عودة تركيا الى الشرق:
الاتجاهات الجديدة للسياسة التركية
(بيروت: الدار العربية للعلوم ـ ناشرون) 2010؛ 151 صفحة.
الكتاب: من تأليف ميشال نوفل
عرض: عفيف عثمان/ أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية
كي لا تحملنا الحماسة فقط على التصفيق للناصر الجديد، رجب طيب أردوغان، يدعونا الباحث اللبناني ميشال نوفل، ذو الباع الطويل في الجيوبوليتيك، في كتابه الى تعقل واستكناه الدور التركي والنوابض التي تحركه في الطور الراهن من تاريخ الشرق الأوسط.
(1)
ظهر المنعطف التاريخي في عالم تركيا الكمالية سنة 1980، وارتبط بما يسميه نوفل (التحول الاستراتيجي)، الذي عنى تبدلاً في مفهوم التصنيع، وفي ترتيب جديد لبيت السلطة، وفي رؤية اقتصادية للعلاقات الدولية، نجم عنها نجاح نسبي في ارتفاع الصادرات والتحكم في مشكلة الديون. لكن بقي هاجس الانتماء الى الدائرة الغربية مُلِّحاً عند النخب المدنية والعسكرية الممسكة بمقاليد السلطة، وبها توقٌ الى الاستفادة من المغانم التجارية التي يعِد بها الالتحاق بالركب الأوروبي.
وإذا كانت نهاية الحرب الباردة بين القطبين الجبارين قد أشرت الى ضعف النفوذ التركي، فإن الحوادث المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط اللاهب أعادت فاعلية (الدور) الى (أنقرة)؛ فمن جهة غزو العراق للكويت سنة 1990، ومن جهة أخرى، ونتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي، برز عالم تركي كان محجوباً عن الرؤية التاريخية (وِفقاً بعبارة نوفل)، حيث تعيش شعوب تملك جذور وروابط مع أتراك الأناضول، الأمر الذي شكل حالة (جيو إستراتيجية) متنامية، مع ملاحظة أن التبدل في النظرة الى أتراك الخارج بدأت إبان الأزمة القبرصية سنة 1974، وتتابعت مع الدمج القسري لأتراك بلغاريا سنة 1985، وهو ما أعاد الى الصدارة مشروع (جامعة الشعوب التركية) التي تقول بالعودة الى الجذور التاريخية في آسيا الوسطى.
والحال، يرى نوفل أن هذا الوضع المستجد وفَّر لتركيا فرصة بناء مجال جديد للنفوذ، وأعطى جرعة من المعنويات للشعب التركي الخائب الأمل من مسألة رفض المجموعة الأوروبية انضمام (أنقرة) إليها. ومن مطلع سنة 1992، أخذت السياسة الخارجية التركية اتجاهات جديدة جعلت منها المُدافع والحامل لقضية الدول المستقلة حديثاً عن الإمبراطورية السوفييتية في المحافل الدولية، ومن عواقب ذلك حصول الجمهوريات الجديدة على عضوية (مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا).
بيد أن هذا النفوذ الجيو إستراتيجي يتساكن أو (يتجاوز ويتنافس) مع المصالح الروسية والإيرانية في المنطقة، وعلى ضفاف بحر قزوين. ولا يغرب عن بال الباحث اللبناني أن يشير الى دور طبقة برجوازية الأعمال في هذا الاندفاع نحو آسيا الوسطى، وتقاطعه مع الحاجة الأمريكية الى (وسيط) ومع الحاجة الأوروبية الى (حلقة وصل).
(2)
وفي موازاة هذا الصعود في مجال يمتد من البلقان الى الأناضول والقوقاز وآسيا الوسطى، برزت المشكلة الكردية الداخلية المُزمنة، وأخذت بُعداً عالميا، وازدادت تعقيداً بفعل احتداد النزعة القومية التركية، حاضنة الدولة الواحدة التي لا تقر بحقوق الأقليات، وذلك في مقابل نزعة تدفع بأنقرة الى الاستجابة للشروط العالمية في ما خص حقوق الإنسان، بغية نيل رضا المجلس الأوروبي.
ومن تداعيات تفكك الاتحاد السوفييتي أيضاً النزاع بين أرمينيا وأذربيجان حول منطقة (قراباخ). ومراودة تركيا نفسها بمعاودة (سياسة عثمانية) جديدة تجعل منها مرجعاً لمسلمي البلقان وقطباً في سياسة المحاور في المنطقة، ولا سيما في مواجهة اليونان. ويرى نوفل أن إحياء الأسلوب العثماني في إدارة العلاقات الخارجية إنما أتى من (باب تأمين دوائر النفوذ وليس التوسع بالمفهوم الإمبريالي)، على مثال دور متوازن بين أذربيجان وأرمينيا يمنحها صدقية في منطقة القوقاز، بمعنى إفادة تركيا من (تاريخها العثماني وموقعها الجغرافي المحوري) لهندسة النظرية السياسية للدولة، ما يحررها من إرث شروط تأسيس الجمهورية.
بيد أن ترجمة النفوذ ميدانياً تتحكم فيه شروط خاصة تعطي الأولوية لمن شاركوا في التجربة العثمانية، ونطقوا اللغة التركية. لذا، فإن العودة الى المشهد في آسيا الوسطى جاء على قاعدة مشروع (التوليف التركي الإسلامي) وهو رؤية للتاريخ تختلط فيها الكمالية بالقومية والإسلام.
ويُعَّد المؤرخ إبراهيم قفص أوغلو من أبرز الشخصيات الناشطة في الترويج لهذه الفكروية، وخطابها المُنتج (قومي)، ولكنه يأخذ الإسلام مرجعية قيمية له، ويجد جذره في الحركات والنزعات الدينية التي ناظرت التيارات السياسية الأخرى. وأتى إنشاء (بيت المثقفين) سنة 1970 على يد (أوغلو) بمثابة مدماك لقيام حركة تركن الى العقيدة، ومؤسسة تلقي (نظرة باردة على الأحداث والمشاكل)، وتتوقع حلولاً، وتَجْدِل عنصري الفكر التركي: القومي والديني.
وقد كرَّس الانقلاب العسكري سنة 1980 (مكانة الدين في المجتمع)، فجعل تعليمه إلزامياً في المدارس، وأطلق حرية انتشار مدارس (إمام ـ خطيب) الدينية. وأعلن رئيس الدولة آنذاك (الجنرال كنعان إفرين)، أن الدين الإسلامي توحيدي بما يكفي لنا للسماح بتجاوز صعوباتنا المقبلة. وبفضل هذه السياسة ارتفع عدد التلاميذ في مدارس (إمام ـ خطيب) بنسبة 65% بين عامي 1980، و1984.
يُفسر (نوفل) سياسة الجنرالات هذه، بأنهم بحاجة الى كابح اجتماعي يشكل جزءاً من ثقافة وطنية مُتبعة. وبدءاً من سنة 1986، جرى وصفها بأنها وليدة من مصدرين: ثقافة السهوب والدين الإسلامي. وقد جاء في تقرير صادر عن (مؤسسة أتاتورك العليا للثقافة واللغة والتاريخ)، عقب جمعيتها العمومية العاشرة (حزيران/يونيو 1986)، ما يأتي: (إن تركيا هي المؤسسة والممثلة لحضارات السهوب، والحضارة الإسلامية، والتوليف بينهما. ولقد تولت طوال قرون القيادة والمسئولية عن هذه الحضارات قبل عصر الأنوار، وعرفت حضارة الأناضول وعرَّفت عنها. ولقد اعتمدت على الأقل أساساً لكثيرٍ من الحضارات، مثل حضارات الصين ومصر والهند وبلاد ما بين النهرين.
وساهم التوليف، بحسب البروفيسور (إيلهان تيكيلي Ilhan Tekeli )، في الدفاع عن الثقافة الوطنية و(إعادة الحياة لها) بوصفها موحدة لأفراد المجتمع، ويُفترض أن تنشرها الدولة بصورة منظمة، وتُعطي الأولوية للأمة والدولة. ويرى (تيكيلي) أن المشكلة الوحيدة التي عرفتها الأمة التركية في شأن الحرية كانت حرية العيش في ثقافتها الخاصة.
غير أن مرجعية الكمالية حاضرة وواضحة في كونها أساس النظام الفكري، الذي تقوم عليه الجمهورية التركية، وهو ما يدفع الباحث الى القول إن أتاتورك وشخصيته في تركيا (من الرموز الراسخة في وقتٍ يجري بناء أيديولوجية أخرى استناداً الى التوليف التركي ـ الإسلامي).
ويؤكد هذا النزوع الفكري كون أنقرة قوة إقليمية تحمل على عاتقها إرث (المنطقة الوسيطة) الممتدة من شمال إفريقيا الى تخوم الصين، الأمر الذي يعني حكماً العودة الى التقارب مع العرب وقضاياهم.
يتبع
المصدر: المجلة العربية للعلوم السياسية/ العدد 28/ خريف 2010 والصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت.