أساليب مختلفة للإقناع
استأجر ذات صيف دارة في إحدى ضواحي عمّان كانت ملتقى لكل عائلته: بناته وأزواجهن وأولادهن وبناتهن خلال تلك الإجازة الصيفية. تلك كانت الإجازةَ الأولى التي تجتمع فيه عائلة جدي كلها في بيت واحد؛ فقد كنا اعتدنا -قبل ذلك- أن نلتقيه كل صيف في دمشق، نحن في بيتنا وهو في بيته، نزوره كل يوم أو يزورنا،
ولم نكن نشكو إلا من كثرة الأعمال المنزلية التي توكل إلينا على مدار اليوم فترهقنا وتتعبنا، وتفسد علينا شعورنا بمتعة العطلة وحلاوة الكسل، تفاجؤنا ونحن غارقون في قراءة كتاب أو مجلة فتذهب بتسلسل أفكارنا، أو نُنادَى إليها ونحن نلهو في الحقول المجاورة فننزعج لانقطاع الألعاب التي نقوم بها. هذا بالإضافة -أصلاً- إلى كرهنا التام لهذه الأعمال.
وكثرت شكوانا وطال تذمرنا ...
فأرسل جدي بطلبِ واحدٍ منا وكلفه أن يطوف في أرجاء المنزل منادياً في طلبنا داعياً إيانا إلى اجتماع خاص في غرفته لا يجوز لأحد غير الأحفاد أن يحضره... أثار هذا النداء فضولنا، ترى ماذا يريد منا جدي؟ كما أثار حماسنا، فما هذا الأمر الذي سنستأثر به دون الكبار؟ فاندفعنا نحو غرفته مسرورين، شاعرين بأهميتنا، وقد تهيأنا لسماع وتقبّل كل ما سيُقال لنا. أغلقنا الباب وجلسنا، فقال بهدوء: لقد جمعتكم بناء على شكواكم وتذمركم من الأعمال المنزلية، فتعالوا نناقش سويةً هذا الموضوع بعقل ومنطق:
إنكم -أولاً- تقضون النهار كله باللعب والركض في الحقول فلا تشعرون بالتعب، ثم ترهقكم بعض الأعمال المنزلية التي لا تكاد تستغرق ساعة أو ساعتين. أهذا معقول؟
ثم وضح لنا -ثانياً- أن العمل، مهما كان نوعه، يبقى نوعاً من أنواع الرياضة، وهذه الرياضة مفيدة من وجهين فهي تحرك عضلات الجسم، وتخفف العبء عن أمهاتنا فننال رضاهن و يرضى عنا الله بمساعدتنا لهن.
ثالثاً: هل من اللائق أن نساهم في الإفساد ثم لا نساهم في الإصلاح؟ فما دمنا نأكل ونشرب وننام ونلعب فمَنْ نتوقع أن يُعِدَّ طعامنا وينظف أطباقنا ويرتب أسرّتنا ويكوي ملابسنا، وماذا سيصبح حال الدار لو تقاعس الكل عن العمل؟ إذن، لابد أن يكون لنا في كل ذلك نصيب، ومن الظلم أن تقوم أمهاتنا بكل هذه الأعباء دون مساعدتنا.
رابعاً: إن أمهاتنا -مثلنا- يستثقلن هذه الأعمال ولا يستمتعن بالقيام بها، لكنهن يدركن أنه الواجب الذي ينبغي القيام به، والعاقل لا يفرّ من واجبه، وتلك هي طبيعة الحياة. فما دمن أقبلن على العمل مضحّيات براحتهن فعلينا -نحن أيضاً- أن نساهم في هذا الواجب.
وأخيراً: فإن العمل جزء من الحياة ذاتها، ونحن قد اعتدناه وقبلناه برضى طيلة أيام المدرسة المزدحمة بكثير من الواجبات والامتحانات (على ما كان يشدّنا وقتها إلى اللعب والراحة تنفيساً عن جِدّ الدراسة وثقل واجباتها) فكيف يصعب علينا العمل الآن ونحن حِلٌّ من كل مسؤولية وبإمكاننا المساعدة في أي وقت؟
* * *
أتدرون ماذا كانت نتيجة ذلك "المؤتمر" ؟
لقد خرجنا من غرفة جدي بغير النفسية التي دخلنا بها. كنا كارهين للعمل فصرنا به راضين، وكنا مستثقلينه فصرنا له متقبلين، لقد أشعرنا بأهميتنا وخاطبنا بخطاب الكبار ، وحملنا على الاقتناع بما نُكلَّف بأدائه بدلاً من إكراهنا عليه
فجربوها مع أولادكم
(من كتاب "هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي" لحفيدته "عابدة المؤيد العظم")