كلام قديم جديد
في أول مخالعة زوجية في تاريخ الإسلام قالت زوجة ثابت بن قيس الصحابية لرسول الله عليه الصلاة والسلام: "يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا، إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها!"
أي أنها رأت زوجها قادما بين مجموعة من الرجال، فوجدتهم جميعا أجمل منه، ووجدته أقبحهم شكلا، وفق معايير ذلك المجتمع الجمالية إذ ذاك، لذا فإنها كرهت أن تظل معه رغم أنها حسب نص الحديث قالت: " وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ ، وَلاَ خُلُقٍ ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ" أي أن بغضها له كان لقبح شكله أمام غيره من الرجال فقط، رغم حسن أخلاقه ودينه، فماذا كان جواب رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟
وانتهى الأمر!
ولا زالنا نتداول هذه القصة منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة، دون أن يطلب رسول الله كتمانها عن الناس لأنها تدعو للفساد وتبرر للخيانة أو لإعجاب المرأة بغير زوجها، ودون أن يعتبرها الصحابة خادشة للحياء، ودون أن يسيء أحد إلى هذه الصحابية رضي الله عنها، والتي عبرت عما تشتهي نفسها في الرجل، وعما تبغضه بكل أريحية، وفي قصة امرأة رفاعة القرظي لمن يعرفها أمر أعجب بالنسبة لمجتمع اليوم، فهل يمكننا أن نتخيل حوارا كهذا يجري في وقتنا هذا؟ هل يمكننا أن نتخيل امرأة تقول أنها ترى غير زوجها من الرجال أكثر جمالا ولذا تبغضه وتريد تطليقه، أو تريد تركه للعودة لسابقه لأنه أفضل في الفراش؟ لو حصل ذلك في مجتمعنا لتم وصم هذه المرأة بأسوأ الصفات من نقص الإيمان إلى قلة الحياء إلى الفجور وغير ذلك، على الرغم من بساطة هذا الأمر وبشريته وطبيعيته.
للأسف غالبا ما نصرف الكثير من الجهد في شرح البديهيات المتعلقة بالمرأة الإنسان، لأن المجتمع ألبس المرأة صفة طهرانية ملائكية، يصعب معها تقبل بشريتها، وطبيعية احتياجاتها، بل إنها تُلاحق حتى في خيالاتها وأفكارها، ويطلب منها أن تنزهها عن أي خاطر لا يتوافق مع القالب الذي فرض عليها، في حين يتم التسامح المبالغ به مع احتياجات الرجل وزلاته البشرية، حتى لو بلغت مبلغا فيه فساد كبير، وسبب ذلك هو "تفهم" المجتمع للرجل، في حين تبقى المرأة بسبب صمتها ضحية للافتراضات غير الدقيقة، والصور النمطية الملائكية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
لذا نجد أنفسنا ككتاب، وككاتبات مسلمات تحديدا، مضطرين مرارا لطرح ذات الفكرة وبأشكال مختلفة حتى نفتح في هذا السد العالي ثقوبا لمرور بعض النور، في حين يُلاحق البعضُ أقلامَنا، ويسد بمخاوفه ودعواته غير الحكيمة "للحياء" ثقوب النور هذه، ليعود المجتمع إلى ظلمته التي ألفها.
والمشكلة هنا متراكبة، وتعكس منهجية دفن الرأس في الرمل في تعاملنا مع قضايانا الاجتماعية، فنحن أولا لا نزال نتعامل مع قضايا الجنس بحساسية عالية، لم يكن المجتمع الأول في صدر الإسلام يعرفها، فإذا تعلق الأمر بالمرأة تتحول حساسيتنا إلى ثورة غضب واستنكار لا محل له من العقل والمنطق والدين.
ونحن ثانيا نتمسك بالصورة المريحة التي نريدها عن المجتمع بشكل عام، والمرأة بشكل خاص، ونغمض أعيننا ونسد آذاننا عن كل ما لا نريد معرفته أو تصديقه. "منشور مرعب للرجل"!! تكرر هذا التعليق عدة مرات على المنشور والقصة الأخيرتين، بما يوحي أن هناك حالة خوف حقيقية من رؤية صورة غير مشتهاة، تتسبب بالقلق، وتسلب من المجتمع راحة موهومة.
وكم هو مؤسف أن يكون فهم المرأة وفهم طبيعتها واحتياجاتها وهواجسها أمرا مرعبا للرجل، وكم آسف على شبان صغار يقبلون على الحياة الزوجية مع جهل تام بألف باء نفسية المرأة، ويصابون بصدمة كبيرة حين يتواجهون مع واقع الحال، تصل حد إنكار هذا الواقع والاستكانة للتصورات المريحة. وكم هو مؤسف أن تضطر المرأة لتزييف نفسها حتى في أخص علاقات حياتها وهي الزواج، بل أن تضطر لإنكار نفسها حتى أمام نفسها لتنسجم مع المجتمع.
ونحن ثالثا نرفض بشدة أن تطرح إشكالات المرأة الشعورية والنفسية والأخلاقية بقلم كاتبة إسلامية محجبة، لأننا نريد من هذه الكاتبة ألا تخرج عن نمطية الكاتبات الإسلاميات، وأن تلتزم بدور تقليدي يتمثل بمقالات الوعظ الديني المتعالي، والحديث عن واجبات النساء، والدوران في فلك ذات المواضيع التي أُشبعت درسا بذات الطريقة التقليدية، كالحجاب وواجبات الزوجة وحرمة الاختلاط، وعمل المرأة إلخ... في حين أن هذا الوقت يفرض تناولا ملحا لهذه القضايا من زوايا جديدة، كما يفرض أيضا طرق مواضيع طارئة على المجتمع ومسكوت عنها في الوسط الفكري الإسلامي.
الخطير في هذا الرفض أن هواجس المرأة النفسية وقضاياها الاجتماعية والأخلاقية الشائكة، والتي يتم تناولها من قبل الأقلام الإسلامية بكثير من السطحية والتكرار وعدم التفهم والهروب من البشرية إلى المثالية، يتم تناولها في المقابل من قبل أقلام غير إسلامية وإعلام احترافي غير إسلامي بالكثير من الوضوح والتفصيل والتعاطف والتفهم، الذي يتلوه تعاطي مع الموضوع من وجهة نظر غير إسلامية مئة بالمئة، وتوجيه للمرأة نحو حلول وممارسات وسلوكيات لا تتماشى والفهم الإسلامي.
بمعنى آخر، حين تكتفي المثقفة المسلمة بممارسة دور الواعظة، غير المتفهمة لمشاكل المرأة بكل ظروفها والمجتمع بكل تعقيداته، المتعالية على بنات جنسها وحاجاتهن وهواجسهن وأخطائهن، وحين تكف عن أن تكون مرآة لنفوسهن وقلوبهن وعقولهن وحياتهن، فإن مسلسلات "نادين نجيم" وأغاني "أليسا" وأفلام "غادة عبد الرازق" وروايات "أحلام مستغانمي" ومثقفات الخطوط الأخرى، وما أكثرهن، وما أجرأهن، سيكن هن المتفهمات الأكثر صدقا مع المرأة، والأكثر شفافية في عكس آلامها وقضاياها، وبالتالي سيكن هن البوصلة.
فلماذا نسعى بأنفسنا إلى طرد المسلمات إلى منظومات فكرية أخرى، في حين أننا قادرون على احتوائهن في منظومتنا نحن، تلك التي لا تنبع خطوطها الحمراء المتوهمة إلا من تصورات زائفة القدسية، وأخلاقيات مختلقة زائفة القيمة؟ لم نستمر في تضييق دوائر التعبير، ونستمر في رفع جدران المحاذير في عالم لا يفتأ يكسر حواجزه ليستميل إنسان القرن الواحد والعشرين إليه ويصبغه بصبغته المادية؟ لم يُستنكر حديث كاتبة محجبة عن آلام المرأة النفسية والعاطفية والجنسية والزوجية والروحية مع وجود بوصلة لحلول مستقاة من منارة القرآن، في عالم مادي لا ديني يستخدم كل أساليب الميديا للدخول إلى أعمق أعماق الإنسان والمرأة تحديدا؟
وكيف سنساعد المرأة المسلمة على الخروج من هذا التيه ومواجهة تحديات العصر الجديد، إذا لم نسمعها ونتفهمها حتى تأتي حلولنا وطروحاتنا متناسبة مع مشكلاتها؟
لا أحب عادة التعليق على قصصي، ولا تشريح أحداثها أو شخصياتها، لكن أعترف أنني أحيانا أكتب ثنائيات من القصص والمقالات، كان أوضحها مثالا هو المقال والقصة الأخيرتين، بغرض شرح الفكرة بطرق مختلفة.
وإنني إذ أنوي في المستقبل كتابة رواية تتناول آلام المرأة في مجتمعاتنا، فإنني أتساءل عن شكل هذه الرواية الذي قد يرضي الشريحة المستنكرة للقصة الأخيرة، هل عليها أن تكون على نمط "دموع على سفوح المجد؟"، وعظية، ملائكية، توجيهية، "إسلامية"؟!! لكل عمل أدبي رسائله الخفية، ولكن هذه الرسائل لا يمكن أن تصل للقارئ ما لم يعري الكاتب الإنسان أمام نفسه، ويخاطب فيه أعمق أعماقه، حتى تلك التي لا يحب أن يراها.
إنها مهمة الكاتب للأسف أن يقدم للمجتمع ما يحتاجه، لا ما يريده، حتى لو تسبب له ذلك بالصداع، أما ابتسام المسكينة التي نال البعض منها، فإنها لن تعيش بسلام، إلا حين تكون في مجتمع يتفهم بشريتها، وتستطيع فيه طلب المساعدة، ليعطيها حلولا واقعية من قلب المنهج الإسلامي، غير مغلفة بوعظ متعالي، ولا مسبوقة بمحاكمات جائرة.
ديما مصطفى سكران (Dima Mustafa Sakran)