هل قراءة القرآن بالعين فقط قراءة؟
إبراهيم عوض
قابلت هذين النصين على المشباك، فأحببت أن أعقب عليهما، ولعلى لا أكون قد أخطأت وأفسدت:
1- "السؤال: هل قراءة القرآن بالعين يعتبر قراءة ويؤجر عليها؟ وهل يجوز لي ختم القرآن بهذه الطريقة؟ فأنا يحصل لي تدبر وفهم واستيعاب وتأثر أكبر عند القراءة بالعين ولا أستوعب إلا قليلا جدا وأحيانا أبدا إذا قرأت بصوت أو بترتيل! فالمقصود من القرآن تدبره... وهذه الحالة ليست فقط في قراءة القرآن بل حتى قراءة الكتب بل وفي الدراسة أيضا فأنا لا أستوعب المادة التي أدرسها إذا درستها بصوت ولكن يحصل عندي حفظ وفهم وتدبر أكثر عند الدراسة بدون صوت! فما توجيهك يا شيخ؟
الجواب: الحمد لله. قراءة القرآن بالعين فقط دون تحريك اللسان لا تعتبر قراءة، ولا يثاب عليها ثواب القراءة، وإنما هي تدبر للقرآن ويؤجر عليها المسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " النَّاسَ فِي الذِّكْرِ أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ: إحْدَاهَا: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ. الثَّانِي: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ مَعَ عَجْزِ اللِّسَانِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ قُدْرَتِهِ فَتَرْكٌ لِلْأَفْضَلِ. الثَّالِثُ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَهُوَ كَوْنُ لِسَانِهِ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ. الرَّابِعُ: عَدَمُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْخَاسِرِينَ " انتهى باختصار "مجموع الفتاوى" (10 / 566).
فما تقومين به هو عمل صالح، والأكمل منه أن تجمعي بين القراءة باللسان، والتدبر بالقلب، ولا يشترط لذلك الجهر بالقراءة، بل يكفي تحريك اللسان، ولو كان ذلك بدون صوت، فاحرصي على ذلك حتى يكون ثوابك أعظم. وينبغي التنبه إلى أن هذا التدبر لا يثاب عليه الإنسان ثواب القراءة، فما رتب من الثواب على القراءة فلابد فيه من تحريك اللسان، ولا يكون المسلم قد ختم القرآن قراءةً حتى يحرك لسانه بالقراءة، ولهذا اتفق العلماء على أنه يجب على المصلي أن يحرك لسانه بقراءة القرآن وبالأذكار الواجبة، فإن لم يفعل لم تصح صلاته.
قال في "مواهب الجليل" (1/317): "إسْرَارٌ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةِ لِسَانٍ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحَرِّكْ لِسَانَهُ لَمْ يَقْرَأْ وَإِنَّمَا فَكَّرَ" انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يجب أن يحرك لسانه بالذكر والواجب في الصلاة من القراءة ونحوها مع القدرة انتهى. والله أعلم".
2- "السؤال: هل يجوز لي أن أقرأ القراءن بدون النطق بالحروف، ولكن بالمتابعة بالنظر والقلب من المصحف طبعا، فهل يحصل الأجر بذلك؟
الشيخ ابن عثيمين: لا ليس في ذلك أجر. يعني: لا يحصّل الإنسان أجر القراءة إلا إذا نطق بالقراءن، ولا نطق إلا بتحريك الشفتين واللسان، وأما من جعل ينظر إلى الأسطر والحروف بعينه ويتابع بقلبه فإن هذا ليس بقارئ. ولا ينبغي على الإنسان أن يعود نفسه هذا لأنه إذا اعتاد ذلك صارت قراءته كلها على هذا الوجه كما هو مشاع من بعض الناس: تجده يقلب الصفحة ويومئ هكذا برأسه يمينا وشمالا ليتابع الأسطر، وإذا به قد قلب الصفحة الثانية في خلال مدة يسيرة. فاعلموا علم اليقين أنه لم يقرأ قراءة نطق. والخلاصة أن من لم يقرأ قراءة ينطق بها فإنه لا يثاب ثواب القارئ. هذا واحد. ثانيا: ننهى إخواننا عن هذه الطريق. أعني أن يقرأوا بأعينهم وقلوبهم فقط، لأنهم إذا اعتادوا ذلك حُرِموا خيرا كثيرا. نعم".
أما تعقيبى فهو أن القراءة أنواع: القراءة بالنظر والنطق، والقراءة بالنظر فقط دون نطق، والقراءة بالنطق فقط دون نظر. وكل هذه قراءة. وقد قرأت فى "معجم اللغة العربية المعاصرة" للدكتور أحمد مختار عمر أن القراءة قد تكون جهرية مع النظر فى نص أو بدونه، وقد تكون سرية مع النظر فى نص أو بدونه. هو لم يقل هذا بالنص، لكنه محصلة كلامه. وعلى هذا فما قلته هنا قبل الرجوع إلى الرجل يتفق مع ما قاله رحمه الله ومع ما نعرفه ومع ما تقوله الوقائع.
وهذا نص ما قال: "قرأ الكتاب ونحوه: تتبع كلماته نظرا، نطق بها أو لا: يهوى قراءة الشعر/ الروايات. اعتاد أن يقرأ الصحف اليومية. قرأ العقاد وطه حسين: قرأ كتاب العقاد وطه حسين. قرأ علامات الغضب فى وجهه: لاحظها فراسة أو عادة... قرأ الآية من القرآن: تلاها، نطق بها عن نظر أو عن حفظ: إنه قارئ للقرآن فى الإذاعة. فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. قرأ القرآن عن ظهر قلب: حفظا دون كتاب. قرأ الغيب: تكهن به. يزعم أنه يجيد قراءة الكف. قرأ للمستقبل حسابه: احتاط له. قرأ ما بين السطور: فهم الأمر المضمر. استشف المعنى الضمنى. قرأ عليه السلام: أبلغه إياه. قرأعلى فلان النحو: درسه على يديه".
ولم يرد فى القرآن ولا عن النبى عليه السلام أن القراءة المثابة هى القراءة بصوت، وإلا فأين تلك الآية أو ذلك الحديث؟ ولقد كنت فى صغرى، وأنا طالب بالأزهر قبل أن أنتقل إلى المدارس بعد حصولى على شهادته الإعدادية، أستذكر بصوت ولا أستطيع بل لا أفكر مجرد تفكير فى الاستذكار الصامت، فهكذا جئت إلى الأزهر فألفيت طلابه كلهم يفعلون، ففعلت مثلهم وتصورت أن هذه هى طريقة الاستذكار. بل لقد كان لنا جار بالقرية يطلب مثلنا العلم بالأزهر، وكان أكبر منى سنا، وكان يستذكر قبيل الامتحان دروسه فى غرفة من بيتهم بالقرية مطلة على الطريق، فكان يقطعها جيئة وذهابا وهو يتراقص ويرفع صوته كأنه يحارب أعداء شرسين. وكان صوته فوق ذلك مرتفع الطبقة أجش عصبيا. فلك أن تتخيل كيف كان استذكاره. ولا أدرى حتى الآن كيف لم تكن أحباله الصوتية تتأثر بتلك الطريقة العنيفة فى الاستذكار. ولكنه كان طيب القلب. وقد قابلته منذ عدة أسابيع بعد أن تصرمت عقود لم أقابله أثناءها نظرا إلى مغادرته القرية بعد حصوله على الإعدادية الأزهرية للعمل فى وظيفة بإحدى المدن البعيدة، فشعرت بفرحة غامرة.
ولكن لما انتقلت إلى المدرسة الثانوية وجدت زملائى الجدد يستذكرون صامتين، فكنت أستغرب أشد الاستغراب. ولا أظننى غيرت أسلوبى فى التو واللحظة بل لا بد أن يكون الأمر قد استغرق بعض الوقت حتى تأقلمت مع الوضع الجديد. ولم أعد من يومذاك أستذكر بصوت، بل صرت أستغرب أشد الاستغراب إذا ما أبصرت أحدهم ينطق ما يقرؤه فى الكتاب الذى يدرسه. والعجيب أننى فى ذات الوقت أيام أزهريتى، كنت إذا ما قرأت كتابا خارج المقرر قرأته دون صوت. فكأن القراءة كانت عندى على ضربين: قراءة استذكار، وهذه يصاحبها النطق. وقراءة متعة، وهذه تتم دون صوت.
وبالمناسبة فأنا حين أقرأ القرآن حتى الآن أقرؤه عادة بصوت. لكن هذا لا يمنع أن أقرأه فى بعض الأحيان بدون صوت، وبخاصة إذا أردت أن أفكر فى مسألة من مسائله لغوية كانت أو بلاغية أو نغمية أو عقيدية أو فقهية أو أخلاقية أو ذوقية أوتربوية... إلخ، إذ التفكير يستلزم الصمت والهدوء حتى لا يتشوش الذهن. ولا أستبعد أن تكون قراءتى الجهرية لكتاب الله هى من آثار حفظى له فى الكُتّاب حيث كنا أولا نفكّ اللوح جهرا، أى نقرأ على سيدنا من المصحف مباشرة النص الذى يتعين علينا حفظه كل يوم قبل أن نكتبه فى اللوح لنحفظه، ثم نُصِحّه بعد ذلك على سيدنا جهرا، أى نقرؤه أمامه من اللوح بعد أن نكتبه حتى يتأكد أننا كتبناه كتابة صحيحة ونتلوه تلاوة صحيحة، ثم نسمِّعه جهرا كذلك، أى نقرؤه غيبا دون النظر فى مصحف أو لوح، ثم نسمِّع الحصة جهرا أيضا. والحصة عدة أرباع من المصحف نقرؤها على سيدنا كل عدة أيام حتى لا ننسى ما كنا حفظناه من ألواح متفرقة... وهكذا. ولعل واحدا يقول: ما دمت تقرأ القرآن جهرا فلم تثير كل تلك المشكلة؟ والجواب أننى لا أثير أية مشاكل، بل أحاول حل مشكلة أرى أن بعض الفقهاء والمفتين يتفننون فى خلقها وإعنات الناس بها. هذا كل ما هنالك.
ومن الواضح أن كل هم هؤلاء العلماء هو الحفاظ على الناحية الشكلية. ولعلك لاحظت أنهم لم يتطرقوا إلى الحديث عن أهمية فهم القرآن أثناء القراءة. إن المهم عندهم هو تحريك اللسان. والحمد لله فالمسلمون الآن يقرأون القرآن بتلك الطريقة جميعا، وقليل منهم من يحاول فهم ما يقرأ، بل كل همه أن يكرّ الآيات والسلام، متصورا أن الله راض تمام الرضا عن ذلك، مع أن الله يقول عن القرآن: "كتابٌ أنزلناه إليك مبارَكٌ ليدَّبَّروا آياته وليتذكر أُولُو الألباب". وإذا كان مستمع القرآن المنصت له مأجورا ومرحوما بكرم ربه أفيحرم هذا الكرم الإلهى من يقرأ القرآن بعينه دون تلفظ؟ كيف؟ ومن يصح أن يتألى على الله بذلك؟ إيتونا بكتاب أو أثارة من علم تشهد لكم إن كنتم محقين.
فالقرآن إنما نزل ليتدبره المسلم. ثم سواء تدبره بالقراءة الجهرية أو بالقراءة الصامتة أو تمتم أو اكتفى بتحريك شفتيه دون تمتمة. فكله تدبر. وأنا أرى أن التدبر الصامت أحرى أن يقف القارئَ على معنى ما يقرأ على نحو أسرع وأسلس وأبسط. وهناك مواقف ربما لا يحسن رفع الصوت بالقرآن فيها كما هو الحال حين يكون القارئ جالسا مع جماعة يتبادلون الأحاديث مثلا أو كان فى مواصلة عامة أو ما إلى ذلك. والمسلمون يقرأون القرآن هذه الأيام، لكن بالله عليكم كم نسبة من يفهمون ما يقرأون؟ ومن منهم يعمل بما يفهم؟ وهذا إن فهم، وقليل ما هم الفاهمون. ولقد كنت وما زلت أقول لطلابى كلما رأيت أحدا منهم منهمكا فى قراءة المصحف: لماذا لا تشترى مصحفا بهامشه شرح للكلمات التى تغمض عليك حتى تفهم ما تقرأ بدلا من هذا الكرّ كأنك فى مسابقة للعَدْو؟ ألم يقل القرآن عن يهود: "كالحمار يحمل أسفارا"؟ فهل حالنا على النحو الذى شرحتُه أفضل من حالهم؟
وهذا يذكرنى بما كنت أدرسه فى الفقه الشافعى بالأزهر عن النية فى الصلاة، إذ كان الكِتَاب يقول لنا إن النية محلها القلب. عظيم، فلماذا تطلبون منا التلفظ بها إذن؟ فيكون الجواب: ليساعد اللسان القلب. بل إنى لأذكر الآن ما كان يقوله لنا شيخ الفقه بطنطا من أنه لكى تكون النية كاملة لا بد أن تكون ملفوظة، وعلى النحو التالى: "نويتُ أن أصلى الظهر (مثلا) حاضرا أربع ركعات مستقبلا القبلة مقتديا بهذا الإمام (وهنا عليك أن تشير ناحية الإمام بإصبعك). الله أكبر". وكأن الله سبحانه (أستغفره جل وعلا) لن يعرف ما أنا مقدم عليه إذا لم أشرحه جهرا بتلك الدقة المتناهية كما لو كنا نقيس أرضا زراعية يتعين أن نعرف حدودها وأبعادها على نحو صارم، وأن الملائكة (أستغفر الله) لن تستطيع تسجيل ما أنا بسبيل القيام به على النحو الصحيح لغموضه وإبهامه. أرأيتم عبودية للاتجاه الشكلى أسوأ من هذا وأبعث على الضحك؟ ترى هل إذا نوى الإنسان أن يسافر من غده أن يقف أمام المرأة مثلا ويظل يكرر عزمه هذا حتى لا يختلط عليه الأمر فيظن أنه ينوى أن ينام فى الغد فلا يستيقظ إلى يوم الدين أو أنه ينوى الزواج من الغد بدلا من السفر؟ لقد أفسد علينا القوم ديننا العبقرى العظيم بهذه الروح السخيفة.