كيف يمكن تجسيد أعلى مستويات مبدأ "أن الشعب هو مصدر السلطات"، تمهيدا لديمقراطية غير ليبرالية..
أسامة عكنان
سنحاول الآن تتبعَ دلالات ومتطلبات فكرة أن "الشعب هو مصدر السلطات"، وأن الحكمَ بالتالي يجب أن يكون له، لنتعرفَ من ثمَّ على ما يمكننا صياغته من آلياتٍ تُجَسِّد أقصى مدياتٍ للديمقراطية – حكم الشعب – تتجاوز المديات التي تتيحها "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، ورأسمالية الوظيفة والدور، وتكون قادرة على احتضان سيرورةِ العلاقة الجدلية بين قيمتي "الحرية" و"العدالة"، بصفتهما مُنْتَجَين حتميَّيْن لمبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة".
1 - سنفترض من باب التَّمثيل وتقريب الصورة، أن صاحبَ مالٍ أراد أن يُنيبَ عنه من يتولى إدارةَ ماله والإشرافَ عليه، وفق شروطٍ أساسية عامة ومُحددة لا يتم الخروج عليها. على أن تحدثُ كافة اجتهادات الإدارة والإشراف في ضوء دلالات تلك الشروط وإشعاعاتها وفضاءاتها. ماذا عليه أن يفعلَ، وما هي الآليات التي يجب أن يعتمدَها، والإجراءات التي يُفترض أن يَتَّخِذَها، كي يتحققَ له ذلك بأفضل صورة مُمكنة ومتَصَوَّرَة؟!
نستطيع التأكيد على أنَّ عليه القيام بالتالي كحالةٍ إجرائيةٍ تنظيميةٍ وإداريةٍ مُثْلى..
- سَيُعَيِّنُ شخصا يتولَّى المهامَ التنفيذية المباشرة التي تتطلبها الإدارة ويقتضيها الإشراف، وسيختار من بين المؤهلين لهذه المهمة من تتطابق أو تتقارب رؤيته الإدارية مع ما يطمح إليه هو كصاحب مال ومع ما يرجوه. وهذا الشَّخص يُفترض أن يكون صاحب خبرةٍ ومن أهل الاختصاص، كي يعرفَ كيف يقوم بهذه المهمة، وكي يَخلق بخصوصها رؤاه الفاعلة والمُنْتِجَة القادرة على التماهي مع إرادة صاحب المال.
- ولكي يضمن صاحب المال ضبطَ رؤى هذا الشخص التنفيذي، والحيلولة دون خروجِها عن إرادته وعن قواعده وتعليماته الأساس، ودون انسياقها وراء المصالح والنزوات الخاصة لمن ولاَّه المهام الإدارية التنفيذية، بشكل ينعكس على المال نفسه بالضرر وبالهدر الناتجين عن سوء الإدارة بأيٍّ من أشكالها، فإنه سيُعَيِّن شخصاً آخر يُعتبر أكثر تعبيراً عن إرادته الضابطة هذه، ويُمثِّل مرجعا يعود إليه المدير التنفيذي قبل التَّحَرُّك في الواقع كي تكون خطواتِه مشروعةً ومُبَرَّرَةً ومؤطَّرة ومنضبطة.
- لكن الشَّخْصِيَّة التنفيذية قد لا تكون نزيهة بالقدر الكافي واللازم للقيام بالمهمة بالشكل المطلوب أخلاقيا وقانونيا وإداريا، وقد تُمارس أعمالاً تُحاول إخفاءَها عن صاحب المال أو عن مُمَثِّله المرجعي الذي عَيَّنَه لضبط وتأطير دورها التنفيذيٍ. ولأن نَجاحَ هذه الشخصية في الإساءة إن هي قرَّرَت التلاعبَ بالمال وبإدارته على هذا النحو أمرٌ ممكن، فلا شك في أن الحاجةَ إلى شخصية ثالثةٍ تَمتلك حَقَّ المراقبة والمتابعة وكشفِ الأسرار والمعلومات ذات العلاقة، بدون منع أو حجر على نشاطها وحركتها لتبليغ المعنيين بِها، واتخاذ اللازم في الوقت المناسب، يغدو أمرا مطلوبا وحيوياٍ.
- ومع ذلك فإن خلافاتٍ قد تَدُبُّ بين هذا الطرف أو ذاك من أطراف معادلة الإدارة الأربعة المعنيين، والذين هم حتى الآن كلٌّ من "الشخصية التنفيذية"، و"الشخصية المرجعية الضابطة"، و"الشخصية المعلوماتية المراقبة والمتابعة"، و"صاحبُ المال نفسُه". فضلا عن أن مهامَّ الأشخاص الذين عيَّنهم "صاحب المال" حتى الآن قد تكشف في سياق الأداء، عن أمورٍ تتطلب الحساب والعقاب والجزاء، وهو الأمر الذي يقتضي وجودَ شخصية رابعة محايدة لا تُحْسَبُ على هذه الشخصية أو على تلك، تتولى القيام بِهذه المهمة ذات الطبيعة القانونية، عندما يدب الخلاف ويتم اللجوء إليها.
من السَّهل علينا ملاحظةُ أن كلَّ واحدٍ من الأشخاص الخمسة الواردين في مثالنا السابق تقابله مؤسسةٌ من المؤسسات العاملة في الدولة للإشراف على أدائها وسيرورةِ إدارتها.
* فالشخصية الإدارية التنفيذية تقابلُها في الواقع "الحكومة"، بكل مؤسساتها وبُناها الهيكلية.
* أما الشخصية المرجعية الضابطة فتقابلُها "المجالس التشريعية".
فيما تقابلٌ "المؤسسات الإعلامية" بكل أنواعها، شخصيتَنا المراقبةَ الكاشفةَ.
فيما تقابل "مؤسسات القضاء" المختلفة، شخصيَّتَنا القانونية التي عُيِّنَت لحسم الخلافات المتوقعة بين كافة الأفراد الذين تَمَّ ذكرُهم في المثال.
أماَّ الشخصُ الأساس "صاحبُ المال" الذي تولى تعيين الأشخاص الأربعة أنفسِهم، فيقابله الشعب نفسه بوصفه صاحبَ الدولة وصاحبَ الحق المفترض في تعيين تلك المؤسسات والقائمين عليها كسلطات تنوب عنه في إدارة دولته من خلالها.
إذن فنحن أمام شعبٍ يُعْتَبَرُ صاحبَ الدَّوْلَة ككيانٍ قانوني، وصاحبَ الحق في تشكيل النظام ككيان سياسي، يجب أن تَصْدُرَ عنه صدورا حقيقيا أربعُ سُلُطاتٍ مستقلةٌ بعضُها عن البعض الآخر استقلالاً فعليا، بِحيث لا يتمُّ تداخلُها أو أيٌّ من أفرادِها أو مؤسساتِها بأيِّ شكلٍ من الأشكال التي قد تَمَسُّ جوهرَ استقلالِها ذاك، هي "السلطة التنفيذية"، و"السلطة التشريعية"، و"السلطة الإعلامية"، و"السلطة القضائية".
وأن استقلاَلها ذاك هو نتيجة حتمية لضرورة ألا تتغوَّل أيٌّ منها على السلطات الأخرى، فتحول بينها وبين قدرتها على ممارسة دورها السلطوي بالشكل المُنْتِج للغاية من وجودها من حيث المبدأ. وهو – أيْ استقلالها – يقتضي في الوقت ذاته أن ينتخبَها الشعب كلاًّ على حِدَه، كي تكون مُعَبِّرَة تعببرا حقيقيا عن أنها "مُوَكَّلَة بالنيابة" عنه في مجالات تخصصها السُّلطوي على نحوٍ مستقلٍّ. وهو الأمر الذي يقتضي أن تكون سلطاتٍ مُختارةً من قِبَلِ الشَّعب انتخابا يعبِّر عن إرادته تعبيراً لا يرقى إليه الشك، في الحدود المادية المقدور عليها في الاختيار، بمعايير العصر، وفي ضوء ظروف الجغرافيا، وليس في أيِّ حدودٍ أقلَّ منها.
وبالنظر لأن "الديمقراطية الليبرالية" هي التي تتصدَّر الواجهة العالمية لأيِّ مطالب بالديمقراطية، وبمصدرية الشعب للسلطات، وبالفصل بين االسلطات، كتجسيد حقيقي لتلك المصدرية، فإنه يجدر بنا أن نوضِّحَ في هذا السياق أن "الديمقراطية الليبرالية" لا تعرضُ فلسفةً لتشكيل السلطات الأربع "انتخابا" أو "تعيينا" أو "تحريرا"، تقوم على وحدانية الشكل والصورة عند تشكيل السلطات الأربع.
فهي لا تتعامل بمبدإ الانتخاب الكامل لكلِّ عضوٍ من أعضاء أيِّ سلطة من السلطات الأربع المشار إليها، إلا عندما يتعلق الأمر بـ "السلطة التشريعية"، فيما يختلف الأمر جذريا وبطرق اختلاف متنوعة، عندما يتعلق الأمر بتشكيل السلطات الثلاث الأخرى، "التنفيذية" و"القضائية"، و"الإعلامية"، دون أيِّ مسَوِغٍ فلسفي مقنع لهذا التنوع في "نمط التشكيل" وفي مداه وشكله، من سلطة إلى أخرى، سوى إنتاجِ مؤسسة "إدارة السلطة" بشكل يخدم مؤسسة "إدارة الثروة". وهو ما يجسِّد "ديمقراطية ليبرالية"، لاحتضان "اقتصاد ليبرالي".
وهو ما سنعكف على تحليله لنَتَفَهَّم الركيزة الفلسفية التي يمكنه – أيْ نمط تشكيل السلطات "انتخابا، تعيينا، تحريرا"، في الديمقراطية الليبرالية - أن يقوم عليها، ومدى موضوعيتها، ومدى كون الالتزام بهذا النمط التشكيلي مجسِّدا فعليا لمبدأي "حكم الشعب"، و"الشعب هو مصدر السلطات"، اللذين يُعَبِّران عن جوهر "الديمقراطية" كقيمة إنسانية، وليس أوربية فقط.
2 - إن هناك مجموعةً من المسائل التفصيلية ذات الصفة الجوهرية والتأصيلية تنبثق عن هذه الحقيقة، لابد من ذكرها في هذا السياق كي تكتملَ الصورة، نستعرضها فيما يلي..
* لقد كرَّست "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، عرفا "سلطويا" يتعلق بإدارة "الحكم" قائما على مبدإ أن الشعب عندما ينتخب سلطته التنفيذية، يكتفي بانتخاب شخص واحد هو "الرئيس" أو "رئيس الوزراء" اللذين يتولى أيٌّ منهما بعد ذلك استكمال "تعيين" وليس "انتخاب" باقي أعضاء حكومته أو "أركان سلطته التنفيذية"، فيما تختلف المسألة برمتها عندما يتعلق الأمر بانتخاب السلطة التشريعية، حيث نرى أن "الديمقراطية الليبرالية" ترسِّخ وتكرِّس مبدأً يقوم على ضرورة انتخاب كافة أعضاء "السلطة التشريعية" فردا فردا، بل هي أحيانا تؤكد على تَعَدُّد وتنوع القنوات التشريعية لأسبابٍ معينة تحاجِجُ بها.
ثم نراها بعد ذلك لا تركز كثيرا على انتخاب "السلطة القضائية"، وغالبا ما تربطها بتعيينات تشترك فيها كل من السلطتين "التنفيذية" و"التشريعية"، بنسبٍ مشاركة متفاوتة بينهما في التعيين، وإذا لجأت إلى الانتخاب في هذه السلطة، فإنها تقتصر على انتخاب هيئات عليا ومحددة تتولى هي لاحقا استكمال بنية المؤسسة القضائية وفق لوائح داخلية هي أقرب إلى اللوائح والأنظمة الداخلية لمؤسسات العمل النقابي، لتغيَّر منهجَها بشكل كامل عندما يتعلق الأمر بالسلطة الإعلامية، مبقيةً على الأمر في هذا السياق خارج نطاق الانتخابات ومُكَوِّنات السلطة بمعناها الواضح في "التنفيذ" والتشريع"، ليغدوَ جوهر السلطة في دائرة "الإعلام" هو فقط ممارسة هذا القطاع لدوره بحرية ودون تدخل من أحد؟!
أي أن "الديمقراطية الليبرالية" تلجأ إلى استخدام أربعة طرق مختلفة في تشكيل السلطات التي يفترض أنها جميعها سلطات نابعة من مصدر واحد ووحيد هو الشعب. وهذه الطرق الأربعة هي "الانتخاب الكلي"، و"الانتخاب الجزئي"، و"التعيين" و"التحرير".
فإذا كان الشعب هو "مصدر السلطات"، وإذا كان ذلك يقتضي "فصلا تاما بين تلك السلطات"، كي يتمَّ التجسيد الفعلي لمبدإ أن "الحكمَ للشعب" بموجب فكرة "الديمقراطية" ذاتها، فما هو المبرِّر الفلسفي الكامن في هذه الفكرة – أي في فكرة الديمقراطية بدلالتها على حكم الشعب – وبالتالي في فضاءات مبدأي "مصدرية الشعب للسلطات"، و"الفصل التام بين السلطات" الناتجين عنها، والذي يُؤَصِّل ويُؤَسِّس لواقعة أن "الديمقراطية" هي فقط وتحديدا تلك الصورة "الليبرالية" المفروضة علينا بشكل فوقي واستعلائي، نمتنع معه عن إمعان النظر في أيِّ تفاصيل نابعة عنها – أي عن تلك الصورة – من مثل أن يعبِّرَ الشعب عن مصدريته للسلطات، وأن يمارس فصله التام بينها، من خلال "انتخاب رئيس السلطة التنفيذية" فقط، و"انتخاب كامل أعضاء السلطة التشريعية"، وفي أحسن الأحوال "انتخاب فئة عليا من السلطة القضائية"، وفي كل الأحوال "عدم انتخاب أيِّ عضو أو هيئة في "السلطة الإعلامية"؟!
أيْ وبتعبير أكثر وضوحا..
لماذا تَفرِض علينا "الديمقراطية الليبرالية" رؤيتَها ورؤية مخترعيها الذين بنوها في سياق التأسيس لـ "الليبرالية الاقتصادية" ابتداءً، في تحديد "أنماط تشكيل السلطات" المجسِّدة للتمثيل والتوكيل بالإنابة، على نحوٍ تُفَرِّق فيه بين نمطِ تشكيلِ سلطة وأخرى، دون أيِّ دليل يقيم الحجة على موضوعية وحتمية وضرورة تلك الأنماط التشكيليَّة؟!
ولماذا نقبل بهذا التوصيف والتحديد والتنميط "الليبرالي" لتشكيل السلطات التي يُفترض أن تعبِّرَ عن التمثيل الشعبي المُجَسِّد لمبدإ "مصدرية الشعب للسلطة"، دون أن نتوقف عنده طويلا، ونتساءل عن مثالبِه وثغراتِه وعلامات القصور فيه، لجهة التعبير الفعلي عن إرادة الشعب وعن حكم الشعب؟!
أيْ لماذا ركعنا أمام هذا النموذج "الديمقراطي الليبرالي"، إلى درجة أن أصبح نموذجا أيقونِياًّ يحظى لدينا بالقداسة، ولا يُناقش ولا يُراجع، بل يُدَنَّس أيُّ معترِضٍ عليه، وتُحصَر الاحتمالات الممكنة للديمقراطيات، فقط في تلك التي تتيحها "الديمقراطية الليبرالية" ليس إلا، في حين أن وقفةً موضوعية محايدة نحترم فيها عقولَنا، ونحمل على كواهلنا مخرجاتِها الفلسفية الواضحة، تطلعنا بما لا يدع مجالا للشك على أنه بكلِّ احتمالاته الممكنة والمتصورة في حدود مكوناته التأسيسية، سواء في "الديمقراطية الليبرالية البرلمانية"، أو في "الديمقراطية البرلمانية الرئاسية"، أو في "الديمقراطية الليبرالية المختلطة التي تجمع بين الرئاسية والبرلمانية"، هو من ألفه إلى يائه نموذج قد تمَّ تفصيله منذ قرونٍ بشكل متكلَّفٍ ومتعسِّفٍ، ليحضنَ سيرورةَ اقتصادٍ ظالمٍ أبعد ما يكون عن العدالة، هو "اقتصاد السوق/الحر/الرأسمالي/الليبرالي"، الذي أسَّسَت له "السميثية" بالغزو الداخلي القائم على مبدإ "دعه يعمل دعمه يمر"، لتؤسِّسَ له "الميركانتيلية" بالغزو الخارجي القائم على مبدإ "استعمار الشعوب وإبادتها لنهب ثرواتها ونقلها إلى الوطن الأم في أوربا"؟!
إن جوهر تساؤلنا السابق حول هذا التنوع غير المبرَّر فلسفيا في "أنماط التشكيل"، وبالتالي في طرق "الإنابة بالتوكيل" السياسي، والذي تنطوي عليه "الديمقراطية الليبرالية"، يمكن صياغته على النحو التالي الأكثر بساطة ووضوحا..
لماذا يُعبِّر الشعب عن مصدريته للسلطات، وعن فصله بينها فصلا تاما، في سياق ممارسته لحقه في تجسيد فكرة أن الحكم إنما هو له وحده قلبا وقالبا، من خلال..
* انتخابِ كاملِ أعضاء السلطة التشريعية فردا فردا..
* وانتخاب رأس السلطة التنفيذية فقط، وتخويله هو تعيين باقي أعضاء هذه السلطة..
* وانتخاب أو تعيين أعضاء أعلى هيئة قضائية، تتولى هي بعد ذلك استكمال هيآتها وأعضائها..
* وعدم قيامه بأيِّ شكل من أشكال الانتخاب لأيِّ عضو في أيِّ مؤسسة من مؤسسات السلطة الإعلامية..
وبالتالي فما الذي يسمح فلسفيا بأن يكون من حق شخص واحد أن تتولى إرادته "كاملَ السلطة التنفيذية"، رغم ضخامتها ودقتها وحساسيتها ومساسها المباشر والمتواصل على مدار اللحظة بحياة كافة أفراد الشعب، في حين أن إرادة شخص واحد لا تكفي أبدا لأن تتولى "كامل السلطة التشريعية"؟!
إذا قبلنا بفكرة أن "رئيس السلطة التنفيذية" سينفِّذُ فينا إرادتَه هو بعد موافقتنا عليها، أو بتعبير أدق بعد تطابقها فيما بدا منه خلال مرحلة عرض البرامج الانتخابية مع إرادتنا التنفيذية، وبالتالي فانتخابُنا له كافٍ في ذاته لنخوِّلَه تعيين باقي طاقمه التنفيذي، لأن الأمر لا يعنينا، مادمنا سنحاسبه هو، وأنه سيكون مسؤولا أمامنا عن إرادته تلك..
نقول.. إذا قبلنا بتلك الفكرة، فلماذا لا نقبل وبالمنطق نفسه، بفكرة أن "رئيس السلطة التشريعية" الذي يمكننا أن ننتخبه منفردا أيضا، لكي ينفِّذَ فينا إرادته هو بعد تطابقها في بدا منه خلال محاورات ما قبل الانتخاب مع إرادتنا التشريعية، وبالتالي فإن انتخابَه هو أيضا كافٍ في ذاته لنخولَّه تعيين باقي طاقمه التشريعي، لأن الأمر مثل سابقه لا يعنينا، مادمنا سنحاسبه هو، وأنه سيكون هو أيضا مسؤولا أمامنا عن إرادته تلك؟!
ولو انتقلنا إلى الوضع المقابل، والمتمثل في السبب الذي دفعنا إلى عدم الاكتفاء بانتخاب "رئيسٍ للسلطة التشريعية" يتولى هو لاحقا استكمالَ بناء المؤسسة التشريعية باختياره، كما يفعل "رئيس السلطة التنفيذية" في "الديمقراطية الليبرالية" عادة، لوجدنا أنفسنا معنيين بسحب هذا السبب وإسقاطه على "السلطة التنفيذية" ذاتها. فليس هناك أيُّ فرق جوهري – تقتضيه الفلسفة ويفرضه العقل – بين مبدإ "التنفيذ" ومبدإ "التشريع"، يوجب علينا عدم الاكتفاء بانتخاب مشرِّع واحد يتولى استكمال بناء "السلطة التشريعية"، فيما يوجب علينا أو يجيز لنا على الأقل أن نكتفيَ بانتخاب منفِّذ واحد يتولى هو لاحقا استكمال بناء "السلطة التنفيذية".
إن ما يمنعنا من الاكتفاء بانتخاب مشرِّع واحد على النحو المذكور، هو ذاته ما يجب أن يمنعنا من الاكتفاء بانتخاب منفِّذ واحد على النحو ذاته، إذا كان عدم الاكتفاء بانتخاب مشرِّع واحد له تبرير فلسفي وعقلي. كما ان ما يتيح لنا الاكتفاء بانتخاب منفِّذ واحد على النحو المذكور، هو ذاته ما يجب ألا يمنعنا من الاكتفاء بانتخاب مشرِّع واحد على النحو ذاته، إذا كان الاكتفاء بانتخاب منفِّذ واحد يملك تأصيلا فلسفيا وتبريرا عقليا.
لن نطيل الحديث في إثبات أن انتخاب مشرِّع واحد يتولى هو لاحقا استكمالَ بناء المؤسسة التشريعية، يُعْتَبَر صيغة أبعد ما تكون عن الدلالة الحقيقية للتمثيل، وللتوكيل بالإنابة السياسية في المجال التشريعي. فنحن نستطيع التأكيد على ضرورة انتخاب كافة أعضاء "السلطة التشريعية"، وعدم الاكتفاء بانتخاب واحد فقط، بالاستناد إلى ما يلي..
* إن الرؤى التشريعية في صفوف الشعب متنوعة، بسبب تنوع المرجعيات والمعتقدات والمذاهب والأيديولوجيات.. إلخ. وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون تجسيد هذا التنوع المرجعي مُعبَّرا عنه بتنوع تمثيلي يعكسه داخل المؤسسة التشريعية، وهو الأمر الذي يقضي بتعدُّد أعضاء "السلطة التشريعية"، على نحو يُصَعِّد ذلك التنوُّع المرجعي في المجتمع، وذلك من منطلق أن كل مرجعية أيا كان تصنيفها تملك الحق في العمل على تجسيد نفسها في العملية التشريعية، مادام هذا التجسيد هو الذي سيجسّد مشاركتها في إدارة المجتمع والدولة على النحو المنسجم مع بنيتها المرجعية ومع رؤاها المذهبية والأيديولوجية.
* إن التقسيم الجغرافي والديمغرافي للدولة، بقدر ما هو "ضرورة إدارية" لا محيص عن الحاجة الماسة إليها في سياق إدارة "السلطة التنفيذية" للدولة، بقدر ما يكتسي أهمية بالغة على صعيد تأثيره في إدارة "السلطة التشريعية" للدولة، عند النظر إليه – أي إلى التقسيم الجغرافي والديمغرافي – من حيث ما يترتب عليه من مُخرجات وحقوق تشريعية تؤَسِّس للمتطلبات التنفيذية وترفدُها.
فلكلِّ تجمُّع سكاني في كلِّ إقليم من الأقاليم الجغرافية للدولة – فضلا عن القضايا العامة التي يشترك فيها مع باقي أفراد وتجمعات الشعب في المناطق والأقاليم الأخرى، باعتباره وإياها أبناء شعب واحد لجهةِ تصورهم جميعا لإدارة الدولة ككل – قضاياه الخاصة ومشكلاته النابعة من واقع ذلك الإقليم على الصُّعُد الثقافية والمجتمعية والمواردية والطبيعية.. إلخ، والتي قد تختلف في القليل أو في الكثير عن قضايا ومشكلات باقي التجمعات السكانية والأقاليم والمناطق الجغرافية في الدولة.
وهو الأمر الذي يغدو من الطبيعي معه أن تَتِمَّ عملية تصعيد ذات مردود تشريعي من تلك التجمعات والأقاليم، كي تعملَ المفردات المتصعِّدَه في هذا السياق، ومن خلال مؤسسات "السلطة التشريعية"، على تجسيد تلك الخصوصية على شكل تشريعات. وهذا يقضي بالتعدُّد الحتمي في أعداد أعضاء "السلطة التشريعية".
* في حال الاكتفاء بانتخاب شخصٍ واحدٍ يكون ممثلا لرأس "السلطة التشريعية"، فإننا سنكون بعد انتخابه أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما. فإما أن نكتفي به لممارسة العملية التشريعية كلها، وإما أن نخولَّه القيام باستكمال أعضاء هذه "السلطة".
الخيار الأول مستحيل من جميع الأوجه، فلا يوجد شخص في العالم في أيِّ زمان وفي أيِّ مكان، مؤهل لا علميا ولا أخلاقيا ولا تمثيليا ولا ماديا ولا معرفيا، لأن يكون هو المُشَرِّع الأوحد في الدولة، والمجسِّد لكل التنوع المرجعي فيها.
أما الخيار الثاني فإنه يفرض علينا التساؤل عن الآلية التي سوف يقوم هذا الشخص المنتخَب باستكمال أعضاء "السلطة التشريعية" على أساسها؟! فهل سوف يختارهم بشكل يعكس التنوع المرجعي في الشعب، والتعدُّد الحاجاتي للتجمعات السكانية وللأقاليم الجغرافية في الدولة، أم أنه سيختارهم بناء على معايير تقنية وعلمية ومعرفية وتخصُّصيَّة صرف؟!
فإن كان المعيار التقني والمعرفي والعلمي هو مرجعيته في الاختيار، فإننا في واقع الأمر نكون قد قبلنا بنتيجة محتملة ومرجَّحة إلى درجة التأكيد، وهي أننا لن ننجزَ "سلطة تشريعية" تمثل التنوع المرجعي الشعبي، ولا التنوع الحاجاتي السكاني والجغرافي في الدولة، وبالتالي فلن تتحقق عبر هذا المعيار الغاية المتوخاة أصلا من انتخاب "سلطة تشريعية"، وسيبقى الشعب بكل مكوناته وتكويناته، أو معظمها على الأقل خارج نطاق التمثيل والتوكيل بالإنابة السياسية التشريعية.
أما إن كان التنوع المرجعي والتعدد الحاجاتي هو الذي سيلجأ إليه الشخص المنتخب لاستكمال أعضاء "السلطة التشريعية"، فلماذا لا يصار إلى الرجوع إلى صاحب الشأن نفسه بشكل مباشر، باعتباره هو الأكثر معرفة ودراية باحتياجاته وبرؤاه وبرغباته، بدل اللجوء إلى خيار لا أهمية له في ظل وجود بديل أكثر منه تجسيدا للغاية المتوخاة من فكرة أن يكون "الشعب هو مصدر السلطة التشريعية"؟!
أليس نوعا من العبث الذي لا معنى له أن نحدِّدَ معاييرَ نلزمُ الشخصَ المنتخبَ الأوحدَ، باستكمال أعضاء "مؤسسته التشريعية" على أساسها، هي ذاتها تلك التي كانت ستوضع لانتخاب الشعب كافة أعضاء هذه السلطة بشكل مباشر، مادامت الحالة الأولى غير ضامنة للنزاهة وللتمثيل، فيما الثانية ضامنة لهما بشكل يعكس تجسيد "مصدرية الشعب للسلطة التشريعية" بشكل موضوعي؟!
3 – السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، وبعد تأكُّدنا من ضرورة أن يتمَّ انتخاب كافة أعضاء "السلطة التشريعية"، لعدم استقامة الاكتفاء بانتخاب شخص يتولى هو لاحقا استكمال اختياره لباقي الأعضاء، أياًّ كانت معايير هذا الاستكمال اللاحق هو: إلى أيِّ مدىً ينطبق التحليل السابق على "السلطة التنفيذية"؟!
بداية يجب أن نقرَّ بفوارق جوهرية بين السلطتين "التنفيذية" و"التشريعية"، نوجزها فيما يلي..
* إن السلطة التشريعية تتكون في أقصى حالاتها من عدد محدود من الأشخاص بموجب طبيعتها الوظيفية، فلا توجد أيُّ "سلطة تشريعية" في العالم يصل عدد أعضائها حتى لو كانت تتكون من مؤسستين أو من قناتين تشريعيتين، في دولة متضخمة في عدد سكانها، إلى ألف عضو. في حين أن السلطة التنفيذية متضخِّمَة جدا من حيث عدد الأشخاص المنطوين فيها بموجب طبيعتها الوظيفية، إذا ما قيست وقورنت بأيِّ سلطة غيرها في الدولة، بما فيها السلطة التشريعية.
* لا توجد أيُّ فروقات من أيِّ نوع في المهمات الموكَلَة إلى أعضاء "السلطة التشريعية"، فكلُّهم مشرِّعون على قدم المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات والمهمات الأصيلة، وليس في المهمات الإدارية الناتجة عن تنظيم "السلطة التشريعية" لأعضائها في لجانٍ مختلفة، لا تعطي لأعضائها أيَّ صلاحيات أو أدوار تشريعية إضافية، خارج نطاق الأدوار الفنية والتجهيزية والاستشارية والتنظيمية. كما أنهم شركاء على قدم المساواة في التدخل وإبداء الرأي، في كل القضايا التي تُعتبر من اختصاص "السلطة التشريعية". فلا يوجد مشرِّع مسموح له بإبداء رأيه في القضايا الفلانية، فيما مشرع آخر ممنوع من ذلك ومسموح له بشيء آخر.
* أما "السلطة التنفيذية" فوضعها مختلف عن ذلك بشكل جوهري. إذ ليس كلُّ أعضاء السلطة التنفيذية لهم الدور نفسه وعلى قدم المساواة في كل شيء يدخل ضمن اختصاصات وصلاحيات هذه السلطة. فهناك أعضاء في السلطة التنفيذية، يضعون السياسات التي يجب أن تنفَّذ، وهناك أعضاء يُبدون رأيهم المساند كاستشاريين عندما يطلب منهم ذلك في قضايا محددة، وهناك أعضاء يقومون بتنفيذ السياسات المرسومة بحذافيرها دون أن يتدخلوا في رسمها أو في تعديلها، وهناك منهم من توكَل إليه مهمات مراقبة عمليات التنفيذ لضمان عدم الانحراف أو الوقوع في الأخطاء خلال ذلك.. إلخ، هذا كله لجهة جوهر فكرة "التنفيذ". أما لجهة التخصُّص التنفيذي، فهناك فرقٌ هام بين "السلطة التنفيذية" و"السلطة التشريعية"، من حيث أن "السلطة التنفيذية" قائمة بالكامل على مبدأ التخصُّص، سواء في مجال "رسم السياسات ووضعها"، أو في مجال "تنفيذها" أو في مجال "مراقبتها" أو في مجال "إبداء الرأي فيها".
في ضوء هذه الفروقات الجوهرية والهامة وذات الدلالة على صعيد آليات تجسيد "التمثيل" و"التوكيل بالإنابة" السياسية، نستطيع أن نحدِّدَ المعالم الأساس التالية التي يُفترض أن تحكم "نمط الانتخاب" في "السلطة التنفيذية"..
* في "السلطة التشريعية" لا يوجد هناك طرف يضع التشريعات ويسُنُّها وطرف آخر ينفذها. فكل المُشَرِّعين لهم مهمة واحدة هي وضع التشريعات وسنِّها، أما تنفيذها فهو من مهام وصلاحيات سلطات أخرى غير "السلطة التشريعية". وبالتالي فمن "يضع تشريعا" أو حتى من يسهم في وضعه بموجب سلطته، ولأنه لا يمكنه أن يضعه إلا باسم الشعب صاحب الحق في أن يكون التشريع نابعا عنه ومجسِّدا لإرادته، يجب أن يكون منتخَبا، وهذا واحدٌ من أهم مبررات ضرورة انتخاب كافة المشرعين فردا فردا، لأن كل واحد منهم يمثل إرادة الشعب لجهة إسهامه في التشريع المجسِّد لإرادة ذلك الشعب.
ولكن "السلطة التنفيذية" – كما مر معنا – فيها فئة قليلة فقط، وهي أقلها في العادة، تتولى وضع السياسات العامة في مختلف مجالات "الإدارة التنفيذية" للدولة، فيما باقي الفئات وهي الأغلبية العظمى في الجهاز التنفيذي، لا تملك وضع السياسات، بل تتولى تنفيذها أو مراقبة تنفيذها أو إعطاء الرأي بخصوص بعض جوانب تنفيذها.. إلخ. وبالتالي ولأن عملية "وضع السياسات" – كما كان حال وضع التشريعات وسنِّها – هي عمليةٌ تعود إلى الشعب عبر من ينيبُه عنه بالانتخاب المجسِّد لمصدريته للسلطة التي ستمارسها الجهة المنتخَبة، فمن الضروري والحتمي أن نقرِّرَ هنا وبلا أيِّ تحفظات أن الفئة من "السلطة التنفيذية" التي ستكون مُفَوَّضَة بوضع السياسات، هي التي يجب أن تكون منتخبة، فيما لا داعي إطلاقا بل لا جدوى أو منفعة من انتخاب الفئات الأخرى في هذه السلطة.
* بقدر ما هو من الواضح والضروري أن كافة من كانوا سيسهمون في "وضع التشريعات" يجب أن يكونوا منتخبين، مادامت عملية "وضع التشريعات" هي تفويض يمتلكه الواضع نيابة عن الشعب وبإرادته ووفق رؤيته التشريعية، فلابد أن يكون من الواضح والضروري أيضا أن كافة من سيسهِمون في "وضع السياسات" يجب أن يكونوا منتخبين، مادامت عملية "وضع السياسات" هي تفويض يمتلكه الواضع نيابة عن الشعب وبإرادته ووفق رؤيته السياسية.
ولكن هل يُكتَفى بواضعِ سياسةٍ واحد في "السلطة التنفيذية"، هو من يتم انتخابُه ليتم بعد ذلك تفويضه باختيار باقي أعضاء تلك السلطة باعتبارهم منفذين لسياساته التي وضعها، وليسوا شركاء له في وضعها؟!
لا بل هل أن "الرئيسَ المنتخَبَ" في "الديمقراطية الليبرالية" هو وحده واضع السياسات، أم أن عددا كبيرا من الطاقم التنفيذي الذي يعيِّنُه، هو من يضع السياسات على وجه الحقيقة؟!
إن طبيعة واقعة الانتخاب والتعيين الحاصلة في "السلطة التنفيذية"، تجعلنا نقرِر وبدون أدنى تحفُّظ، أن "السلطة التنفيذية" التي تضع السياسات في الدولة "الديمقراطية الليبرالية"، هي في حقيقة الأمر سلطة غير منتخَبَة من قبل الشعب على نحوٍ يشبه نمطَ ومكوناتِ ومواصفاتِ ومبرِّراتِ انتخاب أعضاء "السلطة التشريعية".
* ونضيف إلى ذلك أنه بسبب استحالة وجود شخص واحد قادر على إنجاز "العملية التشريعية" لوحده، لجهة "وضع التشريعات" مهما كانت قدراته الذاتية، ومهما كانت دلالاته التمثيلية، رغم أن الإرادة التشريعية للشعب قبل انتخاب أعضاء "السلطة التشريعية"، كان من الممكن اختصارها في توجهات عامة ذات ركائز محددة، لتحدثَ عملية التشريع كلها في بوتقتها، وهو ما يمكن لشخص واحد أن يتبناه في برنامج محدَّد المعالم التشريعية، ليتم اعتبار المشرعين اللاحقين المعيَّنين من قبله – لو حصل ذلك مثلما هو الأمر في السلطة التنفيذية – منفذين لإرادته التشريعية، فمن باب أولى الإقرار باستحالة وجود شخص واحد قادر على إنجاز "العملية السياسية" لوحده، لجهة "وضع السياسات" مهما كانت قدراته الذاتية، ومهما كانت دلالاته التمثيلية، رغم أن الإرادة السياسية للشعب قبل انتخاب أعضاء "السلطة التنفيذية" – لو تمَّ اعتماد انتخابهم بالكامل منهجا للدلالة على مصدرية الشعب للسلطات، كان من الممكن اختصارُها في توجهات عامة ذات ركائز محددة هي أيضا، لتحدث عملية التنفيذ كلها في بوتقتها، وهو ما يمكن لشخصٍ واحدٍ أن يتبناه في برنامج محدِّد المعالم السياسية، ليتم اعتبار السياسيين اللاحقين المعينين من قبله منفذين لإرادته السياسية.
وإذن فإنه على النحو نفسه، وبالاستناد إلى المعطيات ذاتها التي جعلتنا نقرُّ مبدأَ انتخاب كافة "واضعي التشريعات"، يجب علينا أن نقرَّ مبدأَ انتخاب كافة "واضعي السياسات"، ليتأسَّسَ على ذلك مبدأ هام هو حتمية وجود "سلطة تنفيذية" واضعة للسياسات، كافة أعضائها منتخبون، تماما مثلما كان محتَّما وجود "سلطة تشريعية" واضعة للتشريعات كافة أعضائها منتخبون أيضا.
ولكن ولكي ننتقل خطوة إلى الأمام في مسيرة التأصيل لمبدأ "السلطة التنفيذية المنتخَبة بكامل أعضائها"، يجدر بنا أن نطرح السؤال التالي..
كيف تتحدَّ مواصفات واختصاصات وصلاحيات "أعضاء السلطة التنفيذية" من "راسمي السياسات" الذين سيُنتَخَبون؟!
فالقواعد والأسس والمواصفات التي تمَّ وضعها واعتمادها لانتخاب أعضاء "السلطة التشريعية"، كان مُحَتَّما لها بموجب الطبيعة الوظيفية لعملية التشريع أن تنحصر في عنصرين اثنين فقط هما، "عنصر المرجعية الأيديولوجية أو المذهبية.. إلخ"، و"عنصر المرجعية الجغرافية والسكانية". ولكن من الواضح أن هذه المواصفات المعيارية التي ترتكز عليها عملية انتخاب "السلطة التشريعية واضعة التشريعات"، لا تصلح إطلاقا ركيزة لانتخاب "السلطة التنفيذية واضعة السياسات".
فالمشرعون واضعو التشريعات، يضعون تشريعات ناظمة لمؤسسات الدولة، أما السياسيون واضعو السياسات، فيضعون سياسات لإدارة مؤسسات الدولة وتطويرها وتفعيلها وتنميتها.. إلخ. والفرق بين المهمتين كبير وجوهري، ينعكس بالضرورة على نمط التصعيد الانتخابي المطلوب وعلى معاييره. فإذا كان ينفع في الحالة التشريعية، بل ويجب أن يكون معيار هذا التصعيد "مرجعيا مذهبيا" من جهة، و"مرجعيا ديمغرافيا جغرافيا" من جهة أخرى، فلا يمكنه في الحالة التنفيذية إلا أن يكون "مؤسَّسِيا برامجيا"، جاعلا مرجعيته هي الرؤية حول كيفية "إدارة المؤسسة أو مجموعة المؤسسات المتخصصة" ذاتِها.
ما معنى هذا؟!
أولا.. يفترض أن نقوم بتقسيم مؤسسات الدولة بحسب وظائفها ومهماتها التنفيذية، بالاستناد إلى عناوين مرجعية تخصُّصيَة أساسٍ مستقلٍّ بعضها عن البعض الآخر، بحسب رؤيةٍ فنيَّة تختلف من وقتٍ لآخر، ومن مكان لآخر، ومن ظرف موضوعي لآخر، إلى فئاتٍ تضمُّ كلُّ فئة مجموعة من المؤسسات التي يُرَى أنها تشترك في جوهر الوظيفة والمهمة.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار "الوزارة" بمعانيها ومواصفاتها وصلاحياتها ومهماتها، هي "الفئة" المعيارية الوظيفية، ليكون عدد أعضاء "السلطة التنفيذية" من واضعي السياسات، بعدد "الوزارات" المعتمدة أو المُشَكَّلَة.
كما أنه يمكن اعتبار كلِّ مجموعة من الوزارات بمثابة "فئة" معيارية وظيفية، بحيث يكون لدينا عدد من أعضاء "السلطة التنفيذية" من واضعي السياسات، يكافئ عدد "المجموعات الوزارية" التي اتفقنا على تشكيلها.
وقد تكون المؤسسة الأصغر من الوزارة هي "الفئة" المعيارية المنشودة، بحيث يزيد عدد أعضاء "السلطة التنفيذية" من واضعي السياسات، ليصبح بعدد "المجموعات المؤسسيَّة" التي منحناها صفة "فئات" معيارية.
وقد نعتمد تصنيفا معياريا من تلك التصنيفات الممكنة اليوم، لنغيره غدا ضمن ظروفٍ تتطلب ذلك.
بل ربما أننا قد نخترع تصنيفا جديدا لم تكن مؤشراته موجودة في مرحلة معينة، لسبب أو لآخر، إذا كان اختراعه متاحا ومُنْتِجا على صعيدة كفاءة ومردودية إدارة الدولة.
ومن جهتنا، نتصور أن أفصل تقسيم فئوي معياري يمكن اعتماده للتأسيس لسلطة تنفيذية واضعة للسياسات، ذات كفاءة وتركيز عاليين هو الذي يقسِّم مؤسسات الدولة إلى تسع فئات وظيفية هي..
أ – فئة المؤسسات ذات الوظائف والمهمات الدفاعية.. ويندرج في هذه الفئة كل من "المؤسسة العسكرية" و"أجهزة المخابرات الحربية" و"مؤسسات التسليح" و"الصناعة العسكرية" و"حرس الحدود"، وما كانت مهماته على هذه الشاكلة.. ويمكننا أن يطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون الدفاع"..
ب – فئة المؤسسات ذات الوظائف والمهمات الأمنية.. ويندرج في هذه الفئة كل من "مؤسسات الشرطة بمختلف أنواعها" و"مؤسسات الدفاع المدني"، وما كانت مهماته على هذه الشاكلة.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون الأمن"..
ج – فئة المؤسسات ذات الوظائف والمهمات السياسية الخارجية.. ويندرج في هذه الفئة "وزارة تنظيم العلاقات الخارجية" وما يتبعها من مؤسسات، وما كانت مهماته على هذه الشاكلة.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون العلاقات الخارجية"..
د – فئة المؤسسات ذات وظائف ومهمات البُنية التحتية.. وتندرج في هذه الفئة "وزارات الطاقة والكهرباء والصرف الصحي والمياه والأشغال العامة والبيئة"، وما كانت مهماته على هذه الشاكلة.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون البُنية التحتية"..
ه – فئة المؤسسات ذات الوظاف والمهمات الاقتصادية.. وتندرج في هذه الفئة "وزارات التخطيط والتجارة والصناعة والزراعة والمالية والتموين والري والسياحة والاستثمار والتعدين"، وما يتبعها من مؤسسات كالجمارك والضمان الاجتماعي.. إلخ، وما كانت مهماته على الشاكلة.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون الاقتصاد"..
و – فئة المؤسسات ذات الوظائف والمهمات العلمية والتعليمية.. وتندرج في هذه الفئة "وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي"، وما كانت مهماته على هه الشاكلة.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون العلم والتعليم"..
ز – فئة المؤسسات ذات الوظائف والمهمات الصحية.. وتندرج في هذه الفئة "وزارة الصحة" وما يتبعها من مؤسسات، وما كانت مهماته على هذه الشاكلة.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون الصحة"..
ح – فئة المؤسسات ذات الوظائف والمهمات الثقافية.. وتندرج في هذه الفئة "وزارة الثقافة" وما يتبعها من مؤسسات، وما كانت مهماته على هذه الشاكلة.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون الثقافة"..
ط – فئة المؤسسات ذات الوظائف والمهمات الخِدمية.. وتندرج في هذه الفئة "باقي وزارات الدولة ومؤسساتها مثل الأوقاف وما يتبعها، والتنمية الاجتماعية وما يتبعها والبلديات والإدارة العامة الداخلية وما يتبع لها".. إلخ، وما كانت مهماته على هذه الشاكلة الخدمية.. ويمكننا أن نطلق على هذه الفئة اسم "مجلس الدولة لشئون الخدمات العمومية"..
ثانيا.. وهكذا تتكون "رئاسة السلطة التنفيذية" – بحسب اقتراحنا – من مجلسٍ مُكَوِّن من تسعةِ أعضاء، يترأس كلُّ عضوٍ فئةً من الفئات التسع من مؤسسات ووزارات الدولة سالفة الذكر، وتكون هذه السلطة – أي الأشخاص التسعة – منتخبة من الشعب مباشرة. وتُعتبر هذه السلطة هي "راسمة السياسات" الكاملة لإدارة الدولة في مختلف المجالات "السياسية/التنفيذية"، وبالتالي فليس هناك رئيس واحد للسلطة التنفيذية يتولى منفردا تشكيل سلطته واختيار كافة أعضائها، بل هي سلطة جماعية منتخبة.
ويترأس هذا المجلس الذي يمكننا أن نطلق عليه "مجلس رئاسة الدولة" أحد أعضائه يتم اختياره من بين الخمسة أنفسهم، وليس لهذا الرئيس أيِّ دور تفضيلي في رسم السياسات عمن اختاروه رئيسا عليهم، ودوره تنظيمي وإجرائي وبروتوكولي فقط، وله مثل كلِّ واحد من الأعضاء الأربعة الآخرين المنتخبين صوتٌ واحد خلال التصويت فقط، كما هو حال رئيس "السلطة التشريعية"، فيما هو مسؤول مسؤولية مباشرة عن رسم سياسات فئة الوزارات والمؤسسات التي يترأسها. وقد يتم الاتفاق بين أعضاء "مجلس رئاسة الدولة" على التناوب بين الأعضاء التسعة في رئاسة "المجلس" خلال فترة ولاية المجلس التي تمتد من لحظة انتخابه ولغاية حلول موعد الانتخابات اللاحقة.
مع الأخذ في الاعتبار، أن دستور الدولة قد ينص على أن "فئات مؤسسات الدولة" يجب أن تصنف إلى أكثر من تسع مجموعات أو إلى اقل من ذلك، بحسب رؤية الجمعية التأسيسية التي تضع الدستور، مع ضرورة الإبقاء على باب تعديل ما يتعلق بتقسيم فئات المؤسسات مفتوحا، للتجاوب مع التَّغَيُّرات والتطورات والاحتياجات الطارئة أو الضرورية أو الملحة التي قد تفرض نفسَها في هذا الشأن. وإن كنا نرى أن التقسيم إلى تسعِ فئات كافٍ من وجهة نظرنا لتشكيل مجلس لرئاسة الدولة على أساسه، بسبب الاعتدال في عدد أعضائه، والنموذجية النسبية في تصنيف مؤسسات ووزارات الدولة في ضوئه.
4 – إن السلطتين "القضائية" و"الإعلامية"، تتمتعان شأنهما شأن "السلطة الننفيذية" بأعداد أعضاء كثيرين يعدون بالآلاف، وأحيانا بعشرات وربما بمئات الآلاف في الدول ذات التعداد السكاني العالي، فضلا عن كون كلِّ عضو من أعضاء هاتين السلطتين هو بمثابة شخص يشغل "وظيفة" بموجب مهنته، سواء كان "قاضيا/وظيفة عمومية" أو "إعلاميا/وظيفة عمومية أو خاصة". والموظف العمومي لا يُنْتَخب لشغل وظيفته إلا إذا كان موظفا "يضع السياسات" أو "يضع التشريعات"، ولا تقتصر وظيفته على تنفيذها أو مراقبتها، بينما "القاضي" و"الإعلامي" لا يفعلان شيئا من ذلك، بل هما ينفذان سياسات وتشريعات، أو يراقبان تنفيذَها، من خلال مؤسسات تقع خارج إطار السلطتين "التشريعية" و"التنفيذية".
وإذن فمن أين تأتي مشروعية وإلزامية "السلطة القضائية" و"السلطة الإعلامية"، مادام "القاضي" و"الإعلامي" أبعد ما يكونان عن "وضع السياسات" وعن "وضع التشريعات" اللتين تبرران انتخاب كافة الأعضاء "الواضعين" إما للسياسات وإما للتشريعات؟!
في واقع الأمر وباستذكارنا للمثال الذي أوردناه في بداية هذا التحليل، والمتعلق بصاحب المال، والأشخاص الذين يختارهم لإدارة ماله، كي تكتملَ دائرة الضمانات على أن مالَه سيدارُ بأفضل وأكفإ الطرق، دون إبقاء عملية الإدارة محصورة في دائرة الرهان على أخلاق الأشخاص الذين تم اختيارهم للإدارة فقط، فإننا وجدنا أن تحقيق ذلك تتطلب من صاحب المال تعيين شخصٍ يراقب أداء الجميع بدون حجر أو منع أو قيد لضمان الشفافية والالتزام، وتعيين شخصٍ يفضُّ النزاعات بين أيٍّ من الأشخاص الممارسين للإدارة في حال حدوثها، لضمان العدالة والإنصاف وعدم تغوُّل شخصٍ على آخر. وهذان الشخصان "المراقب" و"فاض النزاعات" هما "الإعلامي" و"القاضي"، ومن هنا تأتي إلزامية ومشروعية وجود السلطتين "القضائية" و"الإعلامية"، حيث تضم الأولى "مجموع القضاة"، وتضم الثانية "مجموع الإعلاميين".
إلا أن "القضاة" و"الإعلاميين" يفرضون حالة مثيرة للجدل لجهةِ "السلطة" و"اللاسلطة" في وظائفهم..
فهم من جهة أولى لا يجسِّدون الحالة الموجبة للانتخاب المباشر من قبل الشعب بصفته مصدرَ السلطات، لأنهم بمقتضى وظائفهم لا يضعون لا "السياسات" ولا "التشريعات" الموجبة لاعتبارهم "سلطة" يجب أن يتمّ اختيارها من قبل الشعب، وهم من جهة ثانية وبموجب وظائفهم الحساسة التي تتطلب أكبر قدر من حرية التحرك والانعتاق من أيِّ مؤثرات لسلطات أخرى، يجب أن يكونوا مستقلين استقلالا تاما عن الظروف التشريعية والوظيفية التي قد تجعلهم يخضعون لأيِّ مؤثر إلزامي قد يعانون منه، من قبل السلطتين "التنفيذية" أو "التشريعية".
فنحن إذا استجبنا لمتطلباتِ واقعةَ أن القاضي والإعلامي لا يضعان السياسات والتشريعات، بل هما ينفذانها ويراقبان تنفيذَها، فسوف نجنح إلى عدم الاعتراف بسلطة اسمها "السلطة القضائية"، أو بسلطة اسمها "السلطة الإعلامية"، وبالتالي فلم نقم بتحصين مهمات "القاضي" و"الإعلامي" بالشكل الذي يضمن قيامهما بمهامهما الوظيفية "التنفيذية" و"الرقابية" على أكمل وجه وأكثرِه نزاهة وانعتاقا من المؤثرات. خاصة وأن كافة المقصرين والمتنازعين والفاسدين والمنحرفين في المجتمع، بمن فيهم أعضاء السلطتين "التشريعية" و"التنفيذية" الذين يقعون في دائرة هذه الصفات، سوف يجدون أنفسَهم على مرمى مدافع "القضاة" و"الإعلاميين".
فإن لم يكن هؤلاء – أي القضاة والإعلاميون – محصنين من تأثير "واضع التشريعات" و"واضع السياسات" عليهم وعلى أدائهم الوظيفي، فإننا سنكون قد تركناهما كالجسد العاري عديم الممانعة ضد الفيروسات المهاجمة. إن الحصانة التي تُعطى لكل من القاضي" و"الإعلامي"، هي التي تجعل "المشرِّعَ" و"السياسي"، يدركان ألا مجال لاستغلال سطلتيهما للضغط على قضاةٍ وإعلاميين، يتمتعون مثلهم وعلى قدم المساوة بالسلطة أولا، ثم باستقلال السلطة ثانيا.
وفي المقابل، إذا نحن استجبنا لمتطلباتِ واقعةِ أن القاضي والإعلامي، يجب أن يتحصنا بالانتخاب الشعبي المباشر لمؤسستيهما "القضائية" و"الإعلامية"، ليتمكنا من أداء دورهما التنفيذي للتشريعات، والرقابي للسياسات، فإننا نكون قد وسَّعنا دائرة موجبات الانتخاب الشعبي لمنح "السلطة"، من "وضع السياسات" و"وضع التشريعات" إلى "تنفيذها" و"مراقبتها"، وهو الأمر الذي يقودنا إلى التساؤل عن السبب الذي يجعلنا نقف عند الوظيفة "الرقابية" للإعلامي، والوظيفة "التنفيذية" للقاضي، ولا يجعلنا نقف عند الوظائف "الرقابية" والتنفيذية" لآلاف موظفي "السلطة التنفيذية"، لنتعامل معها بالطريقة نفسها؟!
ومع أن السؤال مشروعٌ ويبدو وجيها للوهلة الأولى، إلا أن نظرةً فاحصة إلى الموضوع ستكشف لنا عن السر في ضرورة التفريق بين "الرقابة الإعلامية" ومقابِلَتِها في "السلطة التنفيذية" من جهة، وبين "التنفيذية القضائية" ومقابِلَتِها في فئة المنفذين الذين لا يضعون السياسات في "السلطة التنفيذية" من جهة أخرى.
ليس من الصعب الانتباه إلى أن "الرقيب" و"المنفذ" في "السلطة التنفيذية"، إنما يمارسان دوريهما لحساب "واضع السياسات" وليس لحساب الشعب مباشرة. فواضعي السياسات هم الذين يضعون المنفذين الذين ينفذون سياساتهم، وهم الذين يضعون الرقباء للتأكد من تنفيذ سياساتهم على النحو المطلوب، بينما "الرقيب الإعلامي" يمارس دور الرقابة، لحساب الشعب مباشرة، فهو عين الشعب على "السلطة التنفيذية" وعلى السلطة التشريعية" أيضا، وليس عينا لأيٍّ من أفراد هاتين السلطتين على أفرادٍ آخرين منهما. ومن هنا فإن الشعب بصفته المستفيد المباشر من مهمة "الإعلامي" الرقابية، معني بتحصين هذا الأخير، عبر منحه صفة "سلطة" تحميه من تدخل وتغول من يمكنهم أن يتضرروا من دوره الوظيفي الرقابي في السلطات الأخرى، بل وفي المجتمع كله.
ولكن وبالنظر إلى كون انتخاب كافة الإعلاميين في المجتمع أمر لا معنى له ولا جدوى منه، مادام الإعلام مجرد وظيفة يمكن أن يشغلها أيٌّ كان في أيّ وقت ضمن شروط فنية وتخصُّصِيَّة محددة، فإن الشعب معني بانتخاب "هيئة إعلامية عليا" تتولى هي الإشراف على القطاع الإعلامي وتنظيمه وتحديد مهماته والدفاع عنه وعن حصانته. ومع أن الدور المشار إليه هنا لا يختلف كثيرا عن الدور النقابي لأيِّ مؤسسة نقابية، إلا أنه يختلف عنه في نقطةٍ أساس هي أنه عمل نقابي مُنِح من الشعب صفة "سلطة" كي يحظى بنوع سامٍ من الحصانة.
وما يُقال عن "الإعلامي" يُقال عن "القاضي" ولا فرق من حيث الجوهر..
فالقاضي ينفذ التشريعات في مجال اختصاصه الوظيفي لحساب الشعب مباشرة، وليس لحساب أحدٍ غيره كأن يكون هذا الغير هو "واضع التشريعات" نفسه، سواء كان ينفذه على صعيد محاسبة أيِّ فرد من السلطات الأخرى حصلت منه أيُّ تجاوزات لمهامه ولمقتضيات التوكيل الذي منحه إياه الشعب، أو كان ينفذه على صعيد حماية المجتمع، ككل وحفظ استقراره وأمنه من المخالفين والمتجاوزين والفاسدين والمنحرفين. وهو من هنا يحتاج إلى إرادة الشعب كي تمنحه حصانة "السلطة" وشرعيتها.
وللأسباب الفنية والوظيفية نفسها، فإن انتخاب كافة القضاة أمر لا معنى له ولا جدوى منه، ما يجعل الشعبَ معني بمنح صفة "السلطة" للمؤسسة القضائية، عبر انتخاب ما يمكن اعتباره "الهيئة العليا للقضاء"، التي ستتولى إدارة وتنظيم السلك القضائي في الدولة برمته، وفق قوانين مقررة من "السلطة التشريعية" بطبيعة الحال.
مع ضرورة لفت الانتباه في هذا المقام إلى أن الفكرة القائمة في واقعة أن "القضاء" و"الإعلام" يجب أن يكونا بمثابة سلطتين حقيقيتين ليمارسا الأدوار "التنفيذية" و"الرقابية" المناطة بهما، هي تجسيد لمبدأين اثنين لا غنى عنهما في مؤسستي "القضاء" و"الإعلام"، هما..
* الاستقلال الحقيقي والتام عن أيٍّ من السلطتين "التنفيذية" و"التشريعية"، بشكل يلغي أيَّ دور لهاتين الأخيرتين في علاقتهما بالقضاء وبالإعلام، يمكنه أن يؤثر عليهما بأيِّ نوع من المؤثرات المربكة أو المشتِّتَة أو المحاصرة أو المحجِّمَة لأدوارهما الرقابية والتنفيذية.
* الحصانة الحقيقية المسنودة بشرعية شعبية، بشكل يجعل من "القضاء" و"الإعلام" مؤسستين لا تختلفان في صلاحياتهما عن صلاحيات السلطتين "التنفيذية" و"التشريعية"، لجهة الارتباط المباشر بالشعب، واكتساب الشرعية والحماية منه، بدون وسطاء من "واضعي السياسات" أو من "واضعي التشريعات".
وفي حال أمكن تجسيد هذين المبدأين تجسيدا فعليا لا شائبة فيه، فإنه لا يغدو بذي أهمية شكل ذلك التجسيد، ونمط تشكيل هاتين السلطتين، وإن كنا نعتقد في ضوء ما هو متاح من أدوات تجسيد وآليات تشكيل للسلطات، أن ما ذكرناه من انتخاب هيئات عليا "قضائية" و"إعلامية" هو أنسب المتاح في هذا العصر.