اول شهيدة على ارض العراق في زمن الاحتلال
نوشة الشمري : صرخة البطولة في زمن الصمت
حاتم عبد الواحد
(بامتياز أنت تجمعين بين طول نخلات العراق وهيبة جباله، لم تخططي لبيت وأولاد وزوج، كنت دائماً تقولين بيتي كل العراق وأولادي الذين يأتون بأعمار ممزقة فأخيطها بخيوط عمري، لأخلد فيهم).
كان مشهد المدينة يوحي بالوباء، رغم الحقن الإعلامية المخدرة، لم يبق في بغداد إلا مئات الآلاف من الناس من سبعة ملايين كانت تعد لهم الفطور صباح كل يوم، وتمشط أرواحهم بترانيم البلابل، وتلبسهم أحلى الثياب، بعد أن ترشّ عليها عطر الآس وعندما يعودون من معاهدهم ووظائفهم تمد ريش روحها ليرتاحوا عليه.
كان مشهد المدينة يبعث على البكاء، الشوارع خاوية أوتكاد، والعصافير لم يعد لها وجود، والصمت لا تجرحه إلاّ صفارات الانذار أو صفارات الاسعاف والحريق، بينما تفيض شبابيك المدرسة المستنصرية بالدموع، وينطفي الشمع في مقام سيدنا الخضر (ع).
لم أعهدها هكذا طوال 45 نيساناً عشتها بين الحارات والأرصفة والمكتبات، فحتى الأزهار أحجمت في تلك الأيام عن التفتح، أما دجلة فكان يجري كسولاً، متثائباً وهو في موسم طوفانه.
كان مشهد المدينة يبعث على الرثاء، لم يعد الأوكسجين كافياً لملء رئات الموجودين فيها، وكان المتنبي وابن فرناس وكهرمانة يحاولون معرفة ما حدث فأنشد ابن الكوفة الحمراء:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
ونسج ابن فرناس جناحين من سعف النخيل وحلق فوق المدينة ليكتشف أن عربات الغزاة فوق الأرصفة.
أما كهرمانة فكان عليها كشف اللصوص ليس بسكب الزيت الحار عليهم وإخراجهم من مخابئهم ولكن بسكب دمها الحار.
عندما أطلّ المذيع على شاشة الحرب كان صوته كالزجاج المتشظي، يجرح القلب ويجزئ المشهد الكبير إلى لقطات لا ملامح لها، بعد الرابعة صباحاً من يوم 19/3/2003 بدأ بذار الموت، غطى الأطفال رؤوسهم بالوسائد كي لا يروا الوجه القبيح الذي يترصدهم، ولا يسمعوا فحيح أفاعيه، بينما جمع العشاق صورهم وذكرياتهم وهرَّبوها خارج بيوتهم لتكون بمنأى عن الشظايا.
أما نوشة فكانت في أول مستشفى مرتدية قلبها الأبيض كالحليب والحار كالحليب.
إن مهمتها الملائكية تستدعي ذلك، وواجبها الأبدي فوق الأبدية والمستحيل... فهي سليلة أعراف وتقاليد عربية أصيلة استمدتها من تاريخ قبيلتها التي تمتد جذورها عميقاً في التاريخ وفي الخرائط، إنها ابنة (شمرّ) التي رأسها في الموصل وما جاورها، وقدماها مبللتان بماء محيط العرب جنوبي اليمن.
لا يستطيع التاريخ أن ينسى بصماته، ولا تستطيع المهرة العربية أن تجر عربة الغزاة والجناة والزناة.
(أقسمتْ إنها أول من يقتل الأمريكان إذا لمسوا شعر بغداد) ، خططتْ قبل ذلك لتكون شهيدة العراق على ارض فلسطين، فكانت شهيدة العرب على ارض العراق، دخلت إلى مدن الموت باسقة كنخلة وواثقة كغيمة مثقلة بالمطر.
دخلت} مدن الموت لتأتي بشهادة ميلاد آلاف الأطفال وآلاف الأجيال بعد أن أطبقت الفجيعة أسنانها على البراءة ومشارق الأمل.
لم تمت ولن تموت، بل تبقى متدفقة كدجلة والفرات، فدمها الذي وهبته لجرحى جنود العراق ما يزال يتوالد على براعم شجرة حياتهم، وتراتيلها تحت القباب المقدسة والأضرحة الذهبية تحولت إلى حمامات بيض ورايات خضر، وأناشيدها المدرسية التي كانت تقرؤوها كل خميس في اصطفاف الصباح تحولت إلى فراشات ملونة فوق دفاتر التلاميذ (عندما كانت تتحدث عن الشهادة تصف لنا الجنة وكأنها في البيت المجاور لبيتها) نعم لقد ورطت نوشة بقرارها جميع الذين سقطوا كغبار الطباشير من اللوحة الخضراء، ألغت جوازات رجولتهم وصادرت تاريخهم المدجج بغرور الطواويس وجبن النعامة.
كانت بغداد تضع ضلوع أبنائها بين عجلات الروبوت المغولي لتوقف تقدمه نحو مجلس هارون الرشيد وملوية المعتصم ومكتبة الجاحظ والروضة الكاظمية، في حين كانت عواصم الضغينة تسلب الشحم من طعام أبنائها لتشحم به عجلات ذلك الروبوت الهمجي وتديم هجومه وتوحشه.
كانت البصرة تخبئ ابن الهيثم في غابات نخلها وفي موجات شط العرب، وكان حساده يتبرعون بالنفط لإحراقه وإحراق البصرة وشط العرب والعرب أنفسهم.
الأزيز يشق ثوب السماء، ونوشة الشمري تخيط بضحكتها جراح أولادنا الذين تكوموا كالعصافير الذبيحة على رصيف المستشفى. (عندما طلبنا منها رأيها في رجل تقدم لخطبتها قالت وابتسامة خفية تغطي وجهها: أنا عُقِد قراني فلاتزعلوا مني لأني لم أخبركم فالظرف فرض نفسه).
عذبة كنسمة ريح البوادي ورقراقة كينابيع الواحات، فيها من الشمم ما يكفي لابتكار خنساء عراقية في كل بيت. كانت تترصد الموت بعيني غزالة وأذني فرس أصيلة تفوح منها رائحة القهوة المعطرة بالخزامى.
كانت تعدل خارطة طريق الجنة كلما سنحت لها دقائق من واجبها لكي تجعله أقصر وأوضح.
وعندما داس الغزاة بأحذيتهم الثقيلة مشارف خيمة بغداد، أرسلت برقية إلى خولة بنت الأزور تقول: (انتظريني عند تخوم الفردوس).
لقد ورطت نوشة كل المدعين ملكية سيف عنترة وكل المنقنقين كالضفادع وراء منابر الرطانة فللدم لغة لا تستوعبها كل الأبجديات وكل القواميس.
(سأضمد جرح العراق) هكذا ألقت كلماتها وهي تعتذر لزميلاتها مودعة، وعندما خَطَت أول خطوة باتجاه الجنة، منحت الساعات إجازة لعقاربها، واقتربت غيمة من كتف نوشة لتتعلم منها مراسيم المطر.
على شاشة الحرب كانت صورتها في تلك الأمسية النيسانية تبدو كعصفور اخضر يعبر حقلاً من الحرائق، كانت صورتها ساقية في صحراء، وعندما تكسر حطب حنجرة المذيع قال: إنها عراقية فتحت بندقية الروح على اللصوص، فسمعتُ طقطقة براعم الورد في حديقتي الصغيرة وهي تحاول رفع رؤوسها لتتطلع إلى الشاشة.
مرّت صورتها كالشهاب في بحر الظلام اللجي، وظهرت ورقة القلب البيضاء مكتوبة بخط واثق ناصع (اعذروني لأني لا أملك إلا روحي).
كان مشهد المدينة يبعث على الفداء، شابة عراقية تضع على بطنها صرة من المتفجرات وتتجه بسيارة إلى شارع المطار ثم تتظاهر بعطل سيارتها وإنها حامل، وعندما يتجمع عليها جنود المغول تتشظى !!
يا الله ، كيف يمكن للدم أن يكون ضمادا للجرح ، وكيف يمكن للموت أن يكون جواز مرور إلى الحياة .
في تلك اللحظات سمعت شاعرة ثورة العشرين ( فدعة الزريجية) وهي تهزج:
خوي حمد ما عاد من ليلة الحربية !!
فيما كانت (تسواهن) تقف على تنورها في قرية نائية من قرى العمارة وهي توزع (خبزالعباس) على الشهداء والأطفال غير مكترثة بالرصاص ودوي التوما هوك.
حدث كل هذا بلا مراسيم ملكية أو جمهورية أو أميرية، بلا اجتماعات ولا تعليمات ولا معسكرات ولا جعجعات ، ومتى كان النخل يصدر مرسوما لأعذاقه لكي تتفتح؟
إنه الماء الدافق تحت سفينة نوح، كان العراق في تلك الامسية يلهث كذهب قباب الأولياء، ويكبِّر على مآذن الحضارة فيما راحت السماء ترتدي قميص الغضب محتجة على سكوت الخانعين والخائنين والشامتين والذين في قلوبهم مرض، كان السطر الاخير في وصيتها (لا تحزنوا علي أرجوكم كي لا أذهب إلى الجنة باكية).
في ذلك المساء رأيت منصور الحلاج يغادر ضريحه في مقبرة الشيخ معروف الكرخي ويطلب من المارة أن يدلوه على الطريق المؤدية إلى شارع المطار، بينما كان النُفَّري ينقح كتاب (الطواسين) ليضع كلمة (هي) مكان (أنا) أينما وردت.
ورأيت جواد سليم يضيف إلى نصب الحرية وجه امرأة ينسرب من عينيها نهر من الأطفال.
نعم أيتها القمحة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، سيظل صوتك صوت أم تنادي في البرية، وتظل بروقك تخطف أبصار الذي على قلوبهم غشاوة.