هنا، فوق تراب دمشق المقدّس، سنرفع بيتاً يجمع شملنا، سيكون مقامنا الأخير في مواكب الشتات، ولن نغادره إلا إلى بيوتنا ودورنا في فلسطين.


لست أدري يا والدي ماذا أقول لك الآن!
لم أتحقق من لون عينيك إلا وأنت مسجّى.. في ذلك اليوم، وفي ذلك الموقف، قبل أن يحملوك إلى المقام الأخير الذي اخترته أنت، ورسمت معالمه أنت، وكتبت وصيتك أّلا تدفنوني إلا في ثرى دمشق، كي تكون الأقرب عودةً إلى فلسطين، في ذلك اليوم رأيت كلّ الطيوف التي كثيراً ما حدّثتنا عنها، رأيت مآذن عكا، سورها وشاطئها، ورأيت سهوب الجليل تخفق في عينيك.
كيف أبرّئُ نفسي مما جرى ويجري.!
في هذا المكان، وسط غابة من الأشجار الممتدّة من غوطة دمشق، يوم كانت الغوطة تعانق حواري وبيوت الدمشقيين بودّ، وعلى هذا التراب المقدّس، وقفنا جميعاً متحفّزين، ننتظر، والسؤالات تتقاطر بيننا بصمت، لماذا تطلب منا، نحن أولادك أن نتواجد في هذا الوقت، وفي هذا المكان.!؟
قلت: نرفع بيتاً، يؤوينا.!
كنا جميعاً، أنا وإخوتي وأنت شركاء في البناء، نمهُرُ كلّ حجر نرفعه، بكثير من عرقنا، وبعض دمائنا، وعندما قامت الجدران، وتُوّجت بسقفٍ مكين، أصرّت أمي أن ننتقل إليه.
لا أبواب ولا نوافذ، ولا بنيّة تحتية توفّر أقل خدمات لبيت تسكنه عائلة كبيرة، لكننا احتملنا، أصبحت الشراشف والبطانيات ستائر للنوافذ والأبواب، وكنا سعداء، نشعر أننا في بيت لنا نقيم فيه، بنيناه بعرقنا وتعبنا.
كنتَ يا والدي تتجوّل في أرجاء البيت وكأنك في قصر من قصور الجنّة، كل ما تلمسه يمتدّ من هنا إلى عكا، وحين اكتمل البيت، سلمّتنا وصيّتك، وأطبقت عينيك على الحلم الجميل، وغادرتنا.
كنتَ جبلاً يوم حملتنا كما تحمل القطّة جراءها وجئت بنا إلى هنا، تقول: من يلجأ إلى حضن سورية الدافئ لن يضام أبداً.. وكنت جبلاً عندما ودّعت ولديك الشهيدين، وكنت جبلاً عندما أوصيتنا أن هاهنا مقامنا الأخير، منه نعود إلى فلسطين، وفيه نموت ولا نخضع لشتات آخر أبداً..
كل ما أعرفه يا أبي أن هناك، في مدى هذا العالم الواسع، من يريد إقصاءنا من هذا المكان الباقي لنا، هناك من يدبّر في سواد ليل، كيف يذوّبنا في جحيم أتونٍ لا يرحم، ويخلع عنا عباءة انتمائنا إلى فلسطين.
هذه الدار التي أزهقتَ من عمرك عمراً كي تجعلها حصننا وملاذنا ومكاننا الأخير، ومنطلقاً للعودة إلى عكا، عادت عارية كما بدأناها، لا أبواب ولا نوافذ، جدران كثيرة تهاوت، والشرفات سقطت، وضاع الكثير من الأثاث.
من هم أولئك الذين يبحثون عن وسيلة لإقصائنا حتى من الوجود.؟
تصرخُ كلّ خليّة في نسيجي، تقول لك يا والدي، بالإصرار ذاته الذي تعلّمناه منك، إننا لن نغادر من هنا إلا إلى عكا محرّرة، وسيبقى أملك باقٍ فينا ما بقينا.
سأحمل الحجارة المتناثرة، وأعيد بناء ما دُمّر من الدار، ولن نغادر، وسأبقى أذكر كلماتك وأنت تقول: الموت القَدريّ يأتي مرّة، أما الموت الاختياريّ الجبان فهو موت يوميّ له طعم مُرّ كمرارة الذلّ.
لن أغادر من هنا إلا إلى عكا، يومذاك، نترك هذا البيت لمن يملك أرض المكان، برعم ورد صغير يعبّر عن وفائنا وامتناننا إلى الحضن الدافئ الذي لم نُضم فيه أبداً، وإلى الشعب العظيم الذي احتضن لجوءنا، وحافظ على هويتنا، وكرامتنا الإنسانية.
هكذا أوصيتنا، وهكذا أوصي أولادي.