زبدة الحَلَب من تاريخ حلب
* سلام مراد

أثار كتاب ابن العديم زبدة الحَلَب من تاريخ حلب اهتمام المؤرخين الذين أفردوا لحلب كتاباً وذكراً.
وقد تأثر خطاه كثير ممن جاء بعده, فحذوا حذوه, وسعوا سعيه فمنهم من أخفق ومنهم من وفق, ومنهم من أعاد في كتابه ما قال ابن العديم وردد ما قرأ فيه, ومنهم من لخص منه وأكمل عنه إلى زمنه.
فمثلاً ابن الشحنة (المتوفى سنة 883هـ) اختصر من ابن العديم, وأخذ من فصوله, وأوجز في كتاب سماه الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب.
سبب تأليف زبدة الحَلَب:
عكف ابن العديم على تاريخ حلب يكتب فيها على السنين بعد أن كتب على الحروف, فقد أراد أن يفعل أولاً كما فعل مؤرخو البلدان, ثم أراد أن يضع ثانياً ما صنع الطبري وابن الأثير وغيرهما, مقتصراً على ما يلم ببلده وما يتصل بها.
يتساءل د. سامي الرهان عن سر عكوف ابن العديم على الكتابة عن حلب أولاً وثانياً.
فيتساءل أهو تعصيب للبلد, أم حب مسرف لأهله, أم تفاخر وتنافس؟!, لعل الذي دفع ابن العديم بعضُ هذا, بل لعله رأى غير ما نرى, فنظر في البلدان الإسلامية لعصره, وقد شرّق فيها وغرّب, زار العراق والحجاز, وعرف القدس واتصل بمصر, فرأى أن هذه البلدان جميعاً تنظر إلى حلب نظر الإكبار والإعجاب, فقد كانت البلد مبعث حركة ونشاط, وحرب وقتال وجهاد ونضال منذ فجر الإسلام حتى عصره, منها كانت تهبّ الجيوش ذابّة عن الحياض, وبغداد بعيدة, والحجاز غائبة, ومصر مراقبة, وكان الشعراء والعلماء والشيوخ والفضلاء إليها يغدون, فكأنها كعبة يعجّ إليها الناس من كل فجّ عميق, يقصدها العلماء والشعراء من مصر والعراق, يعمرون مدارسها وحلقاتها, ويملئون صدر أهلها بالشعر والنثر, وقد وصفها ياقوت في عصر ابن العديم فقال: "وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ".
وأضاف ياقوت قوله: "وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء, ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم, وتثمير الأموال, فقلّما ترى منشئها من يتقيّل أخلاق آبائه في مثل ذلك؛ فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة, ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان".
هذه هي حلب في عهد ابن العديم, وهذه سعتها ومكانتها وصفها ياقوت وصفاً دقيقاً, بيّن فيه أهميتها, فكأنه أراد أن يدفع القراء إلى تلمس تاريخها والتعرف إلى عظمتها, وكأنه أراد أن يقول إن لجوء العلماء والمؤرخين إليها كان لما لها من موقع مفرد فذّ.
وهذا أحد الأسباب التي دفعت ابن العديم إلى أن يخصّها بكتاب مفصّل على الحروف أولاً, ومختصر على السنين ثانياً.
خطة الكتاب
جاء في لسان العرب أن "الزَبَد: زبد السَّمْن قبل أن يُسلا, والقطعة منه زبدة, وهو ما خلص من اللبن إذا مُخِض... والزُبُدُ: بالفم خلاصة اللبن واحدته زُبْدَة".
وجاء في اللسان كذلك أن: "الحلَب استخراج ما في الضرع من اللبن يكون في الشاء والإبل والبقر, والحَلَبُ: مصدر حَلَبْها يَحْلُبُها حَلْباً وحَلَباً وحِلاَباً".
ويقول ابن العديم نفسه في فاتحة الزبدة: "ورسمته بزبدة الحلب لأنه منتزع من تاريخي الكبير للشهباء المرتّب على الحروف والأسماء".
فهو استخلصه من كتابه الكبير, وشرح سيب تسميته له بإيجاز.
فقد بدأ "الزبد" في مقدمة موجزة بحث فيها تسمية البلد, واختلاف العلماء حولها, وتطرق إلى المشارقة والمغاربة لعهده فبسط نظرياتهم في اسم "حلب" مما يتفق والعلم الحديث اليوم.
ثم ذكر بناءها وتاريخ البناء, ثم عرض إلى حلب في الزمن القديم فذكر إلى ذكر الخلفاء الراشدين, ذكر الفتح وما وراءه من خبر خالد بن الوليد وعزله, ثم ذكر الولادة في حلب حتى جاء الأمويون فذكر وقائعهم وولاتهم وقصورهم في أطراف حلب وموقف البلد من حكمهم, وكذلك فعل في العباسيين فأورد أسماء ولادتهم وقضاتهم, ولم ينسَ ابن العديم صلة مصر بحلب, فذكر الطولونيين والإخشيديين حتى تقلص ظل هؤلاء, وقام من الشمال رجال تحدّروا من الموصل يريدون المدينة عاصمة ومستقراً؛ فذكر سيف الدولة وحروبه, وذكر ابنه سعد الدولة وحفيده سعيد الدولة وما وقع لهما من معارك ضد المصريين.
فلما انتهى من الدول المصرية, والدولة الحمدانية, انفرد وحده بين المؤرخين في تفصيل الأمر في المرداسية وهي دولة عربية, نبتت من صميم الشام, حاربت المصريين حيناً وخضعت لهم حيناً, ثم نهضت للروم حيناً وسكنت إليهم حيناً, حتى انقضت المرداسية وقامت العقيلية وتبعتها دول أخرى.
ثم الجزء الثاني, فيه تاريخ الحروب الصليبية وما أصاب الحلبيين من نعيم وحجيم القتال, إلى أن يقف به المطاف في حوادن سنة 641هـ.
ذلك هو التاريخ السياسي لحلب, فقد فهم الرجل أحسن من يفهم تاريخ بلاده وأمته, فشرح كيف كانت حلب, أي سورية الشمالية, تتأرجح بين نفوذ المصريين حيناً, وسيطرة بغداد حيناً, وهجوم الروم أحياناً.
صور أهمية حلب منذ عصورها الإسلامية الأولى, تننازعها الدول المختلفة كأنها تبدّل الكفة وترجح الميزان, ورسم لنا هجمات الروم البيزنطيين حين يغيرون على الشام فيرتطمون على صخور حلب وكانت الحصن الحصين والشوكة النافذة, والخطّ المدافع ضد هؤلاء القوم, ويشير د. سامي الدهان إلى أن القاضي ابن العديم كان منصفاً في تاريخه, حيادياً في تأليفه, ذكر المسلمين بما فيهم من عيوب ومالهم من فصائل, وبسط الأمر في انكسارهم وفصّله في انتصارهم, لم نقع له على مدح متجاوز أو قدح مُعْرض ولم نر في أسلوبه أثر العاطفة الدينية والسياسية والاجتماعية.
ابن العديم:
المولى الصاحب كمال الدين أبي القاسم عُمر بن أحمد بندهية الله ابن العديم 588هـ 660 هـ أجمع المؤرخون على إيراد نسب ابن العديم, فجعلوه إلى ابن أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين عليّ ـ عليه السلام, ورقوا به إلى ربيعة فعقيل, ثم عامر بن صعصعة ومعاوية بن بكر بن هوازن, وحفصة بن قيس بن عيلان, ومضر بن نزار بن معد بن عدنان, وعدنا بن عيلان, ومضر بن نزار بن معد بن عدنان, وعدنان جد تقف عنده أنساب العرب, والمؤرخون على أنه من أبناء إسماعيل بن إبراهيم, وإلى عدنان ينسب معظم أهل الحجاز.
تصانيفه:
1 ـ كتاب الدراري في ذكر الزراري.
2 ـ كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة.
3 ـ كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح.
4 ـ كتاب في الخط وعلومه ووصف آدابه وأقلامه وخروسه.
5 ـ كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري.
6 ـ تذكرة ابن العديم.
7 ـ الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيْب.
8 ـ كتاب تبريد حرارة الكياد في الجر على فقد الأولاد.
9 ـ بغية الطلب في تاريخ حلب.

سلام مراد