رحلة مع القائد نور الدين زنكي ( 2 )
د. علي محمد الصلابي
باحث ليبي في التاريخ والحضارة الإسلامية
خامساً: قوة الشخصية:
كان نور الدين محمود قوي الشخصية، قديراً على الوقوف في نقطة التوازن بين الصرامة والمرونة، والشدة واللين، والعنف والرحمة، وقد وصفه ابن الأثير بأنه كان: مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته، وأنه كانت إليه النهاية في الوقار والهيبة، شديداً في غير عنف، رقيقاً في غير ضعف، ويصف مجلسه فيقول: وكان مجلسه كما روي في صفة مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلس حلم وحياء، لا تُؤبّن فيه الحُرَم، ولا يُذكر فيه إلاّ العلم والدين وأحوال الصالحين والمشورة في أمر الجهاد، وقصْد بلاد العدو، ولا يتعّدى هذا.. وقال الحافظ ابن عساكر الدمشقي: كنا نحضر مجلس نور الدين فكنا كما قيل: كأن على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة والوقار، وإذا تكلم أنصتنا، وإذا تكلمنا استمع لنا وقال ابن كثير: لم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضا، صَموتاً وقوراً. وكان نور الدين محمود يملك هيبة عجيبة على موظفيه، ويلزمهم بوظائف الخدمة: ولم يجلس عنده أمير من غير أن يأمره بالجلوس باستثناء نجم الدين أيوب.. وكان مع هذه العظمة وهذا الناموس القائم، إذا دخل عليه الفقيه أو الصوفي أو الفقير يقوم له ويمشي بين يديه ويجلسه إلى جانبه، ويُقبل عليه بحديثه كأنه أقرب الناس إليه، وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً كثيراً يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننتصر على الأعداء، ولهم في بيت الله حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.
سادساً: محبة المسلمين له:
عندما تحدث ابن كثير في أحداث سنة 552ﻫ قال: وفيها مرض نور الدين، فمرض الشام بمرضه، ثم عوفي ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، وقال في أحداث سنة ثمان وخمسين وخمسمائة: وفيها كبست الفرنج نور الدين وجيشه فانهزم المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ونهض الملك نور الدين فركب فرسه والشَّبحة في رجله فنزل رجل كردي فقطعها حتى سار السلطان نور الدين فنجا، وأدركت الفرنج الكردي فقتلوه، وفيما ذكره ابن كثير يظهر الحب العميق الذي تكنه الأمة لنور الدين وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، وما أبلغ تعبير ابن كثير: مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه، فهل هناك تلاحم بين القيادة والقاعدة مثل هذا في ذلك الزمن، ومن أسباب ذلك الحب صفات نور الدين القيادية، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، وكان يفرح لفرح المسلمين، ويحزن لحزنهم، وكان عمله لوجه الله – نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً – وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي عندما قال:
فإذا أحبّ اللهَ باطنُ عبدِهِ=ظهرتْ عليه مواهبُ الفتاحِ
وإذا صفتْ لله نيةُ مصلحٍ=مال العبادُ عليه بالأرواحِ
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كلّ شيء، وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود والأمة لها. لقد وضع الله القبول لنور الدين بين أبناء أمته وأحبته الجماهير لجهاده وإخلاصه وتفانيه في خدمة الإسلام، وامتد هذا الحب لكي يتجاوز مدن دولته وحصونها وقراها إلى ما وراء الحدود وكسب جماهير خصومه من الداخل، وهز عروشهم، وقطع جذور مواقعهم من الأعماق وأزاحهم من طريق الوحدة التي اعتزم بناءها دونما قطرة من دم، فالدم المسلم كان عنده عظيماً، وليست تجربته مع أهالي دمشق بالمثل الوحيد، فمُنذ عام 543ﻫ حينما تقدم على رأس قواته للمساعدة على فك حصار الحملة الصليبية الثانية عن دمشق: شاهد الدماشقة حرمته حتى تمنوه، وراحوا يدعون له دعاءً متواصلاً، وأخذ يخرج إليه خلال المراحل التالية من الحصار – عدد كبير من الطلاب والفقراء والضعفاء ولهذا دلالته، فهم الذين كانوا في الواقع أصدقاءه الحقيقيين كما سيتبين لنا، فما خاب قصده كما يقول ابن القلانسي، أما فلاحو المنطقة فكانت قلوبهم معه؛ لأنه منع أصحابه من العبث بمزارعهم، وأعلن أنه جاء لكي يحمي كدحهم من تخريب الصليبيين، وفي عام 547ﻫ عندما تقدم إلى دمشق لضمها إلى جبهة القتال الجادّ المخلص ضد الصليبيين، واستنجد حاكمها مجير الدين بالعسكر والأحداث، للخروج إلى قتاله. لم يخرج إلاّ القليل، لما وقر في نفوسهم من استنجاد مجير الدين بالفرنج. وأقام نور الدين على دمشق من غير قتال ولا زحف خوفاً على المسلمين. وقد عزّز بذلك محبة الدمشقيين له فكانوا: يدعون ليلاً نهاراً أن يبدلهم الله سبحانه بالملك نور الدين، وأخذ نور الدين يكاتب أهل دمشق ويستميلهم: وكان الناس يميلون إليه لما هو عليه من العدل والديانة والإحسان فوعدوه بالتسليم. وقد دخل نور الدين دمشق عام 549ﻫ في فتح أبيض لم تُرق فيه دماء وما ذلك إلاّ – بتوفيق الله – ثم بمساعدة الجماهير التي كانت تنتظر دخوله منذُ سنوات وسنوات. ويقال إن امرأة كانت على السور فدلّت حبلاً فصعدوا إليه، وصار على السور جماعة ونصبوا السلالم، وصعدت جماعة أخرى، ونصبوا علماً، وصاحوا بشعار نور الدين وبعد أقل من ثلاث سنوات، حينما أعلن في دمشق عن التطوع في حملة لقتال العدو خرج كل قادر على حمل السلاح من أهل دمشق وتبع نور الدين في حملته تلك: فتيان البلد من الأحداث والغرباء والمتطوعة والفقهاء والصوفية والمتدينين العدد الكثير. وهناك رواية لابن الأثير، تناقلها كثير من المؤرخين، تحمل دلالتها العميقة في هذا الموضوع طلب نور الدين عام 559ﻫ نجدات من أمراء الأطراف لفتح حارم المعروفة بحصانتها الشديدة، فأما فخر الدين قرا أرسلان الأرتقي، حاكم حصن كيفا في ديار بكر، فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه: على أي شيء عزمت؟ فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشّف من كثرة الصوم والصلاة، فهو يلقي بنفسه والناس معه في المهالك فكلهم وافقه على ذلك، فلما كان الغد أمر بالنداء في العسكر، بالتجهز للغزاة فقال له أولئك: فارقناك بالأمس على حال نرى الآن ضدها؟ فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي على طاعتي، وأخرجوا البلاد من يدي،، فإنه كاتب زهّادها وعبّادها والمنقطعين عن الدنيا، يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر والنهب، ويستمد منهم الدعاء ويطلب منهم أن يحثوا المسلمين على الغزاة، فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون، ويلعنوني ويدعون عليّ، فلا بد من إجابة دعوته، ثم تجهز هو 'أيضاً' وسار إلى نور الدين بنفسه. إن نور الدين يتعامل مع الجماهير وأعيانها ورموزها، وقد حقق نجاحات باهرة في كسب قلوبها وتأييدها ومحبتها، فكان يطلعها على تفاصيل ما يجري على الساحة، فإن تردد الحكام والأمراء، أو جبنوا، أو بخلوا فإن بمقدور القواعد، الأكثر ثقلاً وتأثيراً يوم ذاك أن ترغمهم على الطاعة، وإلاّ عصفت بهم وأخرجت البلاد من أيديهم، وذلك هو الضمان الكبير في تجنيد القدرات الإسلامية كافة ودفعها إلى ساحات الجهاد، وما من شك في أن انسجاماً عميقاً يتحقق بين القيادة والقواعد ومحبة واعية تسود العلاقة بين الرجل والجمهور، وتعاطفاً مخلصاً من أجل الأهداف الكبيرة.. وما من شك أن هذا وذاك من أسباب النجاح والتوفيق في إدارة دولته.
سابعاً: اللياقة البدنية العالية:
تطلبت حياة نور الدين محمود الحافلة بالعمل المتواصل والجهاد المضني جسداً قوياً قادراً على تحمل الأعباء والمشقات، ولا يتم بناء الجسم القوي إلاّ بممارسة الرياضة، ولذلك كان نور الدين مواظباً على ممارسة الألعاب الرياضية المعروفة في زمانه بما يتعلق بالفروسية وأعمال القتال، وكان بشكل خاص مولعاً بلعبة الكرة أو الصولجة التي تُدعى في هذه الأيام بلعبة البولو، ويصفه ابن الأثير بقوله: من أحسنهم لعباً بالكرة وأقدرهم عليها، ولم يُر جوكانه يعلو رأسه، وكان ربما ضرب الكرة فتعلو، فيجري الفرس ويتناولها بيده من الهواء ويرميها إلى آخر الميدان، وكانت يده لا ترى والجوكان فيها، بل تكون في كم قبائه استهانة باللعب، وعندما احتجّ عليه أحد الزاهدين من أصحابه؛ لأنه يلهو ويعذب الخيل لغير فائدة دينية: قال والله ما حملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، وإنما نحن في ثغر، والعدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب، ولا يمكننا أيضاً ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً شتاء وصيفاً؛ إذ لابد من الراحة للجند، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماماً لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها أيضاً بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة، فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب فيذهب جمامها، وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب، فهذا والله الذي يبعثني على اللعب بالكرة. وقد فسر نور الدين بكلامه هذا الممارسة الرياضية تفسير إسلامياً رائعاً في جوابه على اعتراض أحد إخوانه الزهاد عندما كتب له، ففي هذا التفسير المنطقي والتحليل التفصيلي للعبة البولو كشف وتوضيح لنفسية نور الدين؛ فهو لا يلعب الكرة للعبث وإهدار الوقت، وإنما لتحقيق العديد من الفوائد التي هي في الحقيقة استعداد وتحضير للجهاد، تحضير لأجسام اللاعبين ولأجسام خيولهم، وإشغال أوقات الفراغ بما هو مفيد، إضافة إلى ما تقتضيه الرياضة من راحة نفسية واستجمام وصفاء التفكير، وذهاب الهم للجنود والقادة، وفي هذا الجواب لصاحبه الزاهد تظهر روح نور الدين الرياضية في أعلى درجاتها؛ فهو يخاطب الزاهد حسب مستواه من العلم والمعرفة، ويأتيه من الباب الذي يقنعه، دون أن يجرح شعوره باتهامه بقلة المعرفة أو التزمت أو التعصب، وبهذا الموقف يبين لنا نور الدين فهمه للإسلام بالمنظور الشمولي الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. وفي كلام معاذ -رضي الله عنه- دليل على أن المباحات يُؤجر عليها بالقصد والنية. وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شؤون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله.
إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم عن تصور مفهوم العبادة، وحين يعقد الإنسان مقابلة بين المفهوم الشامل للعبادة الواسع العميق الذي كان يمارسه نور الدين وانعكاسه على جنوده وشعبه ودولته، والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة، لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام الريادة والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسة الذئاب.
ن من شروط النهوض التي نتعلمها من دراستنا لسيرة نور الدين الشهيد أن يكون مفهوم العبادة في حس جيلنا أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما نفهم من قول الله تعالى:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". [الذاريات:56]، وبهذا الفهم لمفهوم العبادة عند نور الدين وجيله حقق إنجازات رائعة في كل اتجاه خاضته الدولة النورية. قال ابن الأثير: في حديثه عن نور الدين محمود: وكان – رحمه الله – لا يفعل فعلاً إلاّ بنية حسنة، ثم ذكر قصة اعتراض الزاهد على لعبه بالخيل والكرة التي ذكرناها آنفاً ثم علق ابن الأثير: بعد نهاية القصة فقال: فانظر إلى هذا الملك المعدوم النظير، الذي يقلّ في أصحاب الزوايا المنقطعين إلى العبادة مثله، فإن من يجيء إلى اللعب يفعله بنية صالحة، حتى يصير من أعظم العبادات وأكثر القربات يقلّ في العالم مثله، وفيه دليل على أنه كان لا يفعل شيئاً إلاّ بنية صالحة. وهذه أفعال العلماء الصالحين العالمين. والملاحظ في حياة نور الدين صياغة حياته ودولته كلها صياغة إيمانية ربانية ملتزمة بمنهج رب العالمين وامتثالاً وتحقيقاً لقول الله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". [الأنعام: 162].
إن من أسباب ضياع الأمة وضعفها، وانهزامها أمام أعدائها فقدها لشرط مهم من شروط النهوض والتمكين، ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح.
وهكذا كان نور الدين محمود لا يغيب عنه مفهوم العبادة الشامل في لهوه ولعبه وجده، وكان يمارس ألعاباً أخرى تشبه في مغزاها وفائدتها لعبة البولو، كلعبة طعن الحلق ورمي القبق، وكانت رحلات الصيد الممتعة من رياضاته الأخرى، تحمل من الجّد جنب متعتها البريئة، ما يجعلها من بين المهارات الفروسية التي يتقنها ويتعشقها يومذاك الفارس والمجاهد، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ". ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي. قال: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا. وليست مهارات الصيد – في نظر نور الدين محمود زنكي – سوى محاولة، من بين العديد من المحاولات لتركيز القدرة على الرمي وحمايتها من التبدد والنسيان، وحكى أسامة بن منقذ في كتابه الاعتبار عن ممارسة نور الدين لرياضة الصيد: وظل نور الدين يمارس رياضة الصيد، ويتعشق لعب الكرة والرماية حتى مرضه الأخير الذي أودى به بعد أيام قلائل من ذلك اليوم الحافل الذي قّرر فيه ختان ولده الملك الصالح إسماعيل، وقد أُقيمت الاحتفالات ورُدّدت الأناشيد، وخرج الرجل مع بعض أصحابه إلى الميدان الأخضر شمالي دمشق لممارسة العديد من ألعاب الفروسية، كطعن الحلق ورمي القبق، كما يقول العماد الأصفهاني.. فما غادر الساحة إلاّ وهو يعاني ألماً حاداً، وسرعان ما أودى بحياته بعد قليل.
ثامناً: تجرده وزهده الكبير:
فهم نور الدين محمود زنكي – رضي الله عنه – من خلال معايشته للقرآن الكريم وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنَّها مزرعة للآخرة، ولذلك تحَّررَ من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع وانقاد، وأسلم نفسه ظاهراً وباطناً، ومن هذه الحقائق:
اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل. وأن هذه الدنيا لا وزن لها، ولا قيمة عند رب العّزة إلاّ ما كان منها طاعة لله – تبارك وتعالى – إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، ألا إن الدّنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله، وما والاه أو عالماً أو متعلَّماً". وأن عمرها قد قارب على الانتهاء؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم:"بُعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السَّبابة والوسطى".
وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون:"يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ". [غافر:39 –40]. كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، فترفع -رحمه الله- عن الدّنيا وحطامها، وزهد فيهما، وإليك شيئاً من مواقفه:
1- قال ابن الأثير: وحكى لنا الأمير بهاء الدين علي بن الشكري، وكان خصيصاً بخدمة نور الدين قد صحبه من الصبا، وأنس به، وله معه انبساط، قال: كنت معه في الميدان بالرّها والشمس في ظهورنا، فكلّما سرنا تقدمنا الظل، فلما عدنا صار ظلنا وراء ظهورنا، فأجرى فرسه وهو يلتفت وراءه وقال لي: أتدري لأي شيء أجري فرسي وألتفت ورائي قلت: لا، قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا، تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها. قلت: رضي الله عن مَلك يفكر في مثل هذا، وقد أنشدت بيتين في هذا المعنى وهما:
مَثلُ الرزقِ الذي تطلبُهُ=مثلُ الظلِّ الذي يمشي معكْ
أنـــت لا تـــدركُـــــهُ متــــبـــــعــــاً=وإذا ولـــّيـــتَ عـــــنـــه تـبــــعـــَكْ
2- تشبه نور الدين محمود بعمر بن عبد العزيز في زهده، وقد كان الأخير حاكماً لأقوى دولة على الأرض في زمنه، فكان نور الدين لا ينفق على نفسه وعلى أهله إلاّ من ملك اشتراه من سهمه من الغنائم، وكان يحضر الفقهاء ويستفتيهم فيما يحل له من تناول الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، فيأخذ ما يفتونه بحله، ولم يتعدّه إلى غيره البتة. قال العماد الأصفهاني: كان رسم نفقته الخاص في كل سنة من جزية أهل الذمة مبلغ ألفي قرطاس، يصرفه في كسوته ونفقته ومأكوله ومشروبه وحوائجه المهمة، حتى أجرة خيّاطه وطبّاخه، ومن ذلك المقرر المعين النزر، ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر، ويفضه على المساكين وأهل الفقر.
3- وأما ما يُهدى إليه من الثياب والألطاف وهدايا الملوك من المناديل والسكاكين والمهاميز والدبابيس، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه، بل يعرض نظره عنه، وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصّل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة.
4- ولم يلبس قط ما حّرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة، وحكي لي عنه أنه حُمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهّبة فلم يحضرها عنده، فوُصفت له فلم يلتفت إليها، وبينما هم معه في حديثها؛ إذ قد جاءه رجل صوفي فأمر له بها فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له فإني أرجو أن أُعوّض عنها في الآخرة. فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمائة دينار أو سبعمائة، وأنا أرجح أنها كانت تساوي أكثر.
5- قال رضيع الخاتون 'زوجة نور الدين': إنها قلّت عليها النفقة ولم يكفها ما كان قد قرّره لها، فأرسلتني إليه أطلب منه زيادة في وظيفتها (أي مخصصاتها المالية)، فلما قلت له ذلك تنكّر واحمرّ وجهه، ثم قال: من أين أعطيها؟ أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها، إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي فبئس الظن؛ إنما هي أموال المسلمين ومرصدة لمصالحهم ومعدّة لفتق – إن كان – من عّدو الإسلام وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها، ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها: وكان يُحصّل منها قدر قليل نحو عشرين ديناراً.
6- قال ابن كثير: كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله وعياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا. وكان عمر الملاّء رجلاً من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل له بفتيت ورقاق فيفطر عليه. وكان إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها، إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط.
وأما مقرّ سكن حاكم الجزيرة والشام ومصر واليمن فكانت داراً متواضعة تطل على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، ألحق بها صُفّة يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب: فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح. ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب.
7- زهده في الألقاب: عندما تفقد قيادة ما القدرة على الإسهام الجادّ في حركة التاريخ، يتحول همها إلى منح النياشين والألقاب لمن يقدرون من أجل أن تغطي عجزها وانكماشها، لكن رجلاً فاعلاً كنور الدين يرفض هذه (المنح)؛ خوفاً أن يكون في طياتها الكذب والمبالغة والزيف، وخوفاً أن تقوده إلى نوع من الاعتداد والغرور، وكثيراً ما انتهى إليهما القادة العاملون، وأما نور الدين الذي علمه التجرّد كيف يكون الرفض فإنه يتمنع حتى النهاية عن الذهاب مع الإغراء إلى ما يريد الشيطان لا ما يريد الله، تلقّى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسيه ومعها 'قائمة' بألقابه التي كان يُذكر بها على منابر بغداد:... اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيّ الإمامة وأثيرها، فخر الملّة ومجدها، وشمس المعاني وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين. لكن نور الدين أسقط جميع الألقاب وطرح دعاءً واحد يقول: اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي، وثمة رواية أخرى تمنحنا مزيداً من الأضواء عن الموضع وتتضمن كلمات وجملاً من إنشاء نور الدين نفسه.. روي أنه كتب رقعة بخطه إلى وزيره خالد بن القيسراني – بعد أن استفزته كثرة الألقاب – يأمره أن يكتب له صورة ما يُدعى له به على المنابر، وكان مقصوده صيانة الخطيب عن الكذب، ولئلا يقول ما ليس فيه، فكتب ابن القيسراني كلاماً ودعا له فيه ثم قال: وأرى أن يُقال على المنبر: اللهم وأصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود زنكي، فكان جواب نور الدين: هذا لا يدخله كذب ولا تزيّد. وكتب بخطه في أعلى الصفحة: مقصودي ألاّ يُكذب على المنبر، أنا بخلاف كل ما يقال. أفرح بما لا أعمل؟ والتفت إلى وزيره قائلاً: الذي كتبت به جيد: اكتب به نسخاً إلى البلاد. ثم أضاف ثم يبدؤون بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفَّقه.. من هذا الجنس.
إن القيادة التي تريد أن تنهض بالأمة وتمارس فقه النهوض في حياتها عليها أن تمنع كل ما من شأنه أن ينمّي روح النفاق والتزلف للمسؤولين؛ لأن ذلك يوفر النقد البنّاء وحرية الرأي للشعوب، حتى يعرف القادة أخطاءهم فيصلحوها في حركتهم النهضوية، وعلى القيادة أن تتصف بالتجرد لله في أعمالها وتزهد في حطام الدنيا الزائل. لقد كان زهد نور الدين، زهد المؤمن الذي لا يرغب في الدنيا، وما فيها من ملذات وشهوات، ويسعى ويعمل للآخرة دار النعيم والخيرات، ولقد مدح ابن القيسراني نور الدين في زهده فقال:
ثـــنى يـــدَه عن الــــدنـــيا عــفــــافاً=ومـــال بــهــا عــن الأمـــوالِ زهـداً
ويصوره ابن منير من الصالحين الأبرار الذين يزهدون فيما يتنازع عليه الناس من عرض الدنيا، يقول:
لا زلـــت تقـفــو الصــالحين مـسابقا=لُــهــُم وتَطــْلعُ خـــلــفَــك الأبـــرارُ
نفس الســيادة زهد مـثلــك فـي الذي=فــيه تفــانـــت يَـــعـــْرُبٌ ونـــــزارُ
تاسعاً: شجاعته:
ورث نور الدين محمود الشجاعة عن والده عماد الدين زنكي الذي يضرب بشجاعته المثل؛ فقد شارك نور الدين في جميع المعارك التي خاضها والده خلال فترة حكمه (521-541ﻫ) ومن بعد توليه الحكم أمضى معظم أيام حياته على صهوة جواده يشارك جنوده، ويتقدم الصفوف ويعرض نفسه للشهادة، وقد ورد أفضل وصف لشجاعته على لسان ابن الأثير بقوله: وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يُضرب المثل في ذلك. سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خُلق منه لا يتحرك ولا يتزلزل، وبلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، صليب الضرب يقدم أصحابه عند الكرة ويحمي منهزمهم عند الفرّة، وعندما فاجأ الفرنجة معسكره بالقرب من حصن الأكراد عام 558ﻫ /1163م، ولم يتمكن هو ومن كان معه من الثبات، انسحب باتجاه حمص مسافة اثنتي عشر كيلو متراً، وتوقف حتى تجمع عنده من نجا من المعركة، وأرسل في طلب الخيام والسلاح والمؤن من حمص وحلب وأقام معسكره في نفس المكان، فنصحه بعض قادته باختيار موقع أبعد خوفاً من متابعة الفرنجة لهم، فأجابه: إذا كان معي ألف فارس لا أبالي بأعدائي قلوا أم كثروا، والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الإسلام وثأري. ولم يغادر مكانه إلاّ عندما تجمعت له القوات الكافية، فتوجه بها نحو حارم حيث وقعت معركة حارم المشهورة، وبر نور الدين بقسمه. وقد تحدث الشعراء عن صفة الشجاعة، وشبهوا نور الدين بالأسد، بل هو يأسر الأسود ويتغلب عليها، يقول ابن القيسراني:
أنـــت حيـــنــاً تُــــقـــاسُ بالأســـــدِ=الوَرْدِ وحـــيناً تُعـــدُّ في الأولــــــياءِ
وهو عند الأصفهاني يغلب الملوك، ويصيد الأسود، وهو فارس الفرسان ويسلب التيجان من الملوك الآخرين، ويحوز الفخار لشجاعته وبطولته، يقول العماد في مدحه:
يا غالــبَ الغـــلبِ المـــلـوكِ وصائدَ=الصــــيّد اللــيوثِ وفارسَ الفرســانِ
يا ســالبَ التـــيجانِ مـــن أربابِـــــها=حُزتَ الفــخــارَ على ذوي التيــجانِ
وقال ابن قسيم الحموي:
تبدو الشــجـــاعةُ من طــلاقة وجههِ=كالّرمــح دلّ علــى القســـاوةِ لينــــُهُ
ووراء يقـــظــته أنــــاةُ مُـــجــــرَّبِ=لله ســطــوةُ بأسِــــهِ وسُــــكُــــــونُه
وقال ابن منير:
مــــلأ الــبلادَ مواهـــــبـــاً ومهـــابةً=حتــى اســترقــت آيــــه أحـــرارها
- يتبع -