ظَاْهِرَةُ الْإِدْهَاْشِ الْعَرُوْضِيِّ اللُّغَوِيِّ فِيْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّيْ
...للدكتور محمد جمال صقر
لقد علم المتنبي أنه ممتحن بسيف الدولة ومَلَئِه، مِنْ قَبْلِ قيامه فيهم بقصيدته "أَجابَ دَمْعي وَما الدّاعي سِوى طَلَل"؛ فأغراهم فيها بدروب عَروضيَّةٍ لُغَويَّة مُسْتَديرَةٍ مُتَداخِلَةٍ، من التَّرْكيبِ والتَّقْسيمِ والتَّرْتيبِ، يُدْهِشُهُمْ بها عن أن يَمْتَحِنوه، أي يُحَيِّرُهم في مُرادِه، لِيَغْفُلوا عن مُرادِهِم؛ فسَلَكوها، فَحاروا، ودَهِشوا، وذَهَلوا؛ فكأنما نَوَّمَهُمْ تَنْويمًا مَغْناطيسيًّا، ثم وَجَّهَهُمْ؛ فَاتَّجَهوا؛ حتى حَمَلَ سَيْفُ الدولة مَطالِبَ شاعرنا التي سَتَرَها بسِتْرِ الوَجْهَيْنِ الجائزَيْنِ، على الوجه الذي يَسُرُّه ويَسوءُ غَيْرَه!
ولَقَدْ سلكتُ تلك الدُّروبَ المُسْتَديرَةَ المُتَداخِلَةَ، واعِيًا غَيْرَ غافِلٍ، مُنْصِفًا غَيْرَ مُطَّغِنٍ على شاعرنا ولا مُدْهَشٍ عنه؛ عسى أن أنتبه منها إلى مَعالِمَ تَفْكيريَّةٍ عَروضيَّةٍ لُغويَّةٍ، تُنيرُ مِنْ بَصيرَتِي اللُّغَويَّةِ الْعَليلَةِ، وَتُخْصِبُ مِنْ حَياتِي الثَّقافيَّةِ الْكَليلَةِ؛ فلم أَغْفُلْ كَما غَفَلَ الْمَلأُ، بمعالم بَعْضِ أبياته التي أَدْهَشَهُمْ بها، عن معالم قَصيدِته كُلِّها التي كان حَريًّا أَنْ يُدْهِشَهُمْ بها؛ فقَسَمْتُ البحث على مَبْحَثَيْنِ:
1 "مَعالِمُ الْإدْهاشِ الْعامَّةُ"، وفيه اجتمعت أربعَ عشْرة َفِكْرَةً: "جُمَلُ فِقْرَةِ الشَّكْوى"، "جُمَلُ فِقْرَةِ الْيَأْسِ"، "جُمَلُ فِقْرَةِ الْحِكْمَةِ"، "جُمَلُ فِقْرَةِ الذِّكْرى"، "جُمَلُ فِقْرَةِ الْجودِ"، "جُمَلُ فِقْرَةِ التَّنْبيهِ"، "جُمَلُ فِقْرَةِ الْإِقْدامِ"، "جُمَلُ فِقْرَةِ التَّعْليقِ"، "جُمَلُ فِقْرَةِ الرَّجاءِ"، "جُمَلُ فِقْرَةِ الثَّناءِ"، "فِقَرُ فَصْلِ الْغَزَلِ"، "فِقَرُ فَصْلِ الْمَدْحِ"، "فِقَرُ فَصْلِ الْعُتْبى"، "فُصولُ الْقَصيدَةِ"- على وُجوهٍ من الإدهاش العروضي اللغوي، لا ينتبه إليها إلا مَنْ تَأَمَّلَ القصيدةَ مجتمعةً!
2 مَعالِمُ الْإِدْهاشِ الْخاصَّةُ، وفيه اجتمعت اثْنَتا عَشْرةَ فِكْرَةً: "جُمَلُ الثَّلاثَةِ الْأَبْياتِ"، "مَقْطَعٌ قَصيرٌ"، "مَقْطَعٌ طَويلٌ مُغْلَقٌ"، "مَقْطَعانِ؛ قَصيرٌ فَطَويلٌ مُغْلَقٌ"، "مَقْطَعانِ؛ طَويلٌ مُغْلَقٌ فَقَصيرٌ"، "ثَلاثَةُ مَقاطِعَ؛ قَصيرٌ فَطَويلانِ مُغْلَقانِ"، "مَقْطَعانِ طَويلانِ مُغْلَقانِ"، "احْتِشادُ أَفْعالِ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ"، "احْتِشادُ أَفْعالِ الْبَيْتِ الثّاني"، "احْتِشادُ أَفْعالِ الْبَيْتِ الثّالِثِ"، "حَرَكاتُ الْأَصْنافِ"، "حَرَكاتُ الْخِداعِ"- على وُجوه من الإدهاش العروضي اللغوي، لا ينتبه إليها إلا مَنْ تَأَمَّلَ البيتَ مُنْفَرِدًا!
ولقد كانَتْ كَثُرَتْ بَيْنَ يَدَيَّ مَظاهِرُ "الْإِدْهاش الْعَروضيّ اللُّغَويّ"، في شِعْرِ شاعِرِنا، واخْتَلَفَتْ؛ فعَدَدْتُه ظاهرةً، ثم تأملت بهذا الْبَحْثِ مَعالِمَ شَيْءٍ مِنْ مَوادِّ تلك الْمَظاهِرِ، قَليلٍ. ولقد تَسْتَحِقُّ مَعالِمُ سائِرِ مَوادِّها، أن تُتَأَمَّلَ على الوَجْهَيْنِ السابقَيْنِ (العامِّ والخاصِّ)، ولكنَّها الْأَعْمالُ تَفْنى دونَها الْأَعْمارُ!