ما أشبه اليوم بالبارحة تذكرني بعض الحوارات الدائرة على الفيس بوك حول القراءة الانتقائية من بعض الأحزاب والأيديولوجيات في وطننا للتاريخ التي لا تقدم إلا الصورة المشرقة منه وتتجاوز عن كثير من أخطائه بما سبق أن كتبته في منتصف ثمانينات القرن الماضي حيث كنت أعد كتاباً كنت أرجو أن يكون رؤية لفكرة "فلسطين القضية المركزية للأمة" تناولت فيه الأبعاد المتعددة للصراع مع العدو الصهيوني والغرب، وعند دراستي لتاريخ الحروب الصليبية لخصت تجربة الأمة التاريخية فيها بسلبياتها وإيجابياتها في نقاط سريعة أقتطف منها التالي:سنعرض لأهم مجريات الأحداث أيام الحروب الصليبية في نقاط تبين أهم ملامح تلك الحقبة التاريخية التي هي أشبه ما تكون بواقع الأمة اليوم. فالخطر الذي هددها بالأمس هو نفسه الذي يهددها اليوم على الأرض نفسها إضافة إلى الخطر الصهيوني الذي يحتل فلسطين ويقوم بالدور نفسه الذي قامت به مملكة بيت المقدس الصليبية التي أنشئت عام 1100م، وأول ما يسترعي انتباه القارئ للتاريخ:
حالة الضعف والفرقة: إن مظاهر الضعف والانحلال السياسي والتأخر الحضاري كانت بادية فعلاً في بعض أجزاء الوطن الإسلامي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى إلى الشرق الإسلامي، فالخلافات المذهبية والانقسامات السياسية التي أصابت الشرق الإسلامي وشمال أفريقيا وبلاد الأندلس كان لها أكبر الأثر في حالة التخلف الحضاري التي أصابت الشرق الإسلامي. فقد كانت الخلافة العباسية ومقرها بغداد منقسمة إلى عدة دويلات كل منها يسعى إلى توسيع رقعته الجغرافية على حساب دويلات الجوار، والخليفة ضعيف لا نفوذ له، والخلافة الفاطمية ومقرها القاهرة قد وصلت إلى درجة كبيرة من الضعف وسوء الأحوال الداخلية، والأندلس كان يتنازعها أمراء الطوائف. هذا على الصعيد السياسي أما الاجتماعي والحضاري وغيره فلم يكن أحسن حالا.
تلك الحالة من الفرقة والتشرذم والتربص من قبل المسلمين بعضهم ببعض سهل على الصليبيين تحقيق مهمتهم في بداية الأمر خاصة أنهم استطاعوا أن يخدعوا المسلمين بحقيقة أهدافهم وغاياتهم ومشروعهم من وراء حملتهم الأولى، والمُراجع لكتب التاريخ يرى كيف سارع الفاطميون في مصر للاتصال بالصليبيين في أنطاكية وعرض مشروع للتحالف معهم ضد الأتراك السلاجقة السنيين واقتسام الأراضي بينهما، بحيث تكون أنطاكية للصليبيين والقدس للفاطميين، ولم يكشف الصليبيون عن حقيقة أطماعهم ومشروعهم في فلسطين وبلاد الشام للفاطميين وطمأنوا الوفد الفاطمي وأرجعوه دون أن يشك في شئ. كما أنهم اتصلوا بوالي دمشق وحلب وغيرها وحاولوا أن يطمئنوهم أنه لا أطماع لهم في ممالكهم وإنما يريدون فقط استرداد ما كان للدولة البيزنطية من أراضٍ! والأمر نفسه تكرر مع الغرب والحركة الصهيونية فكثير من العرب والمسلمين في البداية وحتى الآن خُدعوا ومازالوا مخدوعين بحقيقة مشاريعهم وأهدافهم ضد الأمة والوطن، ولا زالوا يتحالفون معهم ويتعاونون ضد بعضهم البعض ولم يفيقوا من غفلتهم ويدركوا أبعاد الهجمة الغربية - اليهودية ضدهم.
تحالف وجمود ومهادنة وانقلابات: لم يكف الأمراء المسلمين في مصر وبلاد الشام والعراق بعد أن اتضحت حقيقة المشروع الصليبي في وطننا عن الاقتتال والصراع فيما بينهم ولكنهم تحالفوا واستعانوا بالصليبيين ضد بعضهم البعض، ودفعوا لهم الإتاوات والأموال وتنازلوا لهم عن كثير من الأراضي وتلك التحالفات أكثر من أن تُحصى. ولا يختلف سيناريو تلك التحالفات كثيراً عنه اليوم فغالبا ما كانت فلسطين وبيت المقدس هي كبش الفداء! فكل من كان يريد تثبيت حكمه وتقوية سلطانه ما عليه إلا أن يرسل إلى الصليبيين يعدهم بالتنازل عن بيت المقدس إن هم ساعدوه ضد إخوانه ومنافسيه على الحكم. لقد كانت فلسطين وبيت المقدس ولا زالتا هما السلعة التي تتداول بين أيدي تجار السياسة والحكم، أو قل سماسرة السياسة إنها الفريسة التي تقدم لأعداء هذه الأمة مقابل الحفاظ على الكرسي والمنصب.
كما سادت جبهات القتال حالة من الجمود حيث لم يتحرك فيها المسلمون لقتال الصليبيين، وخير مثال لذلك الواقع كان السلاجقة في بلاد فارس والخليفة العباسي الذين انشغلوا في صراعات داخلية على السلطة والحكم ولم يتحركوا لمقاتلة الصليبيين الذين انتشروا في البلاد من حولهم، ولم يدركوا الخطر الذي يحيق بالإسلام والمسلمين. ولم يقف الأمر عند ذلك بل وجدنا كثير من الأمراء العرب في بلاد الشام وغيرها يسارعون في مهادنة الصليبيين ويقدمون لهم الأموال والمؤن وما يحتاجون إليه من أدلاء للطرق ومرشدين لهم في بلاد المسلمين وغير ذلك مقابل عدم مهاجمتهم وتركهم دون دخول إماراتهم. فقد آثر كثير من الأمراء الميل إلى السلم وتجميد الموقف على ما هو عليه "حالة السلم واللا حرب" وعدم التعرض للصليبيين من قريب أو بعيد وتهدئة الأجواء معهم. أما في ما بينهم لم تنفك عمليات الانفصال والاستقلال ومحاولات السيطرة على الحكم داخلياً في كثير من الإمارات الإسلامية، وكان السند والحماية لأولئك الانفصاليين والطامعين في الحكم دائماً الارتماء في أحضان الصليبيين ودفع الجزية لتأمين إماراتهم وحمايتهم أو مساعدتهم في الوصول إلى السلطة، كل ذلك كان يحدث في ظل ذلك الخطر الذي يحدق بالإسلام والمسلمين ويحدق حتى بأولئك الأمراء الطامعين في السلطة أنفسهم، وما أشبه اليوم بالبارحة فهذا الواقع أصبح هو سيد الموقف اليوم وقد تعايشنا معه من سنوات مع كيان العدو الصهيوني.
موقف الجماهير المسلمة
وإن سأل سائل: ألم يوجد ما يبشر بالأمل وسط تلك الظلمة؟ نقول: نعم وجد، إنها صفحة الجماهير المسلمة التي تدرك الخطر بفطرتها وحدسها وتبقى تتحين الفرصة في ظل واقع القهر والظلم لتعبر فيها عن حقيقة مشاعرها والغضب الكامن داخلها. إنها الجماهير المسلمة التي مهما حاول حكامها وأعداؤها إلغاء دورها أو تهميشه إلا أنها تقلب الموازين والمعايير دائماً في اللحظة الأخيرة التي يظن أولئك فيها أنها استكانت واستسلمت لواقعها. تجلى ذلك الموقف العظيم لهذه الجماهير الواعية بمدى خطورة الهجمة الصليبية في أكثر من موقف منها:
- رفضت القوات الشامية المسلمة قتال إخوانهم المصريين المسلمين عندما كان أمراؤهم يتحالفون مع الصليبيين ويتوجهون لقتال المسلمين في مصر واحتلالها، حيث خرجت معهم مكرهة ولكن أول ما كانوا يروا إخوانهم كانوا ينطلقون للانضمام إليهم وقتال الصليبيين والأمراء الخونة معهم. وهكذا تنقلب كثرة الصليبين إلى قلة وانتصارهم إلى هزيمة بفضل رفض الجماهير خيانة دينها، وقد حدث ذلك أكثر من مرة سواء كان ذلك ضد مصر أو بين الأمراء في بلاد الشام عندما كان يستعين بعضهم على بعض بالصليبيين. وأشهرها قتل جيش الشام لحاكمهم الخائن الصالح إسماعيل عند غزة وانضمامهم إلى إخوانهم المصريين وإنزال الهزيمة بالصليبيين.
- كما ظهر غضب الجماهير ورفضها لسياسة أمراؤهم وسلاطينهم الجامدة وعدم تحركهم لقتال الصليبيين والقيام بأعباء الجهاد ضد أعداء الدين والأمة أكثر من مرة وكان غضبها سبباً في تحرك أولئك السلاطين للمشاركة في الجهاد. وكان أبرزها موقف الجماهير المسلمة في بغداد والعراق التي قادها علماء الأمة من فوق المنابر في خطب الجمع لتثور وتعبر عن غضبها من تقاعسهم عن الجهاد. مما اضطر الخليفة العباسي أن يطلب من السلاجقة في فارس تسيير الجيوش للجهاد ومشاركة إخوانهم المجاهدين وذلك خوفاً على منصبه وسلطانه من السقوط أمام غضب واستياء الجماهير ضده وضد أمرائه لموقفهم الجبان. وقد حدث هذا أكثر من مرة وفي أكثر من مكان.
- موقف الجماهير المسلمة سواء في مصر أو بلاد الشام أو غيرها التي كثيراً ما كانت تخرج لتفتح أبواب مدنها أمام جيوش إخوانهم المسلمين القادمين لقتال أمرائهم الخونة أو المحاصرين لهم، وحدث هذا مع أهل دمشق الذين رفضوا أن يحكمهم حاكم خائن يتحالف مع الصليبيين ويتآمر على الإسلام والمسلمين، فلم يرضوا عن معين الدين أنر الذي رفض دعوة نور الدين محمود للوحدة الإسلامية، فاتصلوا سرداً بنور الدين وأقروه على تسليم دمشق تحقيقاً للوحدة وتمهيداً لحركة الجهاد الكبرى ضد الصليبيين.
- موقف بعض الأمراء والمجاهدين معاً وخاصة في المدن الساحلية عندما كانوا يعجزون عن الدفاع عن تلك القلاع والحصون والمدن ويرفضون في الوقت نفسه تسليمها للصليبيين أو دفع الجزية لهم، فكانوا يرسلوا إلى إخوانهم في دمشق وغيرها يطلبون منهم الحضور لتسليمها لهم بدلاً من أن يأخذها الصليبيين وكانت تبقى حصوناً مدافعة عن الإسلام وديار المسلمين.
- وأخيراً موقف المرتزقة المسلمين وخاصة التركمانيين الذين كانوا ينضمون إلى جيوش الصليبيين ليقاتلوا إخوانهم المسلمين طمعاً في بعض المكاسب، إلا أنهم كثيراً ما كانوا في الساعات الحرجة والمعارك الفاصلة ما تتحرك فيهم مشاعر الانتماء والنخوة الإسلامية فينضموا إلى إخوانهم في الدين ويغيرون مجرى المعارك والأحداث.
ذلك كان حقيقة واقع الأمة إبان وأثناء الحروب الصليبية بصفحاته السيئة والمشرقة إلى جانب صفحة الجهاد وقادته التي تثبت أن الرهان الرابح في أي مرحلة هو رهان الجماهير، لأن منطق التاريخ يرى أن الشعوب هم أصحاب الكلمة العليا لأن كلمتهم مستمدة من وعيهم الفطري بالخطر الذي يهدد وجودهم وتراثهم وعقيدتهم ترفض الهزيمة والارتماء في أحضان الأعداء.