يقين الرؤية في «حدائق الصوت»
للشاعر حسين علي محمد(1)

بقلم: د. محمد زيدان
........................

اليقين في أبسط صوره هو تجريد كلي للموقف، دون إيثار يحمل هذا الثبات الروحي النافذ إلى جدل الروح وصولاً إلى جدل اللغة ومراميها وتجلياتها، والموضوعية التي هي من أنسجة اليقين تعمل على سدّ الفراغ بينه وبين من ينتج من الانحياز من ترهل في الرؤية وخضوع موطوء لغياب الموقف. ولعل هذا اليقين ينفتح أمام الشاعر إذا كان لا يحس الرد الوثاب بين الكلمة كيقين والموقف كسلوك عملي يرتبط بعملية الإبداع وخصوصيتها ومجالاتها المتفردة.
والشاعر حسين علي محمد أحد أقطاب اليقين الرؤيوي القائم على نزع الجدل وأنصاف الحلول للوصل إلى فضاء مُباغت من خلال القصيدة، وذلك ناتج عن وعيه بما يُكتب وما يكتُب، ولمن يكتب ـ هو ونفر قليل معه ـ.
وديوان "حدائق الصوت" الصادر في الزقازيق ـ مصر 1993م هو جماع الموقف الشعري ليقين الشاعر، ومرحلة متوهجة لعطائه المستمر منذ عشرين عاماً، ولذلك فهو يُمسك جيداً بأطراف العملية الإبداعية القائمة على إيجاد اللغة الشعرية المنفلتة من إطار التقليدية التي تزهق روح القصيدة بالإضافة إلى تمل حقيقي لموقفه المتحدد برؤية كلية لقضايا الإنسان المعاصر، متحدة مع هذه الرؤية، ومنسجمة مع قضايا الذات الشاعرة وتجلياتها وأحلامها وتطلعاتها.
ولتحديد هذه الافتراضات غير الجدلية نجد أنفسنا أمام إطارين هامين من الأطر الكثيرة التي يمكن أن نتناولها داخل المجموعة الشعرية.
الإطار الأول هو إطار الموقف، وفيه قد مزج الشاعر بين المشهد الكلي لموقف الإنسان العربي المعاصر وتساؤلاته وبين المشهد الخاص القائم على تملي الذات من خلال حلم كبير تنصهر فيه الجلود والعظام، وتنبجس منه عين ماء، تتضافر فيها الأيدي، وتتوضأ منها القلوب والأرواح ..
فلابد من طرح الفكر حتى يحس الشاعر بصوته وهو يقرع الآذان، في مواجهة الموقف المسيطر من الخارج، ودخولا في بوتقة الحلم .. ولعل تقسيمات الديوان الأربع تُجلي هذه النقطة .. وكيف مزج الشاعر إطار الموقف بالحلم بحيث لا نستطيع الفصل جيداً بين الذات والموضوع، فنجد "حدائق الصوت ـ زهور بلاستيكية ـ من دفتر العشق ـ تجليات الواقف في العراء"، وبها تتضح محددات المشهد الشعري عند حسين علي محمد، واستبصاره جيدا لموقف الانفلات من الذات المحطمة أحياناً لإمكانات الشاعر، إلى الدخول في الهم الجمعي الذي ظل يؤرق الشاعر كما يُحدثنا في قصيدة "ثرثرة في كراسة عنترة" من تقسيمه الثاني"زهور بلاستيكية".
مايو يطوي صفحته السوداءَ ،
يُحاولُ أنْ يقتلعَ جذورَ الحزنِ من القلبِ ،
ويعشقُ "عنترةُ" الحرفَ
جمالَ اللفتةِ ،
صدقَ النبضةِ ،
نزقَ الرغبةِ ،
دفْءَ الصدرِ ،
يُحاولُ أنْ يهرعَ للقرآنِ ،
ويجري للطرقِ الوعرةِ ،
تنطلقُ الشمسُ حصاناً يخترقُ جبالاً ومفاوزَ (2)
فبمجرد استدعاء عنترة بدلالاته التراثية، ومخاوفه، وأحزانه، ومحاولته أن يهرع للقرآن، يُفجِّر القضية المحورية عند الشاعر ـ كما أن الإحساس بالهزيمة أو الانهزام الذي يرزح تحته معظم شعراء جيل حسين علي محمد والأجيال التالية ـ لم يعُد إحساساً هُلاميا ناتجاً عن تحولات في الذات .. أو لموقف صوفي متوغِّل في الانغلاق والغموض، ولكن الوطء الذي ترزح تحته الأرواح بين جدران الأرض / الوطن، أدخل الإحساس المُلازم لقضايا الإبداع وخاصة في مصر .. فهناك من الشعراء من يبوح بذلك في القصيدة بوحاً تاما، ويضمنها الموقف الشعري، ومن الشعراء من يلوذ بالصمت والانغلاق والتستر وراء الكلمات والتخوم والأطلال التي تعبث بظلال القصيدة، "لذلك تتبدّى كما لو أنها حركة اجتياح لما يظل محتمياً بالصمت لا يطاله الكلام العادي، أو حدث استدعاء للغياب الكامن في الحضور"(3)، وشاعرنا يبوح بذلك كما لو يبدو مؤمناً ـ وقد بدا ذلك فعلاً ـ بعدم الصمت والانغلاق والتستر وراء اللغة:
أتسكّعُ تحتَ الجدرانِ وحيداً منهزما
أمشي بينَ قوافلِ غزلاني
أحرفِ شعري
أقطرُ حزنا ودَما
لي ولَعٌ بالأبيضِ إذْ يخترقُ الأسودَ
كالنَّصْلِ
ويمشي منتَشِياً مٌنهزِما !

هذي سنةُ الحزنِ ،
لماذا لا تُؤويني الكلماتُ بمحرابِ هواها
جُرحاً ملتئما ؟(4)
وهكذا ينفتح فضاء القصيدة لتبدو رؤية الشاعر واضحة جليلة، دون خوف أو مراوغة أو حجب، ولكنه فضاء يوحي بسطوة هذا اليقين الذي افترضناه في البداية.
وإذا تحدث الشاعر عن "الجواد المكسور"، و"تجليات الواقف في العراء"، و"الطوفان .. ومدن الوهم"، و"أقوال غيلان" فإن موقفه يبدو ساطعاً في إطار همِّه الذاتي، أو تكون الذات هي المحور الذي تنطلق منه تجلياته نحو المستقبل والإنسان، ونحو اللفظة الشعرية ومكاشفة الواقع، ومزج الخيال بالحزن، والحزن بالرغبة المسيطرة في حلم نظيف.
يبقى أن أقول في إطار موقف الشاعر الدكتور حسين علي محمد أن التصنيف الأدبي حيال نصوص شاعر مثله لم يعُد صحيحاً، لأنه يجمع في النص الواحد اشتعالاته المتطايرة، بمرايا الماء الراكد، وأنفاسه اللاهثة بلحظات النشوة، في صراع دائم مع الحزن والعبقرية والرحلة والتفوق، فلا مجال إذن للتصنيف. والتصنيف الذي أعني ليس التصنيف المذهبي "كحركة أدبية تقوم على وجود نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، والمجتمع المحيط"، كما يقول شكري عيّاد(5). ولكن تصنيف الشعراء بين الرومانسي والواقعي لم يعد هذا أوانه.
أما الإطار الثاني وهو إطار اللغة فإن ديوان "حدائق الصوت" يعد الوحدة الحية التي جمعت بين صرامة طرح الفكر وروعة البناء الشعري، وفيه أيضاً تتحطّم أغلال الملل من الصور الكلاسيكية الميتة، وبُعداً عن رضوخ الشعراء للألفاظ المعجمية التي تحجب الرؤية.
والصورة في الديوان تحمل من الدلالات النفسية الناتجة عن تجانس الصوتي مع الاختيار الأمثل لحركة "الفونيمات" و"المورفيمات" بين ثنايا النص، والوعي بحركات الإعراب والمد كما في "صرخة أولى":
يُباغِتُني توهُّجُ لفظِها النشوانِ
بينَ شقائقِ النُّعمانِ
والريحانِ
أُغنيةً .. مواويلا(6)
فمن ناحية لا يخيب طموح القارئ في رصد حركة التوقع التي تأتي أحياناً من تراث القصيدة العمودية، فلا يحرم النص من إيصال التجانس اللفظي إلى مسامع قارئ ليس له شغل كبير بالشعر الحديث. إلى جانب تصفية الأسلوب ورغبة المباغتة من قوله "أُغنيةً .. مواويلا" بما يحمل المعنى من ترادف، ولكن مع وجود فاصل البياض الذي يعكس بدوره حركة النفس، وأيضا في قوله:
وفيها العصْفُ
فيها القصْفٌ
وهكذا ينمو لدى الشاعر إحساس بتوهج المعنى من خلال تبادل المواقع بين الصوامت / المجهورة في اللغة العربية.
أما الإضافات التي تحمل ظل الحداثة الشعرية في إطار اللغة أيضاً، وتجاور البعيد، وبعد الغريب، مع التجسيد والتشخيص، وتراسل الحواس، والدلالات المتناقضة في الصورة الشعرية القائمة على تملّي الواقع والحلم مُحاولة المزج بينهما، فهي كثيرة، مثل: فتحتُ السترةَ للريحِ وبُحت، رأيتُ القلب، أبصرتُ الماءَ يُحاورُ قيْظي، والحلم الأخضر يجتاح الجسد(7).
وهكذا تحس ببدائية اللغة وبداوتها في آن واحد، وسيولتها وحركتها وعصريتها، بعيداً عن اقتناص الصور القديمة والسطو عليها، وبعيداً عن البهرجة اللفظية القائمة على الشكلانية الموغلة في الانغلاق بحيث يصبح النص مجرد لغة فقط.
وبعد، فإن "حدائق الصوت" ديوان جدير بالدرس والقراءة لشاعر هام من شعراء السبعينيات في مصر.
محمد زيدان
...................
(1) نشر في «المسائية» (السعودية)، العدد (4301)، في 16/4/1996م، ص11، كما نُشر في العدد الخامس من مجلة «فاروس» (الإسكندرية)، يناير 2001م.
(2) حسين علي محمد: حدائق الصوت، ط1، دار الأرقم، بمصر 1993م، ص128.
(3) محمد لطفي اليوسفي: لحظة المكاشفة الشعرية، الدار التونسية للنشر، 1992م، ص23.
(4) الديوان، ص151.
(5) د. شكري محمد عياد: المذاهب الأدبية والنقدية، عالم المعرفة، سبتمبر 1993م، ص62.
(6) الديوان، ص183.
(7) الديوان، ص187.