هذا النصّ هدية متواضعة مني إلى الموقع الذي أحترمه وأقدّره، وإلى إدارته وروّاده الأكارم
جَمرُ الدُفلى
تتألق خضرةً عندما تمسّها أشعة الشمس، وضوء القمر. فتتفتّح نشوانةً لعبير الفضاء البريء، ولا تخجل من لونها الأخضر القاتم.
وعندما يُقاربها الذبول، تأبى الموت، وتطوي تحت ظلالِ وريقاتها الحانية تربةً عايشَتها رحلة عمر، ومدّتها بالحياة، لتُنبِتَ من جديد من قلب عطرها المضمّخ برائحة التاريخ، ملاصقاً للجذع الحزين المقبل على الذبول، طليقة فتيّة جديدة تبشّر برحلةٍ لعمرٍ جديد، تورّث الأمّ كبرياءها للقادمة حديثاً، صلبةً قويّة تتمسّك بالجذع الأصل الذابل، وتعلن ولادتها..
هكذا تستمر الحياة في الدفلى..
فأين هذا العمر الذاهب بي إلى مجهول.؟
في صحوة الحياة، تبدو الأشياء كسرب يمام يحلق في فضاءات غيبية، مزيج من الألوان تَشِمُ أجنحتها، ورغبات مجهولة تتردد في صدورها، أحلام أعشاش ما خرجت من حومة البوح، لكنها ترسم على الصدور المتعشّقة ريح الفضاء مفرداتها، تتماهى مع روعة الخفق في تناغم ساحر..
كم أسعدني هذا الصمود الأليف، وكم رأيت فيه ذاتي الغائبة عن تفاصيل الوعي.
حملت صليبي وأشرفت على دروب كثيرة كانت كلها تحت سطوة اختياري.!
لماذا توقف نبض الاختيار أمام تلك القيمة الباهتة التي صبغتني بلونها الأرجواني في زمن ما عاد يتّسع لغير المتسلقين.؟
وكان اختياري ريشةً نقيّة وسط صخب ألوان ما رأيت فيها غير صفرة ما زالت تعلو جلود الأموات.. هي ذاتي بكل ما فيها من صراعات، تجمّدت أمام عتبة تلك القيمة في أن أكون رمزاً للآتين، بريئاً، وفيّاً صادقاً، وقليلاً من غرور يضعني أمام مرآة أقرأ فيها أبجديات نفسي فأجدها هائمة في تفاصيل العشق النرجسي، وهذا الصليب الثقيل يوقعني تحت أنينه الموجع، فتعلو وجيبات أنيني أكثر لأتمسّك به أكثر.
هل تتّسع مساحات الوجد لأنبياء جدد.؟
أم لكفرة لا همَّ لهم غير ذواتهم يعبرون بها فوق آلام المتعبين والمعروقين والمقهورين ليكتبوا في أسفار الآنية المحمومة تواجدهم المسلوب.
يا نبض الحقيقة أين أنا وسط هذه المساءلات العقيمة.؟
يومها كنت على حدّ الصعود إلى مكانة لا أعرف إلى أين ستأخذني، وكان بيني وبينها ذلك الميزان المرعب.
إمّا أن أكون رضاءً لنفسي لحظة يلمس رأسي دفء الوسادة.
وإما أن أرفل في أثواب موشّاة بالدرر وأغفل عن حسابات صعبة ستفرض نفسها على وسادتي في المساءات الوحيدة.
هو الميزان إذن..
أن أقذف بكل قيمة وهبني وفطرني عليها الله وأتنكّب ضميراً أسود، أغرق في آلام الناس، كي تدنو مني مواسم القطاف فأعب منها أنّى شئت، تُكسبني متى ولجتُ في عباءة الأمير وصرت لسانه ويده، موسوعة مظاهر لها بريق مدهش، تتلألأ من تحت مظلّة تلك القيم المعجونة من خوف السطوة ونظرة الاستعلاء، فأنا في كل حال وما دمت في نسيج الإخلاص المرّ، والمزاد الرابح الذي أفقدني فكري وقلمي تحت حماية الأمير..
هذا أنا الذي شئته منذ وقف بي الاختيار أمام ذلك الميزان المرعب.
أيها الزمن الجاحد.. خذ مني شراييني المعبأة بريح التاريخ، وعبق الذاكرة، وأعطني حصاناً يعبر بي تلك الأزمان التي فقدت بريقها الأليف، وما عادت ترسم ابتساماتها إلا للوجوه المعفّرة بعطايا السلطان.
خذ مني نبضاتي التي كثيراً ما رجفت أمام دمعة على وجنة مقهور، وألبسني قسوة النسيان، ثم أعطني رغيفاً يقيم ذلك الرتل الطويل من الأفواه التي تنتظرني كل مساء أحمل إليها أرغفة وبعض أدم.
خذ مني عنفواني وقلبي وأصابعي واكتب بي ما شئت فقد هزمتني موجات الزاحفين على صدري. وأتعبتني فورة الصراع الأبديّ.
خرجت من حومة الكآبة إلى الهواء الطلق أغسل عن كبدي هذا الوهم الذي كاد أن يتسرّب إليه، كانت شجرة الدفلى تطلق من تحت جذعها الصامد فروخاً خضراء جديدة، بريقها أحمر كلون الجمر، رأيت فيها كل ألق الصمود والتوثّب، أيقنت إنني أنا الباقي رغم صخب اللاهثين إلى فوزات آنية.
ـ ـ ـ