نَبضٌ مَقدسيّ


في معرض بحثي عن الرواية المقدسية، التي تتحدث عن القدس، تأريخاً وتوثيقاً، رائحةً وفضاءً، ذاكرة وأوابد وبشراً.. رواية مقدسية، ليس من أجل تطلّع إقليمي ضيّق، بل لأنها القدس، المنارة التي تدلّ على فلسطين، كلّ فلسطين، ولأنها المستهدفة، كانت، عبر غزوات متلاحقة من أممّ طامعة، وما زالت مستهدفة بضراوة أعنف لطمس معالمها، وشواهد انتماء الفلسطينيين إليها.
كانت المناسبة «احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية» في حينه، بحثت كثيراً في بطون الكتب، ودهشت عندما لم أجد غير النزر اليسير جداً من روايات تناولت القدس في أحداثها وشخوصها ومعالمها، لعلّ من أبرزها رواية (ظلّ آخر المدينة) للكاتب الأديب محمود شقير، وهي عبارة عن يوميات وصف ورصد مقطعي لأحياء وأشخاص وأحداث قد تكون منفصلة عن بعضها.
ومن أجل أن نوفي الموضوع حقّه، والمناسبة حقها أيضاً، أعلنا في وقت سابق عن مسابقة «جائزة الرواية المقدسية» ووصلنا عدد من الروايات، يؤسفني أن أقول إن أكثر ما وصلنا كانت مشاريع روايات تلامس موضوعة القدس في سياق سرد لأحداث عامّة، ولا تدخل في الحراك اليومي، الوطني والقومي، الاجتماعي والإنساني المقدسي في مسار رواية تتناول ما يمكن تناوله من معطيات لبناء رواية متكاملة، والتدليل على مكانة القدس الخالدة في ضمير الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وكي أكون منصفاً أقول: إن هناك روايات كثيرة تحدثت، عبوراً أو ملامسةً، عن القدس دون الدخول في صلب حِراكها.
وروايات أخرى راكمت معلومات مستخلصة من كتب الرحّالة عبر حقب التاريخ أمثال الرحّالة (أبو الحسن الهروي، وابن بطوطة، ومحمد مكانسي، وناصر خسرو، والشريف الإدريسي السبتي.. وغيرهم) الذين زاروا القدس، وكتبوا الكثير عن أوابدها ومعالمها الدينية على وجه الخصوص،وأبدعوا في وصف المسجد وقبّة الصخرة والحواري والسبلان..
في رواية «عناق الأصابع» للأديب عادل سالم، لمستُ جدران القدس التي أعرفها، شممتُ روائح أسواقها، وطربت لتلك اللكنة المقدسية المحببة التي شَدَتْ من وراء السطور.
وإذا خرجنا من إطار التقويم الفني الذي أتقن الصنع والبناء، وابتعدنا عن صفاء اللغة المتماسكة المتينة، وجانبنا تراكيب الصور الأخّاذة، وقفزنا عن رشاقة الحوار في الرواية، لا بد أن نقف طويلاً أمام رهافة الحسّ، وأمام نبض العشق، وتلك العلاقة، التي تكاد تتماهى مع ألَقِها الفني كرواية تنتمي إلى جنس النثر، وكاتبها العاشق حتى نخاع العظم، حتى وهو يتلوّى حزناً وقهراً، وحتى وهو يلامس ألم الأسير، وبرودة القضبان، وعيون الآسرين الشامتة، ليخلق من هذه المضادات العجيبة خشبة مسرحٍ فرش عليها القدس ونساءها ورجالها وفتيانها، ورشق فوقهم ملاءات حب وفداء، فلم يتحركوا وحدهم على أرض المسرح الحيّ، بل أخذونا كي نعاني ونحيا في الحراك ذاته، وندخل إلى فضاء المشاهد، شخوصاً نتحدث دون أن نحمل بين أيدينا نصّاً مكتوباً، وكأننا نحن جميعاً مأسورين في الدائرة ذاتها.
رواية «عناق الأصابع» للأديب عادل سالم، حفرت منحىً جديداً وحديثاً في مسار الرواية الفلسطينية الملتزمة والمقاومة، ودَخلت بقوّة إلى عمق معاناتنا الإنسانية، وأضاءت بشفافية على القدس وناسها الأسرى، وأرست فينا ذلك اليقين الذي لم يغبْ عن أحاسيسنا لحظة، بأن كلّ الغزاة الذين مرّوا على القدس، ذهبوا.. وبقيت القدس، وسيذهب الغزاة الجدد أيضاً.. وستبقى القدس.