المنابر وسكان المقابر في غزة
محمد اسحق الريفي
لم أندهش كثيراً عندما قرأت تقريراً نشرته صحيفة "فلسطين" الأسبوع الماضي حول سجن النساء بغزة بعنوان "قصص مفجعة يسترها سجن النساء بغزة"، رغم أنه التقرير الأول الذي يتناول موضوعاً خطيراً بجرأة، وذلك لأنني سمعت من مصادر مطلعة وموثوق بها عن قصص أشد فجعاً منها، وإنما دهشت كثيراً لعدم إعطاء هذا الموضوع الخطير ما يستحقه من اهتمام في وسائل الإعلام وعلى المنابر، خاصة مع انطلاق حملة "مكافحة التخابر مع الاحتلال"، حيث يمهد السقوط الأخلاقي للسقوط الأمني.
ونحن في غمرة حديثنا عن النجاح في كسر الحصار، يبدو أننا لا نحب التطرق إلى بعض آثاره الخطيرة، خاصة على التعليم والسلوك المجتمعي، ربما حرصاً على قطع الطريق على تجار الفضائح والشائعات، الذين يتربصون الدوائر بحركة حماس والحكومة التي تقودها، ويشيعون بين الناس أن أوضاع غزة مزرية للغاية، ليس بهدف الإصلاح، وإنما بهدف إشاعة الفاحشة والتدليل على تدهور الأوضاع والزعم بأن حماس فشلت. ولكن هذا الحرص لا يحل المشاكل، ولا يقطع الألسنة المأجورة، ولذا لا بد من مواجهة المشاكل والتصدي للظواهر السلبية التي نجمت عن الحصار، بالتشخيص والتحليل ووضع الحلول المناسبة واتخاذ الإجراءات التي تحمي الأطفال والنساء خاصة من آثار الحصار.
ولا شك أن الحكومة في غزة أبلت بلاء حسناً في مكافحة الفساد والرذيلة والفواحش، وشنت حرباً بلا هوادة على تجار المخدرات وأوكار الفساد، وحققت إنجازات كبيرة في هذا الصدد. ولكن علينا جميعاً أن نخطو خطوات أخرى إلى الأمام في صراعنا مع الحصار وتصدينا لآثاره المدمرة على المجتمع بكل شجاعة وصراحة، ولا بد من إشراك المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني والمساجد والمنابر الإعلامية في مكافحة الفساد. والموضوع يطول في هذا الصدد إذا ما تحدثنا بالتفصيل، فللحصار تداعيات خطيرة على المجتمع الغزي نجم عنها ظواهر خطيرة على الصحة والتعليم والنواحي الاجتماعية، ولكنني أكتفي هنا بتسليط الضوء على أهمية دور الحكومة في حماية النساء والأطفال من السقوط الأخلاقي.
يحدثني صديق لي يعمل رئيساً في نيابة غزة عن قصص مفجعة لمواطنين سقطوا ضحية للحصار، ولما أدى إليه من فقر مدقع. حدثني عن حالات انتحار في غزة ترتكبها عادة نساء متزوجات، بمعدل حالة انتحار كل شهر في مدينة غزة لوحدها، لأسباب تتعلق إما بعدم قدرة الزوج على إعالة أولاده وزوجته وتوفير مستلزمات الحياة الأساس لهم، وإما باضطهاد أولاده وزوجته والمتاجرة بعرضها من أجل الحصول على المال أو إرضاء الأقران.
إحدى النساء اللواتي انتحرن مؤخراً في غزة، كانت تذهب بأولادها الصغار إلى أهلها بسبب الفقر الشديد واضطهاد زوجها لها، وكان أهل الزوجة يعيدونها إلى بيتها فوراً دون حل مشكلتها، بذريعة خوفهم على مصلحة ابنتهم. وتكررت هذه الحادثة عدة مرات إلى أن تمكن الزوج من خداع زوجته، فأقنعها ببيع ما لديها من ذهب صداقها، ليشتري بثمنها سيارة أجرة، عله يكسب منها بعض المال، ويأتي بالطعام إلى أولاده وزوجته. ولكنه خدعها، واشترى بثمن الذهب مخدرات، فاضطرت الزوجة إلى تركه والذهاب من جديد إلى بيت أهلها، لتحمي نفسها وأولادها، ولكن أهلها أعادوها، ليجدوها بعد ذلك جثة هامدة، فقد تناولت المسكينة جرعة مميتة من سم الفئران، لتغادر زوجها وأهلها في آن.
مثل هذه القصص تتكرر، وتضطر الفتاة والمرأة في ريعان الشباب إلى المتاجرة بعرضها، أو السرقة، أو التسول، وكلاهما يؤدي غالباً في نهاية المطاف إلى الوقوع تحت سطوة الذئاب البشرية، وما أكثرهم اليوم، وإلى ارتكاب الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وما يندى له الجبين، وإلى السقوط الأمني والتخابر مع العدو الصهيوني. ألقت الشرطة القبض قبل نحو شهرين على امرأة متزوجة لا يتجاوز عمرها الثلاثين عاماً أثناء تورطها في الفاحشة في متجر، وقد اعترفت أنها أسقطت أكثر من عشرين رجلاً.
لماذا تضطر بنات في سن المراهقة إلى النوم ليلاً في المقابر، لتبدأ من الصباح الباكر بالتسول والسرقة، أو ببيع جسدها إلى الذئاب؟ ولماذا تقدم الفتاة والزوجة على الانتحار ولا تجد من يساعدها على التخلص من مشاكلها واضطهاد زوجها لها ولأولادها؟ لقد حول الحصار كثيراً من بيوت قطاع غزة إلى قبور، بل إلى ما هو أسوأ بكثير من القبور، بسبب عادات المجتمع، وبسبب غياب دور فاعل للمجتمع لمساعدة المضطهدين. وما يزيد من صعوبة الموقف في هذا الصدد، عدم وجود مؤسسات حكومية تحمي الزوجة، والنساء عامة والأطفال، من اعتداء الزوج والأهل، وذلك بتوفير ملاذ آمن لهم، وبتأهيلهم وحمايتهم ورعايتهم إلى حين حل مشاكلهم.
توجد في غزة عشرات المؤسسات غير الحكومية التي تهتم بحقوق الطفل والمرأة، ولكنها لا تستطيع حماية امرأة يضطهدها زوجها، ولذا لا بد من اضطلاع الحكومة بهذه المهمة. وقد يقلل بعض الناس من خطورة هذه الظاهرة، بذريعة أنها تحدث في المجتمعات العربية، ولكن غزة تختلف، فهي جبهة، والجبهة يجب أن تكون متينة، والظلم والفساد ثغر خطير، يستغله العدو من أجل تحويل الناس إلى عملاء له، إضافة إلى أن العدل هو غاية الحكم.
وهنا يأتي دور المنابر الإعلامية، ومنابر المساجد، لتوعية المواطنين المضطهدين، وحثهم على التوجه لمراكز الشرطة من أجل توفير ملاذ آمن لهم، بدلاً من الفرار إلى المقابر والنوم فيها، أحياء وأمواتاً، وبدلاً من ارتكاب الفواحش والمحرمات.
6/7/2010