( ننقصها من أطرافها )
أو
( يأخذهم على تخوّف )
قد غدا من ضروب اللغو واللّغط ، ومحض الضلالة والغلط ، اعتقاد الظلمة أنّ ملكهم سيظلّ في مأمَنٍ ما داموا متمركزين في القلب والوسط ، وسط البلاد مُحْكِمي القبضة على رقاب العباد ، وعَزبَ عنهم أنّ عزّ ملكهم وديمومته مرهون باتباع المنهج الوسط ، وليس بالركون إلى ما هم فيه من حَوْل وطوْل وكثرة أتباع ، ونصرة أشياع ، وسعة متاع ، ومعاقل تنكيل وبطش فقط !
وأنهم ما لم يسيّجوا ملكهم بالعدل ، ويزخرفوه بالعطاء والبذل ، ويصونوه بالمنهج القويم ، ويسوسون رعاياهم بالقسطاس المستقيم ، إذ تلكم هي سبل الإنقاذ ، لمن لجأ إليها ولاذ ، وإلا فمن أدبر واستكبر، فعمل بغير هذا يكون قد تمادى في الغيّ والشطط ، وذا كله مؤذن بأنّ عهد سؤدده وعقد مُلكه قد رثّ حَبْلُه فانفرط !
فذا حكم من بيده مقاليد الأمور ، فليرقب الظلمة حينئذ يوم الانتصاف ؛ يوم تأتي ثورة الشعوب بالحق ، فيدبّ العطب في الأطراف ! مجاراة للسنّة الربانيّة التي كشفتها الآية القرآنيّة ( أو لم يروْا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب ) ( الرعد41)
( نأتي الأرض ) : إتيان بأس من شأنه أن يُردي الظلمة في وِهاد اليأس ، وليبدأ يدخل عليهم في ملكهم الاضمحلال والنّقص !
( ننقصها من أطرافها ) : فيدبّ في ملكوت الظلمة الاضمحلال ؛ اضمحلال في مساحة الفكر : إذ تنبذ الشعوب قناعتها بحكّامها الظلمة !
اضمخلال في ميدان الشعور : فتنعقد في قلوب الرعيّة عداوة هذا الصنف من الحكام وشنآنهم !
اضمحلال في رقعة التأييد : فينفضّ عن الحكاّم الظلمة أشياعهم ! بل ومَنْ كانوا يوالونهم !
اضمحلال في بقعة السيطرة : لتخرج الأمصار تدريجيّا من حوزة سلطانهم !
ولِيُري اللهُ الظلمة مِن رعاياهم المستضعفين ما كانوا منهم يحذرون !
وليس هذا فقط بل ولتنزل في ساحة الحكام الظلمة وأعوانهم سنة مضاهية لهذه السنّة كشفها قول مولانا ( أو يأخذهم على تخوّف ) ( النحل 47) والتخوّف كما قال ابن عباس ومجاهد : ( التنقّص ) ( تفسير الطبري 14/113) إنها سنّة التخوّف ، تلك السنّة التي تنطوي فيما تنطوي عليه في هذا السياق : خلْع السادة ، وذلّ القادة ، وانهيار السيادة ، فلم يعد ينفعهم وقتها تصنّع في الإصلاح وتكلّف ، ولا مراوغة لرعاياهم يظهرون لهم من خلالها زيف التزلّف ..
سنة التخوّف : حالة تحوي الدواهي ، تلك الدواهي مربوطة أعناقها بأعناق بعض ، كلما حلّت بالظلمة وأشياعهم داهية تبعتها أختها!
سنّة التخوّف : حالة تنقّص في الحوافّ والأطراف ؛ أي الأخذ شيئاً فشيئاً !
والتخوّف بحدّ ذاته نوع من العذاب لما فيه من تألّم القلب ومشغوليّة الذهن !
وفي قوله تعالى : ( أو لم يروْا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب ) ( الرعد41) فالله تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ، ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم ، فهو تنقص في أموالهم ، وانخزال في سلطانهم ، وانخذال في أنفسهم ومناطق نفوذهم ، قليلا قليلا حتى يأتي الفناء على الكلّ !
فسنّة نقص الأرض وسنّة التخوّف سنتان مُؤذِنتان للحكّام الظلمة بتغيّر حالهم ، وتبدّل دارهم ، وبؤس متقلّبهم ، وشؤم مثواهم ! ودوران دائرة السّوْء عليهم !
سُنّتان تقلبان موئل القِرى والأضياف ، إلى مضارب عجاف ، وتقطّعٍ في الأطراف ! بموجبهما يصبّ الملك الجبّار على الطواغيت الظلمة سطواتِ قدرته ، وتمسّهم نفحاتٌ من عذابه ونقمته ! ويُسَرْبَلُ بموجبهما الطغاة سرابيل الخيبة والخسران !
فانتقاص أحوال الحكام الطواغيت وازدياد قوّة شعوبهم المستضعفين من أقوى العلامات والأمارات على زوال ملكهم ، وجعْلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين ، ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين !
فللشعوب المستضعفة عزّ وإقبال ، وللحكام الظلمة قهر وإذلال !
وبعد : فإذا ما أوتي مُلْك الظلمة من أطرافه ، ودبّ العطبُ في حوافّه ، فذا يعني أن تباشير تصدّعه قد لاحت ! وأمارات انهياره قد بانت ، فساعة التغيير وقتئذ قد جاء أشراطها !
عندها يطفق كلّ طاغوت يبغي الخلاص ، ولكن هيهات هيهات ، فلات حين مَناص !