السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
لفت انتباهي موضوع طرحه أحد الإخوة في " رواء " ، يتعلق بما أورده ابن خلكان من نمط كلام ، منسوب إلى المعري ، جاء على وزن بحر الرجز ، وقد كان المعري قد أورده ، بالفعل ، في رسالته المسماة : " الصاهل والشاحج " ، مدونا على شكل أبيات شعرية ، قال عنها أنها جرت ، في عهده ، على ألسنة العامة ، وهي :
أكرمك الله وأبقاك = أما كان من الْ
جميل ان تأتينا الـ = يومَ إلى منزلنا الْ
خالي لكي تحدِثَ عهـ = داً بك يا خير الأخلّ
لاءِ فما مثلك من ضيع حقا أو غفلْ
ثم يقول المعري : " فقد ترى هذه الأبيات لا ينفصل بعضها من بعض ، وإن انفصل بطل معناه " .
لقد جعلني هذا الموضوع أعود إلى كتاب عنوانه : " العروض الزاخر واحتمالات الدوائر" ، وهو كتاب يبحث في عروض الشعر العربي ، ومؤلفه هو الأستاذ محمود مرعي ، من فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948م ، يقول فيه عن الشعر الحر( شعر التفعيلة )، والشعر المرسل، انهما وُلدا منذ أكثر من ألف عام مضت ، ويورد أمثلة يدعم بها نظريته ، منها المثال المذكور أعلاه . ومن الأمثلة التي ذكرها ، أيضا ، مؤلف الكتاب ، وتشبه ما ذكره المعري ، ما يلي :
" قل لإبراهيم إمّا زُرتـَهُ في البيتِ أو جئتَـَهُ في الدار مشغولاً أبا إسحاق َ لوْ كنتَ تقضي سبَّكَ العالم طرًّا وقَلَوْا " .
هذه ثلاثة أبيات من مجزوء الرمل محذوف الضرب ، ونغير الترتيب ، كما يلي :
قل لإبراهيمَ إمّا = زرته في البيت أو
جئته في الدار مشغو = لاَ أبا اسحاقَ لوْ
كنت تقضي سبـّكَ العا = لـَمُ طرا وقَلوْا
ويورد المؤلف أمثلة اخرى بدون رويّ .
إن الشكل المنثور للأبيات السابقة يطلق عليه المؤلف اسم " القصيدة المتدفقة " ، ويورد عليها مثالا، من عصرنا ، للشاعر الفلسطيني سميح القاسم ليعقد القاريء مقارنة توضح له التماثل بين القديم والحديث ، وعنوان القصيدة : " إذن ، أزرَعُ الحَبَقَ في نواويس المومياءات ، وأستعد لسهرتي " :
( خدرتْ على خشب الفؤوس أكفّهمْ . خدِرَتْ . ولم تخدرْ عزائمهمْ . جباه رجالهم عرَق ترابيٌّ . ولم تفتر ببرد الليل ارحام النساءْ... وُلدوا كثيرا . واستعادوا الخصبَ في موت كثير . هكذا ولدوا على شظف الحياةِ وأولدوا ما شاءت الصحراءُ في قحطٍ وما شاء النّماءْ .) . أكتفي بهذا القدر ، فالقصيدة طويلة .
هذا النوع من القصائد لا يعتمد نظام الشطر في الشعر الحر أو المرسل ، إنما يعتمد نظام المقاطع .
خدرت على / خشب الفؤو / س أكفهم // خدرت ولم / تخدر عزا / ئمهم جبا
هُ رجالهم / عرق ترا / بيٌّ ولم // تفتر ببر / دالليل ارْ / حام النساءْ.... الخ.
ويتضح أن هذه تفاعيل بحر الكامل .
وهناك أمثلة ذكرها المؤلف عاقدا مقارنة بين القديم والحديث ، وبدأ الحديث عن تعريف الشعر المرسل قائلا :
" هو الشعر الذي لا يلتزم بالروي الواحد في القصيدة ، ولكنه يلتزم بالوزن العروضي ، أي أنه يتكون من أبيات غير مقفاة ، ولعل المحاولات الأولى جاءت على يد الزهاوي ، وشكري ، ومحمد فريد أبي حديد ، وقد نظم علي أحمد باكثير شعرا مرسلا سماه ( النظم المرسل المطلق ) لأنه مرسل من القافية ومنطلق لانسيابه بين السطور ، وهو بذلك يمزج بين الشعر المرسل والشعر الحر(شعر التفعيلة ). ويتابع قائلا : هناك طريقتان لكتابة الشعر المرسل؛ أن يكتب على غرار الطريقة العمودية ، فيكون البيت وحدة تامة مستقلة من حيث النغم الموسيقي دون الالتزام بروي واحد ، ومن ذلك قول سهير القلماوي :
متكئا عَ الفأس في انكسار ٍ = منحني الظهر من الهموم ِ
مستعلن مستفعلن فعولن = مستعلن مستعلن فعولن
ينظر في الأرض بلا انتهاءٍ = فليس إلا نحوها المصيرُ
مستعلن مستعلن فعولن = متفعلن مستفعلن فعولن
قد أوهنت عظامه السنونُ = وغَضَنَتْ جبينه العصورُ
مستفعلن متفعلن فعولن = فَعِلـَتـُن متفعلن فعولن
أما الطريقة الثانية ، ويمثلها شعر أبي حديد وباكثير ، فلا تقوم على وحدة البيت ، ولا يقف القاريء إلا عند نهاية الجملة التي قد تستغرق بيتين او اكثر، فضلا عن التحرر من القافية ..
ويورد المؤلف أمثلة من الشعر المرسل ، حسب نظريته ، من القرن الرابع الهجري :
صحا قلبه من حب ليلى وملَّ من = صدود التي دامت على الهجر ثم لمْ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن = فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
يُنِلْ ذا صبابات طويلا شقاؤهُ = من الوصل ما يشفي به قلب عاشق ِ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن = فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
حماهُ الكرى وجد قديم قد انطوتْ = عليه دموعُ المُستهام ِ فصبرُهُ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن = فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
قليلٌ وطولُ الصبر يضني فؤادَهُ = فأحشاؤه من لوعة الحب مالها
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن = فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
هدوءٌ ولا تزداد إلا تحرّقا = فمن ليس يدري ما يعانيه من بهِ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن = فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
سَقامٌ أذابَ الجسم حتى كأنهُ = خيالٌ يُرى في الوهم بل ليس يُدركُ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن = فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
لو قارنا هذا النص مع نص سهير القلماوي فلا يختلف عنه من حيث التخلي عن القافية الموحدة ، لكنه يزيد عنه بأنه نص مضمن ، فمن معاني التضمين ، أن لا يتم معنى البيت إلا بالذي يليه .
هذه ستة أبيات من الطويل ، ليس لها حرف روي ، وكل بيت منها مضمن بالذي يليه .
ثم يأتي المؤلف بمثال على الشعر التفعيلي وكان يسمى عند القدماء بالبند :
" إن كنت من أهل العروض ذا دهاءٍ في العويص مفكرا في غامض العلم لطيفِ الذهن فانظرْ في قوافي شعرنا هذا الذي ننشدهُ وقل لنا اين قوافيهِ التي تلزمُ في الضربِ وأين باقي حرف روي البيت منه فعسى تحيي به جميع من ينظر فيه من ذوي الآداب والنحو وأنت عارف بنظمهِ".
ويقول صاحب المصدر الذي أخذ عنه المؤلف : " فهذه ثلاثون جزءا من أجزاء الرجز لا روي لها ، إن شئت أن تجعلها خمسة أبيات من تامه ، أو عشرة من مشطوره ، أو خمسة عشر من منهوكه". ، ولم يذكر المجزوء . هذا الكلام ينطبق على النص في حال بقائه متصلا كما هو ، لكن لو جربنا جعله أبياتا تامة أو مشطورة أو منهوكة ، كل بيت على حدة فلن يستقيم الأمر ، فالبيت المضمن لا يتم معناه إلا بالذي يليه ، ونطبق الأمر على المشطور :
إن كنتَ من أهل العروض ذا دها
مستفعلن مستفعلن متفعلن
ءٍ في العويص مفكرا في غامض الـ
مستفعلن متفعلن مستفعلن
علم لطيفَ الذهن فانظر في قوا
مستعلن مستفعلن مستفعلن ..... إلى آخر المثال .
يتبين لنا أن تقسيم النص إلى أبيات أمر لا يستقيم ، لكنه يستقيم إذا جعلناه تفعيليا ، وسيظهر قصيدة تفعياية وكأنها من الشعر المعاصر :
إن كنت من أهل العروض ِ
مستفعلن مستفعلن مــُ
ذا دهاءٍ في العويص مُفـْكرا
تفعلن مستفعلن متفعلن
في غامض ِ العلم ِ لطيفَ الذهن فانظرْ في قوافي شعرنا
مستفعلن مستعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن
هذا الذي نـُنشدهُ
مستفعلن مستعلن
وقل لنا أين قوافيه التي
متفعلن مستعلن مستفعلن
تلزم في الضرب وأين باقي
مستعلن مستعلن فعولن
حرفُ رويِّ البيت منه فعسى تـُحيي بهِ
مستعلن مستفعلن فعِلـَتن مستفعلن
جميع من ينظر فيهِ
متفعلن مستعلن مــُ
من ذوي الآداب والنحو ِ
تفعلن مستفعلن مُستـَ
وأنت عارفٌ بنظمهِ
عِلن متفعلن متفعلن
ويمكن ترتيبه على أية هيئة طالما أن ما يحكمه هو التفعيلة . ولو سألنا ماذا يختلف نص كهذا عن أي نص من شعر التفعيلة المعاصر ، باستثناء مضمون النص ، فلن نجد فرقا . ولو أخذنا هذا المقطع لمحمود درويش ، وقلنا إنه يتكون من اثنتي عشرة تفعيلة ، يمكنك أن تجعلها بيتين من الرمل أو ثلاثة أبيات .
محمود درويش :
شاعرٌ ما يكتب الآن قصيدهْ
بدلا مني
على صفصافةِ الريح البعيدهْ
فلماذا تلبس الوردة في الحائطِ
أوراقا جديدهْ
ونرتبه متصلا :
" شاعر ما يكتب الآن قصيدءْ ، بدلا من على صفصافة الريح البعيدهْ ، فلماذا تلبس الوردة في الحائطِ أوراقا جديدهْ".
التقفية في النص جاءت تصاعدية ، فالقافية الأولى ثالث تفعيلة ، والثانية رابع تفعيلة والثالثة خامس تفعيلة ، وهذا لا يكون في الشعر العمودي .
شاعر ما يكتب الآن قصيدهْ / قافية ـــ ثلاث تفاعيل .
بدلا مني على صفصافة الريح البعيدهْ / قافية ـــ أربع تفاعيل .
فلماذا تلبس الوردة في الحائط اوراقا جديدهْ / قافية ـــ خمس تفاعيل .
ويمكن ترتيبها عموديا إلى بيتين تامين أو ثلاثة أبيات مجزوءة :
شاعر ما يكتب الآن قصيدهْ = بدلا مني على صفصافة الريـ
فاعلاتن فاعلاتن فعِلاتن = فعِلاتن فاعلاتن فاعلاتن
ــح البعيدهْ فلماذا تلبسُ الورْ = دة ُ في الحائط أوراقا جديدهْ
فاعلاتن فعِلاتن فاعلاتن = فعِلاتن فعِلاتن فاعلاتن
الوضع هنا شبيه بما رتبناه من النص السابق مشطورا " إن كنت من أهل العروض" ، لكنه في حال الاتصال أو الترتيب المعاصر كما رتبه الشاعر يبدو طبيعيا .
شاعر ما يكتب الآن قصيدهْ
فاعلاتن فاعلاتن فعِلاتن
بدلا مني
فعِلاتن فا
على صفصافة الريح البعيدهْ
عِلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فلماذا تلبس الوردة في الحائطِ
فعِلاتن فاعلاتن فعِلاتن فـَعـِ
أوراقا جديدهْ
لاتن فاعلاتن
الأمر هنا طبيعي جدا . ثم يتابع المؤلف ، الأستاذ مرعي ، قائلا :
إن هذه النصوص ، هي برأينا بداية الشعر المرسل وشعر التفعيلة ، فأهل القرن العشرين ، والتاسع عشر سُبقوا إليه بقرون كثيرة ، وهذا إثبات أن العرب عرفوا شعر التفعيلة وكتبوه ( حتى العامة كما يقول المعري ) قبل أن يسمع الغرب باسم التفعيلة حتى . نوجه هذا الكلام لأولئك الذين يحلو لهم التغني بالغرب ، وأن العرب أخذوا عنه شعر التفعيلة في بدايات القرن العشرين . انتهى كلام الأستاذ مرعي .
أعزائي أهل وضيوف "رواء" الكرام :
نقلت لكم ما نقلت آملا ان يكون في ما نقلته فائدة ترجى ، أو حافزا يحفزكم إلى البحث والتنقيب في هذا المضمار ، والسلام عليكم .
ملحوظة:
ـــــــــــــــــ
الأمثلة التي أوردها المؤلف من النصوص القديمة أخذها من كتاب "الجامع في العروض والقوافي " لأبي الحسن أحمد بن محمد العروضي(ت 342هـ)