من يتذكر مغامرة الدراما الأولى ؟ كنا قد دعونا سابقاً ومن هذا المنبر بالذات إلى مراجعة المنجز الدرامي السوري بغية التأريخ لأهم الموضوعات التي تصدّى لها، وتدوين الاتجاهات الفكرية التي حكمته على مدار عقود مضت، وتصنيفها نقدياً، واليوم نجدّد الدعوة لتدوين تاريخ الشخصيات المؤسّسة والرائدة بهدف دراسة المرتسمات التي أفضت إلى أن تكون هذه الشخصيات خالدة في الذاكرة والوجدان.
فالعلامات الفارقة التي تتسم بها حوارات الكثير من فنانينا ومخرجينا اليوم هي التغني بأمجاد الرواد الأوائل الذين طوتهم الذاكرة وغيّبهم النسيان، واستذكار مسيرتهم الشاقة في الوصول إلى الشهرة والأضواء، ومواجهة سطوة المفاهيم الموروثة المعتمة "المتزمتة" التي وقفت حائط صد في وجه الكثير منهم، ولن يكون المبدع الرائد أبو خليل القباني أولهم بالتأكيد. وما يمكن الإشارة إليه هنا وإزاء هذا الكم الهائل من التنظير التاريخي لمسيرة أولئك الرواد أنه ظل حبيس هذه الاستذكارات، دون أن يلجأ أي مؤرّخ أو كاتب إلى توثيق هذا الإرث الفني العريق، ونستثني بالطبع أشتات محاولات قام بها بعض المهتمين، والتي اصطدمت هي الأخرى بالتجاهل والتغييب، حتى بات الفن السوري لكأنه بلا ذاكرة تؤكد هويته وأصالته وتأثيره بالفن والدراما العربية.
إن المسيرة الغنيّة للرواد عبد الوهاب أبو السعود وهو الشخصية البارزة الثانية بعد أبي خليل القباني في تاريخ الفن المسرحي في سورية، إذ يعود إليه الفضل في إقامة حياة مسرحية سورية من خلال المنتديات والجمعيات التي نشطت في دمشق في الفترة بين الحربين، ومنها (دار الألحان والتمثيل، ونادي الفنون الجميلة، ونادي الاتحاد والترقي، ونادي الكشاف الرياضي).. والكاتب والفنان حكمت محسن رائد مونولوجات وتمثيليات المسرح والإذاعة والتّلفزيون، الذي ابتكر أهم الشّخصيات الدراميّة الشعبيّة الخالدة مثل: أبو رشدي، أبو فهمي، أبو شاكر، صابر أفندي، أبو صيّاح، وطوّر شخصية أم كامل التي ابتدعها سابقه عبد الهادي الدّركزلي، ومن عاصرهما وأتى بعدهما من مثل تيسير السعدي ونهاد قلعي وعبد اللطيف فتحي وأنور البابا ووصفي المالح ورفيق سبيعي ودريد لحام وزياد مولوي وأحمد أيوب وسعد الدين بقدونس ومنى واصف وهالة شوكت وسلوى سعيد وأنطوانيت نجيب والأجيال الأخرى التي تلتهم وصولاً إلى أواسط السبعينيات التي شكّلت مفصلاً هاماً في تاريخ الدراما السورية وكثافة انتشارها عربياً على المستويات التلفزيونية والسينمائية والمسرحية، كل هذه القامات الفنية تبدو اليوم بتجاربها الثرية غائبة بل مغيبة عن ذاكرة الأجيال الجديدة، التي ترنو إلى الاستفادة من إرثها الفني والإنساني.
لقد أصدرت الناقدة المسرحية ميسون علي كتاباً بعنوان "تيسير السعدي ممثل بسبعة أصوات".. وهو يوثّق لسيرة وتجربة الفنان الكبير تيسير السعدي. كما أصدرت المؤسّسة العامة للسينما كتاباً حمل عنوان "تيسير السعدي.. ذاكرة القرن العشرين: حوار الفن والحياة" بتوقيع الكاتب وفيق يوسف، والذي كرّسه للحديث عن تجربة هذا الفنان الرائد في العمل المسرحي والسينمائي والدرامي في القرن العشرين.
ونزعم أن هذين الكتابين استدركا التقصير الكبير لمؤسّساتنا الثقافية بحق تيسير السعدي والكثير من الرواد الأحياء منهم والأموات، ولاسيما إذا عرفنا أن مثل هذه التجارب كانت غنية بعطائها وإخلاصها للفن، وأنها دفعت ضريبة كبيرة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وواجهت صعوبات لم تثنها عن عزمها وهدفها السامي، فالسعدي يروي بشغف مكابدات رحلته الأولى إلى مصر لدراسة فن التمثيل، حيث يقول: استقللت القطار من محطة الحجاز في دمشق سنة 1945 إلى حيفا على أن أكمل طريقي من هناك إلى القاهرة، لأكتشف قبل وصولي فلسطين أنّ عصابات "الهاغانا" اليهودية قد فجّرت جسر بنات يعقوب، فاضطّر القطار إلى إيقاف رحلته. عدت إلى دمشق، وقد قرّرت السفر بالباص إلى فلسطين، ومن هناك ركبت القطار إلى القاهرة. وفي القاهرة، انتسب تيسير السعدي إلى معهد التمثيل كأوّل طالب تمثيل من سورية، إلى جانب فريد شوقي وفاتن حمامة، وشكري سرحان، وسميحة أيوب، ليختاره هنري بركات سنة 1946 لبطولة فيلم "الهانم" أمام فاتن حمامة.
وفي السياق ذاته أعدّ وفيق يوسف كتاباً آخر بعنوان "ثمن الحب" حاول فيه تقديم سيرة ذاتية للفنان رفيق سبيعي من خلال رصد مسيرة هذا الفنان، مؤكداً أن رفيق سبيعي حكاية مدهشة في رحلة شاقة وطويلة قضاها فنان خرج من القاع الاجتماعي، واتخذ مبكراً قراره بأن يكون فناناً وحسب، في زمن لم يكن المجتمع يتقبل عمل الفنان، لكن "أبو صياح" تحدّى مجتمعه، وشقّ طريقه في أقسى الظروف، وخاض حرباً لا هوادة فيها في مواجهة محيط اجتماعي يتعامل معه ومع مهنته بالسخرية والتحقير والتهميش.
أما على الصعيد الإعلامي فقد نشرت مجلة "هنا دمشق" قبل سنوات مذكرات الفنان الكبير نهاد قلعي الذي برزت موهبته باكراً ولفتت الأنظار إليه وجعلته يحلم بالفن ويتجه إلى دراسته في مصر، إلا أنه عندما قرّر الالتحاق بمعهد التمثيل في القاهرة قبل سفره بأيام تعرّض للمقلب الأول في حياته، إذ قام لص بسرقة نقود سفره مما أجبره على ترك السفر والعمل في دمشق.
ويروي قلعي في تلك المذكرات أنه عمل في بداية حياته المهنية مراقباً في معمل للمعكرونة، ثم ضارباً للآلة الكاتبة في الجامعة ونقل بعد ست سنوات من العمل إلى وزارة الدفاع واستقال بعدها ليعمل مساعداً لمخلص جمركي طوال خمس سنوات. فيما عرضت دوريات أخرى لمسيرة الفنان عبد اللطيف فتحي الذي أسّس في دمشق "الفرقة الاستعراضية" التي صار اسمها بعد ذلك "فرقة عبد اللطيف فتحي" واستطاع من خلالها أن يكسر قاعدة أن المسرح لا يمكن أداؤه إلا باللهجة المصرية، ليصبح هذا الفنان الكبير صاحب شرف تقديم أول عرض مسرحي باللهجة الشامية. ولسنوات تالية ظل يعرض المسرحيات الغنائية الاجتماعية الكوميدية على خشبة مسرح النصر "قرب سوق الحميدية" ذلك المسرح الذي خرّج كبار الممثلين والمطربين في بدايات العصر الذهبي للفن السوري.
على أن السؤال الذي يواجهنا: هل تكفي هذه الإصدارات وغيرها –على قلتها- التي قاربت مسيرة هؤلاء الرواد في التأريخ للقامات والشخصيات الفنية الكبيرة في مغامرتها الأولى؟.. بالتأكيد لا، لأن حوارات هؤلاء الفنانين وسواهم من المخضرمين والرواد مازالت مركونة كما نُشرت في الصحف والمجلات تنتظر من يزيل عنها غبار النسيان، ونجزم أن استعادة تجاربهم تدويناً وليس تنظيراً ستضيف أشياء كثيرة ومختلفة إلى مكتبتنا الدرامية الفقيرة جداً حدّ الخواء؟!.
عمر محمد جمعةhttp://www.albaath.news.sy/user/?id=1333&a=118422