الظاهراتية في النبوءة الشعرية
صالح الطائي
قراءة في كتاب (النبوءة في الشعر العربي الحديث من 1947- 1970 دراسة ظاهراتية) للدكتور رحيم عبد علي فرحان الغرباوي، التدريسي في الكلية التربوية المفتوحة/ واسط
الفينومينولوجيا أو الظاهراتية: مدرسة فلسفية رصدت بدايتها عند "هيغل" ونظرت وولدت على يد "إدموند هوسرل" (1859- 1938) وتأثرت مبانيها بـ"هايدغر" و"سارتر" و"موريس" و"ريكور" وغيرهم، وهذا ما يؤكد عليه "فيليب هونيمان" و "إيستل كوليش" في كتابهم المشترك "الظاهراتية" بقولهم: "تعتبر الظاهراتية إحدى الأفكار الأساسية في فلسفة القرن العشرين، وما يجمع بين المفكرين الداعين لها هو لجوءهم إلى المسعى الفكري نفسه أكثر مما تجمعهم وحدة المعتقد"
وبناء عليه نجد اختلافا كبيرا لدى الفلاسفة عند تعاملهم مع مفهوم الظاهراتية ودلالاته، فهو عند "هيجل" يأتي للدلالة على مراحل التطور التي يمرّ بها الإنسان حتى يصل إلى الشعور بالروح، وعند "هاملتون" يستعمل للدلالة على تعميم الظواهر الفكرية، وعند "كانط"و"لمبرت" يأتي للدلالة على نظريّة المعرفة التجريبيّة
الظاهراتية كفكرة قديمة قدم الإنسان نفسه، فهي من حيث الأصل والاستخدام الفطري كانت متداولة منذ القدم، ولكنها من حيث التنظير المنهجي تبدو حديثة جدا. بنيت هذه الفلسفة على العلاقة الديالكتية بين الفكرة والواقع فهي من جانب تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر وتنطلق منها لتحليل وتبيان أسس معرفتنا بها. ومن جانب آخر تدعي عجزها عن التوصل إلى الحقيقة المجردة في الميتافيزيقيا والعلم.
ولأن الظاهراتية منهجا بحثيا وتياراً فلسفياً فلا هي فكراً مدرسيا موروثا، ولا هي فكرا فلسفيا نمطيا تقليديا، نجدها تشغل حيزاً مهماً في أقسام الفلسفة والبحث المعاصرة. وتقوم الظاهراتية على فكرة أن لكل تجربة من تجاربنا شكلاً خاصاً تقتضيه طبيعة الشيء الذي هي بصدد تناوله، وينحصر المنهج الظاهراتي في وصف الظاهرة، وبذا يتعارض مع المذهب التجريبي، ومع المثالية، ومع فلسفة القرن التاسع عشر الغربية.
اندفاع الظاهراتية لدراسة أنواع الخبرة الإنسانية كالتصورات، الفكر، الذاكرة، التخيل، الشعور، الرغبة، التعبير، التطلع، دفع الفلاسفة ليطلقوا عليها اسم "فلسفة العقل" وربما لهذا السبب يرى بعض المتخصصين أن الظاهراتية التي جاءت لتعلي شان الذات وتجعل النص مرهونا بالقصدية إنما جاءت كرد على البنيوية التي عزلت الذات عن النص واستقلت به. أو بسبب اعتراف "هوسرل" نفسه بقوله: "إن المعرفة الحقيقية للعالم لا تتأتى بمحاولة تحليل الأشياء كما هي خارج الذات "نومينا" وإنما بتحليل الذات نفسها، وهي تقوم بالتعرف على العالم أي بتحليل الوعي"
لكن مع هذا وذاك نجد الظاهراتية حينما تتحدث عن منجزها الفكري لا تدعي الوصول إلى حتميات مطلقة فيما يخص الظواهر التي تتحدث عنها ، بل نراها تتوكأ على الوعي الإنساني في هذا الحراك وتترك له حرية التعبير عن نفسه وصياغة قناعاته ورؤاه بعيدا عن أي إكراه.
ونتيجة هذا التداخل أرى هناك مجازفة كبيرة حينما يأتي طالب علم باحثا عن وشائج بين كيانين أثيريين هما الشعر ممثلا بالنبوءات الشعرية، والفلسفة ممثلة بالظاهراتية لأنه قد يوقعنا معه أسرى الدهشة أو الرفض، الدهشة من جديد ما نقرأ، ورفض التصديق أن للشعر النبوءي كل هذه القدرة الخارقة على اختراق حجب المستقبل والنظر إلى ما فيه من صور ونقلها لنا.
إن باحثا بوزن الدكتور رحيم الغرباوي وهو يجمع خيوط لعبة الأدب بيده من حيث كونه أكاديميا وأديبا وكاتبا وشاعرا وناقدا وقاصا وروائيا لا غرو أن يرى للشعر إمكانيات تؤهله للكشف عن الأسرار العميقة للوجود، والخوض في عالم المستقبلية المجهول، ولا عجب أن يعتقد بمثل ما كان يعتقده الأوائل من أن للشاعر شيطانا قرينا يوحي له، فمعنى هذا أنه لابد وأن يكون على يقين كامل بأن الشعراء يتنبئون وأن نبوءاتهم تصدق. فهل هي عودة إلى الوراء، إلى عصر الحدس والظن؟ أم هو ذهاب نحو تجديد لا زال جديدا علينا ولذا يبهرنا ألقه وتسحرنا غرابته؟ وإذا كان كذلك، ماذا سيفعل الباحث مع من ينكرون كرامة التنبؤ حتى للمقدسين من البشر؟ هل يجيبهم بأن الحقائق تثبت خطأهم وأن الوقائع تثبت صحة رأيه مشفوعة بأبيات من هذا الشاعر أو ذاك؟ ما الضير في ذلك؟ ألم يقل أفلاطون "إن أشعار الشعراء وتنبؤات الكاهنات تنبع من مصدر واحد"؟
ألم يصرح الشعراء أنفسهم بأنهم يحدسون ويصدقون في حدسهم، كما في قول الحارث بن حلزة اليشكري
فحسبت فيها الركب أحدس في كل الأمور وكنت ذا حدس
وقول عروة بن الورد:
وقلب جلا عنه الشكوك فإن تشا يخبرك ظهر الغيب ما أنت فاعل
ألا يرى الفلاسفة الرومانسيون ومنهم "كولردج" أن أي اقتحام لعالم المثل الأفلاطوني لا يأتي إلا عن طريق الخيال؟
ألم يشبه "تشيلي" الشاعر بالنبي من حيث أنه لا يكتفي بمشاهدة الحاضر ولكنه يستطلع المستقبل في حاضره؟
إن الذين نجحوا في إلغاء المسافات الحدسية من البشر كثيرون وجلهم من الشعراء الذين انطلقت أفكارهم دون حواجز أو تعقيدات لتخترق جدار الزمن وتطل على المستقبل لترى صورته وتنقل بعض تفاصيلها من خلال رؤى تتدفق حسيا لتتحرر من أطر الزمان والمكان وتتحول إلى إحساس ملموس يملك قدرة التحرك إلى الوراء
ولأن الباحث خص الحقبة الزمنية 1947- 1970 ببحثه فقد كان شعراء هذه الحقبة مصب اهتمامه. ولذا نراه في حديثه عن النبوءة الوجودية يستشهد بقول ديكارت: "أنا أفكر فأنا إذن موجود) ليبحث في دفاتر السياب عن تداعيات الفلسفة الديكارتية ممثلة بهذا القول، وليجد بعد عناء البحث أن عبارة ديكارت شديدة التصخاب في قصيدة نظمها السياب عام 1960 بعنوان: "الأسلحة والأطفال" فقال عنها: "تكاد تكون أثقل القصائد الحديثة التي حملت عددا من النبوءات لمسيرة تشارف على مدى نصف قرن لأحداث متوالية انتابت العراق" ص 274
قد لا أتفق مع ما ذهب إليه الباحث في قوله أن السياب الشاعر وضع في هذه القصيدة نبوءات تحققت مرحليا على مدى خمسين عاما اعتمادا على ما أوله الباحث نفسه من أقوال السياب الواردة في القصيدة، لأن تلك الأقوال قابلة للامتحان والنقاش والطعن، وتوحي بأكثر من مقصد وأكثر من معنى، كما أن الأبيات نفسها قابلة للتلون ضمن تأويلات أخرى بعيدة عما قصده الباحث، ولكنها على كل حال تبدو محاولة جادة للحديث عن النبوءة في زمن عز فيه الأنبياء.
وفي مقطع آخر من هذه القصيدة الستينية يرى الباحث الشاعر السياب يتنبأ بالحربين الأمريكيتين على العراق عامي 1991و 2003 ،ص277
أرى الفوهات التي تقصف
تسد المدى .. واللظى والدماء
وينهل كالغيث ملء الفضاء
رصاص ونار ووجه السماء
عبوس لما اصطك فيه الحديد
حديد ونار .. حديد ونار
ورعد قريب ورعد بعيد
وأشلاء قتلى وانقاض دار
حديد عتيق لغزو جديد
وقد تأول الباحث هذه النتيجة التي تدخل إلى عالم الغيب واستشراف المستقبل بما يبدو وكأن الاجتهاد هو الدافع وراء هذه المحصلة والمحصلة التي تليها والتي يقول الباحث أن السياب أنهى نبوءاته بها: "إذ يرى أن قارة آسيا ستمر بمحن وشدائد قاسية وعلى وجه الخصوص على أطفالها" ص 278 وقد خرج الباحث بهذه المحصلة بعد تفكيكه لأبيات من القصيدة يقول فيها السياب:
ولم نخرس الفوهات الغضاب
ولم نجل المغيرين عن آسية
فلا ذكرتنا بغير السباب
أو اللعن أجيالنا الآتية
ونحن مع اختلاف رأينا مع ما يراه الباحث نكاد نؤيد أطروحته ونرضخ لرأيه بعد أن أورد لنا أنموذجات أخرى من شعر السياب يتنبأ فيها بالحروب المرتقبة والأرامل والرصاص والأرض الخراب، ومنها ما قاله في قصيدة "حفار القبور":
نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح والنهار فلن يمر على قرانا
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
إلا وحل بها الدمار فأي سوق للقبور
أواه لو أني هناك أسد باللحم النثير
جوع القبور وجوع نفسي في بلاد ليس فيها
إلا الأرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال
وأفتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
فمن لا يقارب ويقارن بين صور السياب الشعرية هذه وصور التفجيرات الدموية التي ترتكب بحق الأبرياء على أرض العراق بلا مبرر ولا هدف ولا نتيجة لا يمكن أن يغفل النبوءة في القصيدة، سواء كانت نبوءة عن العدوان الأمريكي، أو نبوءة عن همجية الإرهابيين ودمويتهم. فالشاعر كان يرى خيوط الدماء تطرز المستقبل ولكنه لم يكن يعرف المسبب والسبب.
ولكي يبعد الباحث عن نفسه تهم الهرطقة واتهامه بالادعاء بوجود بشر لهم قدرة التنبؤ حاول من خلال خلاصة البحث أن يؤكد على رزمة حقائق منها قوله:
•
إن النبوءة الشعرية ما هي إلا نبوءة أرضية تفارق في كيفياتها النبوءة السماوية.
• إن آليات النبوءة الشعرية تكمن في اللحظة الإبداعية الشاملة.
• إن هناك فرقا بين الرؤية والنبوءة.
كتاب (النبوءة في الشعر العربي الحديث من 1947- 1970 دراسة ظاهراتية) للباحث الدكتور رحيم عبد علي فرحان الغرباوي أحد البحوث الأصيلة التي تمثل إضافة جديدة للمكتبة العربية بمضمونه ومحتواه، فقد تناول الباحث فلسفة النبوءة الشعرية بالبحث ثم عرج على مفهوم الظاهراتية فأشبعه بحثا وانتقل للحديث عن النبوءة في الفضاء الحضاري وفي فضائي التحدي والاستسلام وفي فضائي المقدس والمدنس وأخيرا النبوءة في فضاء الخلود.
صدر الكتاب في أوائل عام 2012 عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق، سوريا بواقع 469 صفحة مملوءة بالآراء الجادة والتحليلات المنطقية والاقتباسات الرائعة والرؤى النقدية، لتجتمع سوية وتتحول إلى سيمفونية تترجم خلجات النفس الإنسانية التقية حينما تتكشف أمامها الحجب فتنظر إلى حيث يعجز الآخرون عن الرؤية.
وأنا من جانبي أرى أن تناول الباحث للظاهراتية ودراسة مؤثراتها على النبوءة في الشعر العربي قد يكون جديدا وتجديدا، وقد غامر الباحث باختيار مثل هذا التحدي العلمي الكبير، وكان أهلا للتحدي فأثمر جهده الكبير جوهرة تمثل إضافة للفكر الإنساني الباحث عن المعرفة. وهذا هو عهدنا بالباحث الدكتور رحيم الغرباوي.