تدبر الأمثال القرآنية -2
(أو كصيب من السماء)
بسم الله الرحمن الرحيم
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ 19 يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 20 (البقرة)
جاء هذا المثل الواضح الجميل بعد مثل ( كمثل الذي استوقد ناراً ) مباشرة، وهما مثلان متتاليان وردا بعد ذكر أصناف المجتمع العربي الجاهلي ، في ذلك الوقت، جاءتهم دعوة الوحي لاتباع منهج الله تعالى المنير المستقيم من خلال تعاليم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، ودروسه التي بــينها عن وحي السماء نظرياً وتطبيقياً . فكانت هذه الشريعة الغراء بتعاليمها الروحية والتشريعية تشبه غيث السماء المـُحَمَّل بالخيرات (الصَيِّب بمعنى الأمطار) . وإن الغيوم التي تترافق بالبرق والرعد هي الغيوم التي تملأ السماء في فصل الربيع لأنها محملة بالشحنات الكهربائية التي تولد الشرارات المولدة للماء المبارك النافع الغني بالآزوت (النتروجين) المخصب للتربة والمحيي للأرض الميتة .
جاءت الشريعة بالترهيب بما فيها من عقوبات رادعة للفساد (كعقوبة السرقة والزنا والقتل...)، وتحذيرات من عذاب القبر واليوم الآخر التي تنال مرتكبي الجرائم الروحية والأخلاقية ...
وتبدو أحكام الشرع وتعاليمه لكثافتها وغزارتها كأنها مظلمة على العقول الضعيفة الجاهلة وتبدو الأحكام الرادعة بمثابة الرعد والبرق في الغيوم ، يرى فيها المؤمن العالم كل الخير والبركة، وأما الجاهل الكافر والمنافق فيراها مرعبة مخيفة له فيسد عينيه عنها ويضع أصابعه في أذنيه كي لا يسمعها.
جاءت الشريعة بالترغيب ووعد بالمغفرة والجنان لمن يلتزم بأحكامها. وفي هذه الجوانب التبشيرية الترغيبية يرضى المنافقون ويحضرون من أجلها مجالس العلم، فإذا نزلت آيات الترهيب خافوا منها وانفضوا عن المجالس كي لا يسمعوها.. وكذلك حال سائر الناس من غير المؤمنين.
هذا هو الواقع الذي صورته هذه الآية الكريمة من خلال هذا المثل الواضح ويكون المعنى كما يلي :
(إنَّ نزول الوحي والشريعة الغراء ) كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ( أحكام الترهيب والترغيب ) يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ( عند سماع أحكام الترهيب) واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ( فأين المهرب منها )* 19 يَكَادُ الْبَرْقُ ( هالة ضوء الأحكام والتعاليم والعلوم الكونية والإنسانية في هذا التنزيل) يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ( مبهرة لهم فلا يرون جمالها وأحقيتها) كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ ( فإذا كانت التعاليم والأحكام مطابقة لأهوائهم قبلوها وحضروا الدروس) وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ (وإذا كانت مخالفة لأهوائهم ورغباتهم قَامُواْ (أي انفضوا عنها)، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ( أي لأخذ قدرتهم على الرؤية والإدراك ) إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (وهذه خاتمة للآية الكريمة فيها نتيجة تعليمية لاسم الله القادر المقدر لكل شيء بالمقادير) .
هذا المثل واضح وبديع يصور الحالة الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت، ونزول نور السماء على مجتمعات الأرض التي يعمها الجهل والفساد ، ودرجات التلقي والرفض من قبل غير المؤمنين لهذا العطاء الوفير من الخيرات.