مسافر إلى دولة محايدة
جلس الشاب بجواره وقرب طاولته، بعد أن أضناه البحث عن من يرحب بوجوده، ويقدر ظروفه النفسية القاسية، ويتمكن من الاستماع إليه. قادته رجلاه إليه، رغم كراهته لوجوده بقربه، ليس لعدم ارتياحه له، ولكن لخوفه من انكشاف خبايا شخصيته أمام الموجودين، فيتقطع قلبه قهراً وكمداً عليه. ولكن لم يرد منعه أو دفعه، فهو أبن صديق حميم عزيز، ولم يكن من الأدب أو الذوق فعل ذلك. جلس وأخذ يتحدث دون توقف، في أي موضوع يخطر له على بال. كأنما مر عليه زمن طويل لم يتمكن فيه من إطلاق العنان للسانه. فكان يدلي بدلوه على أي موضوع أو كلمة يرمي بها شخص عابر، حتى لو كانت مزاحاً أو ترطيباً للأجواء. يتكلم كأنه حكيم بارع أو طبيب متبحر، يعين المرض ويصف العلاج.
لم يكن هكذا الشاب عندما تعرف عليه أول مرة، كان شعلة من النشاط والاجتهاد. فداخله العجب، من أين لابن غني ثري مثله كل ذلك الحب والتفاني للعمل؟! مع اهتمامه المتواصل والمنقطع النظير بدراسته الجامعية. مما حدا بأبيه ومكافأة لجهوده، تكليفه بمسئولية رعاية أحد مصالحه. بل تزويجه حتى يتمكن من التركيز في عمله، ليقطف ثمار جهده نجاحاً ووصولاً إلى طموحه.
لم يمضي طويلاً ليتغير وضع الشاب الطموح، وتنقلب حياته رأس على عقب. بدأ ذلك فجأة ودون مقدمات، مما جعل من يعرفه عن قرب، يتساءل عن سبب هذا الانجراف الشديد نحو الهاوية! ولم يعرف سبباً لذلك التغير الطارئ، ولم يكن أبيه ليتطرق إلى حالته، أو يتكلم عنها خوفاً على مشاعر ابنه، ومداراة لمشاعره هو شخصياً. فالبعض وبعيداً عن عيون الأب، وخلف مسامعه، يناقشون أسباب ذلك، ويعللونه بعدة احتمالات. أحدها ثقل المسئولية التي ألقيت على عاتقه، والتي جعلته لا يستطيع القيام بواجباتها خير قيام. لذا تردى نحو الحضيض، وأحدثت لديه ردة فعل عكسية، جعلته يتقوقع حول نفسه ويبتعد عن الجد والاجتهاد.
قد تكون تلك أحد الأسباب وليس جميعها، إلا إنه لمس خلال حديثه مع الشاب، أمور أكثر غوراً وأوسع تأثيراً. فلقد كان ومع بداية نكسته، يضغط على والده ليسند إليه بعض الأعمال مشترطاً وجود - طاولة عليها حاسب آلي - سيارة فارهة تتناسب مع وضعه الاجتماعي - وراتباً مجزياً يتوافق مع مصروفه كابن ثري. فكان والده يحاول أن يخفف عليه أزمته، بإسناد بعض الأعمال الخفيفة إليه. وبعد أن تأزمت حاله، وصعب السيطرة عليه، لم يستطع الأب تفويض أي شيء إليه، خوفاً عليه وخوفاً منه. بعدها أخذ يتقدم بطلبه ذاك، إلى من يراه أمامه، ممن ليس لديه أي صلاحية.
لم يتوقف تأثير تقوقع الشاب بابتعاده عن الحياة العملية، بل جعل زوجته تطلب الطلاق، بعد أن عجزت من إصلاحه وإرجاعه إلى طريق الصواب. لم تستطع تحمل شخص مثله، ليس له اهتمام بعمل يجد فيه رزقه ورزق عياله. فكان الطلاق (القشة التي قصمت ظهر البعير) كما قيل. وتزامن ذلك بتراجعه العجيب في حياته الدراسية وتحصيله العلمي، مما أجبر الجامعة إلى إيقافه عن بعض المواسم الدراسية، عله يفيق من نوبته ويشعر بسوء ما آل إليه حاله (ولكن لا حياة لمن تنادي). ومع تفاقم المشاكل والمصائب عليه، وتردي حالته النفسية، لم يجد ما يهرب من همومه، إلا اللجوء إلى الشيشة. فكان يمتص سمومها ويستنشق أدخنتها، عله ينسى معها وضعه النفسي، وحالته المزرية.
ودون قصد متناسين وجود الشاب لبعض الوقت، أخذوا يتحدثون عن بعض الشباب، وعن تهربهم من العمل ومن الحياة العملية. وما نبههم إليه وإلى حضوره إلا تعليقه قائلاً: أود أن أذهب إلى دولة محايدة!؟ ترك ما بيده وتوجه إليه يسأله مستغرباً عن مفهومه للدولة المحايدة؟! لأنه يعلم عدم وعيه لما يقول، وإن ذلك المفهوم بعيد كل البعد عن ما يدور في رأسه. فقال: كأنما يلقي محاضرة، أو يطرح مفهوماً علمياً جديداً، متطلعاً إلى السقف فوقهم كمن يبحث عن شيء بين السحاب، دولة لا يوجد فيها عمل!
عندها قطع حديثهم دخول أحد احدهم، طالباً المساعدة في بعض الأمور. فانسحب الشاب من أمامهم كما جاء، دون أن يثير أية ضوضاء أو إزعاج. لقد أنقذه دخول ذلك الشخص، لكي يوقف المزيد من ألألم النفسي الذي الم به. وخروجه أوقف المزيد من نبش دواخل نفسه، وانكشاف شخصيته على حقيقتها أمام الآخرين. وأنصرف تاركاً في نفسه لوعة وفي قلبه أسىً عليه. فأخذه التفكير بعيداً، يبحث عن طريقة يوصل فكرة (عرضه على طبيب نفساني) على أبيه، عله يجد حلاً لمشكلته النفسية والحياتية. ولكن مكاشفة أبيه بهذا الموضوع ليس من السهولة في شيء، فكيف يحتمل القول (أن ابنه يحتاج إلى عناية طبية خاصة)؟!
بقلم: حسين نوح مشامع