاب عندما قرأته بانتظام فى أول سبعينات القرن الماضى أن الطبعة التى كنت أقرؤه فيها هى طبعة دار الكتب المصرية بورقها السميك الصقيل، وخطها البديع البهيج فى مرأى العين وفى إحساس الذوق معا.
على أننى، ما دمت فى سياق الذكريات، لا بد أن أوضح للقارئ أن عهدى بكتاب "الأغانى" قارئا لم يتأخر حتى تخرجى من الجامعة واشتغالى معيدا، بل بدأ وأنا لا أزال طالبا بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة. ولعل أُولَى ذكرياتى فى هذا الصدد هو ما وقع لى مع أستاذى د. شوقى ضيف حين كان يدرّس لنا العصر العباسى فى الأدب العربى فى الفرقة الثالثة، إذ سألته فى الاستراحة بين نصفى المحاضرة عن طريقة العثور على المواضع المختلفة التى تتناول شاعرا بعينه من كتاب "الأغانى"، إذ لاحظت أن أبا الفرج كثيرا ما يعود فى مجلد من مجلدات كتابه إلى شاعر كان قد ترك الحديث عنه فى مجلد سابق. فطلب منى الأستاذ الدكتور أن أنتظر حتى نعود إلى المحاضرة، وهناك يجيبنى على سؤالى. وفعلا دخل بعد الاستراحة ونظر فى أرجاء القاعة قائلا إن طالبا سأله عن كذا وكذا، مما أثار استغرابه لأن هذا معناه أن ذلك الطالب لا يعرف أن المستشرقين قد صنعوا فهارس لكل شىء فى الكتاب وخصصوا له المجلد الأخير بحاله، وهو ما يأسف له كل الأسف إذ معنى ذلك أن الطالب لا يعرف شيئا عن كتاب "الأغانى". والحق أننى لم أنتظر مثل ذلك الجواب، إذ لم يكن دار بخَلَدى هذا الذى صنعه المستشرقون، لكننى مع هذا كنت أقرأ بنهم، وكنت رجعت إلى كتاب الأصفهانى كثيرا ولى علم جيد به. وكانت هذه من المرات النادرة وقتئذ التى لم أردَّ فيها على الفور فى المحاضرة. ورغم هذا لم تكد المحاضرة تلفظ أنفاسها ويخرج الأستاذ الدكتور إلى حجرة الأساتذة حتى كنت فى أعقابه، قائلا إننى أنا الطالب الذى سألته فى الاستراحة السابقة، وإننى على علم جيد بكتاب "الأغانى" رغم جهلى بوجود الفهارس التى تحدّث عنها، وإنه ما كان ينبغى له أن ينتقدنى لهذا السبب، فالمهم أننى أقرأ وأجتهد ولا آلو. وإذا كنا نحن الطلاب مقصرين فى نظر أساتذتنا فوضعوا أصابعهم العشرة منا فى الشق، فنحن قد وضعنا أصابعنا العشرين منهم: أصابع يدينا ورجلينا لأنكم لا تهتمون بنا ولا تمدون أيديكم إلينا فنشعر أننا ضائعون، وأحس أنا بالذات كأننى مرمىّ فى قعر بئر عميق أنادى من أرى أشباحهم بعيدا جدا عند فوهة البئر علهم يحسون بوجودى، لكن دون جدوى. فابتسم رحمه الله، وكانت قد لحقت بنا طالبتان أخريان، فأخذت إحداهما تنبهنى إلى أنه لا يصح أن أكلم أستاذى بهذا الأسلوب، إلا أننى مضيت فى التعبير عن غضبى. ثم لم أكتف بذلك، بل ذهبت فسطرت خطابا للأستاذ الدكتور بنفس المعانى التى شافهته بها، وأعطيته إياه فى اليوم التالى، وانتظرت إلى المحاضرة التى بعد ذلك وكُلِّى تحفز. وما إن هل الدكتور، طيب الله ثراه وأسكنه الفردوس الأعلى، حتى اشرأبّ كل شىء فىّ. أما هو فقد اتجه إلى ناحيتى حيث كنت أجلس فى الصف الأول بجانب الممر الذى يفصل بين المقاعد، وانحنى نحوى مُسِرًّا فى أذنى بأنه قرأ الرسالة وأنه "مبسوط" منى، ولهذا سوف يهدى إلىّ كتابا من كتبه. وقد كان الكتاب هو "العصر العباسى الثانى"ـ الذى لا أزال حتى اليوم أحتفظ بالنسخة التى أهدانيها الأستاذ الدكتور منه، وعليها كلمات الإهداء الرقيقة المشجعة التى سطرها بخطه الأنيق، رحمة الله عليه.
وإلى القارئ هذا النص من نصوص "الأغانى"، وهو عن الشاعر الأموى مالك بن الريب صاحب القصيدة الخالدة التى رثى بها نفسه فجاءت شيئا باسقا مذهلا يندر أن نلقى نظيرا لها فى أى شعر فى العالم. يقول أبو الفرج: "هو مالك بن الريب بن حوط بن قرط بن حسل بن ربيعة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. لصٌّ قاطعُ طريق، وكان شاعرا فاتكا لصا، ومنشؤه في بادية بني تميم بالبصرة. من شعراء الإسلام في أول أيام بني أمية. أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش، قال: أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وعن هشام بن الكلبي وعن الفضل بن محمد وإسحاق بن الجصاص وحماد الراوية، وكلهم قد حكى من خبره نحوا مما حكاه الآخرون، قالوا: استعمل معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان، فمضى سعيد بجنده في طريق فارس، فلقيه بها مالك بن الريب المازني، وكان من أجمل الناس وجها وأحسنهم ثيابا. فلما رآه سعيد أعجبه وقال له: مالك، ويحك! تفسد نفسك بقطع الطريق؟ وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث والفساد، وفيك هذا الفضل؟ قال: يدعوني إليه العجز عن المعالي ومساواة ذوي المروءات ومكافأة الإخوان. قال: فإن أنا أغنيتك واستصحبتك، أتكف عما كنت تفعل؟ قال: إي والله أيها الأمير، أكفّ كفًّا لم يكفَّ أحد أحسن منه. قال: فاستصحبه وأجرى له خمسمائة درهم في كل شهر.
قالوا: وكان السبب الذي من أجله وقع مالك بن الريب إلى ناحية فارس أنه كان يقطع الطريق هو وأصحاب له، منهم شظاظ، وهو مولى لبني تميم، وكان أخبثهم، وأبو حردبة أحد بني أثالة بن مازن، وغويث أحد بني كعب بن مالك بن حنظلة، وفيهم يقول الراجز:
الله نجاك من القـصـيم * وبطن فلج ونبي تـمـيم
ومن بنى حـردبة الأثـيم * ومالك وسيفه المسمـوم
ومن شظاظ الأحمر الزنيم * ومن غويث فاتح العكوم
فسامُوا الناس شَرًّا، وطلبهم مروان بن الحكم، وهو عامل على المدينة، فهربوا فكتب إلى الحارث بن حاطب الجمحي، وهو عامله على بني عمرو بن حنظلة، يطلبهم فهربوا منه. وبلغ مالك بن الريب أن الحارث بن حاطب يتوعده فقال:
تألـَّى حـلـفةً فـــي غـــير جـــرم * أمـيري حـارثٌ شـبــه الـــصـــرار
علـيَّ لأُجْلَـْدَنْ فـــي غـــير جـــرمٍ * ولا أدنـي فـينـفـعـنـي اعـــتـــذاري
وقـلـت وقـد ضـمـمـت إلـي جـأشـــي: * تجـلَّـْل لا تــألَّ عـــلـــيَّ جـــاري
فإنـي سـوف يكـفـينــيك عـــزمـــي * ونـَصُّ الـعِيس بـالـبـلـد الـقــفـــار
وعَـْنـسٌ ذات مــعـــجـــمةٍ أَمُـــون * علـنـداةٌ مــوثـَّـقة الـــفقــار
تزيف إذا تـواهـقـــت الـــمـــطـــا * يا كـمـا زاف الـمـشـرّف لـلـخـطــار
وإن ضـربـت بـلـحـييهـا وعـــامـــت * تفـصَّـم عـنـهـمـا حـلـق الـسـفـــار
مراحـا غـير مـا ضـغــنٍ، ولـــكـــنْ * لجـاجـا حـين تـشـتـبـه الـصـحــاري
إذا مـا اسـتـقـبـلـتْ جَـوْنًـا بـهـيمًـــا * تفـرّج عـن مــخـــيّسة حـــضـــار
إذا مـا حـــال روض ربـــاب دونـــي * وتـثـلـيث فـشـأنـك بـالـبـــكـــاري
وأنـياب سـيخـلـفـهـــن ســـيفـــي* وشـدات الـكـَمِيّ عـلـى الـتــِّجَـــار
فإن أسـطـِعْ أُرِحْ مـنـــه أُناسـِــي * بضـربة فـاتكٍ غـــير اعـــتـــذار
وإن يفلت فإني سوف أبغي * بنيه بالمدينة أو صرار
ألا مَنْ مُبْلِغٌ مروان عني؟ * فإنـي لـيس دهــري بـــالـــفـــرار
ولا جـزع مـن الــحـــدثـــان يومـــا* ولـكــنـــي أرود لـــكـــم وبـــار
(وبار: أرض لم يطأ أحد ثراها)
بهزمار تراد العِيسُ فيهـا * إذا أشفقن من فلق الصفار
وهن يحشن بالأعناق حَوْشًا * كأن عظامهن قداح بـار
كأن الرحل أسأر من قراها * هلال عشية بعد السـرار
رأيت وقد أتى بحران دوني * لليلى بالغميم ضـوء نـار
إذا ما قلت: قد خمدت زهـاهـا * عصيّ الرند والعصف السواري
يشبّ وقـودهـا ويلـوح وَهْيًا * كما لاح الشبوب من الصـوار
كأن النار إذ شبَّـتْ لـلـيلـى * أضاءت جيد مـغـزلة نـوار
وتصطاد القلوب على مطـاهـا * بلا جعد القرون ولا قـصـار
وتبسم عن نقي الـلـون عـذب * كما شيف الأقاحي بالقـطـار
أتجزع أنْ عرفتَ ببـطـن قـوٍّ * وصحراء الأديهـم رسـم دار
وأنْ حَلّ الخليط، ولست فـيهـم * مرابع بين دحلَ إلـى سـرار؟
إذا حـلـوا بـعـائجة خــلاء * يقطِّف نَوْرَ حِنْوتها الـعـذاري
فبعث إليه الحارث رجلا من الأنصار فأخذه وأخذ أبا حردبة. فبعث بأبي حردبة، وتخلف الأنصاري مع القوم الذين كان مالك فيهم، وأمر غلاما له فجعل يسوق مالكا. فتغفل مالك غلام الأنصاري، وعليه السيف، فانتزعه منه وقتله به، وشد على الأنصاري فضربه بالسيف حتى قتله، وجعل يقتل من كان معه يمينا وشمالا. ثم لحق بأبي حردبة فتخلَّصه، وركبا إبل الأنصاري وخرجا فرارا من ذلك هاربين حتى أتيا البحرين. واجتمع إليهما أصحابهما، ثم قطعوا إلى فارس فرارا من ذلك الحدث الذي أحدثه مالك، فلم يزل بفارس حتى قدم عليه سعيد بن عثمان فاستصحبه. فقال مالك في مهربه ذلك:
أحقا على السلطان؟ أما الـذي لـه * فيُعْطَى وأما ما يراد فـيُمْنَـعُ
إذا ما جعلتُ الرمل بيني وبـينـه * وأعرض سهبٌ بين يَبْرِينَ بلقـعُ
من الأدمى لا يستجم بها القـطـا * تكلّ الرياح دونـه فـتـقـطـع
فشأنكمو يا آل مروان فاطـلـبـوا * سقاطي فما فيه لباغيه مطـمـع
وما أنا كالعَيْر المـقـيم لأهـلـه * على القيد في بحبوحة الضيم يرتع
ولولا رسول الله أن كان منـكـمو * تبيَّن من بالنصف يرضى ويقنـع
وقال أيضا:
لو كنتمو تنكرون العذر قلت لكم:* يا آل مروان، جاري منكم الحكمُ
وأتّقيكم يمين الـلـه ضـاحـية * عند الشهود وقد تُوفِي به الذممُ
لا كنت أحدث سوءا في إمارتكم * ولا الذي فات مني قبلُ ينتقـمُ
نحن الذين إذا خفتم مـجـلـّلةً * قلتم لنا: إننا منكم لتعتصـمـوا
حتى إذا انفرجت عنكم دُجُنَّتُهـا * صرتم كجرمٍ فلا إلٌّ ولا رحمُ
وقال مالك حين قتل غلام الأنصاري الذي كان يقوده:
غلام يقول: السيف يثقل عاتقـي * إذا قادني وسط الرجال المجحدل
فلولا ذباب السيف ظل يقودنـي * بنسعته شثن البنان حـزنـبـل
قالوا: وبينا مالك بن الريب ذات ليلة في بعض هناته وهو نائم، وكان لا ينام إلا متوشحا بالسيف، إذ هو بشيء قد جثم عليه لا يدري ما هو، فانتفض به مالك، فسقط عنه، ثم انتحى له بالسيف فقدَّه نصفين. ثم نظر إليه فإذا هو رجل أسود كان يقطع الطريق في تلك الناحية، فقال مالك في ذلك:
أدلجتُ في مهمهٍ ما إن أرى أحـدا * حتى إذا حان تعريسٌ لمـن نـزلا
وضعتُ جنبي وقلت: الله يكلؤنـي * مهما تنم عنك من عين فما غفـلا
والسيف بينى وبين الثوب مشعـره * أخشى الحوادث. إني لم أكن وَكِلا
ما نمت إلا قليلا نـمـتـه شـئزا * حتى وجدت على جثماني الثقـلا
داهيّة من دواهي الليل بـيتـنـي * مجاهدا يبتغي نفسي وما خـتـلا
أهويت نفحا له واللـيل سـاتـره * إلا توخيته والجرس فـانـخـزلا
لما ثنى الله عنـي شـر عـدوتـه * رقدت لا مثبتا ذعرا ولا بـعـلا
أما ترى الدار قفرا لا أنيس بـهـا* إلا الوحوش، وأمسى أهلها احتملا
بين المنيفة حيث استنّ مدفـعـهـا * وبين فردةَ من وحشيّهـا قـبـلا
وقد تقول، وما تخفي، لجـارتـهـا: *إني أرى مالك بن الريب قد نحلا
من يشهد الحرب يصلاها ويسعرها * تراه مما كسته شاحـبـا وَجِـلا
خذها، فإني لَضَرَابٌ إذا اختلفـت * أيدي الرجال بضرب يختل البطلا
وقال مالك في ذلك أيضا:
يا عـامـلا تـحـت الــظـــلام مـــطـــية * متـخـايلا لا بـل وغـــير مـــخـــاتـــل
أنـي أنـخـت لــشـــابـــكٍ أنـــيابـــه * مسـتـأنـس بـدجـى الـظــلام مـــنـــازل
لا يسـتـريع عـظــيمة يرمـــى بـــهـــا * حصـبـا يحـفـّز عـن عـظـام الـكــاهـــل
حربـا تـنـصـبـه بـنـبـــت هـــواجـــر * عاري الأشـاجـع كـالـحـسـام الـنــاصـــل
لم يدر مـا غـرف الـقـصــور وفـــيؤهـــا* طاوٍ بـنـخـل سـوادهـا الـمـــتـــمـــايل
يقظ الفؤاد إذا القلوب تآنست * جزعا ونبّه كل أروع باسل
حيث الدجى متطلعا لغفوله * كالـذئب فـي غـلـس الـظـلام الـخــاتـــل
فوجـدتـُه ثـبـت الـجـنـان مـــشـــيعـــا * ركـّاب مـنـســـج كـــل أمـــر هـــائل
فقـراك أبـيض كـالـعـقــيقة صـــارمـــا * ذا رونـق يعـنـي الـضـــريبة فـــاصـــل
فركـبت ردعـك بـــين ثـــنـــيٍ فـــائز * يعـلـو بــه أثـــر الـــدمـــاء وشـــائل
قال: وانطلق مالك بن الريب مع سعيد بن عثمان إلى خراسان، حتى إذا كانوا في بعض مسيرهم احتاجوا إلى لبن، فطلبوا صاحب إبلهم فلم يجدوه. فقال مالك لغلام من غلمان سعيد: أَدْنِ مني فلانة، لناقة كانت لسعيد عزيزة. فأدناها منه، فمسحها وأبسَّ بها حتى درت، ثم حلبها، فإذا أحسنُ حَلْبٍ حَلَبَه الناس وأغزره درّة. فانطلق الغلام إلى سعيد فأخبره، فقال سعيد لمالك: هل لك أن تقوم بأمر إبلي فتكون فيها وأجزل لك الرزق إلى ما أرزقك وأضع عنك الغزو؟ فقال مالك في ذلك:
إني لأسـتـحيي الـــفــوارس أن أرى * بأرض الـعـدا بـو الـمــخـــاض الـــروائم
وإنـي لأسـتـحـيي إذا الـحـرب شمـرت*أن ارخـي دون الـحـرب ثـوب الـمـسـالم
ومـا أنـا بـالـنـائي الـحـفـيظة فـي الـوغى*ولا الـمـتـقـى فـي الـسـلـم جـر الـجــرائم
ولا المتأني في العواقب للذي * أهم به من فاتكات العزائم
ولكنني مستوحد العزم مقدم * علـى غـمـرات الـحـادث الـمـتـفــاقـــم
قلـيل اخـتـلاف الـرأي فـي الـحـرب بـاسل*جمـيع الـفـؤاد عـنـد حـل الــعـظــائم
فلما سمع ذلك منه سعيد بن عثمان، علم أنه ليس بصاحب إبل وأنه صاحب حرب، فانطلق به معه.
قالوا: وبينما مالك بن الريب ليلةً نائم في بعض مفازاته إذ بيَّتَه ذئب، فزجره فلم يزدجر، فأعاد فلم يبرح، فوثب إليه بالسيف فضربه فقتله، وقال مالك في ذلك:
أذئب الغضا، قد صرت للنـاس ضـحـكة*تغادى بك الركبان شرقـا إلـى غـربِ
فأنت، وإن كنـت الـجـرىء جـنـانـه * مُنِيتَ بضرغام مـن الأسـد الـغـُلْـِب
بمـن لا ينـام الـلـيل إلا وسـيفـــه * رهينة أقوام سـراع إلـى الـشَّغْبِ
ألم تـرنـي يا ذئب إذ جـئتَ طـارقـا * تخاتلنـي أنـي امـرؤ وافـر الـلـب؟
زجرتك مرات فلـمـا غـلـبـتـنـي * ولم تنزجر نهنهتُ غربك بـالـضـرب
فصرت لقًى لـمـا عـلاك ابـن حـرة * بأبيض قطاع ينـجـي مـن الـكـرب ألا رب يوم ريب لـو كـنـت شـاهـدا * لهالك ذكرى عند معمـعـمة الـحـرب
ولـسـت تـرى إلا كَـمِـًّيا مـجــدَّلا * يداه جميعا تـثـبـتـان مـن الـتـرب
وآخر يهوى طـائر الـقـلـب هـاربـا * وكنت امرأ في الهيج مجتمع الـقـلـب
أصول بذي الزرين أمـشـي عـِرِضْـنَةً* إلى الموت، والأقرانُ كالإبـل الـجُرْبِ
أرى الموت لا أنحاش عنـه تـكـرُّمًـا* ولو شئت لم أركب على المركب الصعب ولكن أبـتْ نـفـسـي، وكـانـت أبـية * تقاعس أو ينصاع قـوم مـن الـرعـب
قال أبو عبيدة: لما خرج مالك بن الريب مع سعيد بن عثمان تعلقت ابنته بثوبه وبكت وقالت له: أخشى أن يطول سفرك أو يحول الموت بيننا فلا نلتقي. فبكى وأنشأ يقول:
ولقد قلت لابنتي وهـي تـبـكـي* بدخيل الهمـوم قـلـبـا كـئيبـا
وهي تذري من الدموع على الخديــــــــــــــن من لوعة الـفـراق غـروبـا
عبرات يكدن يجرحن مـا جـز ن بـه أو يدعـن فـيه نـدوبـا
حذر الحتف أن يصيب أباهـا * ويلاقي في غير أهلٍ شَعُوبا
اسكتي. قد حززتِ بالدمع قلبي * طالما حزَّ دمعكن القلـوبـا
فعسى الله أن يدفـّع عـنـي * ريب ما تحذرين حتى أءوبـا
ليس شيء يشاؤه ذو المعالـي * بعزيز عليه، فادعي المجيبـا
ودعي أن تقطِّعي الآن قلبـي * أو تريني في رحلتي تعذيبـا
أنا في قبضة الإلـه إذا كـنــــــــــــــــــت بعيدا أو كنت منك قريبـا
كم رأينا امرأً أتى من بـعـيد* ومقيما على الفراش أصيبـا
فدعيني من انتحـابـك، إنـي * لا أبالي، إذا اعتزمتُ، النحيبـا
حسبي الله، ثم قربـت لـلـسيــــــــــــــــــــــــــــــر علاة أَنْجِبْ بها مركوبـا!
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة، قال: كان سبب خروج مالك بن الريب إلى خراسان واكتتابه مع سعيد بن عثمان هربا من ضرطة،. فسألته: كيف كان ذلك؟ قال: مر مالك بليلى الأخيلية فجلس إليها يحادثها طويلا وأنشدها، فأقبلت عليه وأعجبت به حتى طمع في وصلها، ثم إذا هو بفتى قد جاء إليها كأنه نصل سيف، فجلس إليها، فأعرضت عن مالك وتهاونت به حتى كأنه عصفور، وأقبلت على صاحبها مليًّا من نهارها، فغاظه ذلك من فعلها، وأقبل على الرجل فقال: من أنت؟ فقال: توبة بن الحميِّر. فقال: هل لك في المصارعة؟ قال: وما دعاك إلى ذلك، وأنت ضيفنا وجارنا؟ قال: لا بد منه. فظن أن ذلك لخوفه منه، فازداد لجاجا، فقام توبة فصارعه. فلما سقط مالك إلى الأرض ضرط ضرطة هائلة، فضحكت ليلى منه. واستحيا مالك، فاكتتب بخراسان وقال: لا أقيم في بلد العرب أبدا، وقد تحدثتِ عني بهذا الحديث. فلم يزل بخراسان حتى مات، فقبره هناك معروف.
وقال المدائني، وحدثني أبو الهيثم، قال: اجتمع مالك بن الريب وأبو حردبة وشظاظ يوما، فقالوا: تعالَوْا نتحدث بأعجبِ ما عملناه في سرقتنا. فقال أبو حردبة: أعجب ما صنعت وأعجب ما سرقت أني صحبت رفقة فيها رجل على رَحْل، فأعجبني فقلت لصاحبي: والله لأسرقنّ رَحْله، ثم لا رضيت أو آخذ عليه جعالة. فرمقته حتى رأيته قد خَفَقَ برأسه، فأخذت بخِطَام جمله فقُدْتُه وعَدَلْتُ به عن الطريق، حتى إذا صيَّرته في مكان لا يغاث فيه إن استغاث أنخت البعير وصرعته، فأوثقت يده ورجله، وقدت الجمل فغيبته ثم رجعت إلى الرفقة وقد فقدوا صاحبهم، فهم يسترجعون. فقلت: مالكم؟ فقالوا: صاحب لنا فقدناه. فقلت: أنا أعلم الناس بأثره، فجعلوا لي جعالة، فخرجت بهم أتبع الأثر حتى وقفوا عليه، فقالوا: مالك؟ قال: لا أدري. نعست فانتبهت لخمسين فارسا قد أخذوني، فقاتلتهم فغلبوني. قال أبو حردبة: فجعلت أضحك من كذبه، وأعطوني جعالتي، وذهبوا بصاحبهم. وأعجب ما سرقت أنه مر بي رجل معه ناقة وجمل، وهو على الناقة، فقلت: لآخذنهما جميعا. فجعلت أعارضه، وقد رأيته قد خفق برأسه، فدرت فأخذت الجمل فحللته وسقته فغيبته في القصيم، وهو الموضع الذي كانوا يسرقون فيه، ثم انتبه فالتفت فلم ير جمله، فنزل وعقل راحلته ومضى في طلب الجمل، ودرت فحللت عقال ناقته وسقتها.
فقالوا لأبي حردبة: ويحك! فحَتَّامَ تكون هكذا؟ قال: اسكتوا، فكأنكم بي وقد تُبْتُ واشتريت فرسا وخرجت مجاهدا، فبينا أنا واقف إذ جاءني سهم كأنه قطعة رِشَاء فوقع في نحري فمتُّ شهيدا. قال: فكان كذلك: تاب وقدم البصرة فاشترى فرسا وغزا الروم فأصابه سهم في نحره فاستشهد. ثم قالوا لشظاظ: أخبرنا أنت بأعجب ما أخذت في لصوصيتك ورأيت فيها. فقال: نعم كان فلان، رجل من أهل البصرة، له بنت عم ذات مال كثير، وهو وليّها، وكانت له نسوة، فأبت أن تتزوجه، فحلف ألا يزوجها من أحدٍ ضرارا لها. وكان يخطبها رجل غني من أهل البصرة، فحرصتْ عليه، وأبى الآخر أن يزوجها منه. ثم إن ولي الأمر حج، حتى إذا كان بالدَّوّ، على مرحلة من البصرة حذاءها، قريبا من جبل يقال له: سنام، وهو منزل الرفاق إذا صدرت أو وردت، مات الوليّ، فدُفِن برابية وشيد على قبره. فتزوجت الرجل الذي كان يخطبها. قال شظاظ: وخرجت رفقة من البصرة معهم بَزٌّ ومتاع، فتبصرتُهم وما معهم وأتبعتهم حتى نزلوا. فلما ناموا بيَّتُّهم وأخذت من متاعهم. ثم إن القوم أخذوني وضربوني ضربا شديدا وجردوني (قال: وذلك في ليلةٍ قرّةٍ)، وسلبوني كل قليل وكثير، فتركوني عريانا، وتماوتُّ لهم، وارتحل القوم. فقلت: كيف أصنع؟ ثم ذكرتُ قبر الرجل، فأتيته فنزعت لوحه ثم احتفرت فيه سربا فدخلت فيه، ثم سددت عليَّ باللوح وقلت: لعلي الآن أدفأ فأتبعهم. قال: ومر الرجل الذي تزوج بالمرأة في الرفقة، فمر بالقبر الذي أنا فيه فوقف عليه وقال لرفيقه: والله لأنزلنَّ إلى قبر فلان حتى أنظر هل يحمى الآن بُضْع فلانة؟ قال شظاظ: فعرفت صوته فقلعت اللوح، ثم خرجت عليه بالسيف من القبر، وقلت: بلى ورب الكعبة لأحمينَّها. فوقع والله على وجهه مغشيا عليه لا يتحرك ولا يعقل، فسقط من يده خطام الراحلة. فأخذت، وعهد الله، بخطامها فجلست عليها، وعليها كل أداة وثياب ونقد كان معه، ثم وجهتها قصد مطلع الشمس هاربا من الناس فنجوت بها. فكنت بعد ذلك أسمعه يحدّث الناس بالبصرة ويحلف لهم أن الميت الذي كان منعه من تزويج المرأة خرج عليه من قبره بسَلََبه وكَفَنه. فبقي يومه ثم هرب منه، والناس يعجبون منه فعاقِلُهم يكذِّبه، والأحمق منهم يصدِّقه، وأنا أعرف القصة فأضحك منهم كالمتعجب.
قالوا: فزدنا. قال: فأنا أزيدكم أعجب من هذا وأحمق من هذا. إني لأمشي في الطريق أبتغي شيئا أسرقه. قال: فلا والله ما وجدت شيئا، قال: وكان هناك شجرة ينام من تحتها الركبان بمكان ليس فيه ظل غيرها، وإذا أنا برجل يسير على حمار له، فقلت له: أتسمع؟ قال: نعم. قلت: إن المقيل الذي تريد أن تَقِيله يُخْسَف بالدواب فيه، فاحذره. فلم يلتفت إلى قولي. قال: ورمقتُه، حتى إذا نام أقبلت على حماره فاستقتُه، حتى إذا برزتُ به قطعتُ طرف ذَنَبه وأذنيه، وأخذت الحمار فخبأته. وأبصرته حين استيقظ من نومه فقام يطلب الحمار ويقفو أثره. فبينا هو كذلك إذ نظر إلى طرف ذنبه وأذنيه، فقال: لَعَمْرِي لقد حَذِرْتُ لو نفعني الحَذَر. واستمر هاربا خوف أن يُخْسَف به، فأخذت جميع ما بقي من رحله فحملته على الحمار، وأستمرُّ فألحق بأهلي.
قال أبو الهيثم: ثم صلب الحجاج رجلا من الشُّرَاة بالبصرة وراح عشيًّا لينظر إليه، فإذا برجل بإزائه مقبل بوجهه عليه، فدنا منه فسمعه يقول للمصلوب: طالما ركبتَ، فأَعْقِبْ. فقال الحجاج: من هذا؟ قالوا: هذا شظاظٌ اللص. قال: لا جَرَمَ والله ليُعْقِبَنَّك. ثم وقف وأمر بالمصلوب فأُنْزِلَ وصلب شظاظا مكانه.
قال ابن الأعرابي: مرض مالك بن الريب عند قفول سعيد بن عثمان من خراسان في طريقه. فلما أشرف على الموت تخلَّف معه مرّة الكاتب ورجل آخر من قومه من بني تميم، وهما اللذان يقول فيهما:
أيا صاحبَيْ رَحْلِي، دنا الموت، فانزلا* برابـيةٍ. إنـي مـقـيمٌ لـيالــيا
ومات في منزله ذلك فدفنَاه، وقبره هناك معروف إلى الآن. وقال قبل موته قصيدته هذه يرثي بها نفسه. قال أبو عبيدة: الذي قاله ثلاثة عشر بيتا، والباقي منحولٌ ولَّدَه الناس عليه".
والآن إلى النظر فى هذا النص الممتع البديع: ولننظر فى الأسلوب، ولنركز فى الأسلوب على السلاسة التى تسربله من أوله إلى آخره، فليس فيه كلمة واحدة يمكن تغييرها بغيرها، أو كلمة واحدة قلقة فى موضعها، أو كلمة واحدة تقدمت أو تأخرت عن مكانها الذى ينبغى أن تكون فيه، أو جملة واحدة لا ترتبط بما قبلها وبما بعدها بأوثق رباط، أو جملة واحدة فيها شىء من الهلهلة أو الركاكة، أو جملة واحدة تشعر أنها يمكن أن تحذف. إننا أمام أسلوبىٍّ من الطراز الأول، بل من الطراز قبل الأول إن كان هناك شىء يأتى قبل الأول فى أى أمر من أمور الحياة. وهناك كذلك الإيجاز العجيب والإيقاع السريع فى مواطن العجلة وانبهار الأنفاس، مثل قوله: "فرمقتُه حتى رأيته قد خَفَقَ برأسه، فأخذت بخِطَام جمله فقُدْتُه وعَدَلْتُ به عن الطريق، حتى إذا صيَّرته في مكان لا يغاث فيه إن استغاث أنخت البعير وصرعته، فأوثقت يده ورجله، وقدت الجمل فغيبته ثم رجعت إلى الرفقة، وقد فقدوا صاحبهم، فهم يسترجعون". وهناك أيضا الجمل الاعتراضية التوضيحية التى يحشرها الأصفهانى فى وسط كلام المتحدث، وليست منه، على نحوٍ لبيقٍ معجب، كقوله مثلا، وقد وضعت تحت الكلمات المقصودة خطا: "فقال مالك لغلام من غلمان سعيد: أَدْنِ مني فلانة، لناقةٍ كانت لسعيدٍ عزيزة. فأدناها منه..." أو "ثم إن القوم أخذوني وضربوني ضربا شديدا وجردوني (قال: وذلك في ليلةٍ قرّةٍ)، وسلبوني كل قليل وكثير، فتركوني عريانا، وتماوتُّ لهم، وارتحل القوم". وهناك غير هذا التحول من الفعل الماضى فجأة إلى المضارع رغم أن الزمن هو هو، لكنها الرغبة فى الإيحاء بأنك تعيش الموقف الآن وتشاهد وتسمع ما كان يقع آنذاك. ومن ذلك قوله: "واستمرَّ هاربا خوف أن يُخْسَف به، فأخذت جميع ما بقي من رحله فحملته على الحمار، وأستمرُّ فألحق بأهلي"، وقوله: "قالوا: فزدنا. قال: فأنا أزيدكم أعجب من هذا وأحمق من هذا. إني لأمشي في الطريق أبتغي شيئا أسرقه. قال: فلا والله ما وجدت شيئا"، وقوله: "وقُدْتُ الجمل فغَيَّبْتُه ثم رجعت إلى الرفقة، وقد فقدوا صاحبهم، فهم يسترجعون".
ومن المؤكد أن القارئ قد لاحظ كيف أنه لا توجد كلمة واحدة صعبة على أوساط القارئين، ولا جملة تتخذ تركيبا فيه رائحة التعقيد، ولا عبارة تشى بحذلقة. وهناك فوق هذا حيويةُ الأسلوب ورشاقتُه ودِفْؤُه حتى إن الأصفهانى ليستعمل بعض عبارات الأحاديث اليومية دونما أى حرج كما لاحظ شفيق جبرى فى كتابه: "أبو الفرج الأصبهانى" (دار المعارف/ بيروت/ سلسلة نوابغ الفكر العربى/ العدد 10/ 1955م/ 27)، من مثل: "هجم الشتاء عليه" أو "على بختى أنا" أو "استر علينا". ويمكن ان نضيف إليها من النصوص التى أوردتها هنا عبارات مثل: "انصرف ولم يُرِه وجهه"، "سلبونى كل قليل وكثير"، "جعلتُ أضحك من كذبه"، "فبادر الغلام إليه وغيره بسيوفهم يخبطونه، وضرب كل واحد منهم قفاه، فكأن رأسه قثاءة قطعت نصفين. فتدحرج رأسه بين أيدينا، ونحن على المائدة، وجُرَّتْ جثته". وهناك كذلك براعة الانتقال من السرد إلى الوصف إلى الحوار فى لغة فاتنة ساحرة تنبيك بأن للسان الضاد عبقرية قيَّض الله له كتابا فحولا وهبهم عز شأنه عبقرية مكافئة له. إننا هنا إزاء كاتب صَنَعٍ بلغ من البراعة المبلغ المتمنَّى. أقول هذا ولم أنس ما قلته فى حقه قبل ذلك من انتقادات يستحقها وأكثر منها، إلا أن تلك قضية أخرى. ثم انظر إلى قصر الجمل وتتاليها وتنوعها ما بين جملة فعلية وأخرى اسمية، وما بين جملة طويلة وأخرى متوسطة الطول وثالثة قصيرة، وما بين جملة اسمية ذُكِر مبتدؤها وخبرها وأخرى حُذِف منها المبتدأ، وكل هذا فى قوة أسر وشدة إحكام وقوة قبض على زمام الكلام، كما فى أول فقرة من النص الفائت: "هو مالك بن الريب بن حوط بن قرط بن حسل بن ربيعة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. لصٌّ قاطعُ طريق. وكان شاعرا فاتكا لصا، ومنشؤه في بادية بني تميم بالبصرة. من شعراء الإسلام في أول أيام بني أمية. أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش، قال: أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وعن هشام بن الكلبي وعن الفضل بن محمد وإسحاق بن الجصاص وحماد الراوية، وكلهم قد حكى من خبره نحوا مما حكاه الآخرون، قالوا: ...". ولا تنس أن تنعم الانتباه فى الطريقة التى يصل أو ينتقل بها أبو الفرج بين جمله وعباراته، وهو فن كبير يشكل بابا هاما فى علم البلاغة العربية اسمه باب "الفصل والوصل"، يريك المنوال الصحيح الذى ينبغى أن تراعيه عند الانتهاء من جملة وابتداء أخرى بحيث إذا فصلت فى موضع الوصل أو وصلت فى موضع الفصل أو استعملت أداة وصل غير التى ينبغى أن تستعملها فى هذا الموضع أو ذاك هجَّنْتَ أسلوبك وأَرْكَكْتَ لغتك. والروابط التى أقصدها هى الكلمات التى تسبق الجمل فتشدها إلى التى قبلها أو تضفى الرونق المطلوب على بدايتها، مثل "الواو" أو "الفاء" أو "ثم" أو "لكن" أو "وقد" أو "إلا أن" أو "حتى إنه" أو "ومن ثم" أو "والواقع أن" أو "لا جَرَمَ أن..." أو "ومع هذا فإن..." أو "وهذا صحيح إلا أن..."... إلخ.
ولعل أفضل ما يعبر عما أريد هو قول أحمد فارس الشدياق فى تحديد الأسلوب الجميل البسيط ذى الرونق والبهاء، فإن كلام الشدياق فى استحسان أسلوب النثر المرسل البسيط يبدو وكأن المقصود به هو الأصفهانى، فأحسن الكتابة عنده إنما "يتعلق بطرق التعبير وحسن الأساليب عند ضم الكلام بعضه إلى بعض"، وذلك كأن تقول: ذهبت أمس إلى فلان لأسأله عن شىء فلم أجده إذ كان غائبا، فلما حضر أُخْبِر بزيارتى فتأسف كثيرا، فلم يلبث أن جاء ليعتذر لى عن غيابه فلم يجدنى فزاد تأسفه، وتأسفت أنا أيضا لأن سؤالى إياه كان أمرا مهما. قصدت زيارته مرة أخرى فلم أجده، ثم زارنى أيضا فلم يجدنى. وهكذا حتى مضى علينا أسابيع عدة ولم نجتمع". ثم يعقّب قائلا: "فهذا الأسلوب سهلٌ بَيِّنٌ واضحٌ حَسَنٌ كلَّ الحسن، إذ ليس فيه تقديم ولا تأخير ولا تعقيد ولا خروج عما تقتضيه البساطة والطبيعية والتناسق الصناعى حتى إن المنصف ليعتقد بأنه لا يمكن تغييره وتبديله" (نقلا عن عماد الصلح/ أحمد فارس الشدياق- آثاره وعصره/ ط2/ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر/ بيروت/ 1407- 1987م/ 166- 167). يا لله للشدياق وللأصفهانى، فقد كانا من فطاحل الكتاب فى كل عصور الأدب العربى جميعا. وبالمناسبة فقد كنت، وأنا أعكف على كتاب "الأغانى" وغيره من كتب التراث العربى والإسلامى فى بداية سبعينات القرن الماضى، أُولِى أساليب الكتاب الذين أقرأ لهم من أمثال الطبرى والأصفهانى والتوحيدى وأبى هلال العسكرى والمسعودى انتباها عظيما وأستمتع بتتبع تركيب الجملة عندهم ووصْلها بالجملة التى بعدها وما تتميز به كتاباتهم من إحكام وشدة أسر، فكأن النص كتلة واحدة، على عكس كثير من الكتاب الآن، ومنهم المشاهير الذين تسد سمعتهم عين الشمس، ومع ذلك تعانى كتاباتهم من التفكك والركاكة، ودعنا من ضحولة الفكر وتفاهته.
وهذا من ناحية الأسلوب فحسب، وإلا فهناك إلى جانب هذا شرح الأصفهانى لبعض الكلمات التى يراها بحاجة إلى شرح، وكذلك الأحكام النقدية والنظرات التحقيقية للنصوص، فقد ذكر مثلا ما قاله العلماء الخبيرون بالشعر من أن القصيدة المعزوّة إلى مالك بن الريب لم يصحّ له منها إلا ثلاثة عشر بيتا، والباقى منحول عليه. وأذكر لقد سقطتُ أسير تلك القصيدة منذ أول مرة قرأتها فيها، وكنت حينها فى السنة الأولى الثانوية، ومن يومها لم تخرج من قلبى. وظللت على غرامى بها طول الوقت، إلى أن أتيحت لى فرصة تناولها وإبراز ما فيها من روعة الشعر عام1982- 1983م حين أُوكِلَ إلىَّ تدريس مادة النصوص الشعرية فى كل عصور الأدب العربى تقريبا، وذلك عقب عودتى من أوكسفورد إثر حصولى على الدكتورية، فاخترت فى الحال ضمن نصوص الشعر الأموى تلك القصيدة. وقد شعرت بحزن شديد، وأنا أقرأ فى "الأغانى" وغيره أن ثم شكا قويا فى نسبة كثير من أبياتها إلى ابن الريب. على أية حال لقد تناول الأصفهانى حكم الخبراء الشعريين فى نسبة تلك القصيدة إلى الشاعر الأموى، وهذا بعض من قيمة الكتاب. وبعض آخر يتمثل فى ترجة الأصفهانى للشاعر وإيراد الروايات التى تتصل بحياته وشخصيته وإبداعه وتلقى الضوء على معنى الشعر المنسوب إليه والظروف التى نظمه فيها والمواضع التى مر بها والمكان الذى لقى حتفه عنده، فإذا شخصية الشاعر وشعره تنتصب أمامك حية تنتفض، بدلا من سرابيل الظلام التى تلف نصوصا أخرى لا نعرف عن أصحابها شيئا، ثم يأتى نقاد آخر زمن من الجهلاء الناعقين بكل ما يسمعونه من الغربيين دون فهم أو مراجعة منادين بأننا، حين نتناول بالنقد نصا أدبيا، يجب أن ننسى كل شىء عن صاحبه ولا نحاول أن نعرف ما نجهله من شؤونه وأن نستقبل النص دون أن يكون لدينا أى شىء عن ظروفه ولا عن ظروف مبدعه، وهو ما يعبرون عنه بمصطلح غبى مثلهم هو "موت المؤلف". ثم يشرعون فيعيثون فى النص فساد وسوءا وجهلا وغلظ ذوق، متصورين أنهم بهذه الطريقة قد أمسكوا بالذئب من ذيله، وهم فى الحقيقة لم يمسكوا إلا بذيولهم هم، وما أطولها! ألا خيبة الله على الإمَّعات المتنطعين الفارغين! وفى كلام أبى الفرج أيضا حكايات شائقة مهمة لها روعتها وقيمتها التاريخية كتلك التى تتحدث عن اللصوصية وقطع الطريق مثلا، أو تلك التى تتناول صلة رجالات الدولة بالخارجين عليها، فضلا عن إلقاء الضوء على بعض العادات والتقاليد التى كانت سائدة آنذاك.
أما فى النص التالى فلدينا القصص، ولدينا الخيال، ولدينا الفكاهة، ولدينا السخرية، ولدينا التحليل النفسى، ولدينا المفارقة الناتجة عن الصراع بين طريقة معينة فى فهم الدين وبين الفطرة البشرية فى حبها للغناء والصوت الجميل، علاوة على الأحكام النقدية والتحقيقية كالعادة، وكذلك وصف الكيفية التى على أساسها تم تلحين الأبيات الواردة فيه. وهذا هو النص:
"صوت:
حتى إذا الليل خبا ضوؤه * وغابت الجوزاء والمرزمُ
أقبلتُ، والوطء خفيٌّ، كمـا* ينساب من مكمنه الأرقمُ
ذكر يحيى المكي أن اللحن لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر، وذكر الهشامي أنه منحول. فأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وإسماعيل بن يونس وغيرهما، قالوا: حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن ابن كناسة قال: اصطحب شيخ مع شباب في سفينة في الفرات ومعه مغنية. فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ: معنا جارية لبعضنا، وهي مغنية، فأحببنا أن نسمع غناءها فهِبْناك. فإن أذنت لنا فعلنا. قال: أنا أصعد إلى طلل السفينة، فاصنعوا أنتم ما شئتم. فصعد، وأخذت الجارية عودها فغنت:
حتى إذا الصبح بدا ضوؤه * وغابت الجوزاء والمرزمُ
أقبلتُ، والوطء خفيٌّ، كمـا * ينساب من مكمنه الأرقمُ
فطرب الشيخ وصاح ثم رمى بنفسه بثيابه في الفرات، وجعل يغوص في الفرات ويطفو ويقول: أنا الأرقم! أنا الأرقم! فألقَوْا أنفسهم خلفه، فبعد لأيٍ ما استخرجوه، وقالوا له: يا شيخ، ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إليكم عني، فإني والله أعرف من معاني الشعر ما لا تعرفون. وقال إسماعيل في خبره: فقلت له: ما أصابك؟ فقال: دَبَّ شيء من قدمي إلى رأسي كدبيب النمل، ونزل في رأسي مثله، فلما وردا على قلبي لم أعقل ما عملت".
ثم نختتم الكلام فى الأصفهانى و"أغانيه" بهذا الفصل الذى سطرتْه يمينه عن الشاعر الزنجى سُحَيْم عبد بنى الـحَسْحَاس وإبداعه الفنى وما يتفرد به من خصوصية، ثم مأساته التى انتهت بها حياته. وفى خلال ذلك يأخذنا أبو الفرج فى رحلةٍ مُونِقةٍ يطوف بنا فيها بأهم وقائع حياة الشاعر وما تتسم به شخصيته، مطلعا إيانا على تصرفاته التى أدت إلى وقوع المأساة. قال:
"صوت:
فما بيضةٌ بات الظليم يحـفـّهـا* ويرفع عنها جؤجؤا متجـافـيا
بأحسن منها يوم قالت: أظاعـنٌ * مع الركب أم ثاوٍ لدينا ليالـيا؟
وهبّتْ شمالٌ آخر اللـيل قـرّة * ولا ثـوبَ إلا بـُرْدهـا وردائيا
ومازال بُرْدِى طيبا من ثيابـهـا * إلى الحول حتى أنهج الثوب باليا
الشعر لعبد بني الـحَسْحَاس، والغناء لابن سريج في الأول والثاني من الأبيات ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفي الثالث والرابع لمخارق خفيف ثقيل عمله على صنعة إسحاق في "أماويَّ، إن المال غاد ورائح"، وكاده بذلك ليقال إن لحنه أخذه منه، وألقاه على عجوز عمير فألقته على الناس حتى بلغ الرشيد خبره، ثم كشفه فعلم حقيقته، وعلم من لا يعلم بنسبه إلى غيره. وقد ذكر حبش أنه لإبراهيم، وذكر غيره أنه لابن المكي. وقد شرحت هذا الخبر في أخبار إسحاق.
أخبار عبد بني الـحَسْحَاس:
اسمه سُحَيْم، وكان عبدا أسود نوبيا أعجميا مطبوعا في الشعر، فاشتراه بنو الـحَسْحَاس، وهم بطن من بني أسد. قال أبو عبيدة: الـحَسْحَاس بن نفاثة بن سعيد بن عمرو بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. قال أبو عبيدة فيما أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي عن أبي حاتم عنه: كان عبد بني الـحَسْحَاس عبدا أسود أعجميا، فكان إذا أنشد الشعر، استحسنه أم استحسنه غيره منه، يقول: أَهْشَنْتُ والله. يريد أحسنت والله. وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم. ويقال: إنه تمثل بكلمات من شعره غير موزونة. أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا الحسن بن موسى، قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل: "كفى بالإسلام والشيب ناهيا". فقال أبو بكر: يا رسول الله، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا"، فجعل لا يطيقه، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. "وما علَّمناه الشعر وما ينبغي له".
قال محمد بن خلف: وحدثني أحمد بن شداد عن أبي سلمة التبوذكي عن حماد بن سلمة عن رجل عن الحسن مثله، ورُوِيَ عن أبي بكر الهذلي، أن اسم عبد بني الـحَسْحَاس حية. وأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان عبد بني الـحَسْحَاس حلو الشعر رقيق الحواشي. وفي سواده يقول:
وما ضر أثوابي سوادي، وإنـنـي * لكالمسك لا يسلو عن المسك ذائقهْ
كُسِيتُ قميصا ذا سواد، وتـحـتـه* قميص من القُوهِيّ بيضٌ بنائقـهْ ويروى: "وتحته قميص من الإحسان". أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: أنشدني مصعب بن عبد الله الزبيري لعبد بني الـحَسْحَاس، وكان يستحسن هذا الشعر ويعجب به، قال:
أشعار عبد بني الـحَسْحَاس قمن له * عند الفخار مقام الأصل والوَرِقِ
إن كنتُ عبدا فنفسي حرة كرمـا * أو أسود اللون إني أبيض الـخُلُقِ
وقال الأثرم: حدثني السري بن صالح بن أبي مسهر، قال: أخبرني بعض الأعراب أن أول ما تكلم به عبد بني الـحَسْحَاس من الشعر أنهم أرسلوه رائدا فجاء وهو يقول:
أنعت غيثا حسنا نباته* كالحبشي حلوة بناته
فقالوا: شاعر والله. ثم انطلق بالشعر بعد ذلك. أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: أنشد سُحَيْم عمر بن الخطاب قوله:
عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إن تهجـزت غـاديا * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال عمر: لو قلت شعرك كله مثل هذا لأعطيتك عليه. أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز، قال: حدثني خالي يوسف بن الماجشون، قال: كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملا لعثمان بن عفان على الجند، فكتب إلى عثمان: إني قد اشتريت غلاما حبشيا يقول الشعر. فكتب إليه عثمان: لا حاجة لي إليه، فاردده، فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه إن شبع أن يتشبب بنسائهم، وإن جاع أن يهجوهم. فرده فاشتراه أحد بني الـحَسْحَاس. وروى إبراهيم بن المنذر الحزامي هذا الخبر عن ابن الماجشون، قال: كان عبد الله بن أبي ربيعة... مثل ما رواه الزبير، إلا أنه قال فيه: إن جاع هر، وإن شبع فر.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أبو بكر العامري عن الأثرم عن أبي عبيدة، وأخبرنا به أبو خليفة عن محمد بن سلام، قال: أنشد عبد بني الـحَسْحَاس عُمَر قوله:
توسِّدُني كفًّا وتَثْنِي بمعـصـم * عليَّ وتحوي رجلها من ورائيا
فقال عمر: ويلك إنك مقتول. أخبرني محمد بن جعفر الصيلاني، قال: حدثني أحمد بن القاسم قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن أبي عائشة، قال: أنشد عبد بني الـحَسْحَاس عُمَر قوله: "كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا"، الإسلام أولا، فقال له عمر: لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك. أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا معاذ بن معاذ وأبو عاصم عن ابن عون عن محمد بن سيف أن عبد بني الـحَسْحَاس أنشد عمر هذا وذكر الحديث مثل الذي قبله.
أخبرني محمد بن خلف قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، قال: كان عبد بني الـحَسْحَاس قبيح الوجه، وفي قبحه يقول:
أتيت نساء الحارثيين غُدْوَةً * بوجهٍ براه الله غير جميلِ
فشبهنني كلبا، ولست بفوقه * ولا دونه إن كان غير قليل
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام، قال: أُتِيَ عثمان بن عفان بعبد بني الـحَسْحَاس ليشتريه فأُعْجِب به فقالوا: إنه شاعر. وأرادوا أن يرغّبوه فيه. فقال: لا حاجة لي به، إذ الشاعر لا حريم له: إن شبع تشبب بنساء أهله، وإن جاع هجاهم. فاشتراه غيره، فلما رحل قال في طريقه:
أشوقا ولما تمض لي غـير لـيلة؟ * فكيف إذا سار المطي بنا شهرا؟
وما كنت أخشى مالكا أن يبيعنـي * بشيء ولو أمست أنامله صفـرا
أخوكم ومولى مالكم وحلـيفـكـم* ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا فلما بلغهم شعره هذا رَثَوْا له، فاستردوه. فكان يشبب بنسائهم، حتى قال:
ولقد تحدَّر من كريمة بعضكـم * عَرَقٌ على متن الفراش وطِيبُ قال: فقتلوه. أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن خاله يوسف بن الماجشون بمثل هذه الرواية وزاد فيها: فلما استردوه نشب يقول الشعر في نسائهم، فأخبرني من رآه واضعا إحدى رجليه على الأخرى يقرض الشعر ويشبّب بأخت مولاه، وكانت عليلة، ويقول:
ماذا يريد السقام من قـمـر * كل جمال لوجهه تـَبَعُ؟
ما يرتجى، خابَ، من محاسنها؟ * أما له في القباح متـسـعُ؟
غيَّر من لونها وصفَّرهـا * فزيد فيه الجمال والـبـِدَعُ
لو كان يبغي الفداء قلت له: * ها أنا دون الحبيب يا وَجَعُ
أخبرني محمد بن خلف، قال: حدثنا أبو بكر العامري عن علي بن المغيرة الأثرم، قال: قال أبو عبيدة: الذي تناهى إلينا من حديث سُحَيْم عبد بني الـحَسْحَاس أنه جالسَ نسوة من بني صبير بن يربوع، وكان من شأنهم إذا جلسوا للتغزل أن يتعابثوا بشق الثياب وشدة المغالبة على إبداء المحاسن، فقال:
كأن الصبيريّات يوم لـقـِينـنـا* ظباءٌ حنتْ أعناقها في المكانسِ
فكم قد شققنا مـن رداءٍ مـنـيَّرٍ * ومن برقعٍ عن طفلةٍ غير ناعسِ
إذا شق برد شق بالبرد بـرقـع * على ذاك حتى كلُُّنا غير لابـسِ فيقال: إنه لما قال هذا الشعر اتهمه مولاه، فجلس له في مكان كان إذا رعى نام فيه. فلما اضطجع تنفس الصعداء، ثم قال:
يا ذكرة مالك في الحاضر * تذكرها وأنت في الصادر
من كل بيضاء لها كَفَـلٌ* مثل سنام البكرة المـائر
قال: فظهر سيده من الموضع الذي كان فيه كامنا، وقال له: مالك؟ فلجلج في منطقه، فاستراب به فأجمع على قتله. فلما ورد الماء خرجت إليه صاحبته فحادثته وأخبرته بما يراد به، فقام ينفض ثوبه ويعفى أثره ويلقط رضا من مسكها كان كسرها في لعبه معها، وأنشأ يقول:
أتكتم، حُيِّيتم على النأي تكـتـمـا* تحية من أمسى بحبك مغرمـا
وما تكتـمـين إن أتـيتِ دنـيَّة * ولا إن ركبنا يا بنة القوم محرما
ومثلك قد أبرزتُ من خدر أمها * إلى مجلس تجر بردا مسهَّمـا الغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل، قال:
وماشيةٍ مَشْىَ القطاة اتبعتـُهـا * من الستر تخشى أهلها أن تكلما
فقالت: صه! يا ويح غيرك إنني * سمعت حديثا بينهم يقطر الدمـا
فنفَّضْتُ ثوبيها ونظرت حولهـا* ولم أخش هذا الليل أن يتصرما
أُعَفِّى بآثار الثياب مـبـيتَـهـا * وألقط رضًّا من وقوفٍ تحطما
قال: وغدَوْا به ليقتلوه. فلما رأته امرأة كانت بينها وبينه مودة ثم فسدت، ضحكت به شماتة، فنظر إليها وقال:
فإن تضحكي مني فيا رُبَّ ليلةٍ * تركتك فيها كالقَبَاء المفـرَّجِ
فلما قُدِّم ليُقْتَل قال:
شدوا وثاق العبد لا يُفْلـِتْـكـمو * إن الحياة من الممات قـريبُ
فلقد تحدر من جبين فتـاتـكـم * عَرَقٌ على متن الفراش وطيبُ
قال: وقُدِّم فقُتِل. وذكر ابن دأب أنه حُفِر له أخدود وألقي فيه، وألقي عليه الحطب فأحرق.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن المدائني عن أبي بكر الهذلي، قال: كان عبد بني الـحَسْحَاس يسمى: حية، وكان لسيده بنتٌ بِكْرٌ فأعجبها، فأمرته أن يتمارض، ففعل وعصب رأسه. فقالت للشيخ: أسرح أيها الرجل إبلك، ولا تَكِلْها إلى العبد. فكان فيها أياما، ثم قال له: كيف تجدك؟ قال: صالحا. قال: فرُحْ في إبلك العشية. فراح فيها، فقالت الجارية لأبيها: ما أحسبك إلا قد ضيعت إبلك العشية أن وَكَلْتَها إلى حية. فخرج في آثار إبله فوجده مستلقيا في ظل شجرة، وهو يقول:
يا رُبَّ شَجْوٍ لك في الحاضر * تذكرها وأنت في الصـادر
من كل حمراءَ جـمـالـيّةٍ * طيبة الـقـادم والآخــر
فقال الشيخ: إن لهذا لشأنا. وانصرف ولم يُرِه وجهه. وأتى أهل الماء، وقال لهم: تعلَّموا والله أن هذا العبد قد فضحنا. وأخبرهم الخبر وأنشدهم ما قال. فقالوا: اقتله، فنحن طوعك. فلما جاءهم وثبوا عليه فقالوا له: قلت وفعلت. فقال: دعوني إلى غد حتى أعذرها عند أهل الماء. فقالوا: إن هذا صواب. فتركوه، فلما كان الغد اجتمعوا فنادى: يا أهل الماء، ما فيكم امرأة إلا قد أصبتها إلا فلانة، فإني على موعد منها. فأخذوه فقتلوه.
ومما يغنَّى فيه من قصيدة سُحَيْم عبد بني الـحَسْحَاس، وقال: إن من الناس من يرويها لغيره:
تجمعن من شتى ثلاثا وأربعـا * وواحدة حتى كملن ثـمـانـيا
وأقبلن من أقصى الخيام يعدنني * بقية ما أبقين نصلا يمـانـيا
يعدن مريضا هن قد هِجْنَ داءه * ألا إنما بعض الـعـوائد دائيا
فيه لحنان كلاهما من الثقيل الأول، والذي ابتداؤه: "تجمعن من شتى ثلاث" لِبَنَان. والذي أوله: "وأقبلن من أقصى الخيام" ذكر الهشامي أنه لإسحاق، وليس يشبه صنعته، ولا أدري لمن هو.
أخبرني جحظة عن ابن حمدون أن مخارقا عمل لحنا في هذا الشعر:
وهبت شمالا آخِرَ الليل قُرَّةً * ولا ثوب إلا بُرْدُها وردائيا
على عمل صنعة إسحاق في "أماويَّ، إن المال غاد ورائح" ليكيد به إسحاق، وألقاه على عجوز عمير الباذ عيسى، وقال لها: إذا سئلتِ عنه فقولي: أخذته من عجوز مدنية، ودار الصوت حتى غُنِّيَ به الخليفة، فقال لإسحاق: ويلك! أخذت لحن هذا الصوت تغنيه كله، فحلف له بكل يمين يرضاه أنه لم يفعل، وتضمن له كشف القصة. ثم أقبل على من غناهم الصوت فقال: عمن أخذته؟ فقال: عن فلان. فلقيه فسأله عمن أخذه فعرفه، ولم يزل يكشف عن القصة حتى انتهت من كل وجه إلى عجوز عمير، فسئلت عن ذلك فقالت: أخذته عن عجوز مدنية. فدخل إسحاق على عمير فحلف له بالطلاق والعتاق وكل محرج من الأيمان ألا يكلمه أبدا ولا يدخل داره ولا يترك كيده وعداوته أو يَصْدُقه عن حال هذا الصوت وقصته، فصدَقه عمير عن القصة، فحدث بها الواثق بحضرة عمير ومخارق، فلم يمكن مخارقا دَفْعُ ذلك، وخجل خجلا بان فيه، وبطل ما أراده بإسحاق".

Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9