الإدمان على السمعود الثقاب نعمة ونقمة، وما أكثر الوسائط التي تشكل في حياتنا جوانب إيجابية وأخرى سلبية حين يساء استخدامها، فالتلفزيون أو «الرائي» بعد التعريب، هو جهاز تثقيفي قبل أن يكون وسيلة من وسائل الترفيه أو تزجية الوقت، لكننا اعتمدنا عليه اعتماداً وصل إلى حد الإدمان، إذا انقطع التيار لزمن ما وخيم الصمت في فضاء منازلنا، فإن الراشدين والبالغين من الذكور والإناث والكبار والصغار يتحولون بداية إلى نمور تكاد تجهز على بعضها، ثم يطلقون ألسنتهم خلف مدير مؤسسة الكهرباء لا يتركون عليه وعلى أجداده القريبين والبعيدين ستراً، حتى إذا شبعوا وتجشؤوا شتائم من كل صنف ولون، التفتوا إلى مصطلحات ترتبط بالفساد والفاسدين، يفتحون كشوفاً لا نهاية لها تتجاوز رواتب الموظفين وتقاعسهم إلى خسائر تبدأ بميزانية الدولة ولا تنتهي مع مستوى الدخل القومي، وكأن سبل العيش اضمحلت وتلاشت، أو هي تقننت وتقوننت بداخل هذا الصندوق.. ومشكلتنا ليست مع هذا الصندوق وحده، بل هي في تطرفنا الدائم عبر علاقاتنا بالناس والأشياء، فإذا أغرم أحدنا صار ليله نهاراً ونهاره ليلاً، وإن وجد في رأيه بعض الصواب سعى إلى قمع كل الآراء التي لا تتفق مع ما ذهب، يتكلم طولاً وعرضاً عن الديمقراطية والحرية غير أنه في أحوال جمهورية منزله يفرض ذاته ديكتاتوراً على كل من شق عصا الطاعة عليه أو عارض رغبته.. فهنا أب يريد ابنه طبيباً، وهناك أب يريده مهندساً، وسواهما يريده شبيهاً بمارادونا حتى لو كان يعاني ضعفاً في ساقيه، وننسى أن حرماناً يعيشه طفل ما لن يصل به إلى نجاح إبداعي وإن تفوق في تحصيله.
وبعيداً عن هذه الفوضى المزمنة، التي تحتاج إلى معالجات تربوية ثقافية تنتصر على مآل صعب صرنا تحت رحمته، أعود إلى زمن كنا فيه أحراراً من قيود التلفزيون وبرامجه وملاحق سلبتنا البصر والبصيرة، أيام سبقت إدماناً جعل من هذا الجهاز نقمة أكثر منه نعمة، والبراهين أكثر من أن تحصى.. بفضله فقدنا تواصلنا الشخصي الاجتماعي، انكمش كل منا على نفسه الذي نسي رحم قرابته، ومن لا يعرف جاراً، وسواهما تمكن منه الإدمان تمكناً سيطر على ماكينة اتزانه، ففضل الهرب من دوامه، أو العودة من عمله باكراً، ليربط ثلاثة أرباع حياته عند معلف الفرجة، وست البيت هي الأخرى فقدت كثيراً من أمومتها ودورها.. طبخها متأخر، أولادها يتمنون الموت لمهند تركيا نكاية بها، نسيت أنسها ودفء أنوثتها، ومسائل وصفية استبدلتها بما يصب على النار زيتاً، ويرفع نسبة الطلاق إلى مستوى لم تصله رغبة الزواج لدى الجنسين معاً.
باختصار، يختصر معه نصف عمرنا، تحوّلنا إلى جمهور فرجة، جمهور مسلوب الإرادة لا يملك من أمر نفسه أمراً، لا يحسن التقييم ولا يدرك معنى لأهمية التقويم، ألِف واعتاد التلقي اعتياداً أفقد التاريخ قيمته، والجغرافيا دورها والذاكرة مفكرتها والثقافة أدواتها، فأقفلت معظم صالات العرض، تلك الصالات التي لم نستغل شاشاتها استغلالاً صحيحاً، ولم ندعمها دعماً يرغّب الرواد ونشطاء الثقافة، فأسهمنا من حيث ندري أو لا ندري بهذه العزلة وذاك الإدمان، وتركنا نوافذنا مفتوحة على الأكاذيب والأباطيل لنحصد كل هذا الوجع وأجزم أننا لن نتعلم، لأننا مازلنا لا نكترث بالثقافة ولا نعول عليها أهمية حضارية، ولعلنا نعتبرها رِجْلاً مكسورة لا تسند قامة، فهل نستيقظ من غفلتنا وننهض من كبوتنا، فنعيد لصالات المسرح ألقها، وللكتاب الذي لم يعد نافعاً إلا للصر قيمته، ولملاعب (الطابة) جموعها وحشودها؟!.
المهم أن نتلاقى ونجتمع ونتحاور فيما ينفع ويضر، ونخلص من علة تنفرد بنا، وتعمل بعقولنا وأجسادنا تمزيقاً.. وحسبنا الله من سم تجرعناه بعد الدسم.
علي ديبة
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1239&a=110432