ليس دفاعاً عن الدكتور البوطي
بدايةً........... أود أن لا يفهم هذا المقال على أنه دفاعاً عن فضيلة العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي لسببين لا ثالث لهما أولهما أنه ليس بمتّهم حتى يتم الدفاع عنه والثاني هو أنني غير جدير بالدفاع عن هذه القامة من قامات عالمنا الإسلامي , فالدكتور من العلماء القلائل الذين يشهد لهم القاصي والداني بالاعتدال في النهج والاستقامة في السلوك ونظافة اليد والجيب من ملوثات الفساد والإفساد .
رغم قربه من السلطة إلاّ أنه لا يستغل هذا القرب بنفوذ أو تكوين أيدي أخطبوطية فهو إنسان قد خرجت الدنيا من عينه
البوطي : هو رمز من رموز الأمة.
وقامة من قاماتها .
لست مدعياً إذا قلت أنه ثغر من ثغور الإسلام.
الدكتور البوطي من الأوائل الذين حاربوا ولا يزالون يحاربون البدع و المنامات والروئ التي تخرج عن إطار الإسلام.
لست مريداً للدكتور البوطي (بالمعنى الذي يعتقد به الصوفية ) و لم التقي به في حياتي كلها , لكنه كان ولا زال يمثل بالنسبة لي شخصياً :
· بوصلة الأمان من الانزلاق في متاهات الفكر.........
· صمام أمان افتراضي لي شخصياً وللآلاف من أمثالي ممن تذوقوا الفن والأدب والسياسة قبل الأحكام الشرعية من فضيلة الدكتور .
الدكتور البوطي بحر هائج من العاطفة , ولا أُلقي بالاً لمنتقديه على تعدد لحظات بكائه أمام الملايين............ فهو صادق صدوق , ليس ممن تقرأ له فتشعر انه نبي , وترى أفعاله فتجدها أفعال شيطان.
الدكتور البوطي المتصف بوسطيته عندما يكسر جدار الصمت ويتكلم , فإن حدثاً جللاً سيحدث.........
هو لم يتحدث عن المسلسل فقط .......... تكلم عن المنقبات اللواتي طردن من سلك التعليم , تحدث عن المدارس الدينية ............
الإعلام عامةً..... الفضائحيات (الفضائيات) خاصةً ...... تهوى إثارة الفتن وتعميق الفجوة وتحريف الكلام وتسطيح الفكر, فركزت على نقد الدكتور لهذا المسلسل التافه وتركت الأهم والاهم معروف .
أثارت هذه الزوبعة على رمز من رموز الأمة وأكثرت القيل والقال , وكثر الشطط وقلة الأدب والتطاول على هذا الرمز , لم يحزني الهجوم الذي مورس ضد دكتورنا الفاضل من قبل بعض الشخصيات التي تتسم بلبراليتها وعدم قدرتها عن فهم ما قاله الدكتور.
أحزنني أن يهاجم الدكتور من بعض الأقلام التي تتسم بالإنصاف ومن نفس المدرسة الفكرية والدينية .
طبعاً الدكتور لا يُلقي بالاً لكل هذا اللغط وهذا الإسفاف في بعض المواقف وهو يتابع مسيرته غير آبهٍ بهذا أو ذاك فهو الآن وبهذه اللحظات التي ينشر فيها المقال يحضر المؤتمر الدولي للوسطية والاعتدال الواعي المنعقد في اليمن .
يكاد يكون الدكتور البوطي من الصنف النادر في عالمينا الإسلامي والعربي :
فهو صاحب منهج يتجسد بالابتعاد عن السلطة والأحزاب والانتماءات العرقية والفكرية التي تُشتّت أكثر مما تُجمّع وبالمقابل يكون حازماً شديداً أذا ما انتهكت حرمات الله .
فهو إنسان يُجمّع ولا يُفرّق .......
يعتبر الإسلام هو المعصم الذي يجمع جميع الأحزاب والأيديولوجيات والأفكار والرُؤى لذلك يتحفظ على وجود أحزاب باسم الإسلام .
وقد عُرض عليه في ثمانينيات القرن الفائت إنشاء حزب سياسي له صبغة دينية ولكنّ تمسكه بمبدئه جعله يرفض.
ليس مثل أولائك المتراقصين على أنغام السياسة ’ فتبدّل الأحكام لديهم مرهون بتبدّل المصالح والأولويات.
كما عُرض عليه تأليف كتاب عن السيرة النبوية واستمات الدكتور في سبيل ذلك ولكن تبين له فيما بعد أنهم يريدون سيرة تجعل من محمد صلوات الله عليه وسلم عقلية علمية عسكرية فذة لكن لا علاقة لها بالسماء ’ فكل خارقة جاء بها القران أو السنة تؤوّل : فطير الأبابيل هو مرض الجدري ’ والملائكة التي أمد الله بهم في غزوة بدر هم الدعم المعنوي ’ والإسراء هو عبارة عن سياحة الروح في عالم الرؤى .
رفض الدكتور رفضاً جعله يحارب هذا التوجه وألف كتابه الشهير فقه السيرة النبوية مع موجز عن الخلافة الراشدة فضح فيه كل هذه التوجهات.
فما أشبه اليوم بالبارحة اليوم الدكتور يحارب لأنه عبّر عن رؤيا وكأن المنهج العقلي الذي أرساه عبر ما يزيد عن ستون سنه في ميادين الدعوة وجهاد الفكر وتقويم المعوج سينقلب إلى خرافات وخزعبلات وترهات بمجرد التعبير عن رؤيا رآها النائم .
هذا الكردي الذي يحاربه أبناء جلدته أكثر من غيرهم عندما يجد فيهم من يضل السبيل , ويتجاوز التاريخ والجغرافية والدين , فهو يقول في وضح النهار: (لقد تبرأت ذات يوم - وأنا مسلم - من إسلام الذين يخونون إسلامهم بالعمالة والانقياد لأعداء الله تعالى وأعداء عباده المسلمين. أفلا أتبرأ اليوم - وأنا كردي - من انتماء الذين يخونون قوميتهم الكردية بالعمالة ذاتها؟!..) وكان ذلك اثر الخيانة التي ظهرت بوضوح أثناء الضياع الثاني للعراق .........
العراق......... فلسطين ............. ثوابت الأمة ومقدساتها .
كلها كان الدكتور البوطي من أشد المكافحين في الذودِ عن حماها
المؤمن كَيّس فطن : هذا ما ينطبق علة الدكتور البوطي بتعامله مع السلطة والإعلام والناس..............
ولكن عندما يجد أن هناك خطراً كبيراً : لا يتردد في أن يفتح جبهات صراع ولا أشك أنه مستعدٌ أن يذهب شهيداً في إحداها: في الثمانينات عندما كانت سورية في حالة من حالات الاضطراب وهناك تفجيرات ودماء تسيل , والفتنه على أوجها: لم يتردد الدكتور على طرح مذهبه ورأييه الفكري , وكان يمكن بسهولة أن يكون شهيداً في سبيل هذا الرأي لكن حرصه على الإسلام أولاً وعلى نعمة الأمان ثانياً, جعلا منه أسطورة في تحدي المخطأ ( حاكماً كان أو محكوماُ), فالدكتور لا ينافق للجماهير كما هو ديدن البعض ,لأن النفاق للجماهير أشد فتكاً بالأمة من النفاق للسلطان .
في نفس الفترة كانت له انجازات كبيرة في تفنيد أطروحات الشيوعية عندما كان هناك اتفاق استراتيجي مع الاتحاد السوفياتي وكانت له مناظرات فكرية أعادت الصواب إلى أذهان العديد من الشباب الجامعي الذين انجرفوا في تيار الشيوعية ( فإذا أراد البعض أن يهمز ويلمز بأن موقف الدكتور في أحداث الثمانينات يتماشى مع موقف سياسي سائد فهنا يتبين أن موقف الدكتور مبني على عقيدة وقناعة لا على تماهي ومسايرة فالعلاقة مع الاتحاد السوفيتي كانت تسمى علاقة إستراتيجية حينها ورغم ذلك اتخذ هذا الموقف الحر)
كما كانت هناك صراعات فكرية مع من يريد تسطيح الدين وإلغاء كل هذا التراث للمذاهب الإسلامية والعودة إلى عهد الرسول الكريم بعقلية لا تؤمن بتماشي الإسلام مع مجريات العصر: فكل شيء بدعة والبدعة ضلاله والضلالة في النار.............
حارب ويحارب تيار التكفير ويدعو للوسطية الإسلامية التي لا يتلفظ بها كثيراً ( مصطلح الوسطية) لأنه كما يقول أحجم عن ذكر المصطلحات لأنها تثير حساسية البعض .
أوضح الدكتور أنه مسلم حقيقي ليس بسلفي أو صوفي أو.......... إنه مسلم ’ فانصبت عليه الحِمم من جميع الأطراف لأنه ينتقد ويفند خزعبلات من يعتقدون انه من الصوفية والصوفية منهم براء , وينقد و يفند حجج و هلوسات من يعتقدون أنهم سلفية والسلفية منهم براء’ الدكتور البوطي عالم جليل لا يتكلم بالمنامات والخرافات ومنهجه العقلي والفكري واضح جلي ليس فيه أي لبس أو غموض .
الدكتور البوطي عقلية علمية باحثة عن الحقيقة ولا ينتمي إلى جماعة أو مؤسسة أوجهه ولا يُدعم من جهة خارجية أو داخلية , يغير أرائه و أفكاره واعتقاداته واجتهاداته الفكرية إذا تبين له اعوجاجها : وهذا ما لمسته شخصياً من خلال قرأتي بعض كتبه في الطبعات اللاحقة والسابقة ’ كما هو الحال في كتاب الجهاد ( بعض الأفكار انقلبت إلى النقيض ).
الكل ينكر عليه رؤية رآها فيما يراه النائم ...........
ولكنه ليس بنائم .........
إنه سراج ينير للنائمين طريق الهداية .
إنه شعلة أمل يتكالب عليها المبغضون لتنطفئ .
رؤيا رآها فيما يراه النائم ............... ولكن منهجه ليس منهج نوم ولا يمكن لنا أن ننكر عليه النوم ولا أن يتحدث عما يراه في النوم.
منهجه منهج يقظه وهو يريد أن نجعل كل حياتنا يقظةً وبناءً وتحدٍ للأطر السائدة و الأفكار المنتشرة.
هناك لحظات لا مفرّ فيها من فتح جبهة لتنقية وتكرير موروثنا مما يناقض نصوص ديننا الثابتة والصحيحة, لكنني أعتقد أن منتقديه لم يصيبوا في اختياره النموذج الذي يمثل هذا النمط (نمط التفكير المنامي), فالدكتور لا يمكن أن يمثل هذا النمط .
فقد كان يمكن أن يُدرس الموروث الديني دراسة واعية معمقة ولنأخذ الإمام محمد الغزالي مثالاً ونناقش ما دار ويدور من عملية التأصيل للمنامات في ديننا الحنيف , أو أي شخصية أخرى تتحدث عن الروئ و المنامات’ لأن الهجوم على الدكتور في هذه اللحظات العصيبة يجعلنا نتسائل هل منتقديه ممن يصطادون في الماء العكر وهل يحاولون ربط أسمائهم الصغيرة بمثل هذه القامة.
كيف ذلك ؟!!!!
وأغلبهم من أصحاب مشاريع فكرية مميزة, ولهم أسماء كبيرة جداً ’ إن من يريد تفنيد هذه الظاهرة (ظاهرة المنامات والخزعبلات) يحتاج سلسلة من المقالات تستقصي مكامن الخلل في الموروث وتعيد بناء منهجية التعامل مع هكذا أخطاء, وتعري من يستحق التعرية من مشايخنا وعلمائنا الأفاضل ولكن هذا يجب أن يكون بعد دراسة الأثر والموروث دراسةً كاملةً ثم تبدأ عملية الإسقاط على مجتمع العلماء المعاصرين .
لكنّ ما تم في أغلب المقالات التي قرأتها هو العكس’ كما أنه من حسن الأدب مع الدكتور ومسيرته أن تُرسل له رسائل تتضمن هذا النقد قبل أن تُنشر هذه المقالات , والدكتور البوطي عقلية منفتحة أذا اقتنع يغير اعتقاداته وآراءه ( وهذا ما ذهبت إليه الأخت الإعلامية سهير جزاها الله خيرا ) .
وكان يمكن للبعض من منتقديه أن يعيدوا دراسة كتاب إحياء علوم الدين ويبينوا لنا مواضع الخلل ويجروا التصحيح اللازم والمتوافق مع (منهج اليقظة), وبذلك تكون المكتبة الإسلامية قد أكسبت درراً نفيسةً وعند ذلك نسمي الكتاب( إحياء علوم الدين) يقيناً لا مجازاً كما أوضح بعض منتقديه ( طبعاً هذا يحتاج إلى صبر ومثابرة ووقت طويل) .
ختاماً : أحب أن أعتذر من منتقدي الدكتور محمد سعيد إن كنت قد أسأت الأدب في معرض حديثي هذا , ولكن الخطب جلّل , فبدل أن نغض الطرف عن ترهات الفضائيات , أجد العقلاء يزيدون الجرح النازف جروحاً...............