الكتابة وفخّ السمكة
بقلم :أصيل الشّـابي
لا يمكن أن تكون الكتابة غاية في حدّ ذاتها، ولا يمكن أن يكون عدد الكتب بحدّ ذاته دليلا على القيمة، فالكتب التي تصدر بالعشرات والمئات والآلاف ترمى وتحرق بشكل ما في كلّ لحظة، للتخلّص منها ومن عبئها الثقيل، ف"المحرقة" الخاصّة بالكتب هي شكل آخر من أشكال الصرامة التي يقابل بها النشر.
أعرف كثيرين يحرقون الكتب التي تحمل التواقيع والإهداء، وكان تفسيرهم للأصدقاء أنّ تلك الكتب نشرت دون وجاهة مقنعة، وأنّ الغرض الأساسي من ورائها تباهي من يكتب أمام نفسه ووقوعه في ورطة الوهم، الذي يصوّر له أنّه أصبح في رفقة المتنبّي.
يمكن للكتابة المبدعة أن تجذب الناس إليها، أن تجلب حتّى البعيدين كثيرا، ذلك أنّ الفتنة قادرة على جعل الآخرين مغرمين أو من أهل الغرام الحقيقيين، بيد أنّ السؤال المهمّ هنا: من يستطيع أن يكون فاتنا هنا أو هناك ؟ هذه هي الفتنة التي أقرّ لها الجاحظ بالخطورة، فحاول الإفلات منها، ولكنّه أوقعنا فيها بمنجزه الذي لا غنى عنه.
لا يمكن أن تكون الكتابة غاية في حدّ ذاتها إلاّ إذا كانت هشّة وضعيفة وعالقة في جزيرة معزولة وبعيدة لا تأبه بشيء، حتّى وإن كان ذلك الشيء هو المدّ والجزر، لهذا هي ليست مخيّرة بين أن تكون مثل سمكة تعبر من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، مثل سمكة تقفز على ظهر الماء أو تغوص في شعبها السحريّة، وبين أن تكون سمكة محنّطة واقعة على شبكة العين من موضع معدّ مسبقا للتحف اللطيفة.
كذلك الكتب التي تطرق الباب لا يمكنها أن تعوّل مطلقا على مجرّد التباهي، فما يفترض أنّه يربط الكتب بالناس هو نفسه ما يربط الناس بالكتب، وعلى هذا الأساس تمرّ الكتب أو لا تمرّ، تلبث عندنا أو لا تلبث، فالذين يقرؤون الكتب يفعلون ذلك لأنّهم يعتقدون أنّهم يرون أنفسهم فيها أو أنّهم موجودون ضمنها، إنّها العقدة التي تجعل أحدهم ضعيفا أمام كتاب لا يستطيع التفريط فيه، فيضعه ضمن مجموعته المختارة، وهي العقيدة التي وفقها ينبغي على الإنسان أن يقرأ نفسه في الآخرين، لهذا ما من أمنية أفضل من أن يكتب أحدنا كتابا يقرا بشغف، ويسعى كثيرون إلى جعله ملكيّة خاصّة بهم، هناك كتب بلغت هذا الشأن وستبلغ هذا الشأن كتب أخرى، إنّما بالاعتماد على التجربة والموهبة.
لا يمكن أن تكون الكتابة غاية في حدّ ذاتها، موضوعة لمجرّد التباهي ومعزولة كسمكة محنّطة وجوفاء، تقع على شبكة العين من موضع شديد التزيين، فالفتنة لا تتعلّق فقط بالظاهر، وليس هناك ما يخافه العاقل أكثر من خوفه من المظاهر الخادعة، فثمّة قيمة حقيقيّة آسرة في التجاويف وبين المظان تدحرجنا نحوها قليلا قليلا، إلى أن تكون ضالتنا فوق رؤوسنا فيكون الافتتان.
المبدعون الحقيقيون نرى بعيونهم ما لا يرى عادة، ونتحرّر بأجنحتهم، وتنمو ذواتنا في حدائقهم، وكتبهم هي كتبنا لأنّها كتبت لتكون مرئيّة يمكن الإنصات لها. إنّ الكتب الجيّدة لا يمكن لأحد أن ينافقها، فيمدحها في الظاهر ويقتلها حينما ينفرد بها، هي كتب وجدت لتقرأ وكاتبوها لا يفكّرون مطلقا في التباهي بالورق الصقيل والألوان المبهرجة و"صداقة" المتنبّي وإصدار كارت الكاتب، وإنّما كتبوها ببساطة لأنّها معنيّة بالقراءة تماما كما أنّ السمكة معنيّة بالسباحة وإلاّ فإنّها ستتورّط في الفخ الذي هو على مقاسها حينما يكتفي صاحبها بمجرّد التباهي، بينما يكتفي من هو في المقابل بحرقها وذرّ رمادها.
ربّما من الجيّد التفكير في الإعلان عن أفضل الكتب الصادرة سنويّا، وأن يكون ذلك خاضعا لصيغة عدديّة ومستندا إلى موقف نقديّ عام منها من أطراف معترف لها بالكفاءة والحياد، ربّما من الجيّد التفكير في هذا لأنّه سيكون اعترافا معنويّا منشودا بالمنجز الفريد والمتميّز.
إنّ الكتب لا تشبه مجموعة من المتبارين يتسابقون من البداية إلى النهاية بشكل متواز كما يتهيّأ لبعضهم، لا.. ذلك غير صحيح، فثمّة اختلافات في الرتبة والقيمة لا بدّ من مراعاتها وإعلانها، فالكتابة هنا ليست نفسها هناك، أي أنّها ليست صورة مستنسخة من طريق كتّاب مستنسخين، ذلك أنّها تخضع لنوع من الجزر والمدّ يختبرها ويختبرها إلى أن يصمد منها ما يصمد ويضعف منها ما يضعف، فيقع في فخّ العراء من الحياة، فتخيّلوا السمكات المبهرجة والمزيّنة خارج حضن الماء منتقاة دون غيرها للذبول.
(عضو اتّحاد الكتّاب التونسيين)