مصرُ التي نريد !
إن ذو لَوْثةٍ خانا ...
فـ (مصر) هنا هي مصر البلد المَعرِفة ، التي قال عنها تعالى في محكم تنزيله على لسان نبيّه يوسف عليه السلام : ( وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) ( يوسف 99) مصر التي قصدها أهل التقى والعزائم ، فهي خلاف ( مصراً) اللفظة النكرة التي تعني أيّ مصر – قُطر – حين جاءت في سياق قوله تعالى على لسان نبيّه موسى –عليه السلام – لمّا سأله قومه بنو اسرائيل قائلين له ( لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير إهبطوا مصراً فإنّ لم ما سألتم ) ( البقرة 61) فطرحت لفظة ( مصراً ) النكرة - الدّالّة على أيّ قُطر نزلوه - كخيارعلى أولئكم القوم ليلتمسوا فيها دناءات مطالبهم الدالّة على دناءات اهتماماتهم ، حين عدلوا عن المنّ والسلوى لالتماس البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل !!
في ضوء ذلك : فكلّ غيور من هذه الأمّة يودّ أن يقصد مصرَ العَلم ، العَلمَ في عقولنا ووجداننا ، مصر عمرو بن العاص ، حين غدت في عصره مناراً للناس ! مصر صلاح الدين ، حين باتت في عهده معقلا لحشد جموع المجاهدين لحماية وتحرير ديار المسلمين ! مصر الهداية والنبراس ... فكلّ مسلم في مشارق الأرض ومغاربها يصبو لأن يهبط مصرَ ؛ ليس بانخلاعنا من أوطاننا وبارتحالنا الجسديّ إليها ! إنّما هو هبوط فكريّ يُنير لنا المسالك ، وهبوط شعوريّ يمسح عنّا أسى الليالي الحوالك ، وهبوط سلوكيّ يهدينا سبلنا نحو المعالي وينتشلنا من وهاد المهالك !إذ هذا ما تسأله الأمّة من مصر ، وتنشدُه فيها !فلطالما تعاقب على مصرَ حكامٌ أحالوا مصرَ مصراً ؛ من عالم المعرفة إلى عالم النكرة ، فغدت في ظلّ حكمهم لا ميزان لها بين الأمم على عظم حجمها ، ولا ثقل لها في المعادلات السياسية الدوليّة على فاعليّة أثرها ، ولا كلمة مسموعة لها في صدى المواقف الإقليميّة على شهامة شعبها وجندها ... وصارت حالها كما قال الشاعر : ويُقضى الأمرُ إذا ما غابت تميمُ ... ولا يُستشارون وهم شهودُ غير أنّه ومن أنعُمِ الله تعالى ليس على مصر وحدها بل وعلى الأمّة بأسرها ، فمن رحمته تعالى بنا أن فاقت مصر بعد طول رُقاد ، وشدّة عِناد ، فباء ساستها الجبابرة بصفقةِ خاسر ، لم يجدوا لهم من الشعب مِنْ ناصِر !فكان المقام الذي يستدعي الشكر ، حيث انّ قوله تعالى لبني إسرائيل : ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) إيحاء بأنّ القوم لم يشكروا النّعم ، ذلك أنّ شكرَ النعمةِ هو إظهارُ آثارِها المقصودةِ منها ؛ كإظهار النصرة للحقّ بنعمة الشجاعة ، وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم ، وتثقيف الأذهان بنعمة العلم ، وكلّ مَنْ لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تُسلب عنه ويعوّضبضدّها تماماً ، مثلما تأكّدت هذه المعالم في قوله تعالى : ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنّتان عن يمين وشمال كلوا من رزقربكم واشكروا له بلدة طيبة وربّ غفور ، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ) (سبأ: ١٥ – ١٧)وهذا ما على أهل مصر أن يعوه ويدركوه بخاصة ؛ إذ أنهى الله تعالى على أيديهم حِقبة طغاة بغاة ، فذا يستلزم منهم الشكر ، وشكرهم لربّهم على أنعمه عليهم يكون باختيار الحاكم الذي هو مظنّة لإعزاز البلاد والعباد ؛ بحراسة دينهم وسياسة دنياهم !إذا كان ذلك كذلك : فمن هو الحاكم وما هو الحُكْمُ الذي تريده مصر بل الأمّة جمعاء ، وما الذي ينتظرهذا الحكم والحاكم ؟؟على الصعيد الداخلي : فمصر بحاجة إلى حُكم ينزع من القلوب الإحن ، ويخمد دواعي الفتن والمحن ! يخرج الناس من ظلمات الأحقاد والضغائن والأنكاد إلى نور التآخي والاتحاد ! لتضحي مصرُ مصرَ الفكر النيّر، والمرام الخيّر !وأن تُبذلَ ثرواتُ مصرَ في المكارم ، ويواسَى بها أهلُ المغارم ، بعد أن كانت ثروتها هباءً منثورا ، ضائعة وإن كثرت بورا ، كأن لم تكن شيئا مذكورا ! وليري العالم أنّ ما كان في مصر بعيد المنال ها هو اليوم بديع المثال !وعلى الصعيد الخارجي : الكلّ يريد أن يرى في مصر حُكما يُخرج مصرَ من المُسالمة إلى المُصارمة ، مع قوم باتت الخيانة ديدَنهم في الأعيان الدنيوية والمعاني الدينية ، ذوي نفوس نزّاعة إلى الخيانة ، روّاغة عند مضائق الأمانة ! لا يقفون في المراوغة عند عَدّ ، ولا ينحصرون فيها بحدّ ! قد اتضح كذبهم وافتُضح تدليسُهم ! ومجمل ذلك : أن تغدو مصر شعائرَ الأخيار، التي تضع عن الأمة الأثقال والآصار ! تعود إلى ما طبعت عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة ، مصر الهمم العوالي بعد أن جعلها الظلَمة من حزبِ مولى المَوالي ! وعلى الصعيدبن معا تكون مصرُ في عهده أصلبَ عودا وأثبتَ عمودا ! نريد أن تكون مصرُ ( مازنَ ) العرب ؛ تقيهم اللقطاء الغرباء الأباعدَ الأباغض ! ويحسب لها المتربّصون ألفَ حساب ، ثمّ هم بعد هذه الحسابات يُحجمون رهباً ولا يجترئون ! وما أدراك مَنْ مازنُ العرب ؟! هم الذين عناهم الشاعر بقوله : لو كنتُ من مازنٍ لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهْلِ بن شيبانا
إذنْ لقام بنصري معشــــــرٌ خشِنٌ ... عند الكريهة إنْ ذو لوثـــة خانا
وبذا تكون مصرُ للعرب كلّ العرب المعشرَ الخشنَ المهيب ، في اليوم الكئيب العصيب ، فيحول هذا المعشرُ الخشنُ دون استباحة بيضتهم ، وكسر شوكتهم ،وانتهاك حرماتهم ، وتدنيس مقدّساتهم ، في زمان غشيت فيه الكثيرَ من الحكّام لوثة فخانَ فيه مَنْ خان ! وهانَ فيه مَنْ هان !ولان فيه من لان ! واستكان فيه من استكان ! إلا مَنْ رحم ربّك ! ولا أقول ( وقليلٌ ماهُمْ !) بل أقول : أين هم ؟! أين هم ؟!وصُرَاحُ القول : نريد مصرَ التي تبعث في أمّة العرب والإسلام الأمل والأنس ، وتوجّه بوصلتهم نحو القدس !ولمّا كان فيمن سلف من حكّام مصرالبائدين معتبرٌ ومُدّكر ، إن في أحوالهم أو مآلهم ، فنقول لمن سيعتلي عرش مصر : تأمّلوا في حكّام مصر الغابرين سيرتهم وعاقبتهم ، لتضمّوا الخير إلى الخير ، وتعتبروا من العين بالأثر ، فمناهج حكمهم تُكتب آثارُهم ، وقد كُتبت ، ولو استُـنطِقت تلكم الآثارُ لصدّقَ فيها الخُبْرُ الخَبَرَ فقالت : كانت مصرُ في عهدهم بالكدر مشوبة ، وبالبلاء مصحوبة ، والأمّة جرّاء ذلك مهيضة الجناب معطوبة ! ذلك أنّ الحكام الحماة التقاة الهداة مِنحة لزمانهم وشعوبهم وأوطانهم ، كما أنّ الحكام الطغاة البغاة محنة لزمانهم وشعوبهم وأوطانهم ، بل وربّما هم محنة أيضا لأوطان غير أوطانهم وشعوبٍ غير شعوبهم !وعليه : فقد أنعم الله عليكم يا أهل مصر ؛ إذ نجّاكم من الطواغيت وأشياعهم ، فعذّبهم الله بأيديكم ، وأخزاهم ونصركم عليهم ، وأراكم من أحوالهم ومآلهم ما شفى به صدوركم ، وصدور قوم مؤمنين ! فيا أحرار مصر لا تبدّلوا - بخياركم يوم انتخاباتكم - نعمة الله كُفرا فتحِلّوا مِصْرَكم وأمّتكم دارَ البوار ...