سقط القناع عن القناع
مقالات ملفقة (17\2)
بقلم - محمد فتحي المقداد
ارتبطت كلمة الأقنعة بحجب الحقائق وإخفائها، فإذا ما سقطت بانت الأمور جليّة بوضوحها، وكثيرًا ما يأتي السّقوط مُدوّيًا مُحدِثًا ضجيجًا مؤقّتًا حتّى تنقشع الرؤية عن الزّيْف و المَيْن الحائل بين حقيقة الحالة ووعيها.
وفي التَّنزيل الحكيم: (وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ) [ الأعراف: 149]، دلالة على النّدم والحيْرَة، وهو تركيب لغويّ جاء به القرآن الكريم، وظنّ أبو النوّاس أنّ فِعْل سَقَط يُبنى للمجهول، ونَشْوَة سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي، والسّقوط في مثل هذا استنفر علماء اللغة لأن وزن (فُعِلْتُ) لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ، و(سَقَطَ) لازمٌ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفةِ؛ لا يقالُ: (سُقطتُ). عِلمًا أنّ سقوطنا من بين الدول المتقدّمة لا يمكن أن يُبنى للمجهول، وهنا أجد أن التوسّع بالشرح لا يمنعنا من السقوط بالندم.
فكم من السنين عانت مدينة برلين الألمانيّة من الإنقسام بجدار فصل المدينة إلى اثنتين، والشّعب الواحد إلى شعبيْن، كان ذلك ضريبة الحرب العالمية الأولى، ونشوء نظام القطبيْن بكتلتيْه الشرقيّة و الغربيّة والحرب الباردة، وفي 1961بدؤوا ببنائه (جدار برلين)، وجرى تحصينه وبقي يشطر المدينة إلى قسمين، وصار الحدّ الفاصل بين ألمانيا الشرقيّة و الغربيّة إلى أن تمّ فتحه 1989 وهدمه وإزالته، وكان إيذانًا بانتهاء مرحلة الحرب الباردة، واختفاء دولة الاتّحاد السوفييتي وتفتّته إلى دول عديدة، واستقلال دول المنظومة الإشتراكيّة بقراراتها وسياساتها، وتحوّل بعضها إلى الخيار الديمقراطي، وغيرّ اتجاهه بانضمامه للإتحاد الأوربيّ وحلف النّاتو.
فإذا ما سقطت أي مدينة فيكون قد تمّ احتلالها من قِبَل العدوّ، وتُعتبر مدينة بغداد بسقوطها الأوّل 1258م على يد التتار و المغول، إلى سقوطها الثّاني 2003 على يد التحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ففي كلا السقوطيْن يُشار إلى الخيانة الداخليّة، ووقفت الأمّة العربية مهيضة الجناح كسيرة الظهر، عندما فقدت ظهيرها وسندها العراق.
وإذا سقط اللّيل وحلّ الظلام ظهرت الخفافيش، وامتدّت الأيدي القذرة لتقبض الثمن الموعود فيما قدّمت أو ستقدّم من خدمات مأجورة، تستيقظ المؤامرات وتسقط الضمائر، فقد صار السّقوط مُستقّرًا في ضمائر البشر خاصّة في حالة ضعف الأمم تاريخيًّا التالية لحالة الصّعود عند الوصول للقمّة، فمن سقوط الأندلس إلى سقوط القدس بيد الصليبيين وسقوط الدولة العثمانية وسقوط فلسطين بيد اليهود إلى سقوط الجولان، وآخرها سقوط ورقة التوت فبانت عورة الممانعة و المقاومة التي كانت موضة رائجة قبل مجيء الثورة السوريّة 2011م، كلّها مؤشّرات للخيانة من الخناجر الطائفيّة الحاقدة المسمومة التي طعنت الأمّة في ظهرها.
والسقوط سنّة من سُنن الكون، والسّقَط من كلّ شيء الرّذل و الخسيس، و الرديء الحقير من المتاع ومالا خير فيه من كلّ شيء، و إذا سَقَط الرّجل من عيني لسوء تصرّفه، فيكون قد فَقَدَ مكانته عندي صار حقيرًا، وأسقاط النّاس أوباشهم و أسافلهم. وفي هذا المعنى يتردّد على ألسنة العامّة من النّاس عن شخص ما أنّه (إسْقاطة) لما وجدوا فيه من خساسة أطباعه وسوء تصرّفاته.
عند مجيء فصل الخريف تتساقط وتناثر أوراق الأشجار وتتعرّى أغصانها وفروعها؛ لتستعدّ لدورة جديدة من حياتها بحُلّة من البهاء بعد ارتوائها من الأمطار و الثللوج المتساقطة من السماء.
بالإنتقال إلى قاعات المحاكم ومكاتب المحامين لابدّ لنا أن نسمع منهم أنّ القضيّة أو الخصومة سقطت عندما ينتهي الحق في متابعتها، وكثير من القضايا المصيريّة سقطت بالتقادم كقضية فلسطين، مثلما تسقط حكومات الدّول نتيجة سوء الإدارة وكشف مآلات الفساد في ملفّاتها، أو نتيجة قرارات (فرض الضرائب - التخفيض من الضمانات الصحيّة) ضارّة بحياة شعوبها التي تنزل للشوارع تعبيرًا عن غضبها، ولإثناء حكوماتها عن المُضيّ في الإضرار بمصالحهم وحياتهم اليوميّة إذا كانوا في دول ديمقراطيّة، هنا يأتي سقوط الحكومة حلًّا من رئيس الدولة وتشكيل حكومة جديدة تأتي ببرامج أفضل تستجيب للمطالب الشعبيّة.
وتأتي قصيدة الشّاعر محمود درويش (سقط القناع عن القناع) لتتصدّر عنوان هذه الملفقّة لما لها من وقع خاصة على أذني وأنا أسمتعها من لسان الشّاعر، وبما تُعبّر بدقّة متناهية لتوصيف الواقع المؤلم المُبكي: (سقط القناع \\ عرَبٌ أطاعوا رومَهم \\ عرب وباعوا روحهم ..\\ عرب..وضاعوا \\ سقط القناع عن القناع \\ سقط القناع ....). وقد غنّاها الفنّان السوري الثائر سميح شقير، إضافة للمطربة ماجدة الرّومي.
ومما يأتي السّياق على ذكره، مطلع معلقة إمرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل \\ بسِقطِ اللِّوى بين الدَّخول فَحَوْمَل
وجبلا الدّخول وحومل يقعان في منطقة (عالِيَة نجد)، وبالتحديد في موقع يُسمّى حاليًّا (جَفرة الصّاقب)، ولولا أن القصيدة حفظت المكان في ذاكرتها؛ لكان قد طواهما النسيان. و(سقط اللّوى) هو المكان الواصل بين جبليْ الدّخول وحومل، بما فيه من رمال وكثبان واعوجاجات وتعرّجات.
وسقوط الشّاقول من الأعلى ولا يصطدم بشيء يعيق مساره يُعتبر سقوطًا حُرًا يقيس دقّة البناء، ومن سّقط في مهاوي الفساد و الرذيلة نستعير له معنى السّقوط الحُر، فمن أدركته هذه الحالة فيكون قد سقط من أعين النّاس، أي ذهبت هيبته ورزانته من أنفسهم، لسوء تصرّفاته، وفَقَدَ مكانته عندهم وصار حقيرًا.
والمرأة في أثناء حملها إذا أصيبت بعارض ما، قبل موعد وضعها لجنينها؛ فتُسقطه ويسمّى السُّقط إذا كان قبل تمامه في الخَلق سواء كان ذكرًا أو أنثى, وسِقطا الليل ناحيتا ظلامه, وسقوط الجمرات الثلاث يكون موعد انتهاء فصل الشّتاء وإيذانًا ببدء فصل الرّبيع, و الحراميّة يسقطون على البيوت إذا ما وجدوا ثغرة سقطت التحصينات منها وينفذون من خلالها للسرقة، وأيضًا من سقط على امرأة في بيتها قاصدًا فعل الرذيلة فيكون قد ارتكب جُرمًا شنيعًا، ويضرب له المثل التّالي (سقط العشاء به على سِرْحان)، دلالة لمن يبغي البُغيّة فيقع في شرّ أعماله. والكسلان من الطلّابداة توضع للبيتتو
حتمًا سيسقط في صفّه عندما سقطت عنده خواصّ الحفظ والمتابعة. وهناك من يدفع الأموال لأشخاص من أجل سُقوط صلاة عن والدِيهم المُتوفّين (أي يُصلّون عنهم).
كما أن كتاب (سقوط الحضارة) للمفكّر البريطاني كولن ولسون، يشير إلى أنّه كلّما وصلت الحضارة إلى لحظة أزمتها؛ صارت قادرة على خلق أنموذج من الإنسان القادر على القيام بأفعال و أفكار من شأنها تلمّس أسباب الإنهيار و السقوط، ومحاولة إيجاد السّبُل و الوسائل للنهوض من جديد لمتابعة المسير.
إلّا أن سقوط أحجار (الدُّومينو) تعبير مجازيٌّ في أحد جوانبه عن سقوط المنظومة الأخلاقيّة في العالم الحُرّ، بصمته المَهين على ما يجري من قتل ودمار وتشريد خاصة في الشام والعراق وفلسطين.
آملُا أن أكون قد وفيْتُ مقالتي حقّها بعيدًا عن سَقْط القَوْل، مُتجنّبًا السقوط في مطبِّ الإطالة، وكي لا أسقط سقوطًا حُرًّا بسقوط بعض المعاني من ملفّقتي هذه حرصتُ قدر استطاعتي على ذلك، ولايُكلّف الله نفسًا إلّا وُسعها.
عمّان \ الأردن
12 - 9 – 2017