قصة حدثت غدا
تأليف : نيقولا ديب
استمر الأجتماع عدة أيام بين كبار رجال القرية ، لم يتوقف الأهالي أثنائها عن طهي الطعام ونقلة الى مكان الاجتماع في أوعية كبيرة ممتلئة باللحم يتصاعد منها البخار أشكالا لا تلبث أن تتلاشى في بهاء الطبيعة .
حبلا" متقطع من الناس يذهب حاملا الأوعية الممتلئة ثم يعود بالأوعية الفارغة ، ويتصل هذا الحبل بأبواب كل منازل القرية ، هذه القرية المختبئة عن الزمن تحت الصخور الناتئة التي تعلن عن وجود الطبيعة هنا منذ الأزل .
وأخيرا" انتهى الاجتماع وصدر عنه بيانا مكتوبا يقول :
" نحنو كبار رجال القارية ناقول وقاررنا ايرسال قايس ولايلا من مالينا للديراسة ورا الجبال ويتجوزو من مالينا ايدا"
فهم أهل القرية البيان من الإشاعات المتسربة أثناء انعقاد الاجتماع ، التي حملها المقربون من المجتمعين وبثوها على الأهالي .
فرح قيس وليلى الحبيبان المتفوقان في دراستهما بهذا البيان ، كيف لا! فهما يحبان العالم ويريدان أن يتمما علمهما فيما وراء الجبال العالية , وأقيمت الأفراح , واستلم قيس نفقات الدراسة مما جمعه الكبار, ثم ساعدهما أهل القرية في التحضير للسفر وحزم الأمتعة , وأخيرا سافرا بعد وداع كبير ، أصبح بعده لأبى قيس وأم ليلى مركزا" اجتماعيا" متقدما" في القرية غيّر من حياة أبو قيس وأم ليلى بقوة الإحساس الشديد الذي اجتاحهما وأعطاهما شيئا من السلطة .
يقول أبو قيس بتأثير ضغط أمور العيش:
العلم ليس مهما , والمال هو الأساس .لقد درست قيس ليتفوق في العلم كي يجلب لنا المال ونطمئن إلى الأيام القادمة , فهناك أمورا كثيرة يجب أن نفكر فيها , شراء التلفزيون وثمن البذار للزراعة وبناء المنزل وشراء الأثاث وتكاليف الزواج والكثير غيرها من النفقات .
بعد عذابات كثيرة وصل الحبيبان إلى البلاد التي استقر رأيهما على إتمام علومهما فيها , ويا للصدمة عندما شاهدا أول كائن حي هناك !
فقد أغمي عليهما وتمت معالجتهما فورا, ظن قيس وليلى للوهلة الأولى بعد أن أفاقا من أغمائهما أنهما في كوكب أخر !في عالم أخر! في جهنم مثلا أو في الجنة ! لم يستطيعا تحديد أي شيء يشير إلى مكانهما ، كائنات حية مذهلة ، الغرف مختلفة وكذاك اللغة والأجهزة والأبواب ، فكل شئ مختلف وخيالي ، لكن هذه الكائنات الحية ساعدت قيس وليلى على تخطي اللحظة ، وشعرا بالأمان دون أن يفارقهما الذهول ، فقد قفزت أمامهما كل إشارات الاستفهام في لحظة واحدة ، اجتاح قيس وليلى شعور عميق من الدهشة والرهبة ، لكن هذا الشعور بدأ يخبو رويدا" رويدا" بمساعدة الكائنات الحية من السكان الأصليين في أرضنا الكروية الواحدة ! فقد ساعدوا الوافدين الجديدين في كل متطلبات عيشهما ، وقدموا لهما السكن في أحد الطوابق الأرضية، ثم أحضروا لهم كل حاجياتهم من السواق العالية على الأسطح .
بعد تعلم لغة البلاد الجديدة , ذهب طالبا العلم إلى مركز الأبحاث ليساعدهما على تقرير أبحاثهما , وبعد لقاء قصير مع المسؤولين قررا موضوع بحثهما وعادا إلى منزلهما . غرقا بعدها في العمل بشكل كبير حتى أنهما نسيا في السنة التالية استلام الأموال التي أرسلها كبار رجال القرية إلى العنوان المحدد :
“אяэьщẶếềẬЋЛГПΦΉŜµìČĔͱ "
ذكر أبو قيس فيما بعد تحت وطأة ندمه عندما أصبح يتمتع بنفوذ كبير في المدينة , وسار إلى البلاد التي درس فيها الأولاد:
فوجئت أن البشر تطير هناك بأجنحتها الكبيرة وتدخل إلى منازلها من النوافذ , وتشتري حاجياتها من الأسواق المنتشرة على أسطح الأبنية العالية , فلا سيارات هناك ولا طائرات ولا دراجات نارية , وكل ما نسعى نحن اليه طوال حياتنا من الطعام واللباس والسكن والتجهيزات , لا يكلفهم شيئا , فالطير يولد ولديه مليون نقطة في حسابه , يبدأ بالانفاق منها منذ ولآدته ولمدة مائة عام , أما في المائة عام التالية فعلى الطير إعادة تجميع النقط من جديد لينفق منها , ويجمعها من تعميق شعوره بشخصيته ومحيطه , ومن تطوير إحساسه بحاجاته وحاجات الآخرين , وإيجاد طرق مبتكرة لفهمه لنفسه وللعالم وللكون , ليتم بعدها اختراع التجهيزات الجديدة لتخدم اكتشافاتهم تلك , فيمتلك الطير البشر بعدها قدرات أحدث باستمرار للاتصال بالكون وبالآخرين , فالمسافات بين البشر في الكون والمجرات تزداد بعدا" كل يوم ولا بد من اختصارها وتأمين الاتصالات العقلية والروحية والنفسية والمادية بين البشر الطيور .
قام قيس وليلى بحسابات بسيطة تبين إن متطلبات العيش للبشر الطيور لا تشكل عبئا عليهم إنما متطلبات الحياة هي كل ما يستنزف الدخل المئوي للطير .
أنهى قيس وليلى بحثهما بعد سنوات ووافق عليهما مركز الأبحاث وأعطاهما وثيقتين بناء على طلبهما تثبت تحصيلهما العلمي ، فحسب العادات لا تعطى وثائق للطيور وتحفظ المعلومات عن كل طير بحسب ختمه الإلكتروني , لا حسب الاسم ولا حسب الصورة فهم يغيرون أسمائهم وإشكالهم حسب ما يريدون كل فترة .
وافقت ليلى على العودة مع قيس إلى قريتهما طائرين , بدأ بعدها قيس العمل بسرعة في تحليل خلاياهما وزراعتها حتى تمكن بعد ستة أشهر من زراعة خلية ناجحة له ولليلى , ونمت الأجنحة حتى اكتملت , لتبدأ بعدها مرحلة التدريب على الطيران , وهكذا حتى أصبحا جاهزين للعودة إلى القرية .
ربط قيس صندوق الوثائق على ظهره , وجمعت ليلى كبسولات الطعام في جيبها وودعا البشر الطيور التي رافقتهما حتى اطمئنوا على سلامة طيرانهما ثم عادوا .
استمر قيس وليلى بالطيران بسعادة فائقة , يحلقان في الجو إلى الأعلى ثم إلى الأسفل ويدوران حول بعضهما صعودا" وهبوطا" , يتسابقان ثم يلحقان ببعضهما , يريد أحدهما أن يمسك بجناح الآخر حتى تعبا فدعا قيس ليلى للهبوط على شاطئ البحيرة للاستراحة . هبطا بسلام وأكلا واستراحا قليلا" . غزاهما شعور الحب بشكل جديد للمر ة الأولى , تركيب جديد من الحرية والحب تزاوجا لزراعة بذرة الوليد الأول في حياتهما .
انطلقا صباحا" من شاطئ الأمان بكل صفاء اللون الأخضر الذي لم أراه حتى في قريتي اليوم .
استمرا في الطيران وحاولا قدر الإمكان اختصار أوقات الاستراحة حتى اقتربا من قريتهما , رفرف الطائران فرحا لرؤية وطنهما , وبدأت القلوب تخفق لفرط التأثر , وفجأة رأت ليلى بفرح صيادا" من سكان قريتهم يطرد الطيور التي يمكن أن تأكل المحصول , نظر الصياد إلى الأعلى فرأى طائرين غريبين فبدأ فورا بإطلاق النار عليهما , ولم يلبث أهل القرية أن انتبهوا إلى ذلك وأسرعوا وبدءوا بإطلاق النار على هذين الطائرين , فأصابوهما , شعر الصيادون بلذة الصياد الذي أضعف فريسته فتصاعد حماسهم وتزايد إطلاق النار إلى أن سقط الطائرين على الأرض في مكان ما بعد أن تم قتلهما , ركض الجميع للبحث عن الطائرين , فكان أبو قيس أول الواصلين يلهث من الركض وبندقيته بيديه , لقد عرفهما رغم تغير شكلهما كثيرا , واحتار للحظات بين اشتياقه لابنه ومفاجأة قتله , أراد أن يضمه ويحضنه لكنه لم يعرف كيف يفعل ذلك , ركض بسرعة وأخذ الصندوق وكل ما معهما واختفى وبعد دقائق بدأ وصول أهل القرية متتاليين .
استطاع أبو قيس إقناع كبار رجال القرية بتمديد فترة الدراسة لقيس وليلى ، فكان يأخذ النقود عن كل سنة من سنوات التمديد إضافة للنقود التي أعادها قيس معه في الصندوق , ويسافر إلى القرية ليشتري العقارات والسيارات حتى أصبح من الزعماء في المدينة ، بينما استمر النقاش في القرية ولأجيال حول تحليل أو تحريم أكل هذا النوع من الطيور البشرية ونشب القتال بين المحللين والمحرمين في سنة من إحدى السنوات , ذهب بسببه أعدادا كبيرة من القتلى . وبسبب خيانة قيس وليلى وعدم عودتهما , لعن أهل القرية فيما بعد كل من يرسل أولاده للدراسة فيما وراء الجبال , لأن قيس وليلى لم يعودوا لخدمة وطنهم ألام , وعرف أبو قيس من أحد الاقنية التلفزيونية فيما بعد أن الأولاد تعلموا علوما" عالية في علوم الأحياء والتربية وتعتبر أبحاثهما من أهم المراجع العلمية في الكون .
تأليف : نيقولا ديب