السلام عليكم
قرات في اسلام اون لاين مقالات اعجبتني احببت نقلها

حب الإنترنت.. كلمات بلا حرارة
2006/04/23
جمال عبد الناصر**




"خلي بالك..

أنت مراقب..

نملة ماشية وراك..

علشان أنت سكر..."

............

"وينك يا خفيف الدم يا أبو ضحكة تزيل الهم"...

"يا شيخ خلي عندك دم"....

قد تجد هذه الرسالة موجودة ضمن بريدك الإلكتروني، وقد تجدها على تليفونك المحمول، وعندما تجد ذلك قد تقوم بإرسالها إلى الكثير من أصدقائك، وهؤلاء يرسلونها إلى أصدقائهم، وهكذا حتى تصبح شائعة، ولا تُنسى إلا عندما تخرج رسالة جديدة فتسير في نفس الطريق المعتاد.

وهنا تطرح عدة أسئلة في مقدمتها: مدى تأثير الثورة التكنولوجية على أدب الرسائل كفن أدبي كان له سماته ومبدعوه أم لا؟ وتأثير ثورة الاتصالات على مشاعر البشر، وهل أصبحت المشاعر في عالم ما بعد الحداثة أشبه بالسلعة القابلة للتداول على نطاق جماهيري واسع، ومن ثم أصبحنا نعيش في فترة "قولبة المشاعر وتنميطها"؟.

والواقع أن ثورة المعلومات أحدثت انقلابا في شتى مناحي الحياة؛ فأثرت تلك الثورة على العمل، وعلى الإنسان عموما؛ بل انعكست على عواطفه وشعوره وأحاسيسه، كما أثرت كذلك على شتى فنون الإبداع والأدب والفنون.

فلئن تفوق الإنسان بمساعدة الكمبيوتر في فن الرسم وغيره أو ما يعرف بالجرافيك أو المالتيميديا، فقد ضحى بفنون أخرى كان لها شأن في القدم بل كان لها فنانون شبه مستقلين لها، فإذا كانت التكنولوجيا تخلق وظائف وأدوارًا جديدة للبعض فإنها في المقابل تقضي على وظائف وأدوار أخرى.

المحمول.. ديوان الحياة المعاصرة!!

وقد عرف الأدب العربي لونا فنيا وأدبيا مميزا هو "أدب الرسائل"، وكان من أبرز رواده عبد الحميد الكاتب، وعبد الله بن المقفع وغيرهما، كما عرف الرسائل بين المحبين والعاشقين والتي كانت تفيض فيها المشاعر بدرجة كبيرة جعلتها تدخل ضمن التاريخ الأدبي العربي، وقد ذكر ابن حزم الأندلسي الكثير من رسائل المحبين في كتابه "طوق الحمامة".

وفي وقتنا الحالي شهد "أدب الرسائل" وكذلك الكلمة المكتوبة تراجعا مؤلما في دورهما الحيوي بين المحبين والمتراسلين، منذ ازدهار الهاتف السلكي العادي، ويكاد كلام العشق المكتوب بأحاسيس مرهفة يصاب بمقتل مع ظهور خدمات الهواتف الجوالة والرسائل القصيرة عبر البريد الإلكتروني.

فأضحى، وخلال فترة قصيرة، للهاتف شعراؤه وكُتّابه المجهولون الذين يبدعون على مدار الساعة رسائل ساخنة وباردة، وقصائد فيها من اللوعة، بقدر ما فيها من الطرافة، وأحيانا السماجة إلى حد الغلظة، وإطلاق نكات تواكب ما يجري في المجتمع من أحداث كبرى وصغرى، وكأننا أمام ديوان معاصر سريع خارج إطار الثقافة المتعارف عليه.

الحب.. رنات.. ونغمات

وإذ تناولنا موضوع "الحب" بعدما تحول في عصرنا إلى مناسبة عالمية ووقتوه بزمان وجعلوا له عيدا، فإذا توقفنا عند ما يجري تبادله من رسائل بين العشاق والمحبين، فسوف يذهلنا حجم ما تشغله هذه الثقافة المحدثة من حيز ومكان، وما ترسخه من قيم في أدب التواصل وبث المشاعر، رغم عدم أخذها على محمل الجد؛ إذ لم يعترف بوجودها بعد إلا كوسيلة ترفيه وتسلية، لكن حتى هذه التسلية الجانبية راحت ملامحها تتبلور على نحو سريع، لتأخذ شكل ثقافة شعبية شبابية جديدة، خارج سياق الثقافة المتعارف عليها، وتنطوي على مدلولات كثيرة، وهي تكشف عن عمق القطيعة بين ثقافة الجيل الجديد الناشئ والثقافة المعاصرة والموروثة على حد سواء.

وفي حين كان الشباب في عقود ماضية يتبادلون قصائد للشاعر نزار قباني، تكاد قصائده في هذا الزمن تختفي من دفاتر "المحمول" لدى الشباب والمراهقين، اللهم إلا ما غناه مغنون التزموا الفصحى في غنائهم ككاظم الساهر وغيره.

فالآن، صار التواصل العاطفي يتم في رسائل المحمول، بطريقة جديدة إما إرسال نغمة أو مقطع من أغنية، هي بمقام الفاكهة، لا تأتي غالبا معبرة عن شوق وفراق، وإنما بعد سلام وكلام وأحاديث مطولة من خلال التلاقي المباشر أو عبر الهاتف أو الإنترنت أو قل عبر اللقاءات الآلية السريعة.

ومن نماذج الرسائل بين المحبين: "يا قطعة من كيكة! يا صوت مزيكة! يا حبة مكنتوشة! وصارت عليها هوشة! نقشت اسمك على الثلج وحبرته بدمي"!! تخيل روعة المنظر حروف بثلج حبرها الدم!!.

ومنها "قبلت أموت في قلبك وأشيلك روح في صدري وأداري الهم بعروقي ولا أشكي"، و"عقل تاهت أفكاره وقلب فارق دياره والجار نسي جاره والغالي مدري وش أخباره؟"، و"كتير الناس من حولي ولكنهم علي أغراب، وكل أحبابي لو جوني أظل لشوفتك أشتاق"، و"أبصرخ، أحبك موت، وإذا خانني الصوت، باكتب حروفها بدمي، وأودعك وأموت"، و"يا عين ادمعي، ويا آه من صدري اطلعي، كل الأحبة تجمعوا وأنا حبيبي ما هو معي".

"طوق المحمول".. وليس الحمامة

ومن هنا أصبحت الكلمة المكتوبة تفقد الكثير من معناها وحرارتها وجرسها وصدقها الفني، خاصة بعدما بات رسول المحبين هو الهاتف الجوال، وشتان ما بين هذا وشروط سفير العاشقين الواردة في كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم، رحمه الله.

هذه المواصفات لكلمات المراسلة وغيرها، لم تعد ذات فائدة، مع وجود مواقع على الإنترنت تزود المحبين برسائل جاهزة مصنوعة كالقوالب الجامدة، حيث لا إبداع فيها ولا عاطفة، بل إنها مفصلة حسب الطلب والموضوعات، وبمجرد وجود تلك الرسائل على جهاز من الممكن أن تنتقل إلى سائر المستخدمين، ويقوم المستخدمون بتوزيعها على بعضهم البعض، فتغنيهم عن العودة إلى كتب الأدب والشعر، وإلى من أبدعوا بالكلمة ووصفوا أروع المشاعر.

إن كثرة تداول مثل تلك الرسائل وسهولة ذلك جعل المستخدمين يستغنون حتى عن البحث في الإنترنت عن رسالة مميزة؛ إذ أهم ما يميز ثقافة الجوال هو الكسل والخمول والركود، بكل معنى الكلمة، وبمجرد أن تصل إلى الجهاز رسالة تنال إعجابك ترسلها إلى الآخرين، وذلك دون مراعاة الآثار التي قد تحدثها الرسالة في نفس المستلم الآخر.

إن الخصوصية في الرسائل الغرامية صارت عامة؛ بسبب سهولة تداول المشاعر الخاصة، فأصبحت النفس مفتوحة على العالم وأصبحت نفسها قابلة للالتقاط أي شيء؛ ولذا غابت عنها تلك التعبيرات التي تخص صورة المحبوب الوحيد والأوحد، كما ظهرت في غزل الشعراء القدامى والمحدثين، مثل التغزل بالقامة والعين والثغر والشعر، أو أي من صفات المعشوق، أو كما قال الشاعر الأندلسي:

غزال قد حكى بدر التمام *** كشمس قد تجلت من غمام

سبى قلبي بألحاظ مـرام *** كقد الغصن في حسن القوام

فمثل تلك الصور لم تعد متاحة في عصر العولمة عصر السرعة والارتباك، وجمود العواطف؛ فالحب في أدب الرسائل القصيرة صار حبا آليا إن صح التعبير.

إن ما تفتقده لغة الرسائل القصيرة في عصرنا هذا، ليس سحر الكلمة فقط، وإنما عمق العاطفة، مع أن الكلمات تأتي أحيانا مفاجئة بجرأتها المتوارية خلف طرافة اللفظ وابتذال المعنى.

بل إن أدب الغزل في الجوال، لا يتوانى عن شقلبة المعاني، وتمني الموت للمحبوب: "ليتني قطرة من دمك، واستقر بقلبك وأعملك جلطة. المرسل: عاشق نذل"!!!.

هكذا انحدر الذوق الأدبي في الرسائل الإلكترونية الهاتفية أو البريدية... إلى هذا المنحدر وهذا المستوى الهابط الجامد الذي يخلو من العواطف الصادقة تماما، اللهم تلك الرسائل الإلكترونية المصنوعة، وتخلى كذلك عن السمت الأدبي والذوق الرفيع الذي كانت تعرف به الرسائل في القديم.

وجبات العشق السريع

إن واقعنا الذي تحركه عجلة الاستهلاك والهيمنة المادية الطاغية حيث الطغيان الرأسمالي، لا بد له أن ينتج ثقافة تعبر عنه، تتمثل في عناصر عدة، أحدها لغة تحيلنا إلى صورة واهية تضيع معها الهوية والجوهر، فتأتي كلمات الحب وأشعاره سطحية ساذجة بل ومضحكة، مثل: "أنا عمري بقايا شمع - أحرقني الأسى والدمع - إذا ما فيك ترحمني - احرق ما بقي مني".

إن الهزال والضعف هنا ليس في بلادة التعبير وجمود العواطف فحسب، وإنما أيضا الرياء الذي يدل على شدة المبالغة، في وجبات العشق السريعة، وبالتالي لا أهمية لجزالة اللغة ولا لبيان المعنى في رسالة المحب المقتضبة، طالما أن الأهم هو الاطمئنان على أن الحبيب أو المرسل ما زال بخير، أو ما زال يبدأ رسائله بحبيبتي، أو تسلم الرسالة أو فتح بريده الإلكتروني؛ وهو ما يكشف عن فراغ في القلوب والعقول، وجفاف المشاعر، وعدم قدرة النفس على أن ترتوي من الأدب الجيد والإنساني.