جولة في المدينة الفاضلة .. قصة .. مهنا أبو سلطان ..!!
حين أيقظتني زوجتي بطريقة عنيفة صارخةً بي أن أنهض بسرعة .. قفزتًُ من سريري مرعوباً كمن لدغته عقرب في مكان يُمنع البوح باسمه من جسده .. نصف مغمض العينين .. تعثرت بحافة السرير وسقطت أرضاً .. ثم سألتها بخوفٍ وقلقٍ باديين على وجهي :
ـ ماذا حدث يا امرأة ؟؟ .. هل انقسمت المدينة مرة أخرى بين " ريال" و " برشلونة " .. وبدأوا باستعمال العصي والأحذية مثل المرة الماضية ؟؟ أم ازداد ثقب الأوزون اتساعاً ؟؟ .. هل تم الصلح الأبدي بين فتح وحماس ؟؟ أم قررت إسرائيل الانسحاب من الضفة ؟؟ .. هل مات عبد الباري عطوان ؟؟ .. كيف تخفي عني خبراً كهذا ؟ .. من الذي طعنه ؟..!!
ضحكت مني ومن تساؤلاتي العديدة وقالت :
ـ لا شيء من هذا حدث .. ولكن هل نسيت أن اليوم موعد تسجيل طفلتنا " سحر " في سجل المواليد ؟؟ هيا بسرعة اذهب إلى الأحوال المدنية لتسجيلها ، فالساعة الآن بعد التاسعة بقليل .. ونحن لدينا الكثير من الأعمال اليوم لإنجازها .. قلت وقد تحلل عقلي .. وشتمت – في سري – اليوم الذي تزوجت فيه .. ثم لملمتُ أشلائي وخرجت أهمهم بكلماتٍ محظورة دولياً ..
استقللت سيارة أجرة .. وحين وصلت المبنى الحكومي ، رفض السائق تقاضي الأجرة .. عقدت الدهشة لساني .. ماذا تقول ؟؟ قلت له ، ثم ألححت عليه ، فحلف بالطلاق ثلاثاً وأربعين قائلاً :
ـ يا رجل حرام عليك .. دعني أكسب بعض الأجر والثواب .. وأنت يبدو عليك شاب محترم .. شكرته وأنا مبهور لما جرى ..!!
دخلت الممر الرئيسي المؤدي إلى قاعة الانتظار .. سكون يخيم على المكان .. لاصوت .. لا ضجيج .. أمعقول أن لا يكون هناك مراجعون ؟؟ وحين دخلت .. فوجئتُ وارتسمت الدهشة على كل ملامحي .. المراجعون يجلسون بهدوء .. كلٌ منهم يحمل كتاباً ويقرأ بصمت ٍ ريثما يأتي دوره .. لم أستسغ الموضوع .. لم يركب على دماغي العفن .. هل أنا في السويد ؟.. تنقلت بينهم .. أستطلع ما يقرأون وأنظر إلى عناوين الكتب التي في أيديهم .. سيدةٌ جميلة .. تقرأ كتاب " الأمير " لميكيافيلي " .. رجل في منتصف العمر يقرأ " ديوان محمود درويش " .. آنسة في مقتبل العمر وضاءة السحنة تقرأ " درب للموت ، درب للحياة " لعزام أبو الحمام .. رجل آخر في الأربعينات من عمره يقرأ رواية " العنكبوت " لسليم عوض عيشان .. شيخ طاعن في السن يتصفح " خريف الغضب " لحسنين هيكل .. وغيرهم .. كلهم يدفنون وجوههم في بطون الكتب .. شاهدوا الحيرة باديةً على وجهي .. فقالت السيدة التي تقرأ " ميكافيلي " :
ـ إذا أردت فادخل قبلي لا يهمني الدور فأنا أستمتع بالقراءة .. وحذوا حذوها جميعاً بصوت واحد .. شكرتهم من القلب وأنا غير مصدقٍ لما يجري ..!!
ـ دخلتُ بعد أن غمزتُ الفتاة الحسناء التي كانت تقرأ مجلةً " زهرة الخليج " .. فاحمرّ خداها نشوةً .. أنهيت معاملتي .. وأردت العودة للبيت لإكمال ما علينا من عمل .. لكن فوجئت باتصالٍ من زوجتي تقول أنها ألغت كل أجندتها لهذا اليوم وباستطاعتي الذهاب حيث أشاء .. لأن هناك في المدينة حملة نظافة وتريد المشاركة فيها .. شكرتها وقلت في نفسي سأذهب لزيارة صديقي " نادر " ..!!
انطلقت وركبت أول حافلةٍ للنقل العام .. كانت مليئةً بالركاب ولم أجد كرسياً واحداً شاغراً .. وقام السائق بالاعتذار لي بشراسة محاولاً تقبيل يدي فمنعته وقد غمرني الخجل .. فنهضت إحدى السيدات وأقسمت بالله العظيم وأنبيائه أولو العزم أن أجلس مكانها .. فاحتجّ أكثر الركاب .. كلٌ يريد أن يُجلسني مكانه .. وتعالت الأصوات حتى كاد الأمر يتطور إلى أزمة سياسية لولا لطف الله وذوق الركاب العالي .. حتى أن أحدهم صفع الآخر على وجهه .. إلا أن المضروب اعتذر للضارب .. مبدياً أشد الأسف لتسببه بإثارة عصبيته ..!! انتفض رأسي بقوةٍ .. ما هذا الذي أشاهد ؟؟ أكل هذه المسلكيات الحضارية هنا ؟؟ في بلادي ؟؟ ليست في هولندا أو بلجيكا ؟؟!!
نزلنا من الحافلة .. وأخذت أتمشى على الرصيف وقد عدلت عن زيارة صديقي نادر .. لأرى ما طرأ على المدينة من تغيراتٍ بين ليلةٍ وضحاها .. مررتُ بالقرب من ثلاثة شبانٍ تمشي خلفهم فتاةٌ تلبس تنورةً قصيرةً جداً تكشف ثلثي فخذيها .. وقميصاً يكشف نصف نهديها .. وأخذت تغازلهم وقد احمرت وجوههم .. وأخذوا بالاستغفار لأنفسهم ولها .. ثم هربوا جميعاً راكضين وهي تجري خلفهم .. فضللوها ونفذوا بريشهم ..!!.. فركتُ عينيّ بشدة .. هل أنا في حلم ؟؟ .. هل هذا الذي يحدث أمام عيني واقع ؟ .. يممتُ نحو مقهى للانترنت لأقضي بعض الوقت .. تجولت بين رواد المقهى .. وصرت أختلس النظر إلى شاشاتهم .. عجباً رأيت .. ومعجزةً شاهدت .. غالبية الشباب يراسلون الشيخ " محمد حسان " يسألون عن مسائل فقهيةٍ أعجزتهم .. هناك في الزاوية شاب يفعل شيئاً .. تسللت نحوه .. رأيته يدخل غرف المحادثة على " مسنجر ياهو " .. فجأة جاءته رسالة تقول : ممكن نتعرف ؟ كتب رده يقول : أوكي طبعاً ، من معي ؟ جاءته كلمات الرد " انا فتاة 22 من الأردن " .. كتب لها : أعتذر .. لا أكلم الفتيات أو النساء .. كدت أخرق السقف عجباً .. هل يُعقل ما يحدث ؟؟ خرجت إلى الشارع لأجد أحد ألأشخاص وقد أحاط به بعض الرجال .. وقد علت أصواتهم .. ثم فهمت أنهم يضغطون عليه للقبول بترشيح نفسه رئيساً للبلدية .. وهو يرفض ذلك بشدة .. ثم قال لهم بعنف :
ـ يا جماعة أنا لا أريد ما يقيدني بمسؤولياتٍ أنا في غنى عنها .. والله لو عثرت نعجةٌ في الإمارات العربية لسألني الله عنها لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا تامر ؟ ثم أنا لا أعتقد أنني أصلح لهذا الأمر ..!! تركوه آسفين .. وتركته أنا معجَباً بالتزامه وخوفه من الله ..!!
توجهت إلى المقهى القريب .. ولحسن حظي وجدت صديقي نادر يحتسي اليانسون .. دعاني للجلوس .. وطلبت كأس عصير .. قال لي مبتهجاً :
ـ لقد حصلت على التأشيرة .. أريد ان أهاجر خلال أسبوع .. إلى الدانمارك .. سررت جداً لهذا الخبر فأنا أعلم انه يحاول الهجرة منذ سنتين .. فقلت باسماً :
ـ وأخيراً ستودع حياة البؤس هنا ؟ قال بأسف :
ـ لا تقل ذلك .. لا تظن أنني أهاجر من أجل حياةٍ أفضل .. أنا أهاجر لله ورسوله .. من أجل أن أقوم بالدعوة للإسلام هناك .. كدت أنفجر غيظاً وقلت :
ـ أفهمني ماذا يجري في هذه المدينة ؟؟ وحدثته بما رأيت وسمعت .. فضحك وقال :
ـ يبدو أنك لم تزر وسط المدينة منذ زمن .. لقد تغير الناس يا صديقي .. وأصبحنا من الأمم المتحضرة .. هيا بنا .. قلت :
ـ إلى أين ؟ قال : ـ إلى صديقنا ممدوح سأريك شيئاً لا تتخيله .. انطلقنا .. وجدنا ممدوح يجلس تحت شجرة التين في فناء منزله ويبكي وينتحب ..
فوجئتُ بالمنظر الغريب .. ودمعت عيناي .. قلت لنادر متخوفاً :
ـ ماذا جرى له ؟ ولم البكاء ؟ هل مات والده أم والدته ؟
ـ لا لم يمت أحد .. إنه يبكي لأنه منذ الصباح لم يأته ضيفٌ واحد ليطعمه .. كل يوم هو على هذا المنوال , يجلس تحت شجرة التين يقابل الطريق لعل وعسى أن يصادف ضيفاً فيقريه ..
ـ سننتصر في أقرب وقت .. قلتها بصوتٍ عالٍ جداً وقد أخذني الحماس .. ثم قلت لممدوح :
ـ لا تحزن فنحن ضيوفك الآن .. نهض مستبشراً فرحاً .. واتانا بطبقٍ مليء بالهامبورغر والبيتزا والكنتاكي .. ثم انطلقنا قافلين ..
توجهنا نحو شارع المركز النسوي .. حيث هناك داراً للسينما .. كي نستريح ونشاهد فيلماً ممتعاً .. ففوجئنا بالكثير من النسوة يعتصمن أمام المركز النسوي .. ويرددن شعارات منددة بالرجال .. كدت أنطلق هارباً لولا أن أمسك صديقي نادر بقميصي بشدة مما أدى إلى قدّه من دبرٍ .. وقال لي : ـ لمَ أنت خائف ؟ قلت : ـ ألا تراهن .. متأهباتٍ ينددن بنا ..؟؟ قال : ـ لا تخف .. لا أحد يخيف أحداً .. هذه وسيلة حضارية للتعبير ، دون اللجوء إلى العنف .. فتذكرت كيف أيقظتني زوجتي هذا الصباح .. ثم بدأنا نسمع هتافاتهن .. كن يهتفن بضرورة تعدد الزوجات .. ويصفن الرجال الذين يكتفون بزوجةٍ واحدةٍ بعدم المروءة وقلة الشرف .. إحداهن كانت تبكي بمرارة .. ولما تجرأ صديقي وسألها عن السبب زاد نحيبها وقالت :
ـ زوجي .. زوجي يا سيدي .. قال : ـ ما به ؟ هل اختفى في ظروفٍ غامضةٍ لا سمح الله ..؟ قالت :
ـ لا .. ولكنه تزوج عليّ زوجةً واحدةً فقط .. وكم ألححتُ عليه أن يتزوج الثالثة والرابعة لكنه يضطهدني ولا يستجيب لنداءاتي المتكررة في هذا الشأن .. فبكينا لبكائها .. وسألنا الله أن يمن عليها بضرتين أخريين ، فابتهجت وقبلتنا قبلاتٍ بريئةٍ جداً ..!!
كان الوقت مساءً .. بعد الغروب بقليل .. ونحن نتجول من مكان إلى آخر دون أن نفطن أننا بلا طعام بعد الوجبة التي قرانا بها صديقنا ممدوح .. فذهبنا من فورنا إلى مطعمٍ قريب .. وجدنا الزبائن جميعاً يصلون المغرب في المطعم .. حيث لم يتمكنوا من إدراك الصلاة في المسجد .. وكان صاحب المطعم هو الإمام .. صلينا معهم المغرب .. وتناولنا وجبةً دسمةً بعد تعب نهارٍ طويل .. كدنا نقتتل أنا وصديقي من منا سيدفع ثمن الوجبة .. ولكن فوجئنا بصاحب المطعم يقول أن الحساب مدفوع .. استغربنا حين لم نجد أياً من معارفنا في المطعم ليدفع حسابنا .. فقال لنا أن أحدهم لا يريد ذكر اسمه .. هو الذي دفع .. شكرناه بسرنا ودعونا له وغادرنا ..!!
عدنا للتجوال في شوارع المدينة .. وكم رأينا من طيب الخلال .. وحسن الخصال .. حتى أدركتنا صلاة العشاء بالقرب من مسجد " عمرو دياب " الجديد .. دخلنا المسجد وصلينا العشاء وقبل أن نقوم لصلاة الوتر .. فوجئنا بهجوم المصلين على أحدهم .. وضربه ضرباً مبرحاً .. استهجنا الأمر .. وامتعضنا .. إذ كيف يضربون رجلاً يقول ربي الله ؟ حاولنا أن نفصل بينهم دون جدوى .. ولما سألنا عن السبب وراء هذا الهجوم المباغت .. قالوا أنه لم يصلِّ اليوم " صلاةً نافلةً " سوى أربع ركعات .. هذا الرجل يكاد يكون كافراً .. زجرناه بدورنا .. واستغفرنا الله له .. ثم صليت أنا ثماني عشرة ركعةً " نافلة " قبل الوتر .. وخرجنا .. أصبح لزاماً علينا أن نغادر بعضنا .. فقد تعبنا كثيراً .. وأصبحنا بحاجةٍ للراحة .. افترقنا كل نحو بيته ..!!
وقبل أن أدق جرس بابنا .. سمعت صراخاً في بيت جيراننا .. استغربت الأمر جداً .. فهم عائلةٌ راقيةٌ وثريةٌ لم يسمع أحدٌ لهم صوتاً يوماً ما .. علا الصراخ .. إنه صراخ ابنتهم هند .. أميزه .. داخلني الشك أن والديها ليسا في البيت وهناك لص استغل الفرصة .. فاقتحمت البيت لأفاجأ بوالدها ووالدتها يوسعانها ضرباً .. قلت إنه أمر عائلي .. اعتذرت بشدةٍ وأوضحت لهم سبب دخولي بهذا الشكل .. ولكن أصر والدها على أن يشرح لي سبب ضربه لها .. فقد فهمت منه أنها تريد الزواج من أحد الأغنياء .. بينما والدها يريد إجبارها على الزواج من سعدون الشحاد .. الذي يتسول رغيف الخبز من الحي .. معللاً ذلك بكثرة الثواب والأجر من جهة .. ومن جهةٍ أخرى بوجوب تزويج من نرضى دينه وخلقه .. وأضاف : إن سعدون من أرفع شباب الحي خُلُقاً .. تصور أنه يذهب للصلاة إلى المساجد البعيدة ليعد الأجر حسب الخطوات التي يخطوها إلى المسجد .. فهو نادراً ما يصلي في مسجد " مصطفى قمر " في الحي لأنه قريب .. بل يذهب إلى مساجد بعيدة مثل مسجد الحاج " تامر حسني " .. الذي بناه الشيخ تامر قبل أن يذهب إلى العمرة في العام الماضي .. ومسجد الشيخ " حمادة هلال " الذي تحجّب منذ سنتين وترك الغناء وتفرغ للدعوة ..!!
هذه القصة صادرة عن منشورات " دار الأول من نيسان للنشر والتوزيع " ..!!