لم يخلق الباري جلّ شأنه الخلق سدى ، ولم يَدَعهم عُرضة لتتخطفهم شياطين الإنس والجن ، فتنحدر بهم في مهاوي الردى !
فكان أن عجّل لهم مولاهم بادئ ذي بدء فضرب عليهم حصانة ربانيّة نفسيّة فطرية ، كمنت في نفوسهم ، واستقرت في قلوبهم ، حصانة تشدّهم إلى خالقهم ؛ إنها الفطرة { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ( الروم 30 ) وتلك الحصانة أودِعَت فيهم وهم أجنّة في بطون أمهاتهم ، فولدوا عليها وبقيت لهم الهاديَ النفسيّ والباعثَ الداخليّ الذي يشدّهم إلى خالقهم بطريقة تلقائية ميسورة ، كيف لا وقد وُلِدوا متحصنين بها( كلّ مولود يولد على الفطرة ) (متفق عليه) وفي الوقت نفسه أودع فيهم خالقهم تبارك وتعالى باكورة حصانة فكريّة تنمو بنموّهم ، وتنضج بنضج عقولهم ، فتترسّخ فيهم يوماً بعد يوم ، كلّما امتدت بهم الحياة ؛ إنها الملكة العقليّة والقوّة الفكريّة التي حباهم ربّهم إياها ، والتي بمجرّد أن يستخدموها حقّ استخدامها تهديهم سبلهم ، وتوثّق صلتهم بخالقم ، ليصبح بذا كلّ مخلوق من بني آدم يرفل في دوحة حصانتين .
ومن لطائف صنع الباري فينا أن عجّل لنا بتلكم الحصانة النفسيّة ! وما ذاك إلا لأن قوانا الفكريّة وملكاتنا العقلية تنمو شيئاً فشيئاً ، فكانت تلك الصيغة الشعورية التي تربطنا بخالقنا منذ صغرنا ، حتى إذا تفتّحت ملكاتنا العقلية ونضجت انضمت الحصانة الفكرية إلى الحصانة النفسية الفطرية ، فأضفت علينا صبغة ربّانية كاملة ، وزادتنا من نور الهداية في أنفسنا قبساً على قبس ، فانظر إلى آثار عناية الله بنا ، كيف جعل قلوبنا تتعلّق به منذ صغرنا ، لتتوّج هذه العناية بتعلّق عقولنا بخالقها حين نحسن استعمالها ! وبذا أعذر الله للخلق ، إذ ربطهم بحقيقة الوجود وبالحق من عروته الوثقى !
غير أن هاتين الحصانتين الربّانيتين تظلان عرضة للاستهداف من شياطين الإنس والجنّ على السواء ؛ فبينما شياطين الجنّ تلاحقنا لرفع الحصانة الفطريّة عنّا منذ صغرنا كما أخبر الصادق المصدوق – عليه الصلاة والسلام – فيما يرويه عن ربّه في الحديث القدسيّ : (خلقت عبادي حنفاء كلّهم فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ) ( مسلم ) وكذا الحصانة الفكرية تظلّ عرضة للاستهداف من شياطين الإنس ؛ الضالّين المضلين ، والشاكّين المشكّكين ، { وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدواً شياطين الإنس والجن ّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا }(الأنعام112)
أما مَثل شياطين الإنس فحسبنا فيه فرعون ، فقد غدا مثلاً يُضرب لكلّ من غرّه جاهه وأطغاه سلطانه ، فتجده مرة يُلبس نفسه أمام من يسوسهم لَبوس الربوبيّة حين يقول لهم : ( أنا ربّكم الأعلى } (النازعات 24) وتارة أخرى يلقي على نفسه بثوب الألوهيّة فيقول : { يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } (القصص38) فهو استخفاف مبين مهين بعقول أمّة { فاستخف قومه فأطاعوه } (الزخرف54) والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق : كيف يستخف طاغية بعقول شعب بأكمله ؟! بل وكيف تروج مثل هذه الأباطيل على عقول أمّة ؟ وأين كانت الحصانتان الربانيّتان وقتئذ ؟! الجواب على هذا السؤال المحيّر يأتي في قوله تعالى : { فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين }(الزخرف54) أجل هذه هي العلّة ( إنهم كانوا قوماً فاسقين) فبفسقهم ابتداءً خسروا ما حباهم ربّهم من حصانة فكريّة ؛ فطمست بمعاصيهم ملكاتهم الذهنية ، وشُوّهت بإسرافهم على أنفسهم قدراتهم العقلية ، فعطّلوا حصانتهم الفكريّة كفراناً بهذه النعمة الربانية الكبرى ، وعلى صعيد آخر ذبلت بفسقهم حصانتهم الفطرية بعد أن كانت خضرة يانعة ! وتلك سنّة ربانيّة جارية ؛ فمن تردّى في غياهب المعاصي والآثام ، وانزلقت به قدماه في دوّامة الظلم والظلاّم فَقَدَ من حصانته الفكريّة التي حباه الله إياها بمقدار انزلاقته ، وذبلت فيه الحصانة الفطرية ما دام منغمساً في خطيئته ! ثمّ الناس في ذلك بعدئذٍ بين مستقلّ ومستكثر ! وقد قرّر لنا القرآن الكريم هذه السنّة بقوله { إن الذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } (آل عمران155) فالباء هنا سببيّة ؛ أي : حصل هذا الاستزلال وأضحى للشيطان - سواء أكان هذا الشيطان من شياطين الجنّ أم الإنس - عليهم سبيلا ، بسبب بعض ما كسبوه ، فكيف بمن أسرف على نفسه متجاوزاً هذا البعض إلى الكلّ؟ أي : أصبحت حياته كلها بحركاتها وسكناتها وعزماتها وصولاتها وجولاتها منغمسة في مساخط الله تعالى ، بانتهاك حرماته ، وإيذاء الخلق الذين هم عيال الله تعالى ، والتنكيل بهم ؟! لا شك أنه ذهب في الاستزلال مذهباً بعيداً !
وليس من نافلة القول أن أستطرد قليلا بهذا الصدّد فأقول : قد دلّنا خالقنا عزّ وجل على ما يصون هذه الحصانة الفكرية وينمّيها فقال عز مِن قائل : { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } (الأنفال 29) أي : يجعل لكم مَلَكة عقليّة متّقدة تميّزون بها الغثّ من السمين ، وتفرقون بها الحق من الباطل ... فامتثل ذلك من امتثل، وعَدَل عن ذلك مَن عَدَل!
وإلا : فأيّ عقول تلك التي ترتضي أن يكتب عليها التاريخ ، ويسجّل عليها الزمان أن مقولة طائشة مثل هذه ( أنا ربكم الأعلى ) قد خامرت عقولها ، وأن فِرية سخيفة مثل هذه ( ما علمت لكم من إله غيره ) راجت عليها ، بل واجترأ صاحبها ابتداء أن يُلقي بها بين أظهرهم ؟؟!! فهل وصل الاستخفاف بالعقول عقول الشعوب إلى هذا الحدّ ؟!
ومنخول القول في هذا يُستشفّ ويُستقى من قوله تعالى : { فألهمها فجورها وتقواها } (الشمس8) فالنفس الإنسانيّة - ومن باب الابتلاء - فيها نزعات للخير، ونزغات للشر ، فإلى أيّ وجهة منهما ولّى صاحبها وجهه ، ووظّف جهده هيمنت على سلوكه ماهية الوجهة التي انحاز إليها فاصطبغ بها ؛ إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وقد أعذر خالق النفس وباريها إلى كلّ نفس حين سيّجها بحصانتين : الحصانة الفطرية ، والحصانة الفكريّة ، لا سيما إذا علمنا أن الحصانة الفكرية إن لوّثها صاحبها بالشبهات انتكست واعتراها الخمول ، وكذا الفطرة الإنسانيّة - محضن الحصانة الفطرية – إن لوّثها صاحبها بالشهوات فإنها لا تموت لكن يمسّها الذبول ! حتى إذا ما سُقيت بماء المكرمات والطاعات والعبادات ترعرعت ونمت من جديد باسقة نضرة .
ومن هنا : فأيّما نفس فعّـل فيها صاحبُها هاتين الحصانتين رست به على برّ الإيمان والأمان ، وإن هيّ عطـلت إحدى هاتين الحصانتين أو كلاهما تهاوت إلى دركات الشقاء ، وانفرط عقد رصانتها وعقلانيتها وحصافتها انفراطاً ما له من فواق !