أدب الحوار
عطيه العمري
مفــهـوم الحـوار
تمهيد:
بدأ الحوار قبل وجود البشرية ، ففي اللحظة التي أخبر الله عز وجل الملائكة أنه سيخلق بشرا يجعله خليفة في الأرض ، بدأ الملائكة بالاستفسار ، ودار حوار بين الملائكة وبين صاحب العزة جل شأنه ، قال تعالى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ .( )" ثم أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ، وبعد ذلك دار حوار بين الله عز وجل وبين إبليس اللعين انتهى بطلب من إبليس بإمهاله إلى يوم القيامة فمنحه الله عز وجل هذه الفرصة .
الـحوار في اللغة :
الحوار هو المحاورة والمجاوبة . والتحاور هو التجاوب ، وقولنا : هم يتحاورون : أي تراجعون في الكلام ، وتحاور القوم :أي تراجعوا الكلام فيما بينهم ، قال تعالى :"والله يسمع تحاوركما "( ) وحاوره محاورة وحوارا أي جاوبه وجادله ، قال تعالى :" قال له صاحبه وهو يحاوره ".( ) وقد سمي الحوار حوارا لأنه يدخل في عمق الأشياء وقعرها وأصلها , وذلك لأن الحور هو القعر والعمق ، ومن ذلك قولهم هو بعيد الحور بعيد القعر - أي عاقل - متعمق . والحوار حديث يجري بين شخصين أو أكثر سواء في القصة أو في المسرحية أو في النقاش أو الجدل .( )
الـحوار في الاصطلاح :
أن يتناول الحديث طرفان أو أكثر عن طريق السؤال والجواب بشرط وحدة الموضوع أو الهدف ، فيتبادلان النقاش حول أمر معين ، وقد يصلان إلى نتيجة وقد لا يقنع أحدهما الآخـر ولكن السامع يأخذ العبرة ويكون لنفسه موقفا( ).
الحوار هو الالتقاء بين طرفين لهما وجهات نظر مختلفة وقناعات متباينة . وقد يحمل كل طرف عقدة تجاه الآخر بسبب الأجواء المشحونة بالتعصب والعداء . فالحوار يجعل كلاًّ منهما يلتقي الآخر ، يحاوره ، يطرح أفكاره عليه ، ببذل جهوده لإقناعه. هذه العملية تساهم في تقليص حدة التوتر والتعصب تجاه أحدهما للآخر حين يلتقون على مفاهيم مشتركة تبعث مشاعر الود والطمأنينة ( ).
وطريقة الحوار شيقة تُشوق الناس إلى الاستماع والتعلم والاستيعاب ومن ثم التأثر والالتزام بمادة الحوار أسئلة وإجابات صحيحة ، وهذه الطريقة تعتمد على إيقاظ التفكير وإثارة الانتباه إلى الحقائق التي يراد الوصول إليها ، وهي ناجحة في التعليم والتوجيه ونشر الفكر والدعوة إلى الإسلام ( ).
والقرآن الكريم كتاب حوار ، ينفتح على المشركين والملحدين والمنافقين وأهل الكتاب وكل (الآخر) المغاير لنا في الدين أو المذهب أو الاجتهاد . لذلك يجب أن نعمل على إيجاد مجتمع الحوار الذي ينفتح فيه الإسلام على كل الأفكار المضادة ، وينفتح المجتمع المسلم على المجتمعات الأخرى . ولا بد من تحصين الحوار بالضوابط التي تمنع استغلاله لأغراض أخرى ، فإن وجود المشاكل فيه لا يعني إلغاءه ، بل يعني العمل على دارسة هذه المشاكل ، ليجتمع لنا الحوار والمسؤولية والحرية المنضبطة في نطاق النظام العام للأمّة .
وقد استخدم القرآن الكريم أساليب متعددة للحوار من أجل توصيل أهدافه التربوية للناس فاستخدم الحوار الوصفي والحوار القصصي والتربوي التعليمي والتعبدي ...، وكان لهذه الأساليب البديعة الأثر البالغ في نفوس الناس فما استمع أحد لهذا القرآن إلا وبادر بالنطق في الشهادة معلنا دخوله في هذا الدين وملتزما بكل ما فيه من أوامر ونواهٍ .
أنواع الحوار
الحوار مهما اختلفت أشكاله وألوانه ومهما تعددت سبله وطرقه ومسالكه يمكن تقسيمه إلى نوعين اثنين هما:
1- الحوار الإيجابي الهادف البناء
2- الحوار السلبي المذموم
وسنتحدث فيما يلي عن هذين النوعين:
1- الحوار الإيجابي الهادف البناء
وهو الحوار الذي يقصد به الوصول إلى الحقيقة من خلال المناقشة والمناظرة البناءة وتبادل الآراء والخبرات بالدليل والحجة والبرهــــان ، وحتى يكون الحوار هادفا وبناء لا بد له من عدة شروط منها :
1- أن يكون الهدف من الحوار الوصول إلى الحقيقة مهما كانت وأن يتوفر الإخلاص في ذلك لدى طرفي الحوار
2- أن تكون القضية المطروحة للحوار تستحق ذلك .
3- الالتزام بالموضوعية والصدق والبعد عن المراء والجدل .
4- حوار تسوده المحبة والمسئولية والرعاية وإنكار الذات .
5- حوار متكافئ يعطي كلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي ويحترم الرأي الآخر .
6- حوار واقعي يتصل إيجابيا بالحياة اليومية الواقعية .
ومن أمثلة الحوار الإيجابي في التاريخ الإسلامي ما حدث في غزوة بدر حين تجمع المسلمون للقاء الكفار وكانت آبار المياه أمامهم ، وهنا نهض الحباب بن المنذر رضي الله عنه وسأل رسول الله " صلى الله عليه وسلم : أهو منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " . فقال الحباب يا رسول الله ما هذا بمنزل وأشار على رسول الله بالوقوف بحيث تكون آبار المياه خلف المسلمين فلا يستطيع المشركون الوصول إليها، وفعلاً أخذ الرسول بهذا الرأي الصائب وكان ذلك أحد عوامل النصر في تلك المعركة .( )
وإذا حاولنا تحليل هذا الموقف نجد أن الحباب بن المنذر كان مسلما إيجابيا على الرغم من أنه من عامة المسلمين وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطل تفكيره فهو جندي تحت لواء رسول الله الذي يتلقى الوحي من السماء وهناك كبار الصحابة ، أصحاب الرأي والمشورة ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكره ، ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب، ولكنه مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي فتساءل أولا إن كان هذا الموقف وحي من عند الله أم أنه اجتهاد بشرى فلما عرف انه اجتهاد بشرى وجد ذلك مجالا لطرح رؤيته الصائبة ولم يجد الرسول غضاضة في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين وهذا الموقف يعطينا انطباعا هاما عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبل النصيحة.
وإذا كانت النظم الديمقراطية الحديثة تسمح للمواطن أن يقول رأيه إذا أراد ذلك، فإن الإسلام يرتقى فوق ذلك حيث أنه يوجب على الإنسان أن يقول رأيه حتى ولو كان جنديا من عامة الناس تحت لواء رسول الله وهذا المستوى من حرية الرأي لا نجده الآن في أكثر الدول مناداة بالحرية فلا يجرؤ جندي أن يشير على القائد الأعلى للقوات المسلحة في أية دولة عصرية بتغيير الخطة العسكرية حيث لا يزال الحوار الفوقي السلطوي هو السائد في المجالات العسكرية على وجه الخصوص حتى في أكثر الدول تقدماً. [1]
2- الحوار السلبي المذموم
هو الحوار الذي يقصد به مجرد الجدل ودون وضع هدف أو غاية محددة له ، أو إضمار أحد طرفي الحوار لنية خبيثة يقصد الوصول إليها من خلال الحوار .
والسؤال الذي يطرح هنا: متى يكون الحوار سلبيا أو مذموما ؟
يكون الحوار مذموما وسلبيا إذا اتصف بالصفات التالية :
1- الحوار في قضايا لا يجوز الحوار فيها .
2- أن يكون هدف الحوار إثبات الذات وإبراز القوة العلمية والثقافية والعقلية أو العضلية أحيانا .
3- وجود قناعات سابقة لدى أحد الطرفين أو كليهما لا ينوي التخلي عنها مهما كان الأمر ،حتى لو ثبت خطؤها
4- دخول الهوى في الحوار وتحوله إلى المنازعة والخصومة والجدال
ومن أمثلة الحوار السلبي المذموم :
1- الحوار المزدوج: وهنا يعطى ظاهر الكلام معنى غير ما يعطيه باطنه لكثرة ما يحتويه من التورية والألفاظ المبهمة وهو يهدف إلى إرباك الطرف الآخر ودلالاته أنه نوع من العدوان الخبيث.وهذا ما أشار إليه القرآن عندما تحث عن المنافقين قال تعالى : " وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ( ) فهو حوار المنافقين إذن .
2- الحوار السلطوي (اسمع واستجب) : نجد هذا النوع من الحوار سائدا على كثير من المستويات ، فهناك الأب المتسلط والأم المتسلطة والمدرس المتسلط والمسئول المتسلط ..الخ وهو نوع شديد من العدوان حيث يلغي أحد الأطراف كيان الطرف الآخر ويعتبره أدنى من أن يحاور ، بل عليه فقط السماع للأوامر الفوقية والاستجابة دون مناقشة أو تضجر وهذا النوع من الحوار فضلا عن أنه إلغاء لكيان (وحرية) طرف لحساب الطرف آخر فهو يلغى ويحبط القدرات الإبداعية للطرف المقهور فيؤثر سلبيا على الطرفين وعلى الأمة بأكملها .
3- حوار الطريق المسدود (لا داعي للحوار فلن نتفق ) : يعلن الطرفان (أو أحدهما ) منذ البداية تمسكهما (أو تمسكه) بثوابت متضادة تغلق الطريق منذ البداية أمام الحوار وهو نوع من التعصب الفكري وانحسار مجال الرؤية . ومن أمثلة هذا النوع من الحوار ما يسمى بالمواجهة بين الطرفين والذي يصعب على المرء أن يسميه حوارا ،وإن أخذ شكل الحوار أو المناظرة ، حيث يتحاور طرفان حول موضوع معين يقصد كل منهما إثبات دعواه ونفي خصمه حتى لو كان الحق معه .
4- الحوار الإلغائي أو التسفيهي (كل ما عداي خطأ ) يصر أحد طرفي الحوار على ألا يرى شيئا غير رأيه ،وهو لا يكتفي بهذا بل يتنكر لأي رؤية أخرى ويسفهها ويلغيها وهذا النوع يجمع كل سيئات الحوار السلطوي وحوار الطريق المسدود.وهذا مسلك فرعون ، قال تعالى:" يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ"() فأحد المتحاورين يصمم على إلغاء الطرف الثاني نهائيا ، ولا يعترف بوجوده بل ويطالبه بالتسليم له بكل ما يقول ويدعي .
5- حوار البرج العاجي: ويقع فيه بعض المثقفين حين تدور مناقشتهم حول قضايا فلسفية أو شبه فلسفية مقطوعة الصلة بواقع الحياة اليومي وواقع مجتمعاتهم وغالبا ما يكون ذلك الحوار نوع من الحذلقة وإبراز التميز على العامة دون محاولة إيجابية لإصلاح الواقع.
6- الحوار الموافق(معك على طول الخط) : وفية يلغي أحد الأطراف حقه في التحاور لحساب الطرف الآخر إما استخفافا (خذه على قدر عقله) أو خوفا أو تبعية حقيقية طلبا لإلقاء المسئولية كاملة على الآخر .
7- الحوار المعاكس (عكسك دائما): حين يتجه أحد طرفي الحوار يمينا ويحاول الطرف الآخر الاتجاه يسارا والعكس بالعكس وهو رغبة في إثبات الذات بالتميز والاختلاف ولو كان ذلك على حساب جوهر الحقيقة . وأخطر ما في هذا الأمر أن تكون المعاكسة هدفا في حد ذاتها ، وأن يتمادى المتحاوران في معاكساتهما حتى يصل الأمر إلى حد القذف والسب والشتم واتهام النوايا ،
8- حوار العدوان السلبي (صمت العناد والتجاهل): يلجأ أحد الأطراف إلى الصمت السلبي عنادا وتجاهلا ورغبة في مكايدة الطرف الآخر بشكل سلبي دون التعرض لخطر المواجهة .
أهمية الحوار وضرورته
للحوار أهمية بالغة في حياة الناس وتعود هذه الأهمية للأمور التالية :
أولا : الحوار ضرورة بشرية إنسانية:
1- "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " ( ) الله عز وجل هو الذي خلق الناس وهو الأعلم بأحوالهم ، وقد جعلهم شعوبا وقبائل وجماعات ليتعارفوا وأوجد بينهم من الصلات ما تؤهلهم للتآلف والتآخي ،الله عز وجل ينادي الناس ليطلعهم على الغاية من خلقهم شعوبا وقبائل ، إن الغاية ليست التنافر والخصام ، إنما التعارف والوئام ، وأما اختلاف الألسنة والألوان واختلاف الطبائع والأخلاق والمواهب والاستعدادات فلا يقتضي النزاع والشقاق بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف . قال رسول الله :" كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ( )"
إذن فالله عز وجل خلق الناس للتعارف والتآلف وهذا لا يتم إلا من خلال التخاطب والحوار والنقاش بين الناس ، لذلك نقول إن الحوار ضرورة بشرية إنسانية . وحينما يتصرّف الإنسان كعقل وشعور وجداني ، وإرادة ومشاعر ، ويتحرّك ويعمل من حول قيم الحق والخير والجمال ، يكون قد تحرّك من خلال إنسانيّته .. فهو يستطيع أن يفهم أنّه إنسان عندما يُحقّ الحقّ ويُبطِل الباطل
..ويستطيع أن يفهم أنّه إنسان عندما يرفض الظّلم والعدوان على الآخرين ، ويميِّز بين العدل والظّلم ، فينصر المظلوم ويردع الظّالم .. ويستطيع أن يفهم أنّه إنسان عندما يتصرّف كعاقل مُدرِك مع الأشياء والوقائع ، وما يواجهه من مواقف وأفكار وأطروحات تعاملاً عقليّاً ..
ويستطيع أن يفهم أنّه إنسان عندما يواجه آلام الآخرين فيتحسّس تلك الآلام ، ويشاركهم محنتهم ..
ويستطيع أن يفهم أنّه إنسان عندما يستعمل إرادته وعقله ، عندما يواجه إثارات تقوده فيها الغريزة والشّهوة والانفعال ، ليتحرّك من غير إرادة ولا اختيار ، ثمّ يعود له وعيه ..
فعندما تتوارى المشاعر والأحاسيس الإنسانية من نفسه ، ويغيب العقل والإرادة فلا يُفرِّق بين الحقّ والباطل، ولا يميِّز بين الحَسن والقبيح في فعله وقوله . ولا يقف إلى جانب المظلوم والمضطهد ، ولا تتحرّك في وجدانه مشاعر الرّحمة تجاه المعذّب والمحروم،
ثانيا : الحوار ضرورة دعوية
الدعوة إلى الإسلام فريضة شرعية على كل مسلم ، قال تعالى :" وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( )
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "( ).، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم "( ).،
وقال تعالى :" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " .هذه الآية دعوة صريحة للحوار
ونستطيع القول أن ضرورة الحوار الدعويّة تعود للأسباب التالية :
1- الحوار أمر به القرآن الكريم فقال الله تعالى" ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " ( ). والدعوة هنا لابد لها من طرفين يتحاوران وبالأسلوب الحسن حتى يتوصلا إلى النتيجة المطلوبة .
2- الحوار منهج الأنبياء :
الذي يقرأ القرآن يجد أن منهج الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم يقوم على الحوار القائم على الحجة والإقناع والدعوة إلى توحيد الله عز وجل ومثال ذلك ما دار بين نوح عليه السلام وقومه وموسى وقومه ولوط وهود عليهم السلام وغيرهم مع أقوامهم .
3- الحوار ميدان يسع الجميع ، إن كل إنسان في المجتمع أيا كانت قدراته ومكانته يستطيع أن يفتح حوارا مع الناس الذين حوله ومع أقرانه ، فالطالب يناقش ويدعو زملاءه ، وكذلك المعلم والمهندس والطبيب ... يستطيع أن يحاور ويناقش زملاءه ويساعدهم على فهم أمور حياتهم .
4- بالحوار تصبح الدعوة إلى الإسلام قضية حيّة تعيش في نفوس الناس ،فلا يتكلف لها الإنسان تكلفا ولا يحسب لها حسابا بل تصبح جزءاً من حياته يمارسها بشكل طبيعي .
ولأن الحوار ضروري وملح في الدعوة الإسلامية فقد رسم الرسول الأكرم أروع الأخلاق في الحوار وأحسنها، بل وأسماها وأنبلها؛ لأنها أولاً مطلب إلهي أوصى الله به رسوله في كثير من الآيات القرآنية العظيمة، والتي من بينها قوله تعالى} :وَجَادِلْهُم بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ}( )، وكذلك قوله: {ادْفَعْ بالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيْم{ وثانياً: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بطبعه على خلق كما وصفه القرآن الكريم في قوله تعالى }:وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْم{
ثالثا :الحوار ضرورة اجتماعية
لا يستطيع الإنسان أن يعيش منفردا ، فهو كما يقول الحكماء مدني بالطبع ، وهو كائن اجتماعي لا بد له من الاختلاط والتعايش مع الآخرين ، كما أنه لا يستطيع تأمين حاجاته الفطرية التي فطره الله تعالى عليها كالطعام والشراب والكساء والسكن والزواج ....الخ بمفرده ، قال تعالى :" ليتخذ بعضكم بعضًا سخريًا ." فالله عز وجل خلق الناس وجعلهم مستويات متفاوتة حتى يستفيد بعضهم من بعض ، وليخدم بعضهم بعضا .وهذا لا يتم إلا من خلال الحوار البنّاء والتفاهم والتخاطب .
رابعا : الحوار ضرورة علمية
قال تعالى : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " . أمر الله عز وجل عباده الراغبين في العلم أن يسألوا أصحاب العلم والذكر ويحاوروهم .
من هنا فإن فمن أراد العلم لابد له أن يجلس إلى العلماء والفقهاء ويسمع منهم ويناقشهم ، وقال بعض العلماء بضرورة تلقي العلم من العلماء والمعلمين والشيوخ ولم يحبذوا أن يأخذ الطالب علومه من الكتب وحدها دون العلماء ، وقد ورد في رسائل إخوان الصفا ( إنه ليس في وسع إنسان معرفة العلم في أول مرتباته ،ومن أجل هذا يحتاج كل إنسان إلى معلم أو مؤدب أو أستاذ في تعلمه وتخلقه وأقاويله واعتقاده وأعماله وخصائصه) .
ولقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم الحوار في تعليم أصحابه في أكثر من موضع ، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا .
قال : صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدقه
قال: فأخبرني عن الإيمان
قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره
قال : صدقت
قال : فأخبرني عن الإحسان
قال : تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
قال :صدقت
قال : فأخبرني عن الساعة.
قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل .
قال : فأخبرني عن أماراتها .
قال: أن تلد الأَمَةُ ربَّتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان .
ثم انطلق ، ثم قال لي : يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم .
قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم .
خامساً : الحوار ضرورة تربوية
وطريقة الحوار شيقة تُشوّقُ الناس إلى الاستماع والتعلم والاستيعاب ومن ثم التأثر والالتزام بمادة الحوار أسئلة وإجابات صحيحة ، وهذه الطريقة تعتمد على إيقاظ التفكير وإثارة الانتباه إلى الحقائق التي يراد الوصول إليها ، وهي ناجحة في التعليم والتوجيه ونشر الفكر والدعوة إلى الإسلام ( ).
وقد استخدم القرآن الكريم أساليب متعددة للحوار من أجل توصيل أهدافه التربوية للناس فاستخدم الحوار الوصفي والحوار القصصي والجدلي والتعبدي ، وكان لهذه الأسباب البديعة الأثر البالغ في نفوس الناس فما استمع أحد لهذا القرآن إلا وبادر بالنطق بالشهادتين معلنا دخوله في هذا الدين وملتزما بكل ما فيه من أوامر ونواهٍ .
من هنا فعلى من يتصدون للعمل في التربية، ويتحملون أعباءها خاصة من المعلمين والمربين أن لا ينسوا هذه الوسيلة الفعالة في التربية ، وعليهم أن يكثروا من طرح الأسئلة ليستفزوا بها المتعلمين ويحملوهم على الحوار والنقاش ، فالحوار يبدد الملل والسآمة عن المتعلم ويجعله متوقد الذهن حاضر البديهة من أجل أن تكون مشاركته في الحوار بنّاءة وَتدخُلَهُ فيه مفيدًا ، وكذلك فإن على المربي أن يركز الحوار حول النقاط الهامة في الموضوع الذي يطرحه على المتعلمين و أن يحسن إعداد الأسئلة الحوارية التي سيطرحها في موقفه التعليمي ويتدرج بها حسب الأساليب التربوية السليمة .
فوائد الــــحوار:
1- تجديد الفكر الإسلامي والنهوض بمشروعه الحضاري في إطار ممارسة الفكر بطرقه السليمة عبر مقارعة الدليل بالدليل، والحجة بالحجة، والعقل بالعقل في حوار ينفتح فيه الجميع وتتبادل فيه الآراء والطروحات بموضوعية وعلمية بعيداً عن التعصب( )
2- الحوار هو المنهج السليم في حل المشكلات، وهو الطريق إلى الاعتراف بالآخر والتعايش معه.. وفي الدعوة إلى الحوار دعوة إلى التعارف والتآلُف واقتراب الإنسان من أخيه الإنسان قال تعالى :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ) فكيف يمكن أن يتم التعارف بين الناس دون اجتماع وحوار وخلاف وأخذ ورد بينهم .
3- الحوار أسلوب لتصحيح العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة ، والدعوة إلى الإسلام ، فالحوار الهادئ البناء والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يشجع الآخرين على الدخول في دين الله عز وجل ،وتقبُّل الأفكار السليمة والتخلي عن الأفكار المنحرفة الهابطة .
4- الحوار وسيلة للتعامل مع أهل الديانات السابقة أو ما يسمي بحوار الأديان الذي دعا إليه الإسلام ، قال تعالى
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (
إن هذه الآية تمثل دعوة إلى حوار هدفه التوصل إلى أصل الدين الذي اتفقت عليه جميع دعوات الأنبياء ، فلاحكم لأحد على أحد وإنما الحكم لله وحده دون سواه .
5- الحوار هو سبيل تفاهم الحضارات ولقاء الشعوب ، ومن خلاله يمكن أن تتلاقى الحضارات وتستفيد من بعضها البعض ، وتتكامل الثقافة ، وبالحوار نبتعد عن صراع الحضارات التي يدعو إليه بعض الغربيين المتعصبين الذين ينطلقون من منطلق التفوق المطلق لمدنيتهم الغربية المعاصرة ، ناسين أن أصول الحضارة التي هم فيها ليس لهم فيها نصيب .
6- الابتعاد عن الأحكام التجريدية في قضايا الواقع ، والوصول إلى وضوح الرؤية حول قضية ما واستقصاء جوانب الخلاف ما أمكن ، وتجلية ما بين المتحاورين من قضايا خلافية مما قد يوفر حالة من الود ،ولذلك قيل " إن اختلاف الرأي لا يُفسد في الود قضية " . كما أن الاستقصاء فيها يجنب النظرات الانفعالية أو القناعات المسبقة .
7- للحوار فوائد عديدة على المستوى التعليمي، تفوق في آثارها كثيرا من الأنشطة التعليمية الأخرى ومن هذه الآثار
أ- تدريب غير تقليدي على التحدث باللغة السليمة .
ب- تنمية مهارات التخاطب اللغوي، وإجادة الحديث.
ج- فسح المجال لدخول أنشطة مساعدة مثل القراءة - التفكير -التخاطب - القدرة على بناء الحجج - والتقويم الذاتي .
د- تجعل عملية التعلم أكثر رسوخا وبخاصة في الناحية اللغوية فمن خلال إعداد الطالب الحوار والمناظرة نستطيع أن نتعرف على ما يحتاجه من سند لغوي ؛ لكي ينجز المهمة المطلوبة .
هـ تنشيط رغبة الطالب في التحصيل والتعلم الذاتي، إذ يصدر هذا التحصيل عن رغبة تجعل الطالب يؤمن بالتعدد في الآراء .
و- احترام الرأي الآخر، وتنظيم عملية الاختلاف .