ليشهدوا منافع لهم


قال الله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27، 28].

لقد نكَّر المنافع في الآية الكريمة لتعُمَّ كل منافع الحج الدنيوية والأخروية؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]؛ منافع الدُّنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرِضْوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع الذبائح والتجارات.

وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى - بعد أن ذكَر الخلاف في تعيين هذه المنافع: هل هي منافع دنيوية أو أخروية أو هما معًا؟ -:
"وأَوْلَى الأقوال بالصواب قَوْلُ مَن قال: عني بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة؛ وذلك أن الله عمَّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت".

وقال الزمخشري:
"نكَّر المنافع؛ لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة؛ دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات، وعن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحجَّ، فلما حج فضَّل الحج على جميع العبادات؛ لما شاهد من تلك الخصائص".
والذي دلَّتْ عليه هذه الآية هو أنَّ الله - عز وجل - جعل في الحج منافع؛ كأنه لم يأمر به إلا لتحصيلها؛ لِما تقتضيه اللام في قوله – تبارك وتعالى -: {لِيَشْهَدُوا} من التعليل، ثم هي منافع للحاج خالصة، لا يشاركه فيها غيره كما يدل عليه التعبير بـ{لَهُمْ}.

ومنَ المنافع التي تدخل في عُموم هذه الآية الكريمة المنافع الآتية:

أولاً: التوفيق لإكمال المسلم دعائم دينه؛ لأنَّ الحج رُكن من أركان هذا الدِّين.

ثانيًا: تعوُّد الانقياد والاستسلام لأوامر الله - عز وجل - وإن لَم يظهر لعقلك وجْه الحكمة فيها.

ثالثًا: التذكيرُ ببعض الأمور المرْحلية التي سيمُر بها المرء لا محالة؛ كالموت، والبعث، والجزاء، فيعد لها العُدَّة اللازمة مِن زاد ومركب، فالحج صور مُصَغَّرة لبعض تلك الأمور المرحلية.

رابعًا: غفران الذنوب لِمن حجَّ هذا البيت مخلصًا لله في حجِّه، متبعًا أوامر الله، ومجتنبًا نواهيه؛ قال - تعالى -: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203].

خامسًا: الفوز بالوُقُوف في صعيد عرَفة في ذلك اليوم العظيم، والمكان المشهود، عشية يدنو الرب - جل وعلا - فيُباهي بأهْل ذلك الموقف ملائكته، ويغْفر الذنوب.

سادسًا: نفي الفقر والذنوب؛ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينْفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) أخرجه التِّرمذي.

سابعًا: أن الحجَّ مَوْسم تجارة، وحصاد عالَمي؛ حيث المكان الذي تُجبى إليه ثمرات كل شيء؛ كما نطق به قوله - تعالى -: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].

ثامنًا: أن الحجَّ مُؤتمر ديني كبير، فيه يجتمع المسلمون مِن كلِّ بقاع الأرض؛ لتأدية هذه العبادة العظيمة، فتمتلئ بهم الجبال والسهول، وتسيل بهم البطاح والأودية في موكب مهيب، هتافهم واحد، رغم اختلاف الأجناس والألسنة.

تاسعًا: أن الحج موسم دعوي كبير، فيه يتوافَد المسلمون من كلِّ أقطار الأرض، فيجتمعون في أفضل الأيام، وأطهر البقاع، في جوٍّ من الرقة واللين، والانكسار بين يدي الله - تعالى - ليغفرَ الذنوب، ويصفح عن الزلات.

عاشرًا: أن الحج مؤتمر سياسيٌّ كبيرٌ، فيه تلتقي كلُّ الفئات المؤمِنة مِنْ كُلِّ الطبَقات المفكرة السياسية الفاعِلة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتقي في هذا الموسم بِمَن آمن به، فالتقى فيه بالأنصار ثلاث مرات، حتى كانت بيعة العقبة الكبرى، وما كان فيها مِنْ عُهُود ومواثيق غيرتْ مجْرَى تاريخ البشرية جمعاء.

الحادي عشر: أن الحج مؤتمر اجتماعي فريد، يُرَبِّي في النفوس كل المعاني الاجتماعية التربوية؛ ففيه ترى التعاوُن والمواساة، وحنو الغني على الفقير، ورحمة القوي بالضعيف، والكبير بالصغير، والتجرُّد الكامل من مظاهر الفوارق الطبقية الدنيويَّة.

وأخيراً:

تبقى المنافع الدنيوية والأخروية أعم؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، وقد يدرك المرء في ذلك من المنافع الفردية ما لا يدركه غيره من توفيق لذكر الله في تلك الأماكن الفاضلة أكثر من غيره، أو توفيق لدعاء يسمع ويُستجاب، أو إغاثة لملْهوف، أو إعانة ضعيف، أو إطعام جائع، أو إرشاد ضال، أو تعليم جاهل، إلى غير ذلك من المنافع العظيمة، التي جعلها الله - عز وجل - في هذه العبادة العظيمة.