(سلسلة) في ظلال تحرير الأسرى
قال العميد : 1/3
( مِلح غزة يمنع التعـفـن )
عبارة نورانية قالها العميد ؛ عميد الأسرى ! ومن منا لا يعرفه ؟! فقد توارثت الأجيال الفلسطينية ذكره وذكراه جيلاً بعد جيل ، واختزنتها في ذاكرتها الحيّة كنموذج على الصبر والمصابرة ، والتضحية والفداء ، ومراغمة السجن وقهر السجّان ، فكان هو الشعارَ صبراً واصطبارا ، وغدا حظ عدوّه في ركام صفحات التاريخ اندحارا واندثارا ، إنه عميد الأسرى البطل المحرّر نائل البرغوثي أبو النور ،الذي وقف بقامته البطلة ، وبهمّته العالية التي لم تنحتها العقود الثلاثة خلف القضبان، وقف في قريته كوبر وألقى خطابه التاريخي فكان هذا الخطاب نوراً على نور ! وأعْـزِز به حين قال : ( قد راهننا السجّانون قائلين لنا : سوف تتعفّن أجسادكم وأنتم خلف القضبان ) ثم استطرد أبو النور قائلا : ( وما درى القومُ بأن ملحَ غزة يمنع التعفّن ) إشارة إلى الشعب المجاهد الذي كان وراء الصفقة العظيمة التي حرّرت أجسادهم ، وصانتها من أن يمسّها عفن ، أجل حرّرت أجسادهم ، أما أرواحهم فهي حرة دوماً ، فلم تخضع للاعتقال يوما ، وكيف تكون روحٌ معلّقة بربها رهينة اعتقال لدى سجّانها ؟!
ولما كان ذلك كذلك فإني تلقفت منه هذه المقولة ، وطرت بها فرحاً وفخرا ، وعساني في هذا المقال أعطيها مداها وحقها ومستحقها ! فكان أن قلت : العفن الذي عناه القائد المحرّر أبو النور هو عفن دون عفن ؛ ذلك أنّ للعفن مظاهرَ عديدة من حسيّة ومعنوية ، أخطرها هذه المظاهر الثلاثة : العفن الفكري ، والعفن النفسي ، والعفن السلوكي الحركي، وتلك منظومة متكاملة مربوطة أعناقها بأعناق بعض ، فإذا دبّ العفن في واحدة منها اصطلى بلظى شرره المتطاير باقي عناصر المنظومة ، ولمّا كان السلوك ترجمة للفكرة وتوَقدها ، ونفحة منبثقة عن النفسية وتوثّبها ، فإن العفن الفكري هو مربط الفرس ؛ ذلك أن سلوك كل إنسان وحالته النفسية ما هي إلا صدى لما عشش في عقله من فكر ورسخ فيه من قناعات ، فبذا غدا الفكر حجر الزاوية لكونه الباعثَ الحثيث على الحالة النفسية والسلوكية على السواء ، وعليه فالعفن الذي يصيب الفكر له طرفان يكمنان في : الإفراط والتفريط ، فالإفراط يورث غلوّا وقلاءً ( بُغضاً) ، والتفريط يورث تميّعاً وجَفاءً ، وكلتاهما عفن ! وقد يُقحم المرء نفسَه في دائرة الغلو تحت مطارق الواقع الثقيلة ،كردّة فعل على ظروف حاصرته ، وضواغط ثقيلةٍ أرهقته ، ونوازلَ من صُنع شياطين الإنس حاصرته .. وذا كله - أي الإفراط والتفريط الفكري- في خاتمة المطاف عفن ! وكون فئام من الشعب يرزح تحت نير هذه النوازل ثمّ يبقى متحليّاً باتزانه ، محتفظا بعنفوانه ، لم تنحرف بوصلته ، ولم تضل وجهته ، ولم يُرَق على أبواب الاستجداء السياسي ماءُ وجهه ، ولم تعفّر بتراب استعطاف اللؤماء صفحاتُ هذا الوجه الكريم ، ولم تتأرجح مبادئه أو تتميّع قيمه ، فذا كلّه ينمّ عن مضاد حيوي إيمانيّ ناجع تحلّى به واتصف ، ولعلّك عزيزي القارئ تكتشف بنفسك ماهيّة المضاد الحيوي الإيمانيّ هذا ومبعثه إذا أنعمت النظر في قصّة ذلك الرجل السائل المتسائل عن البعث والنشور، فقال فيه العزيز الغفور: { أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت ؟ قال لبثت يوماً أو بعض يوم ، قال بل لبثت مائة عام ، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه ، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، فلمّا تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } (البقرة 259) سبحان الله ! الطعام والشراب قد أحاطت به وحاصرته كلّ ظروف التعفّن بقوّة وقسوة ؛ إذ مرّت عليه مائة عام وهو عرضة لهذه الآفات التي من شأنها أن تعفّن ذاك الطعام أيّما عفن ! بل لا يُبقي منه العفن شيئاً ولا يذر ! مع ذلك بقي على حاله { لم يتسنّه } أي لم يتغيّر بالتعفن ، بل بقي يُسمن ويُغني من جوع ! ولفظة ( يتسنّه) أصلها مشتق من ( السّـنة ) لأن مرّ السنين يوجب التغيّر ، لكنه لم يتغيّر ! فجعل المولى تبارك وتعالى عدم التعفن في ظِل هاتيك الظروف آية ، وأَمارة هداية ، فما السرّ في ذلك ؟ أي في عدم التعفّن ، السر هو : عناية رب العالمين ومعيّته ! كانت هي المُعقّمَ الحافظ لذاك الطعام ! وكذا شعبنا في غزّة الأبية ؛ تمرّ عليهم السنون العجاف حاملة بين طيّاتها الحصارَ والمناكفاتِ والرهاناتِ والاستفزازاتِ والضغوطاتِ والهزّاتِ والضرائبَ الباهظاتِ في الأموال والأنفس والثمرات ، وظلم القريب والبعيد ، لتصبح الظروف في ظل ذلك الواقع المشحون بتلك النوازل مهيّأة لأن تنزلق في أتونها أقدام ، وتضلّ في غياهبها أفهام ، وتطيش في رصدها وتحليلها أقلام ، وبالتالي تنحدر بالجميع في وهاد التطرّف الفكري والنفسي والحركي – وكل ذلك عفن - وإذا بنا نصحوا عليهم بعد هذا كلّه وقد شملتهم المعادلة الربانية : { قل جاء الحق وما يُبدئ الباطل وما يُعيد } ( سبأ 49 ) فكانوا الحق الذي سطع نجمه ، المشبع بالكرامة والأمل، وبات من راهن على استكانتهم ، وبَخَسَهم تاريخهم النضاليّ باطلا لا نجم له أصلا حتى أقول إن نجمه قد أفل ، وحسبك أنه في خضمّ تلك المواقف ، وما حملته لأهل غزة من مخاوف ، ما زلّت لهم قدم ، وما لانت لهم قناة ، وما شذ لهم فكر ، وما تشوّهت لهم عواطف ! بل بدّد الله بهم الأوهام ، وجعلهم آية بيّنة يعي مغازيها أولو اللّبّ والأفهام ، فما تفسير ذلك يا ترى ؟ إنه المضاد الحيوي الإيماني المتمثّل في عناية الرب جلّ شأنه ومعيّته ، معيّة يحوز عليها مَن استفتح بمفتاحها ؛ مفتاح التقوى والإحسان : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } (النحل 128) فكان هذا المضاد الحيويّ الإيمانيّ البلسمَ والترياق ! ولم يكن فيه مَن سَمِع كمن رأى ، ولا حتى مَن رأى كم رأى ووعى ، وهؤلاء كلّهم جميعاً لم يكونوا كمَن تجرّع فذاق ، فاستمتع بطِيب المَذاق ! بل وحملت الأقدار أهل غزة إلى ما هو أبهى من ذلك! حين جعلتهم للأمة كافة صمّام الأمان ، والحارسَ القيّمَ الذي يكلأ الأمة من أن يعتريها فضلا عن أن يتغلغل فيها التعفّنُ الفكري ، الذي يثمر سوءاً في المنهاج ، أو يتسلّل إليها التعفنُ النفسيّ ، الذي يورث التشوّه الخُلُقيّ والتميّع القيميّ وسوءَ اللجاج ، أو يلفّها التعفنُ الحركيّ ، الذي يتيه بالأمة ، ويشغلها عن هدفها الكبير، بل ويبعثر جهودها في كل سبيل وفجاج ، لا يؤول بها لا إلى تحرّر ولا إلى تحرير! فصانوا بذا وعيَ الأجيالِ ومشاعرَهم وآمالَهم وطموحاتِهم ومن ثمّ سلوكياتِهم ، صانوها من جانبي الوجود والعدم ؛ إذ بعثوا في فكر الأجيال والناشئة الجدد وفي عواطفهم وسلوكهم من منظومة المبادئ والقيم ما كان منها معدوماً مفقوداً ، وصانوا ورسّخوا في أذهانهم ومشاعرهم ما كان منها موجوداً ! وتلكم الخصال ما اجتمعت في أمة إلا استعصت على الانكسار ، وأفلتت من دوائر الترويض بالحصار، وكانت بحق مِلحَ البلد ، الذي لا يستغني عنه أحد ، وإلا تسرّب إليه العفنُ فانبَتّ أمرُه وفسَد !!