الحاجز النفسي
الحاجز النفسي
عزمي بشارة * نقلا عن "الخليج" الإماراتية
رددنا في شبابنا بسخرية عبارات من “مأثور” الرئيس المصري الراحل أنور السادات . ومنها قوله بضرورة تجاوز الحاجز النفسي مع “إسرائيل” كشرط للسلام . جاء ذلك في سياق تبريره لزيارته إلى القدس ومخاطبة الكنيست في مقابلاته مع باربرا وولترز، وهي التي كان يتوجه إليها بتحبب وندية لم ينلها صحافي عربي مردداً قبل كل إجابة “دِيَر بَرْبَارا”، وكان ذلك حاله مع هنري كيسنجر الذي صار اسمه على لساننا “عزيزي هنري” محاكاة للسادات .
ولكن “إسرائيل” لم تسخر . لقد أخذت عبارة “الحاجز النفسي” بمنتهى الجدية .
وأعترِفُ الآن (المتكلم هو الكاتب وليس المغنية ماجدة الرومي)، أن تشخيص السادات لزيارته كان بليغاً . فما كان بوسعه أن يصف ما فعل بإيجاز أدق . وكنتُ قد وُلِدتُ قبل مرور عقد على النكبة، ولكني ولدتُ في الجانب الآخر من حاجز السادات النفسي . وما إن استشعرته حتى أخذت أغادر سياسياً وثقافياً إلى الجانب العربي، وقد كانت مغادرةً مُراوحِةً في المكان، وعدّتُها مناقضة ومناهضة ومثاقفة مع من أقام مؤسساته على خرائب شعب فلسطين .
وربما كان وقع زيارة السادات التاريخية كي يخاطب الكنيست عظيماً علينا وصادماً لنا، لأنه فيما كنا نكتشف أحلامنا العربية وننضجها على نار الرجولة والبلوغ، وفيما كنا نتجه نفسياً باتجاه العرب، تجاوز السادات ذلك الحاجز النفسي نحو “إسرائيل” . فمن منا كان “ذاهباً إلى الحج والناس عائدة”؟ لم يجبنا التاريخ بعد . وما زال المتفائل منا يؤمن أن بوسعه صنع الإجابة .
فما المقصود بالحاجز النفسي؟ بغض النظر عن توزيعهم الإيديولوجي والسياسي تعامل العرب مع “إسرائيل” بعد النكبة ككائن استيطاني استعماري، وبالتالي غير طبيعي، ولا يجوز التعامل معه . (وقد كان لأكثر مما هو متوقع من السياسيين العرب مغامرات مع الوكالة اليهودية قبل النكبة، سوف يكتب عنها المؤرخون حين يزول الحرج الشرقي) .
كانت سرقة جزء هو في القلب من الوطن العربي وتشريد شعبه والاستيطان مكانه حاجزاً نفسياً نوعياً كافياً لإعاقة مقاربتها كدولة طبيعية في حالة خصومة، أو حتى كدولة جارة في حالة صراع حدودي . وكافياً لمنع قياس ما يجري فيها قياساً كمياً لأغراض المقارنة والمفاضلة .
في تلك الظروف كانت “إسرائيل” تطالب العرب بالاعتراف بها . ولم يطلب أحد منها اعترافاً . لم ينشغل العرب بتخمين هل سوف تشن “إسرائيل” الحرب . وكانت تشغل نفسها بمثل هذه الأسئلة . ولكنها كانت تجهز نفسها بنجاح لما يخطط لها العرب من دون نجاح .
لم يطالبها العرب بتطبيق شروط من أجل عقد السلام، فما بالك بمحاولة إقناعها أن السلام هو الضمان لأمنها .
في تلك الفترة لم ينكر أحد أنه يسلّح المقاومة، بل كان يعتبر تحرير فلسطين مهمة عربية . ودار النقاش حول حق الفلسطينيين بحمل السلاح بمعزل عن العرب الذين يحملون السلاح، وعن الحاجة إلى ذلك .
وكمنت المشكلة في طبيعة الأنظمة، وفشلها في توحيد الأمة، وإخفاقها البنيوي في بناء الدولة، وفي خصوماتها وتنابذها وتخاوفها .
وبعد خطوة واحدة من تجاوز الحاجز النفسي، لا تبقى حدود وينهار كل شيء . يصبح السلام والاعتراف مطلوبا من “إسرائيل” . وهي التي تهدد بالحرب .
في عصر تجاوز الحاجز النفسي يتحدث العربي عن كون السلام مصلحة “إسرائيلية”، وعن الاحترام المتبادل، وعن “ضمان أمن ووحدة أراضي كافة دول المنطقة” .
كنت في الماضي أفاجأ من أي تعبير عربي عن إعجاب ب”إسرائيل” وديمقراطيتها ومؤسساتها، وأنا الذي عشت غالبية عمري داخلها، وولدت فيها . اختلفت بحدة وبرقة مع أصدقاء عرب حضروا إلى المناطق المحتلة عام 1967 في أعقاب اتفاقيات أوسلو . ولكنني كنت أصعق لدى ظهور معالم إعجاب خفيٍ أو سافرٍ ب”إسرائيل” لدى بعضهم .
من يريد أن يعجب بديمقراطية فليعجب بغيرها . لا ينقص دول تحكمها مؤسسات، فليعجب بدولة أوروبية مثلا!! فلماذا يختار صديقي الفلسطيني العائد مع جهاز المنظمة أن يعجب ويعبر عن إعجابه بالدولة التي قامت مؤسساتها على أنقاضنا؟
هنا لب المسألة . فمن عبر الحاجز النفسي بقبول “اسرائيل”، لكي يبرر لنفسه قبول السلام والتسوية معها، لا تبقى حواجز تمنعه من الإعجاب بها . وإذا طويت النكبة في النسيان، وجرى تجاهل كيف قام كيان الصهيونية السياسي، وإذا غدا مجرد دولة طبيعية جارة مختلف معها على الأراضي التي احتلت عام ،1967 فما الذي يمنع من الإعجاب بها؟ أليست دولة حديثة وديمقراطية لليهود؟ ألا تقوم بكل شيء، بما فيه مصادرة الأرض بشكل قانوني؟ ألا تقيم لجان تحقيق بعد المجازر؟ ألا تقيل قادتها وتحاكمهم على قضايا فساد؟ أليست لديها جامعات أفضل، وتأمينات اجتماعية وسيادة قانون؟
والغريب أن ما يمكن تعلمه فعلاً من تجربتها ألا وهو عملية بناء الأمة من شتات وهجرات، وتجديد واستخدام اللغة العبرية والمؤسسات والجيش في بنائها، في الوقت الذي جرى فيه تشتيت الفلسطينيين وتفتيت الأمة العربية، هو بالضبط ما يجري تجاهله من قبل المعجبين، لأنه قد يؤدي إلى مواجهة العجز أمامها .
لا شك ان القمع الاحتلالي يومي . ومحاولة فرض إرادة الاحتلال على شعب بأكمله لا بد أن تكون عنيفة . ولا يمكن تجنّب المقاييس الكمية بعدد البيوت المهدمة، والأرض المصادرة والقتلى والجرحى والمعتقلين . فهي تعبيرات يومية عن الاحتلال . إنها أحداث مترتبة عن وجوده .
ولكن مقياس الموقف من “إسرائيل” ليس كمياً . فالاستعمار هو قضية فرض إرادة في مقابل سلب إرادة، وسطو على وطن في مقابل تشريد سكانه وفقدان الوطن .
ومن نسي المسألة الرئيسية، واستحوذت عليه المقاييس الكمية سقط في محظورَي المبالغة والاختزال . فمن يرغب في تقليل حجم المعاناة الفلسطينية، يباشر فوراً بالمقارنة الكمية للمعاناة مع إبادة شعوب أخرى . يقارن الاعتقالات في “إسرائيل” بالاعتقالات في دولة استبدادية، ويقارن إطلاق النار على المتظاهرين في “إسرائيل” مع المذابح التي تقدم عليها بعض الأنظمة بالمتظاهرين . وغالبا ما يلجأ هذا الاختزال الراغب بالتقليل من شأن مركزية قضية فلسطين بانتقائية اختزالية في وصف حال الفلسطينيين، والإكثار من الحديث عن المؤسسة والمحاكم وحكم القانون في “إسرائيل” . فيضطر المتمسك بالموقف من “إسرائيل” إلى اعتبار الفلسطينيين أكثر الشعوب معاناة في التاريخ، وإلى تشبيه أي قصف بالمحرقة النازية، وإلى اعتبار كل حرب حرب إبادة، حتى الشهداء الذين سقطوا وهم يقاومون يعتبرون ضحية مجزرة .
والحقيقة أنه نقاش سياسي . . يخاض بأدوات خاطئة . فمن يبالغ يسيء لقضية عادلة، (وهل تحتاج سرقة وطن إلى مبالغة؟)، أما من يختزل فيرمي في الواقع إلى التشكيك بعدالة القضية، فهو يعتبرها قضية كمية من المعاناة مقارنة بغيرها . وهو يراها كذلك لأنه تجاوز الحاجز النفسي .
الظلم اللاحق بشعب فلسطين ظلم عظيم . والتضحيات جسام . والخسائر فادحة لشعب يناضل منذ مائة عام . الجرائم والمذابح “الإسرائيلية” فظيعة قياسا بما ارتكب في أماكن أخرى . والثقافة الاستيطانية التي جثمت سفيهة وبذيئة بكل مقياس .
إنها آخر مسألة استعمارية في هذا العصر . إنها قضية استعمار استيطاني مستمر، يعيد تشكيل بلدان ومجتمعات لمئات ملايين العرب بموجب متطلباته . فإن قبول “إسرائيل” ككيان طبيعي أو رفض قبولها، يعني رفض أو قبول استعمار فلسطين، ومن شأن أي موقف منهما أن يعيد تشكيل الكيان والوعي العربي كله . أهو وعيٌ مستعمَر أم لا . هذه هي المسألة .
والصراع العربي مع “إسرائيل” ككيان استعماري استيطاني في قلب المنطقة، بما فيه القضية الفلسطينية التي ترتبت على إنشاء “إسرائيل”، هو قضية الأمة، وليس مسألة تضامن مع الفلسطينيين، ولا هي قضية الفلسطينيين، أو للدقة، ليست “مشكلتهم” التي ينبغي ان يتعاملوا معها وأن يتدبروا أمرهم بشأنها . والمقاومة خيار التحرير في سياق هذا الصراع . أما خارجه، فيكفي المقاومة فخراً أنها صمود فحسب .
وما يصح بشأن فلسطين يصح بشأن العراق وبشأن كل أرض عربية محتلة نتيجة للعجز العربي في الدفاع عن تكامل هذا الوطن العربي، أو نتيجة لتواطؤ دولة عربية ضد دولة عربية، أو تأليب شعب عربي على آخر . كل أرض عربية محتلة هي قضية العرب، ومركزية فلسطين نابعة من أنها عنصر مكوّن أساسي في الهوية والوعي العربيين، ولأن استعمارها استيطاني يرمي إلى الديمومة ويعاد تصميم المنطقة على قياسه .
وهي قضية العرب لأن النظام السياسي العاجز عن حفظ حقوق المواطن العربي وكرامته هو نفسه النظام العاجز عن الدفاع عن الوطن العربي . وهو نفسه الرافض للانضواء في إطار مفهوم للأمن القومي العربي . إنه النظام السياسي الرسمي العربي الذي لا يعترف أصلاً بالوطن العربي مفهوما وممارسة إلا لأغراض التحريض الطائفي والمذهبي .
وهنالك علاقة جدلية بين التحرر العربي والتحرير . لا ينبغي أن يُقَدمُ أحدُهما على الآخرِ آلياً، ولا أن تُؤَجل مهمةٌ تاريخية انتظاراً لأخرى، ويشكّل كل تطور اقتصادي سياسي اجتماعي على الساحة العربية دفعاً لقضية التحرير، إذا كان تطوراً مرتبطاً بأجندات وطنية لا بموجب معايير الاستعمار . ويساهم كل إنجاز في الصراع ضد الاستعمار الاستيطاني لفلسطين، وضد احتلال مناطق عربية أخرى، في تعزيز نزعة التحرر العربية من التخلف ومن قيود الاستبداد .
ولا يمكن التوقع من نظام يضطهد شعبه ان يحمل خيراً لشعب آخر . ولقد تبين أنه لا توجد حدود واضحة لمسار التدهور القائم بشأن فلسطين منذ أن تم تجاوز الحاجز النفسي حتى وصلنا الى رئيس عربي يهنئ “إسرائيل” بإنشائها . فالنظام الرسمي العربي الذي أكد منذ العام 1974 مقولة “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” لكي يحرر نفسه من مهمة محاربة “إسرائيل”، بدأ بتبني مقولة أن المقاومة شأن الفلسطينيين الذي يجب دعمه عربياً . ثم تبين أن المقاومة تشكل عقبة أمام “عملية السلام” أو أمام العلاقات مع “إسرائيل” فتحوّل الى منع المقاومة أو محاربة المقاومة . لقد وصل هذا النوع من التفكير إلى: “لا نريد ان نحارب، ولا نريدكم ان تقاوموا” . فمُنِعت المقاومة بداية من الانطلاق من الدول العربية المحيطة ب”إسرائيل” الواحدة تلو الأخرى . ثم تبين في الحرب على غزة أن هذا التفكير يقود إلى منع المقاومة داخل الأراضي العربية المحتلة عام ،1967 وليس فقط من قِبَل الدول المحيطة ب”إسرائيل”، التي كانت تُعرَفُ بدول المواجهة . وقام بعد اتفاقيات أوسلو محور عربي- فلسطيني يحاول أن يمنع مقاومة الاحتلال “الإسرائيلي” من خارج المناطق المحتلة عام 1967 كما من داخلها، لأن الاستراتيجية الوحيدة المسموح بها حتى على الساحة الفلسطينية هي استراتيجية المفاوضات .
أما “حق الشعوب في مقاومة الاحتلال” فيغدو في نظر هؤلاء مقولة نظرية مهما كانت صحيحة . لقد آن أوان تغييرها لتصبح: واجب الشعوب في مقاومة الاحتلال ودعم مقاومة الاحتلال مثلما هو واجب الشعوب في مقاومة الظلم والاستبداد .
نشر بتاريخ 16-05-2010