منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    سنواتي الأولى بالمدرسة...

    سنواتي الأولى بالمدرسة...

    الحلقة الأولى

    بقلم: عبدالحق الريكي

    تستمر الحياة... رغم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية... ينشغل الناس بأعمالهم وتجارتهم، وعيونهم على ما يخططه السياسيون لمستقبلهم ومستقبل البلاد... هناك امتحانات عديدة للأفراد والأسر ولعل ما يشد الأنظار تلك الامتحانات التي تمكن الأبناء من التفوق وولوج مستويات تعليمية عليا أو الالتحاق بعالم الشغل...

    أتحدث عن قطاع التعليم، الذي تصدر موضوعه خطاب الملك محمد السادس لذكرى 20 غشت من هذه السنة، وأصبح منذ ذلك الحين موضوعا من مواضيع الساعة... منذ زمن بعيد وإجماع الأمة على أزمة قطاع التعليم بالمغرب، دون أي أفق واضح لحلول جذرية ومقبولة من طرف الجميع... لن أحدثكم عن موقفي من هذا الموضوع الوطني الهام، بل سأبحر معكم عن تجربتي مع التعليم العمومي لبدايات الاستقلال، الذي استفدت منه كما هو الشأن مع جيلي وأجيال أخرى، والذي بفضله أصبحت الشخص الذي أمامكم... إني أعتقد أن المصانع الحقيقية هي المدرسة والثانوي والجامعة ومعاهد التكوين عمومية وخصوصية... هذه هي المعركة المصيرية، مدرسة تصنع أجيالا قادرين على مواجهة تحديات العصر...

    مع كل دخول مدرسي يتبادر إلى ذهننا سنواتنا الأولى في المدرسة، تمر أمام أعيننا سنوات الدراسة بحلوها ومرها، وتتقاطع وتتلاحق الصور، صور المدارس والأقسام والتلاميذ والمعلمين والأساتذة، "كاد المعلم أن يكون رسولا" كما قالها عن حق، أمير الشعراء، أحمد شوقي... تطفو على السطح بعض الذكريات بقوة، كعشقنا وحبنا لأساتذتنا وانبهارنا بالعديد منهم ونفورنا من الآخرين، ونبحث في أعماقنا عن ذكريات أخرى ضبابية... كل من ولج أقسام التعليم يحتفظ في دواخله بتاريخه الخاص... لقد مررت شخصيا من تجربة التَّعَلُم بين ثنايا أربع مدن ومدرستان ابتدائيتان وأربع ثانويات وجامعتان، كلها منبثقة من المدرسة العمومية...

    بدأت أولى خطواتي بمدرسة "سيدي علي بركة" بتطوان وعمري في حدود الخمس سنوات، لم نكن نتوفر حينها على الحالة المدنية وكان قياس الأعمار حسب تصريح الآباء والقياس النظري لمدير المدرسة... تحكي أمي، وبما أن أبي كان جنديا في القوات المسلحة الملكية بمدينة القنيطرة، فقد رافقتني هي مع زوجة خالي وأطفال آخرين من العائلة عند السيد المدير للتقييد في لوائح الأقسام الابتدائية وحيث كان علوي لا يصل إلى حد مكتب المدير تفتقت عبقرية زوجة خالي أن طلبت مني أن أقف فوق قدميها وهكذا زاد طولي بعض السنتيمترات وتمكنت من رؤية المدير خلف مكتبه...

    أعتقد أن مدير مدرسة "سيدي علي بركة" كان قد انتبه لكل ما تفتقت به عبقرية الآباء والأمهات لتمكين أطفالهم من الولوج إلى الأقسام التحضيرية للابتدائي وكان هو أيضا يغض الطرف عن ذلك، بل ويشجع على التمدرس وكله أمل ورجاء في المستقبل الذي كان قد بدأت بوادره تظهر غداة حصول المغرب على الاستقلال... جل آبائنا الذين رافقوا أبناءهم إلى المدرسة في بداية الستينيات من القرن الماضي لم يسعدوا هم بها، في فترة الاستعمار، وكانت هذه الباب المفتوحة أمام أبناءهم أجمل هدية لهم ولهؤلاء...

    ولجت أول مدرسة عمومية بمدينة تطوان في أوساط الستينيات وأنا غير مزداد بها. كان ذلك بفعل هجرتي الأولى إليها، مع عائلتي من مسقط رأسي أجدير – عاصمة المجاهد عبدالكريم الخطابي – بإقليم الحسيمة، غداة صعود أهل البلد إلى الجبال فيما عرف بأحداث الريف لسنة 1958. كان جدي كما هو الحال مع باقي أفراد جيله من المجاهدين الذين آمنوا بفكر وقيادة زعيمهم "مولاي مُوحِنْدْ" كما كانوا يلقبون الأمير الخطابي... لم يُقتل جدي في المعارك التي خاضها ضد المستعمر الإسباني بل بعد مرور سنوات بعد ذلك لما رفض التجنيد الإجباري والمشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية ولعداوة قديمة ومعروفة مع الجيش الإسباني... قتلوه ودفنوه بدون إخبار أهله وكان أكبرهم أبي الذي أصبح منذ ذلك الحين وسنه أربعة عشر سنة مسؤولا عن العائلة وأخيه وأخته الصغيرين...

    أحكي عن هذا الأمر لارتباطه بالهجرات التي ستعيشها عائلتي وتجوالي على مدراس وثناويات عديدة في مساري الدراسي... عن ولوجي إلى مدرسة "سيدي علي بركة" بتطوان أحتفظ إلى يومنا هذا بصورة فوتوغرافية أخذت لي بالمدرسة وأنا أرتدي المعطف المدرسي وأمامي كتاب مفتوح... أنتم أيضا لديكم صورا وذكريات عن بداياتكم الأولى... أما باقي الذكريات مع هذه المدرسة ومحيطها كثيرة لعل أهمها حسب حديث العائلة كلما عرجنا على هذه المرحلة هو مطالبة المعلم من بعض التلاميذ مغادرة القسم بعد أن تكون رائحة "قضائهم لحوائجهم" قد أزكمت الأنوف... كنت من ضمنهم وكم مرة غادرت المدرسة وأنا أتأبط سروالي كي لا يسقط في الأرض بعض مما لا تشتهي الأنفس رؤيته، لا أميل إلى الشمال ولا إلى الجنوب، ظنا مني أن الجميع يراقبني...

    كانت الحياة جميلة في مدينة الحمامة تطوان بعيون صبي كان عالمه ما بين منزل عائلته القريب من المدرسة والمقابل لما يسميه أهل المدينة "طوريطا سيدي علي بركة" وحومة "باريو مالكا" حيث السوق الأسبوعي وزوج خالتي الأخرى الذي كان له محل تجاري به وهو الجندي المشارك والعائد من الحرب الأهلية الإسبانية... كذلك أتذكر "طراموي" تطوان و"أبيندا" وحديقة "رياض العشاق" التي كان يرتادها أهل المدينة خلال المناسبات ونهاية الأسبوع في أحلى ملابسهم كأنهم ذاهبون لعرس أو مسرح...

    تحكي الوالدة أنه في يوم من الأيام وأنا مع إخوتي في هذه الحديقة وعمري لا يتعدى خمس سنوات، ابتعدت عنهم وما هي إلى لحظات حتى فقدتهم وفقدوني... بحثوا عني في كل مكان ولم يعثروا عني... تم تجنيد كل أفراد العائلة بتطوان للبحث عني بدون نتيجة، إلى حين قول أحدهم وما يدريكم إن كان الطفل قد رجع إلى المنزل، فهرول الجميع وكانت المسافة بعيدة شيئا ما بين حديقة "رياض العشاق" ومنزل العائلة بحومة "باريو مالكا"، فوجدوني جالسا أمام الباب وحيدا في انتظارهم... رغم صغر سني كانت لدي قوة لتذكر الأماكن والشوارع والطرقات... وأنتم ما هي ذكرياتكم الشبيهة؟

    مع رفع "الحظر العسكري" على إقليم الحسيمة ارتأى أبي أن نعود إلى أرض الأجداد والأهل والأحباب وذلك ما كان في حدود سنة 1965 حيث سألج مدينة جديدة... بدءا، أولا، بلغة التداول ما بين الناس، كنت قد تعلمت في سنواتي الأولى بتطوان "الجبلية" وإذا بي أجد نفسي في مدينة كل سكانها يتحدثون "الريفية"... وثانيا بصغر مساحة مدينة الحسيمة مقارنة مع شساعة عاصمة الشمال، تطوان... لكن رغم ذلك القواسم المشتركة كانت كثيرة، طيبوبة السكان هنا وهناك وأعتقد في كل أرجاء المغرب المستقل، مدينتان شاطئيتان الأولى، تطوان، بعيدة بعض الكيلمترات عن شواطئ "أزلا" و"مارتيل" المشهورتان في ذاك الزمان، ومدينتي الجديدة، الحسيمة، المبنية فوق سفوح وجبال تطل على البحر، ويكفي أن تخطو بضع خطوات مشيا على الأقدام لتجد نفسك أمام شاطئ "كيمادو" المبهر، قديما وحديثا...

    كانت بمدينة الحسيمة مدرستان للذكور، الأولى مدرسة "محمد الخامس" والأخرى التي التحقت بها هي مدرسة "علي بن حسون" الابتدائية حيث سأحصل على شهادة الابتدائي... كانتا متواجدتين في وسط المدينة قريبتين تستقبلان كل تلاميذ المدينة والإقليم... كانت هناك مدرسة أخرى للبنات في نفس المكان... ماذا أتذكر من هذه الفترة؟...

    الحق أنه لن أنسى كوني كنت ألج مع زملائي التلاميذ مطعم المدرسة وهو مخصص لغير القاطنين بالمدينة والأبناء المعدمين اجتماعيا، لكن الحراس كانوا يتركوننا ندخل لنأكل بنهم كل الطعام الذي يقدمه مطعم المدرسة وخاصة السمك المجفف المعروف عند أهل البلد ب"بكالاو"... كما أذكر أيضا أنني طالما صحبت معي إلى منزلنا أحد التلاميذ الأكثر فقرا مني حيث كانت الوالدة لا تبخل علينا بالطعام المعد لذلك اليوم من طاجين بطاطس أو سمك أو عدس أو "لوبية" أو بيصارة، مقدم مع الخبز المصنوع بالدار والعائد توه من فران الحومة... يا لها من أيام جميلة... كانت الفوارق الطبقية ضئيلة ولا مظاهر للغنى الفاحش أو التباهي بالمال والألقاب...

    كما أتذكر أيضا المعلم البيضاوي القوي الشخصية الذي درَّسَنَا مادة الحساب والفرنسية في آخر قسم الابتدائي والذي كان التلاميذ يهابونه ويحترمونه نظرا لكفاءته وطيبوبته... وأتذكر أيضا أنه كان يرسل بعضنا إلى منزله القريب من المدرسة بعد انقضاء وقت الدراسة الرسمي لنجلب له قهوة وحلويات كانت تؤنسه وهو يقوم بإعطاء ساعات إضافية تهيئا لامتحان شهادة الابتدائي التي كانت في ذلك الحين بوابة للالتحاق بالثانوي وكذا ولوج عالم الإدارة والشرطة والجيش... كنت تلميذا نجيبا لكني رسبت في عامي الأول... هل رسبتم خلال مساركم الدراسي وكم مرة؟ ومن منكم لم يرسب أبدا حتى نعلق له وسام الاجتهاد والاستحقاق؟

    بعد نجاحي في العام التالي التحقت بالثانوية الوحيدة بمدينة الحسيمة وهي "أبي يعقوب الباديسي" سنة 1970. عالم الثانوي عالم جديد يشعرك أنك لم تعد طفلا بل أصبحت شابا لا تفصله سوى سنوات قليلة كي يصبح موظفا أو طبيبا أو كما كان سائدا حينها معلما أو أستاذا... لم تكن الأقسام مختلطة بعد حيث كان هناك أقسام للذكور وأخرى للإناث... كان أخي وأختي قد التحقا سنين قبل ذلك بالثانوية وكان الأخ الأكبر يشارف على صف الباكلوريا... وما أدراك ما الباكلوريا في ذلك الزمان...

    لم أبقى سوى سنتين بثانوية "الباديسي" حيث سيكون لي موعد آخر للهجرة مع عائلتي إلى مدينة الرباط، عاصمة المغرب... لكن قبل التطرق لهذه المرحلة سأحدثكم عما بقي عالقا في ذهني من تلك السنوات الجميلة بثانوية "الباديسي" ومدينة الحسيمة الرائعة... أول ما يتبادر إلى فكري هو وقوعي في حب تلميذة كانت تدرس في مدرسة البنات القريبة من الثانوية... كان وبقي حبا عن بعد بدون كلام... كنا شلة من الأصدقاء الملتحقين بالثانوية نقضي بعض أوقات الفراغ أمام مدرسة البنات وكان كل واحد منا على ما أعتقد يختار "معشوقته" ويكتفي بتوجيه نظراته إليها وإن وقع يوما أن تبادلا النظرات وصدرت من الفتاة ابتسامة فتلك كانت أبهر الانتصارات وقمة الفرحة... لقد كانت "حبيبتي" فتاة من عائلة ميسورة وأبوها مسؤولا إداريا بالحسيمة ولربما منحدرا من مدينة الرباط... وسينقطع هذا الحب الطفولي مع مغادرتي الحسيمة إلى الرباط، لكن الذكرى تبقى عالقة في الأذهان إلى الأبد... ولا علم لي بمصير تلك الفتاة ولا بمسار حياتها... أرى بعضكما تائه في حبه الأول... ذكريات وذكريات...

    كانت البدايات مع الحب ولكن أيضا مع الصداقة والتمرد. الصداقة مع باقي تلاميذ القسم الثانوي بحيث خلقت علاقات وطيدة بيننا نتقاسم فيها أهم شيء وهو عدم الوشاية ضد أحد المشاغبين بالقسم وعدم فضح الأصوات التي يطلقونها في القسم أو المقالب التي يعدونها لبعض الأساتذة، كما أن الصداقة تعدت أسوار الثانوية لتصبح واقعا خارج أوقات الدراسة بلعب كرة القدم أو الذهاب جماعة للبحر أو تمضية الساعات الطوال في الحديث عن كرة القدم الإسبانية والأفلام المعروضة في السينما لرعاع الغنم وبطولات هرقلس وسبارتكوس... أما فيما يخص التمرد، فالحقيقة أنني كنت شابا خجولا، لكن شيئا ما كان يعتمر بدواخلي، لذلك كنت من القلائل الذين التحقوا ب"عصيان" قام به أحد الأقسام الكبرى مطالبين بشيء ما. لكن الصورة ليست واضحة تماما في ذهني، الأكيد أن وعيي السياسي بدأ يتأسس منذ التحاقي بالثانوية في بداية السبعينيات وفي مدينة خرجت توها من "الحظر العسكري" والمراقبة البوليسية كانت على أشدها فيها...

    تركت مدينة الحسيمة والتحقت مع أفرادي عائلتي إلى العاصمة حيث استطاع أبي الحصول على وظيفة "شاوش" ببنك المغرب وكان إخوتي الكبار على وشك ولوج الجامعة التي كانت متمركزة أساسا بالرباط... التحقت بكوليج "يعقوب المنصور" بعد إصرار والدي، في مواجهة المدير، على حقي في الدراسة بها وليس بثانوية "التوحيد" بالملاح نظرا لنتائجي الدراسية وملاحظات أساتذتي بثانوية "الباديسي" بالحسيمة. وذلك ما كان.

    ولنا موعد لاحق مع ذكريات كوليج "يعقوب المنصور" وأيضا ليسي "كورو" أو "الحسن الثاني" ومن بعده ثانوية "مولاي يوسف" بالرباط، حيث فرض علي تخصصي في العلوم وخاصة الرياضيات أن أمر من كل هذه الثانويات قبل الحصول على الباكلوريا. سنوات دراستي الثانوية خلال السبعينيات من القرن الماضي فيها الكثير من الذكريات سيكون لنا موعد معها في الحلقة القادمة...

    عبدالحق الريكي

    الخميس 5 شتنبر 2013

  2. #2
    سنواتي الأولى بالمدرسة (الجزء الثاني)
    الهجرة، الأب، العاصمة، الانقلاب ولغة التواصل...
    بقلم: عبدالحق الريكي
    تحدثت في الجزء الأول من مقالي، حول "سنواتي الأولى بالمدرسة"، عن هجرتي سنة 1972، من مدينة الحسيمة والتحاقي مع أفراد عائلتي إلى عاصمة المغرب، الرباط، حيث استطاع أبي الحصول على عمل "شاوش" ببنك المغرب وكان إخوتي الكبار على وشك ولوج الجامعة التي كانت متمركزة أساسا بالرباط... في هذه المدينة سأحصل على شهادة الباكلوريا، شعبة العلوم الرياضية، بعد سنوات من الجد والعمل مرورا بكوليج "يعقوب المنصور" وأيضا ليسي "كورو" أو "الحسن الثاني" ومن بعده ثانوية "مولاي يوسف" التي انخرطت فيها في النضال التلاميذي وتعلمت أبجديات العمل السياسي.
    سنوات دراستي الثانوية خلال السبعينيات من القرن الماضي بالرباط فيها الكثير من الذكريات لطفل من أسرة متواضعة، آت من جبال الريف، كان لزاما عليه التأقلم مع مدينة جديدة والاحتكاك بتلاميذ أحسن الثانويات في ذلك الوقت... وأقول لجيل الشباب، وخاصة الفقراء منهم والموجودين في المناطق القروية والنائية، أن الطموح والحلم والاجتهاد والعزيمة قادرين على أن يقهروا كل العقبات حتى تتمكنوا من تبوأ أعلى المناصب والدرجات ليس بالمغرب فحسب بل في كل دول العالم... فلا تخافوا من الهجرة بل اسعوا لها كما فعل أجدادنا وآباؤنا...
    اسمحوا لي قبل أن أتحدث عن سنوات الدراسة بالرباط في سبعينيات القرن الماضي، أن أنحني إجلالا وتقديرا لأبي – رحمه الله – الذي فكر ودبر وعزم الأمر على الهجرة إلى الجنوب عكس كل أقرانه الذين كانت وجهة هجرتهم إلى أوربا... أبي العامل بأوراش مندوبية وزارة التجهيز بإقليم الحسيمة قرر شتاء 1972 البحث عن عمل بعاصمة المغرب والاستقرار بها حتى يتمكن أطفاله من الدراسة بأحسن الثانويات وولوج الجامعة بالرباط.
    وحتى أكون منصفا فهذه الفكرة أُوحِيَتْ له من طرف الحارس العام لثانوية الباديسي بالحسيمة السيد "دون ليون"، اليهودي المغربي. فعزم أبي وتوكل على الله... أعتقد أن قرار هجرته إلى العاصمة كان شجاعا وصائبا حيث غيَّر مجرى حياة عائلته وأفرادها... لقد استطاع أبي أن يحقق طموحاته في اقتناء منزل بالرباط وسيارة رونو 12 جديدة، أتحدث هنا عن سبعينيات القرن الماضي، وتوفير أحسن شروط التعليم لأولاده وبناته. رحمك الله ورحم كل آبائنا وأجدادنا الأبرار...
    التحق أبي بالرباط في ربيع 1972 واستقر بمنزل صغير بديور الجامع وبدأ في البحث عن منزل يأوي عائلته صيف ذاك العام بعد نهاية دراستنا بالحسيمة... لقد ساعده أصدقائه الشواش الطيبين ببنك المغرب كراء منزل وسط الرباط وبثمن مناسب، ومن محاسن الصدف أن هذا البيت كان يطل على أحد الشوارع التي تحمل اسم المدينة التي تركتها بألم وهي الحسيمة، ويوجد بالقرب من المقهى الشهير "جور إينوي" القريب جدا من ثانويتي الجديدة كوليج يعقوب المنصور وكان هذا الحي آهلا باليهود المغاربة...
    كيف كان طفل في سنه الثاني عشر يتخيل العاصمة الرباط وهو الذي لم يشاهدها من قبل؟ الحقيقة أني كنت أتصورها كعاصمة إسبانيا، مدريد، التي كنا في الحسيمة نعرفها ونعرف إسبانيا أكثر من معرفتنا للمغرب وللرباط، لسبب بسيط هو كوننا لم نكن نشاهد التلفزة المغربية بمدينة الحسيمة. القناة التلفزيونية الوحيدة المتوفرة كانت القناة الأولى الإسبانية حيث مباريات البطولة الإسبانية والأفلام والمسلسلات وبطبيعة الحال أخبار وخطب فرانكو... كنت وأنا طفلا أتصور الرباط على شاكلة مدريد، بنايات شاهقة، محلات تجارية كبرى، مقاهي ومطاعم وأناس يلبسون ثيابا جميلة... وأنا سأصبح مثلهم في العاصمة، الرباط... كانت دهشتي قوية حين وصولي إلى مدينة الرباط وبالضبط ساحة "باب الأحد" حيث كانت توجد محطة المسافرين وهي مليئة بالعربات المجرورة بالحمير كوسائل نقل المواطنين والأمتعة...
    وبعد اكتشافي لأزقة وأحياء الرباط، بدت لي عاصمة المغرب مختلفة بطبيعة الحال عن مدريد، جميلة بمعمارها الفرنسي وشوارعها الفسيحة وحدائقها الكثيرة ومطاعمها ومقاهيها ومسرحها الوطني وقاعات السينما ومعاهدها الثقافية وطيبوبة أهاليها الرباطيين مسلمين ويهود وتجارها السوسيين... مدينة شاطئية، يفصلها عن مدينة "سلا" نهر أبي رقراق، بصومعتها التاريخية حسان ومآثرها "الأوداية" و"شالة" والقصر الملكي الذي كان شارعه الأساسي مفتوحا لعموم المواطنين مغاربة كانوا أو أجانب للتجول فيه...
    كدت أن أنسى التطرق لموضوعي حول سنوات الدراسة والثانوي بالرباط في سبعينيات القرن الماضي... لكن لم تكن قد بدأت الدراسة بعد ونحن في صيف 1972. أتعرفون ماذا وقع خلال ذلك الصيف؟ أتحدث هنا عن الانقلاب العسكري الثاني حيث باغتتني الطائرات العسكرية وهي تحلق فوق القصر الملكي، بوجودي أمام باب الرواح المحادي للقصر، لم أكن أعرف ماذا يقع فهرولت تجاه شارع محمد الخامس حتى مدخل "السويقة" ولا أدري لماذا أخذت هذا الاتجاه عوض الذهاب مباشرة إلى منزل عائلتي ب"جور إينوي". كان الكل يهرول في كل الاتجاهات وما زالت الصورة واضحة أمام عيني حين وصولي إلى مدخل "السويقة" وإذ ببعض رجال الأمن يخرجون من مركز للبوليس ما زال موجودا إلى يومنا هذا بسلاحهم دون أن يعرفوا لمن يوجهونه نحوه.
    حينها تيقنت أن أمورا خطيرة تقع بالرباط وقررت الهرولة مع المواطنين في اتجاه منزل العائلة حافي القدمين بعد ضياع "صندلة ميكا"، وجدت أبي وأمي يبحثان عني إذ كنت الفرد الوحيد من العائلة الموجود خارج المنزل... كان الرعب والخوف السمات البارزة في الشارع وفي البيت... كان الكل يتتبع مختلف قنوات الراديو بحثا عن الخبر اليقين... كان أبي، الجندي السابق بالقوات المسلحة الملكية، لا يهتم مطلقا بالسياسة وكنت أحيانا كثيرة أتجرأ في معارضة آرائه حيث أصبحت مع مرور السنين تلميذا قائدا للإضرابات ومناضلا ثوريا....
    فشل الانقلاب وعادت الأمور إلى مجاريها الطبيعية والتحقت مع الدخول المدرسي بكوليج يعقوب المنصور حيث سأقضي سنتين بها قبل أن ألتحق بثانوية الحسن الثاني وأخيرا مولاي يوسف حيث سأحصل على شهادة الباكلوريا. كل التلاميذ الذين يضطرون لتغيير أماكن الدراسة يعانون مشاكل التأقلم مع وجوه جديدة ويتألمون لفراق الأصحاب والأصدقاء... وما بالكم بي، أنا الذي ترك مدينة وثانوية وأصدقاء ورحل إلى مدينة وعالم جديدين. أول مشكل تعرضت له كان لغة التواصل... كنت أتحدث بدارجة الشمال "الجبلية التطوانية" التي كانت وما زالت تختلف عن لهجة أهل الرباط، وكلكم تعرفون الفرق ما بين مناداة شاب ب"العَاِيلْ" و"الدِّرِي"...
    هكذا كنت كلما أتوجه إلى تلميذ رباطي ب"العَاِيْل" تبدأ القهقهات... لم تكن بنية سيئة بل لعدم التعود على سماع كلام "الجبالة"... أما حين نطقت يوما داخل القسم بأنه يجب إصلاح "البُومْبِيَة" وأنا أتحدث عن المصباح الكهربائي تعالت القهقهات في كل أرجاء القسم كون كلمة "البُومْبِيَة" كانت تطلق هنا بالرباط ونواحي أخرى على رجال المطافئ وهي كلمة مشتقة من الفرنسية "Pompiers" وزد على ذلك أيضا حين كنت أتحدث عن "لاَطَا دْيَالْ شِيشَارُو" قاصدا علبة البازلاء المعروفة عند العامة بالجلبانة...
    كانت المرة الثانية التي يقع لي فيها مشكل التواصل مع التلاميذ، الأولى كانت حين هاجرت من مدينة تطوان حيث الدارجة المستعملة هي "الجِبْلِيَة" إلى مدينة الحسيمة حيث الجميع يتحدث "الرِيفِية" الأمازيغية والهجرة الثانية إلى الرباط حيث الدارجة خليط من "الرباطية" المورسكية و"العروبية"... كان الأمر سهلا نوعا ما في الحسيمة حيث "الجبلية" دارجة سائدة وغير غريبة، أما بالرباط فالمسألة كانت مختلفة تماما والنتيجة كانت صيامي عن الكلام لمدة شهور عديدة حتى أتمكن من استيعاب والتحدث بالدارجة الرباطية... كان الأمر شاقا لكنه كان في نفس الوقت مفيدا حيث تعلمت حينها قدرة السماع والإنصات والتعلم بسرعة لغة دارجة ستصبح وسيلتي في العيش داخل مدينتي الجديدة الرباط لسنوات طوال.

    عبدالحق الريكي
    الرباط، الأحد 15 شتنبر 2013

    سنواتي الأولى بالمدرسة (الجزء الثالث)
    رِيفِيٌّ صغير بثانوية الرباط سنة 1972
    بقلم: عبدالحق الريكي
    كان جو الدراسة في سنوات 1972/1973 ممتازا بكوليج "يعقوب المنصور"، بفضل صرامة وكفاءة مديرها الحاضر والمتتبع لكل صغيرة وكبيرة داخل الثانوية ومحيطها. لم أجد أية صعوبة في التأقلم مع أصدقاء جدد وأن أصبح أحد التلاميذ البارزين داخل القسم والمحبوبين لدى الأساتذة المغاربة منهم والفرنسيين. كنت – وما زال العديد من أصدقائي التلاميذ أحياء للإدلاء بشهادتهم – طفلا خجولا، صامتا، محبوبا لدى الأصدقاء، لا أتحدث عن أحد بسوء ولا أسب أحدا، أساعد قدر ما أستطيع ودائما في الصف الأمامي للدفاع عن الحق...
    كنت أيضا تلميذا مجتهدا مما فتح لي باب مصاحبة العديد من التلاميذ إلى منازلهم لإعداد التمارين ومن تم التعرف على دويهم وتقاليد وعادات أهل الرباط... هكذا أصبحت صديقا حميما لعائلة "كديرة" القاطنة بديور الجامع حيث ستكون لي مع صديقي ع. كديرة، تلميذ بنفس القسم، أولى التدريبات على السياسة والمعارضة... كما أصبحت صديقا لتلاميذ عديدين، أذكر منهم م. أبوتمام، ألتقي بهم أيام السبت والآحاد للذهاب للسينما أو لعب كرة السلة حيث سأصبح منتميا لفريق فتيان "سطاد المغربي"...
    كنت مع مجموعة من الأصدقاء مولع بالحديث عن السياسة والقمع المسلط على الشعب وعن المعتقلين السياسيين نهمس بيننا حتى لا يسمعنا المخبرين ونحفظ بعض الأبيات الشعرية وخاصة "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر... ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر" وكذا بعض أغاني الثورة الفلسطينية وبالطبع أغاني ناس الغيوان العدية ومن لا يتذكر "ما هموني غير الرجال إلى ضاعو، لحيوط إلى رابو كلها يبني دار، ما هولوني غير الصبيان مرضو وجاعو، والغرس إلى سقط نوضو نغرسو أشجار"...
    أتحدث عن سنوات 1972/1973 وعمرنا آنذاك حوالي إثنى عشر وثلاث عشر سنة... كما أتذكر عن مشاركتي في فاتح ماي أمام مقر الاتحاد المغربي للشغل والجو المكهرب حيث البيروقراطية تحاول عزل الطلبة والتلاميذ عن المشاركة والهتاف مطالبين بالحقوق والحريات... ولن أنسى ما دمت حيا الفلقة التي أكلها أمام أعيننا قرب كوليج يعقوب المنصور، ع. الغزالي، من طرف البوليس السري والعلني في أحد الأيام لتزعمه إضرابا للتلاميذ... أصبح المعني بالأمر سنوات بعد ذلك أحد القياديين الشباب داخل الشبيبة الاتحادية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قبل أن يرحل إلى عوالم أخرى...
    أتذكر أيضا أنني كنت أزور كل نهاية أسبوع مجموعة من الطلبة القادمين من الحسيمة والمسجلين بكليات الطب والاقتصاد وبعض المعاهد، كانوا الفوج الثاني من جيل الاستقلال الحاصلين على شهادة الباكلوريا المغربية وكنت أقضي أوقات طيبة رفقتهم أستمتع باللغة الريفية وبنقاش عال حول مواضيع الشباب والريف والجامعة والسياسة والحكم والمعارضة وكان من ضمنهم ن. الوزاني، دكتور العظام الحالي والبرلماني والقائد السياسي، كما كان أيضا ع. بورجيلة، دكتور الطب الذي رجع إلى مدينته الحسيمة ليمارس مهنته بها وأيضا ع. المرابط، الإطار العالي بوزارة المالية ولاعب كرة القدم البارع في شبابه ضمن فريق شباب الريف الحسيمي وآخرين... وهناك حكاية ظريفة يجب أن تحكى لها ارتباط وثيق بالطالب آنذاك ع. بورجيلة...
    قرر تلاميذ قسمي في كوليج يعقوب المنصور الغياب يوما عن إحدى المواد الدراسية لسبب ما، مما أغضب مدير المؤسسة التعليمية وقرر معاقبتنا بفرض اصطحابنا لآبائنا إلى مكتبه لتنبيه أولياء أمرنا حول عصياننا وتحمل مسؤولية معاودة الأمر... يا إله، كيف لي أن أطلب من أبي الحضور إلى الثانوي أمام المدير تحت حجة غيابي عن حصة دراسية؟ كان ذلك مستحيلا خاصة أنني كنت أحترم أبي كثيرا وأوقره وهو الذي ينتظر من أولاده التعلم والنجاح حتى يصبحوا في وضع اجتماعي أرقى... فكرت طويلا واهتديت إلى مفاتحة ومطالبة الطلبة الريفيين خاصة الطالب بورجيلة إلى مصاحبتي إلى مدير المؤسسة عوض أبي وكان طويل القامة مهاب الشخصية... ذلك ما كان، لكن ماذا وقع في مكتب المدير؟
    لما دخلت مع الطالب بورجيلة إلى مكتب المدير، باغته الأخير بسؤاله عن اسم ونسب ابنه التلميذ، المشكل أنه أمام دهشة اللحظة نسي الطالب بورجيلة اسمي الشخصي حيث كان يناديني دائما باسمي العائلي الريكي... كانت ثواني حرجة، المدير ينتظر الجواب و"أبي" الطالب بورجيلة حيران وأنا أنظر إليهما لا أعرف ما العمل، فجأة نطقت "الريكي عبدالحق" أمام دهشة الجميع وما كان من "أبي" المفترض أن باغتني بضربة فوق خذي قائلا لي: كيف تتجرأ على الكلام أمام السيد المدير؟ لقد بدد هذا الصراخ في وجهي شكوك المدير عن هوية مرافقي ومر اللقاء عاديا ورجعت إلى القسم... لكن الطلبة الريفيون كانوا دائما يتذكرون ما وقع في ذلك اليوم ويسقطون على قفاهم من قوة الضحك... ذكريات الصبى لا تمحى...
    اتركوني الآن أحدثكم عن بعض أساتذتي بكوليج يعقوب المنصور الذين بفضلهم تعلمت الكثير. كانوا مختلفين في نهجهم وتعاملهم داخل القسم ولكن كانوا كلهم يتفانون في عملهم... أتذكر بعضهم، بدءا بأستاذ الرياضيات الفرنسي، ذو الشخصية القوية والذي كان لا يمل من إعادة شرح الدروس مرارا حتى يفهم التلاميذ المعادلات الرياضية، كنت قريبا منه لأنني كنت من بين التلاميذ المتفوقين في مادة الرياضيات. كان يطلب منا الوقوف كل صباح أمام المرآة لنقول بصوت عال "أريد أن أصبح وزيرا" وأتذكر أنه قال لي يوما أن مستقبلا زاهرا ينتظرني وأنني سأصبح وزيرا يوما ما... أحدثكم عن سنة 1972 وعمري لم يكن قد تجاوز الإثنى عشر... بطبيعة الحال لم أصبح وزيرا بعد، لكني تقلدت سنوات خلت مهمة مدير ديوان في الحكومة الثانية للسيد عبدالرحمان اليوسفي... هل يمكن أن نعتبر تنبؤ أستاذ الرياضيات صائبا؟ أترك الحكم لكم وأنصح الشباب والتلاميذ أن لا يضحكوا حين يقال لهم قفوا كل صباح أمام المرآة وقولوا بصوت مرتفع، أريد أن أصبح.....
    كما كان لنا موعد مع مادة الرسم ولا أدري إن كانت هذه المادة أصبحت في خبر كان أم ما زالت حاضرة في مناهج التعليم العمومي... وكان لنا الحظ أن أستاذة الرسم مغربية شابة وجميلة تتقن الفرنسية وتتحدث بصعوبة الدارجة... وأتذكر أن عيون كل التلاميذ لا تفارق وجهها وكلماتها وجمالها خلال ساعات الرسم... كما لن أنسى أنه خلال أول لقاء لنا بها طالبتنا بكتابة نص حول ما توحي لنا به رسوم الإنسان البدائي بالكهوف والمغارات... أظن أنها أُعْجِبَت بما كتبته حينها رغم فرنسيتي المتوسطة وخاصة فكرة كون تلك الرسوم ترشدنا إلى كيف كان يعيش الإنسان البدائي وعن الحيوانات والنبات المحيط به وتخوفاته... منذ ذلك اليوم وأنا أعشق أستاذة الرسم ومن تم أصبحت مهتما بفن الرسم وكل الفنون وكنت رغم صغر سني من المداومين على قاعات المعارض التشكيلية يومها بالرباط التي كانت تعيش نهضة ثقافية مميزة على جميع الأصعدة....
    من ضمن أساتذتنا كان أحد أشهر المعلقين في كرة القدم والذي كنا نطالبه كل اثنين أن يعيد لنا تفاصيل المقابلة التي كان موفدا لها يوم الأحد في إطار "الأحد الرياضي" للإذاعة الوطنية، كان أستاذا ممتازا يشرح مادته بسلاسة ويتعامل مع تلامذته بصرامة ولكن برفق وأدب... أيضا كان هناك أستاذ مادة الفرنسية، اليهودي المغربي، الذي تعلمنا على يديه الكثير والذي كان يحكي لنا ونحن ننصت له مشدوهين عن تحرر المرأة في أوربا وخاصة في بلدان الشمال كالنرويج والدانمارك... وعلى ذكر مادة الفرنسية، علي أن أحكي لكم واقعة طريفة وقعت لي مع أبي وأفراد العائلة في أحد الأيام حيث كنا ذاهبين إلى قضاء بعض الوقت بصومعة حسان وإذا بأحد السياح الفرنسيين يسألنا عن اتجاه هذه المعلمة التاريخية، التفت إلي أبي وطلب مني التحدث مع الفرنسي ظنا منه أن بضعة أشهر بأحد الثانويات بالرباط ستمكنني من أن أصبح "فرنسيا" كما هو الحال بالنسبة للعديد من الرباطيين، أتحدث عن النطق السلس والسليم للغة موليير...
    تلعثمت وبقيت صامتا لا أدري ما أقول وماذا أفعل، أبي من جهة يمتحنني والفرنسي ينتظر أن أرشده... لم أنطق بأي شيء، اختلطت بذهني كلمات يمينا وشمالا بالفرنسية مما أدى بأبي إلى استعمال بعض مفردات من اللغة الإسبانية لتوجيه السائح الفرنسي الذي لا أدري إن فهم شيئا مما قاله له أبي. وكانت المفاجأة بعد ذهاب السائح هي الصفعة التي أعطاها إياي وهو يقول لي: هل تعرف لماذا جئنا إلى الرباط، لكي تتعلم الفرنسية لأنها لغة التفوق المدرسي والإداري... رحمه الله، كانت هذه هي المرة الثانية التي ينهرني فيها في حياته، وكانت بالنسبة لي درسا بليغا حيث ستبقى كلماته موشومة في ذهني إلى الأبد...
    حصلت في نهاية دراستي بكوليج يعقوب المنصور على أعلى النقط في المواد العلمية مما أهلني أن ألتحق بشعبة العلوم بثانوية الحسن الثاني لمتابعة دراستي وكانت فرحة أبي وعائلتي كبيرة خاصة أنه تم الاحتفال داخل الكوليج بالتلاميذ المتفوقين وتم إهداء كتب كثيرة وقيمة لهم وكان من حظي الفوز بكتاب "معذبو الأرض" لفرانز فانون الذي لم يفارقني خلال صيف ذاك العام وأنا أستعد لمغامرات جديدة في ثانويتي الجديدة رغم فراق أصدقائي بكوليج يعقوب المنصور... منذ صغري وأنا أغير المدارس والثانويات كل سنتين أو ثلاث... كل مرة كان علي أن أتأقلم مع جو جديد وأصدقاء جدد... هذا قدري، البحث الدائم بإمكانياتي الذاتية عن فرض وجودي والدفاع عن أرائي ومواقفي بجرأة وحرية واستقلالية... لكن المغامرات مع المدرسة العمومية لم تنته بعد وهو موضوع حلقتنا المقبلة مع ثانوية الحسن الثاني وخاصة الثانوية المشهورة مولاي يوسف...
    عبدالحق الريكي
    الرباط، الأحد 15 شتنبر 2013

المواضيع المتشابهه

  1. حكم المولد النبوى
    بواسطة رضا البطاوى في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-12-2014, 06:28 PM
  2. الأولى عالمياً
    بواسطة محمد فتحي المقداد في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-03-2012, 02:57 PM
  3. الرقصة الأولى
    بواسطة عبد الله راتب نفاخ في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-19-2012, 04:26 PM
  4. لا يمكن تعليم الإبداع بالمدرسة
    بواسطة محمد زعل السلوم في المنتدى فرسان التعليمي.
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 08-30-2011, 05:27 PM
  5. الســــــــــــامية الأولى
    بواسطة عمرو زكريا خليل في المنتدى ركن اللغة العبريه
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 02-05-2010, 11:09 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •